في إطار الإعداد للجولة القادمة من مفاوضات سلام دارفور في العاصمة القطرية الدوحة في يناير/كانون الثاني القادم, تقول التحريات إن اجتماعا لآلية قوي المجتمع المدني في دارفور, وهي الآلية التي انبثقت من لقاء الدوحة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي, سيعقد في الدوحة, يستبق تلك المفاوضات.
وتعلق الأوساط المهتمة بعملية سلام دارفور آمالا مقدرة في أن تلعب هذه الآلية دورا ما في إنجاح الجولة القادمة من المفاوضات. فمن هو هذا اللاعب الجديد في حلبة سلام دارفور؟
وما هي الشرعية التي تمثلها منظمات المجتمع المدني الدارفوري؟ وما هي الأدوار التي يمكن أن تضطلع بها؟
المجتمع المدني الدارفوري: من هو؟
القوي المدنية الفاعلة والمؤثرة في دارفور
ملتقي منظمات المجتمع المدني بالدوحة
دور منظمات المجتمع المدني في المفاوضات
المجتمع المدني الدارفوري: من هو؟
يعرف البنك الدولي مصطلح منظمات المجتمع المدني بأنه: "مجموعة كبيرة من المنظمات غير الحكومية, وغير الربحية, لها وجود في الحياة العامة, وتنهض بعبء التعبير عن اهتمامات وقيم أعضائها, استنادا إلي اعتبارات أخلاقية أو ثقافية أو سياسية أو علمية أو أدبية أو خيرية".
و إذا كان هذا المصطلح قد تشكل حديثا برسمه ولفظه فإن المضامين التي يعبر عنها قديمة قدم الحياة الاجتماعية لكل الكائنات الحية, والكائن البشري علي وجه الدقة.
وقد عرف المجتمع الدارفوري أشكالا مما يعرف اليوم بنشاط منظمات المجتمع المدني, تساوت في الأهداف والغايات مع المصطلح الحديث, وإن تمايزت في المسميات والقوالب, اتساقا مع مقتضيات التطور في الحياة عامة, ومن ذاك مصطلحي (أبناء دارفور) و(أهل دارفور).
ويعود استخدام هذين المصطلحين إلي جنوح سوداني عام إلي تأطير القضايا ذات الطابع المحلي في أقاليم السودان المختلفة, ووسمها بطابع وخصوصية إقليمية في أطار الشأن السوداني العام, فجاء من ذلك قولهم: قضايا أهل الشمال, قضايا أهل الجنوب, قضايا أهل الشرق, قضايا أهل الجزيرة, قضايا أهل كردفان, قضايا أهل دارفور... أو أبناء دارفور, ومن نحو ذلك.
وتجيء إضافة الأهل والأبناء إلي القضية لتأكيد الخصوصية والانتماء والتمايز, والحميمية, فمفردتا (الأهل) و(الأبناء) مشحونتان بأبعاد دلالية ذات طابع عاطفي, تحض علي تجاوز التباينات الطفيفة, غير الجوهرية, من أجل الاعتصام بحضن العشيرة لتحقيق المصلحة العامة. وحيثما تستخدم مفردة (أهل) أو (أبناء) مضافة إلي بلد أو إقليم, فذلك يعني دعوة إلي الإجماع, ودعوة إلي الاعتصام بضمير الجماعة,
علي ضوء المفهوم الذي تقدم ترتفع الأصوات الإقليمية حول الشأن الموسوم بطابع محلي, ويجري التداول حولها بروح الجماعة في الإقليم, ويسفر الحوار عن رأي جماعي حول الشأن, وفي الراجح إن تلك نسخة محلية سودانية لما أصطلح عليه حديثا بصوت المجتمع المدني.
من تاريخ المجتمع المدني الدارفوري
يرجج كثيرون إن أخطاء الممارسة في تجربة الحكم الذاتي في دارفور قد ضربت بسهم وافر في إشعال الصراعات التي تكتوي بنيرانها حاليا كل الأطراف, محليا وإقليميا ودوليا |
فقد روي أن قبائل دارفور التي هبت لنصرة الإمام المهدي, بكل مسمياتها وتكويناتها الاجتماعية, الأسرية والفئوية, قد قررت الانسحاب من أم درمان والعودة إلي دارفور. ولما وصلت الحشود المنسحبة إلي منطقة (الخوى) شمالي كردفان أجمعت علي عقد اللواء للأمير علي دينار, وبايعته سلطانا علي عموم دارفور, ثم واصلت الجموع المنسحبة زحفها إلي مدينة الفاشر, التي أتخذها السلطان علي دينار عاصمة لسلطنته, التي تأبت علي سلطات الاحتلال الثنائي ثمانية عشرة سنة, لتنهار السلطة باستشهاد السلطان علي دينار في عام 1916, وتلحق دارفور بسلطات الحكم الثنائي (الإنجليزي المصري).
جبهة نهضة دارفور
في سنوات ما بعد استقلال السودان, تسجل وقائع التاريخ قضية التمثيل النيابي لأهل دارفور في البرلمان السوداني كواحدة من أشهر محطات الإجماع في تاريخ الحركة السياسية في دارفور, فقد درجت أحزاب السودان السياسية المركزية في الخرطوم علي ترشيح بعض قياداتها في الدوائر البرلمانية المخصصة لدارفور من أجل أن تضمن فوزها في الانتخابات, وقد فاز, علي ضوء ذلك رئيس الوزراء عبد الله خليل في دائرة (أم كدادة) شرقي دارفور, ووزير الداخلية حسن محجوب في دائرة (نيالا) جنوبي دارفور, وغيرهم من النواب فازوا في أنحاء متفرقة في دارفور, واحتلوا مقاعد مخصصة للتمثيل النيابي في دارفور, في جولتين برلمانيتين في 1953, وفي 1958.
في أعقاب ثورة أكتوبر 1964, وعلي ضوء ما أفرزته من وعي سياسي عام, دعا بعض مثقفي دارفور إلي ضرورة وقف تصدير المرشحين إلي دارفور, وإلي أهمية أن تملأ الدوائر المخصصة لدارفور بممثلين من أبنائها, كما دعوا إلي ضرورة أن تضع الأحزاب المختلفة قضية التنمية في دارفور في مقدمة أولوياتها.
لقد تبلورت تلك الأفكار فيما عرف بـ(جبهة نهضة دارفور) التي نشأت في الخرطوم عام 1965 واتخذت لها أفرعا في غالب مدن وقري الإقليم, وقد حققت الجبهة نجاحا باهرا في وقف ظاهرة تصدير المرشحين في انتخابات 1965, كما أجبرت الأحزاب كافة علي وضع قضايا التنمية في مقدمة أجندتها السياسية, وبذلك استطاعت جبهة نهضة دارفور, كمنظمة إقليمية أهلية, أن تؤطر الهم الدارفوري العام, فتتجاوز الإنتماءآت الحزبية والعرقية والقبلية من أجل صدقية وواقعية التمثيل النيابي ومن أجل التأكيد علي قضية التنمية الشاملة في الإقليم.
انتفاضة دارفور
لقد عرفت دارفور شكلا آخر من أشكال استقطاب الهم الإقليمي تمثل في الإجماع العفوي الطارئ في 1980 حول ضرورة أن تكون دارفور إقليما منفصلا, وليس جزءا مما عرف آن ذاك بالإقليم الغربي الذي قدر له آنئذ أن يضم كلا من كردفان ودارفور. فتحت الضغط المتزايد من ممثلي دارفور في المؤتمر العام الثالث للإتحاد الاشتراكي السوداني, انصاع الرئيس الأسبق جعفر نميري لرغبة أهل دارفور, وغدت دارفور إقليما منفصلا عن كردفان.
وقد تلي تلك الواقعة بعد نحو عام ما عرف بانتفاضة أهل دارفور في 1981, وذلك عندما عين الرئيس نميري حكاما مكلفين للأقاليم الشمالية الخمسة (الشمالي, الشرقي, الأوسط, كردفان ودارفور) وجاء تعيين الحكام من أبناء الأقاليم المختلفة, إلا دارفور فقد عين له حاكم من خارج أبناء الإقليم, من أبناء إقليم كردفان.
علي إثر ذلك خرج أبناء دارفور في مدن دارفور الرئيسة في مظاهرات عارمة, مستنكرين ما أسموه وصاية مرفوضة أو اعتبروه استخفافا بمقدرات أبناء الإقليم.
لقد تجاوز أهل دارفور في تلك المظاهرات العارمة اتجاهاتهم وأحزابهم السياسية, كما تجاوزوا عرقياتهم وعصبياتهم وقبلياتهم, واجبروا, للمرة الثانية, الرئيس جعفر نميري علي تعيين أحمد إبراهيم دريج, من أبناء قبيلة الفور, حاكما مكلفا لإقليم دارفور.
غير إن ذلك الإجماع الدارفوري قد تلاشي في خضم التعقيدات التي أفرزتها ممارسات الحكم الإقليمي في دارفور. فقد طفحت علي سطح الإجماع الدارفوي طحالب المطامع والطموحات الفردية والفئوية والعرقية والقبلية لتبلغ ذروتها في انتخابات حاكم الإقليم التي جرت في عام 1982, وفاز فيها أحمد إبراهيم دريج, وما تلي ذلك من تخاصم واحتقانات سياسية ملأت الساحة السياسية في دارفور في فترة الولاية الثانية لأحمد إبراهيم دريج.
ويرجج كثيرون إن أخطاء الممارسة في تجربة الحكم الذاتي في دارفور قد ضربت بسهم وافر في إشعال الصراعات التي تكتوي بنيرانها حاليا كل الأطراف, محليا وإقليميا ودوليا.
مؤتمر الفاشر التداولي
في فبراير/ شباط 2003, في أعقاب احتشاد أجناد الحركة المسلحة الأولي, حركة جيش تحرير السودان, في كرنوي وفي قمة وسفوح جبل مرة جنوب غربي الفاشر, دعا والي ولاية شمال دارفور آنذاك, الفريق إبراهيم سليمان, لفيفا من رجال الدولة علي المستوي المحلي والقومي, بحضور وزيري الدفاع والداخلية ورئيس جهاز الأمن الوطني وقتئذ, ولفيف من زعما القبائل وقادة الرأي وقوي التأثير السياسي والاجتماعي من أبناء دارفور, دعتهم إلي لقاء تداولي عقد في مدينة الفاشر, بهدف التداول حول الموقف في دارفور, وتلمس الوسائل التي تحول دون انفجار المواجهة العسكرية بين الحكومة والحركة المسلحة الوليدة آنذاك.
وقد أصدر المجتمعون, بعد ثلاثة أيام من التداول, جملة من المقررات, والتصورات, كان من أهمها التأكيد علي أن القضية في دارفور قضية سياسية, ولا بد من أن تعالج عبر الحوار الصريح, الشفاف والموضوعي, ولا مجال مطلقا لأية معالجات عسكرية .
كما جاء في القرارات دعوة للحكومة بضرورة وضع قضية التنمية في الإقليم علي رأس قائمة اهتماماتها, ودعوة لحاملي السلاح بالرجوع عن المواجهة العسكرية, واعتماد الحوار سبيلا إلي تحقيق المطالب, وقرر الاجتماع من جهة, إيفاد ممثلين عنه لمقابلة قيادات الحركة المسلحة وإبلاغهم بما توصل إليه الاجتماع.
مبادرات ما بعد المواجهة العسكرية
لقد حفلت الفترة التي تلت اندلاع المواجهة العسكرية بين الحكومة والحركة, ثم الحركات المسلحة في 2003, بعشرات المبادرات التي حشدت قطاعات واسعة ومتنوعة من أهالي دارفور, اجتمعت داخل السودان وخارجه وخرجت بمقررات وتصورات متشابهة, تكاد أن تصل حد التطابق. ومن أهم هذه المبادرات بالداخل مبادرة المؤتمر الجامع لأهل دارفور بمدينة الفاشر في ديسمبر 2005, ومبادرة أهل السودان في مدينة كنانة في 2009.
وعلي الرغم من أهمية وموضوعية المقررات والتصورات التي صدرت في مؤتمري الفاشر وكنانة فإنها لم تجد حظها, لا في فرص القبول العام, ولا في فرص الإنفاذ. فمؤتمر الفاشر لم ينل قبول ورضا القوي السياسية شكلا, لأن القوي السياسية قاطعته بحجة طغيان النفس الحكومي في تشكيله, كما لم يجد رضا من الحكومة بسبب ما حسبته طغيان نفس الحركات علي مقرراته.
أما مؤتمر كنانة فلم يكن صرفا لأهل دارفور, فهم يشكلون 60% من عضويته, وتلك محمدة. ., إذ كثيرا ما نادي أهل دارفور بقومية قضيتهم, وضرورة مشاركة أهل السودان في تلمس الحلول الناجعة لها. ورغم ثقل الاهتمام الحكومي بها, فإن مقررات كنانة تعاني أيضا من بطئ في التنفيذ من قبل الدولة, وتشكيك في الجدية من قبل القوي السياسية التي شاركت في المؤتمر بتمثيل مقدر.
القوي المدنية الفاعلة والمؤثرة في دارفور
ليس هناك مصطلح جامع, أو توصيف دقيق, أو تنظيم حاكم أو ضابط, لهذه القوي الفاعلة أو المؤثرة في المجتمع المدني الدارفوي, المقيم في الخرطوم علي وجه الخصوص, إذ يطلق علي هذه القوي أحيانا (مثقفو دارفور) أو (أبناء دارفور), أو (ناس الخرطوم), وهم في الغالب المتعلمون من أبناء دارفور الذين قدموا إلي العاصمة, الخرطوم, لتلقي العلم والدربة, فاستوعبتهم شعب الحياة المختلفة فيها, بيد أنهم ظلوا متصلين بقضايا الإقليم, وبأهل الإقليم, ويندرج ضمن هذا أعداد معتبرة من رجال الدولة وأساتذة الجامعات, ومهنيين وفنيين, معتبرين في مجالات الطب والهندسة والاقتصاد والإدارة والتعليم والإعلام والصحافة, وفئويين من قطاعات العمال والمرأة والشباب والطلاب وغيرهم في سائر مجالات النشاط الإنساني.
هذه القوي الفاعلة والمؤثرة والمستنيرة تمثل علي الدوام حضورا معتبرا في مختلف الساحات الدارفورية, وتعبر عن رأيها عبر مختلف المنابر المشروعة, وقد أقامت, أو شاركت, أو حضرت, العشرات من ورش العمل والمحاضرات والندوات واللقاءات التي أقيمت في المنتديات والجامعات ومراكز الأبحاث في العاصمة الخرطوم, أو في الولايات, حول قضايا دارفور.
وتشكل هذه القوي بنحو ما, مرجعية ذهنية لقضايا دارفور من خلال أنشطة الهيآت الشعبية المسجلة كـ(منبر دارفور للسلام والتنمية) و(منبر أبناء دارفور) و(الهيئة الشعبية لتنمية دارفور) أو من خلال الأبحاث والدراسات التي اضطلعت بها مجموعات من النخب الدارفورية كالمجموعة (س) ومجموعة (سلام دارفور) ومجموعة (حوار هايدلبيرج حول دارفور) و(راكوبة أجاويد دارفور) وغيرها من المجموعات.
وإذا كان نشاط المنابر الثلاثة المسجلة قد جنحت إلي التناول الشعبي الجماهيري لقضايا دارفور عبر المنتديات وورش العمل في العاصمة والأقاليم, فإن مجموعات النخب قد جنحت إلي التناول البحثي الأكاديمي, بنحو ما, وقدمت مذكرات تعكس خلاصات الحوارات المتطاولة علي نحو ما فعلت المجموعة (س) في مذكرتها الموسومة بـ(دارفور: المجموعة (س) رؤية لتوحيد أهل الداخل) ومجموعة (سلام دارفور) في مذكرتها بعنوان (الطريق إلي سلام دارفور) و(مجموعة الناشطين من أبناء دارفور) في مذكرتها بعنوان (هاديات سلام دارفور) ومجموعة (الراكوبة) في مذكرتها بعنوان (دور منظمات المجتمع المدني في سلام دارفور), وغير أولئك كثير.
مجموعة حوار هايدلبيرغ (ألمانيا)
وفر إشراف فريق الوساطة علي التشكيل والتمثيل قدرا معتبرا من التوازن والحيدة والاستقلالية والموضوعية, وأبعد, بنحو ما, ما عرف بظلال هيمنة السلطات المحلية والمركزية علي أعمال اللقاء, وقد كانت تلك الهيمنة محل قدح في تشكيلات المجتمع المدني السابقة, وكان ملتقي الدوحة, بذلك, أكثر المنابر استقلالية وحيدة, وخلوا من أشكال الهيمنة والإقصاء كافة |
وقد حرصت مجموعات النخب الدارفورية في تشكيلاتها علي شمولية التمثيل سواء من نواحيه الاجتماعية أو السياسية أو الجغرافية, وموضوعية الطرح وعقلانيته, بعيدا عن أشكال الحجر والإقصاء والحصر والإملاء والاستغلال وغيرها من وسائل التأثير السالب.
وفي هذا المعني الذي ارتكزت عليه المجموعات النخبوية كافة في تشكيل عضويتها وتحديد مهامها, جاء في مقدمة مذكرة المجموعة (س) ما يلي:
(في إطار البحث عن توافق يفضي إلي حل ما أصطلح علي تسميته بمشكلة دارفور, تكونت المجموعة بغرض توحيد رؤية أهل الداخل -أو المجتمع المدني- من أبناء دارفور. وقد كان أهم ما ميز المجموعة هو إن عضويتها قد شملت ممثلين لغالبية مكونات الطيف القبلي والإثني في دارفور باعتبار إن للمشكلة بعدا داخليا يلعب فيه المكون الإثني دورا هاما, إن لم يكن الأهم. ومن ما ميزت المجموعة أيضا إنها اعتبرت نفسها كيانا مؤقتا, وليس بديلا لأي كيان قائم (سياسي, منبر.. الخ) وإنها لا تشكل تهديدا أو منافسة لأي من الكيانات القائمة).
وقد ناقشت المجموعات النخبوية المختلفة العناوين المطروحة في طاولات التفاوض كافة, وأوشكت رؤاها أن تكون متطابقة تماما في كل الموضوعات.
ملتقي منظمات المجتمع المدني بالدوحة
اتفاقية السلام الشامل التي تعالج الآن الوضع في جنوب السودان وعلاقته بشمال السودان, واتفاقية أبوجا لسلام دارفور المتعثرة حاليا, كشفتا عن أهمية البعد الشعبي الجماهيري في إنفاذ مثل هذه الاتفاقيات, فالجمهور العريض من أهل دارفور الذين لم يحملوا السلاح كانوا هدفا مباشرا لكل ويلات الحرب من تقتيل وتجويع وتشريد ونزوح ولجوء, كما كانوا الأكثر تضررا من اضطراب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والخدمية, لكنهم مع ذلك كانوا الأكثر صمتا, أو قل كانوا الأغلبية الصامتة.
لقد حاولت هذه الأغلبية في مرات عديدة إسماع صوتها, لمختلف المحافل داخل السودان وخارجه, وفي الأشهر الأخيرة, كان ممن تجاوب مع رغبتها تلك فريق الوساطة المشترك (الإتحاد الإفريقي والأمم المتحدة) الذي يعالج الوضع في دارفور, برعاية كريمة من دولة قطر, فكان ذلك اللقاء الذي احتضنته الدوحة في نوفمبر الماضي تحت مسمي (ملتقي الدوحة التشاوري للمجتمع المدني الدارفوري). ويأخذ لقاء الدوحة أهميته من عدة وجوه أهمها:
• وفر إشراف فريق الوساطة علي التشكيل والتمثيل قدرا معتبرا من التوازن والحيدة والاستقلالية والموضوعية, وأبعد, بنحو ما, ما عرف بظلال هيمنة السلطات المحلية والمركزية علي أعمال اللقاء, وقد كانت تلك الهيمنة محل قدح في تشكيلات المجتمع المدني السابقة, وكان ملتقي الدوحة, بذلك, أكثر المنابر استقلالية وحيدة, وخلوا من أشكال الهيمنة والإقصاء كافة.
• شارك في ملتقي الدوحة ممثلون لقوي المجتمع المدني الحية كافة شملت قطاعات الإدارة الأهلية, الأحزاب السياسية, التجمعات والمنابر السياسية,منتديات النخب الدارفورية,و قطاعات المرأة, الشباب, والطلاب, التنظيمات المهنية, وروابط وتنظيمات النازحين. وقد جاء اختيار الأعضاء من خلال ورش عمل نظمها مكتب الوسيط المشترك في العاصمة الخرطوم وعواصم ولايات شمال وجنوب وغرب دارفور.
• روعي في التمثيل اشتراك ألوان الطيف العرقي والقبلي كافة, واختفت من تشكيلة الملتقي كل أشكال التمثيل الرسمي إقليميا كان أو قوميا.
• حرص المشاركون في لقاء الدوحة علي تأكيد استقلالية وحدة المنبر, بالإشارة في مواطن عدة إلي أنهم قد خلعوا ألبسة الحزبية والعرقية والقبلية, وجاءوا بقضية واحدة هي قضية دارفور, وقد تناغمت في الواقع أصوات الجماعات كلها لتعزف لحنا واحدا هو السلام لدارفور.
وقد أعدت كليات الولايات الثلاث مذكرات ضافية تعبر عن موقف الكلية تجاه القضايا الجوهرية في أزمة دارفور, صيغت, بعد نقاش مستفيض, في إعلان الدوحة الذي أجازه الملتقى في العشرين من نوفمبر الماضي بحضور كريم للرعاية القطرية ممثلة في الشيخ احمد بن عبدا لله آل محمود, وزير الدولة بوزارة الخارجية, والسيد جبريل باسولي الوسيط المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.
• نهض لقاء الدوحة في أجواء تعاظم الأدوار التي يلعبها المجتمع المدني في السياسة المحلية والإقليمية والدولية, فقد شهدت السنوات العشر الماضية زيادة كبيرة في حجم ونطاق وقدرات المجتمع المدني في مختلف أنحاء العالم, وساعد علي ذلك انتشار مفاهيم العولمة, واتساع نطاق الحكم الديمقراطي وتعالي الأصوات المطالبة بالحكم الرشيد, والتكامل الاقتصادي والتطور الهائل في وسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية, وأصبحت منظمات المجتمع المدني قوة هامة لتوصيل الخدمات الاجتماعية وتنفيذ مشروعات التنمية بجانب دورها الهام في صياغة السياسات العامة محليا وإقليميا وعالميا.
وفضلا عما سبق يمكن ملاحظة إدراك الوسطاء لأهمية دور منظمات المجتمع المدني, وحضورهم الكبير في أعماله الافتتاحية بالدوحة من رئيس وزراء دولة قطر حمد بن جاسم, وترحيب الحكومة السودانية بإعلان الدوحة, كل ذلك أصبغ شرعية محلية وإقليمية ودولية على منظمات المجتمع المدني الدارفوري, وأمن لها حضورا فاعلا, بشكل ما, في العمليات التفاوضية القادمة.
دور منظمات المجتمع المدني في المفاوضات
إذا كان لقاء الدوحة الأول قد أعتبر تدشينا رسميا لآلية منظمات المجتمع المدني في دارفور, فإن السؤال الملح الذي ينهض ها هنا هو ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الآلية في الوصول إلي اتفاق سلام في دارفور؟
ليس من اليسير تقديم إجابة وافية شافية لهذا السؤال, علي ضوء الاحتكار الصارم لطاولة التفاوض بين الحكومة والحركات, فبعض الحركات صرحت علنا برفضها لأي وجود لمنظمات المجتمع المدني في طاولة التفاوض, وأعلنت تحفظها علي إعلان الدوحة جملة, وتحفظ بعضها علي بعض فقرات الإعلان, وإن أبدت ترحيبا باصطفاف منظمات المجتمع المدني في صف واحد, فيما رحبت الحكومة باللاعب الجديد في أروقة صالات التفاوض, دون أن يبدو منها ما يفيد بوضع له في طاولة التفاوض, وعلي ذلك فإن الإجابة الشافية مظنون أن تكتمل ملامحها في ورشة العمل المزمع إقامتها في يناير القادم في الدوحة قبيل انطلاق أعمال الجولة التفاوضية القادمة.
وإجمالا يمكن القول إن منظمات المجتمع المدني الدارفوري ينتظر أن تلعب أدورا مهمة قد يكون منها الضغط والحض والتعجيل والتسريع بخطي التفاوض للوصول إلي اتفاق, وقد تلعب أدوارا هامة في تجسير الفجوات وتقريب وجهات النظر في مواقف التشدد, وفض الاختناقات، أو ربما تلعب دور الضامن في إجراءات التنفيذ, أو دور الشاهد... وما إلى ذلك.
_______________
باحث وصحفي سوداني