اتفاق لصالح المعارضة
العلاقات السورية اللبنانية
التنافس السني الشيعي
بشير نافع |
أثارت سيطرة حزب الله على بيروت الغربية مشاعر طائفية واسعة داخل لبنان وخارجه؛ وكادت الاشتباكات المسلحة بين قوى الموالاة والمعارضة في الجبل وشمال لبنان تتحول إلى اجتياحات دموية. ولكن التدخل العربي وتغير الظروف الموضوعية ساعدا على احتواء الأزمة والتوصل إلى اتفاق بيروت، ومن ثم تمهيد الطريق للتوصل إلى اتفاق الدوحة.
ستحاول هذه الورقة شرح الأسباب التي أدت إلى التوصل لاتفاق الدوحة ومعنى هذا الاتفاق، كما ستقرأ المتغيرات الهامة في التركيبة اللبنانية، التي جعلت الأزمة اللبنانية الأخيرة تختلف إلى حد بعيد عن كافة الأزمات التي مر بها لبنان منذ استقلاله.
أولاً: كان اتفاق بيروت، الذي أنجزه الوفد العربي بقيادة رئيس الوزراء القطري والأمين العام للجامعة العربية، هو ما أسس لمباحثات الدوحة. لم ينزع اتفاق بيروت فتيل الانفجار وحسب، بل قدم تفسيراً جدولياً للمبادرة العربية العتيدة، التي لم يستطع عمرو موسى في وساطاته السابقة التقدم بها نظراً لاختلاف معسكري النزاع حول ما تعنيه المبادرة عند التطبيق. وقد أصبح اتفاق بيروت ممكناً لعدد من الأسباب المتعلقة بالكيفية التي أصبحت الأطراف اللبنانية المعنية ترى بها الأزمة بعد أيام الانفجار الصعبة. أدرك معسكر الأكثرية أن حكومته أخطأت التقدير بإصدارها قراري تحويل شبكة اتصالات حزب الله للقضاء ونقل الضابط المسؤول عن أمن المطار من منصبه؛ وأن الحكومة لم تحسب جيداً عواقب قراريها. كما أن الدولتين العربيتين الرئيستين المؤيدتين للحكومة اللبنانية، مصر والسعودية، أبدتا تحفظاً ضمنياً على قراري الحكومة. والأهم، أن معسكر الأكثرية لم يعد يثق بحلفائه الدوليين؛ ففيما عدا التصريحات المؤيدة لحكومة الرئيس السنيورة والمنددة بسيطرة حزب الله على بيروت الغربية، لم تحرك واشنطن وباريس ساكناً. أما العامل الثالث، فيتعلق بإدراك الأكثرية أن استمرار الأزمة بات يهدد بعدم قدرة أطرافها على التحكم فيها، مما قد يشكل خطراً كبيراً على وضع لبنان كدولة ووطن."
معسكر الأكثرية هو الطرف الذي قدم التنازل الأكبر نسبياً في اتفاق بيروت وقد انحاز عمرو موسى خلال جولات التفاوض التي قادها بشأن المبادرة العربية لفكرة تقديم انتخاب الرئيس على كل بند آخر وهو ما رفضته المعارضة
"
إن قناعات حزب الله قد تطورت هي الأخرى. فإذا كانت الأكثرية حاولت بكل وسيلة ممكنة تحقيق أهدافها، فإن الحزب خطا خطوة لم تكن لتخطر على تفكيره قبل شهور قليلة فقط. إذ بسيطرته السريعة على بيروت الغربية، أكد حزب الله حقيقة توازن القوى على الأرض؛ ولكنه في الوقت نفسه أثار ردود فعل طائفية لا تخفى. بيروت الغربية هي بالطبع مدينة سنية، تاريخاً ورمزاً، وبغض النظر عن نوايا حزب الله وطبيعة الصراع اللبناني الداخلي، فإن السيطرة المسلحة على بيروت الغربية كانت خطوة محفوفة بالمخاطر الطائفية. السؤال الذي لابد من أن الحزب قد سأله بعد بيروت الغربية هو ما إن كان ثمة تصعيد آخر يمكن الذهاب إليه بدون أن ينهار الوضع اللبناني كله، وبدون أن يمتص الحزب كلية في صراع لبناني داخلي، يمس بصورته المقاومة وبالإجماع الشعبي العربي الذي أحاط به. ومثل الأكثرية اللبنانية، أدرك الحزب ربما أن ليس ثمة خيار سوى العمل من أجل التفاهم على أرضية عربية، حتى ولو كان التفاهم جزئياً. بكلمة أخرى، كانت الموالاة تريد اتفاقاً لأن وضعها على الأرض لم يكن جيداً، والاتفاق يعطيها فسحة من الزمن لإعادة بناء الذات. وقد جاء حزب الله إلى الدوحة وهو يعي الآثار السلبية التي تركتها خطوة السيطرة المسلحة على بيروت الغربية على صورته كقوة مقاومة، وعلى صعيد المسألة الطائفية، بغض النظر عن المكابرة التي بدت في تصريحات قيادات الحزب.
الطرف الذي قدم التنازل الأكبر نسبياً في اتفاق بيروت كان بلا شك معسكر الأكثرية. خلال جولات التفاوض السابقة التي قادها عمرو موسى حول المبادرة العربية، انْحاز الأمين العام للجامعة العربية لفكرة تقديم انتخاب الرئيس على كل بند آخر؛ وهو ما رفضته المعارضة. في اتفاق بيروت، ثمة جدول زمني يتفق ورؤية قوى المعارضة للأمور، بمعنى التفاوض أولاً على قانون انتخابي جديد وعلى حكومة وحدة وطنية، بما في ذلك برنامجها وتوزيع حقائبها، قبل أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية. وهذا ما حدث في الدوحة. ما قدمته المعارضة في المقابل، أو بالأحرى حزب الله، كان التوقيع للمرة الأولى على اتفاق يتضمن تسمية الجنرال ميشال سليمان كرئيس مقبل، بالرغم من أن تسمية سليمان لم تكن محل قبول من الجنرال ميشال عون، الذي كان لم يزل يأمل في أن يفتح له تعقيد الأزمة الطريق إلى القصر الجمهوري. القضية الكبرى محل الاختلاف، سلاح حزب الله وعلاقة الدولة اللبنانية بالتنظيمات المسلحة في البلاد، تركت لمرحلة قادمة من التفاوض، تجري في بيروت تحت إشراف الرئيس اللبناني المنتخب.
من جهة أخرى، استنتج السوريون والإيرانيون بعد الاتفاق في بيروت أنه مهما كانت تفاصيل التفاوض في الدوحة فإن الاتفاق سيأتي لصالح المعارضة؛ ولذا، فقد أيدوا المباحثات ودفعوا باتجاه الاتفاق؛ بينما حاول السعوديون في اليومين الأولين من مفاوضات الدوحة إعادة جدولة اتفاق بيروت والبدء بانتخاب الرئيس ومن ثم التعامل مع ملفي الحكومة وقانون الانتخابات؛ ولكن تحقيق مثل هذا الهدف كان مستحيلاً بدون إفشال المفاوضات، وهو ما لم يكن أي من الأطراف اللبنانية على استعداد لتحمل عواقبه. دولياً، أدرك الأميركيون إخفاق سياسة التصعيد التي اتبعوها في لبنان، وعجزهم عن التدخل الفعال في اللحظات الحاسمة، فابتعدوا عن المجريات التفصيلية للتفاوض.
" بعض القوى في كلا المعسكرين يرى في الاتفاق نهاية لأزمة السنتين، وبعضها الآخر يرى فيه هدنة تسمح بإعادة بناء المليشيات والرصيد السياسي " |
ثانياً: في ظل هذا الظرف الموضوعي وخارطة الطريق هذه، أمكن عقد مباحثات الدوحة. وقد جاءت ولادة اتفاق الدوحة صعبة وعسيرة، بعد خمسة أيام طوال من المباحثات. وفي حين اعتبر الاتفاق تعزيزاً لدور وموقع قطر العربي، فمن الضروري رؤيته أيضاً باعتباره نصراً لقدرة العرب على التعامل مع أزماتهم الداخلية، لاسيما إن تراجعت التدخلات الخارجية.
أعطى الاتفاق المعارضة ما كانت تطالب به من دور في الحكومة اللبنانية، وأجل البحث في سلاح حزب الله إلى أمد غير محدد. ولكنه وضع نهاية لطموحات الجنرال عون، الحليف الأهم والأبرز لحزب الله، في رئاسة الجمهورية. وقد قدمت قوى الموالاة تنازلات جوهرية على مستوى توزيع الحقائب الوزارية (بيد أن الحكومة القادمة ستكون قصيرة الأمد على أي حال)، وتنازلات ضئيلة على صعيد توزيع الدوائر الانتخابية؛ ولكن الاتفاق حمى الموالاة من محاولة المعارضة فرض الاستسلام السياسي عليها.
التقدير بأن الاتفاق جاء في مجمله لصالح المعارضة هو تقدير صحيح، أولاً لأن الوضع السابق، القائم على حكومة بدون تمثيل شيعي كان وضعاً شاذاً وغير دستوري؛ وثانياً لأن القرارين الحكوميين اللذين فجرا الأزمة الأخيرة كانا قرارين متسرعين إلى حد كبير، ويبدو أن الرئيس السنيورة أجبر عليهما بضغوط من وزراء جنبلاط وجعجع ودعم من الحريري؛ وثالثاً لأن لبنان ما كان له أن يبقى رهينة قرار أميركي غير واضح بعد بصدد إيران وبرنامجها النووي. ولكن الاتفاق أظهر أيضاً ضيق المحيط والوسطاء العرب بسعي حزب الله إلى فرض إرادته السياسية، وهو ما وفر للأكثرية والرئيس السنيورة تعاطفاً عربياً (وقطرياً) أكيداً.
بعض القوى والقيادات في كلا المعسكرين اللبنانيين يرى في الاتفاق نهاية لأزمة السنتين، وبداية جديدة نحو إعادة البناء السياسي والأهلي في لبنان. وبعضها الآخر يرى فيه هدنة، أو هدنة طويلة ربما، تسمح بإعادة بناء المليشيات والرصيد السياسي. ما يثير المخاوف أيضاً هو عدم إمكانية التكهن بما ستأتي به الانتخابات النيابية المقبلة، لاسيما أن الكتلة التي التفت حول الجنرال عون أصبحت أضعف مما كانت خلال العامين الماضيين. إضافة إلى ذلك، فإن اتفاق الدوحة لم يستقبل بالدرجة نفسها من الترحيب من كل الدول العربية والقوى الدولية، وقد أبدت كل من السعودية والولايات المتحدة تأييداً مشروطاً وفاتراً للاتفاق. فوق ذلك كله، فإن قضية سلاح حزب الله، التي هي عقدة التأزم الرئيسة، ليست محل تفاوض بعد، وقد يمضي وقت طويل قبل التوصل إلى تفاهم عليها.
من أجل حماية اتفاق الدوحة ومحاصرة عوامل التوتر الكامنة في الوضع اللبناني لابد من عمل عربي حثيث لترتيب العلاقات السورية/اللبنانية ووضعها على أسس صحيحة، تأخذ في الاعتبار مصالح ومخاوف البلدين والميراث التاريخي للعلاقات بينهما. إن واحداً من أبرز وجوه الأزمة اللبنانية أن سُنّة لبنان، الذين هم حصة سوريا التاريخية، قد ابتعدوا عن سوريا أو جروا إلى المربع المعادي لها، ودمشق لن تطمئن إلا بعودة السنة إليها. وهناك من الدلائل ما يشير إلى أن الرئيس السنيورة يدرك أن لبنان لا يمكنه الاستقرار، مهما كان الدعم الدولي له، بدون إعادة بناء الثقة بين دمشق وبيروت. وليس ثمة شك في أن السنيورة، بخلاف الحريري، (ولأسباب لا تخفى) يمكنه القيام بدور ملموس في هذا المجال، لاسيما إن عاد رئيساً للحكومة خلال الفترة بين انتخاب رئيس للجمهورية وعقد الانتخابات البرلمانية.
ثالثاً: البعد الأهم في الأزمة اللبنانية الأخيرة، الذي لا يبدو أنه جلب كثيراً من الاهتمام، أن الأزمة تجلت في صراع إرادات بين قيادة سياسية سنية وأخرى شيعية. خلال العقود التالية للاستقلال، كان قلق المسيحيين (لاسيما الموارنة) على موقعهم القيادي ودورهم، من ناحية، وسعي المسلمين لإعادة بناء الدولة على أسس أكثر عدلاً، هو العامل الأبرز في تأزيم الوضع اللبناني. في هذه المرة، كان التدافع في جوهره بين قيادات سنية وشيعية. هذا لا يعني بالطبع أن دور المسيحيين قد انتهى، ولكن ما حدث هو أن وزن القوى المسيحية أصبح ثانوياً، سواء في دفع الأمور نحو التفاقم أو التفاهم، وأن هذه القوى انقسمت على نفسها رأسياً بين المعسكرين المتدافعين. ثمة أسباب أدت إلى تراجع الدور المسيحي، منها المتغيرات الديموغرافية الملموسة وانخفاض نسبة المسيحيين اللبنانيين بين عموم السكان؛ ومنها التعديلات التي أجراها اتفاق الطائف على نظام المحاصّة اللبناني؛ ومنها بالطبع التوتر الطائفي المتزايد في المنطقة العربية منذ غزو العراق واحتلاله."
كان التدافع في جوهره بين قيادات سنية وشيعية، فما حدث هو أن وزن القوى المسيحية أصبح ثانوياً سواء في دفع الأمور نحو التفاقم أو التفاهم، فهذه القوى انقسمت على نفسها رأسياً بين المعسكرين المتدافعين
"
المسألة التي ينبغي الانتباه إليها أن الوضع التنافسي الحالي بين السنة والشيعة سيستمر فترة طويلة على الأرجح. إن أغلب التقديرات تشير إلى أن كلا من السنة والشيعة يشكل زهاء 30% من تعداد السكان، وربما يزيد تعداد السنة قليلاً عن الشيعة؛ بينما تشكل الطوائف الأخرى مجتمعة 40% الباقية. بكلمة أخرى، سيعتمد استقرار لبنان وسلمه الأهلي خلال الحقبة القادمة إلى حد كبير على طبيعة العلاقات بين القوى السياسية السنية والشيعية، وعلى قدرة اللبنانيين على الخروج من الحالة الطائفية السياسية نحو تشكيل أحزاب غير طائفية. من ناحية ثانية، فإن عجز المسلمين اللبنانيين عن احتواء الأبعاد الطائفية للتدافع السياسي الداخلي سيضيف عاملاً إضافياً إلى أجواء التوتر الطائفي في المنطقة العربية ككل، في الوقت الذي لا يبدو فيه أن العرب استطاعوا الاهتداء بعد إلى طريقة للتخلص من صندوق الشر الطائفي في العراق.
ثمة خشية سنية لبنانية متزايدة من توجهات الهيمنة لدى قوى التشيع السياسي ومن الدعم الإيراني/السوري الهائل لحزب الله. وبغض النظر عن مصداقية هذه الخشية، فربما بات على سنة لبنان أن يسألوا أنفسهم عما إن كانوا قد أخطؤوا في حساباتهم عندما تركوا مساحة تحالفهم التاريخي مع سوريا فارغة ليملأها غيرهم، وعندما أداروا ظهرهم لالتزاماتهم العروبية التقليدية وعرضوا أنفسهم لكافة الاتهامات، داخل لبنان وفي الساحة العربية.
_______________
مركز الجزيرة للدراسات
صدر بتاريخ 3 يونيو/حزيران 2008