يسود الاعتقاد منذ عقود لدى أجزاء واسعة من الرأي العام العربي والغربي بأنَّ مجموعة من الشخصيات اليهودية الموالية للصهيونية هي التي تسيطر سيطرة مطلقة على حكومات الدول الغربية وزعمائها، وهي التي تفرض بأساليب مختلفة مواقف تلك الدول تجاه النزاع في فلسطين.
اللوبي الصهيوني والنظرة التبسيطية
تفكيك الخطاب الديني المؤيد لإسرائيل
تغيير الخطاب العربي ومستقبل قوى الممانعة
اللوبي الصهيوني والنظرة التبسيطية
ونجحت تلك الشخصيات نجاحاً باهراً في جعل العالم ينسى ما يتحمَّله الفلسطينيون منذ نشأة الكيان الإسرائيلي من قمع وقهر وتهميش وطرد بما لا يُطاق، وبما هو مُدان عادةً في القانون الدولي واحترام حقوق الإنسان. وهذا ينطبق أيضاً على ما تحمَّله الشعب اللبناني منذ نهاية الستينيات من القرن الماضي لاحتضانه المقاومة الفلسطينية وقيامه بمقاومة ناجحة في جنوب لبنان لطرد الاحتلال الإسرائيلي.
النظرة التبسيطية للأمور تؤدِّي إلى أخطاء جسيمة في المواقف والسياسات العربية تجاه عدوانية إسرائيل المتواصلة |
ومثل هذا الموقف يعفي أيضاً من أية مسؤولية حكومات الدول الغربية التي تسكت عن جرائم إسرائيل، بلْ تبرِّرها باستمرار، وهي التي تزوِّد الجيش الإسرائيلي بكل أنواع الأسلحة الفتاكة -والعديد منها محظور استعمالها- بحجة منح إسرائيل وسائل الدفاع عن الذات بوجه المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية.
إنَّ هذه النظرية، القائلة بالقوة التي لا تُقْهَر للوبي الصهيوني، تغض النظر تماماً عن سلسلة من العوامل التاريخية المعقَّدة التي تجعل القيادات الأوروبية والأميركية تحمي دولة إسرائيل وكيانها الغاصب إلى أبعد الحدود، بملء إرادتها، بلْ بحماس يفوق ما تطلبه إسرائيل؛ فهي تتحمَّل بالتالي مسؤولية رئيسية في ما يُرتكَب من مجازر في فلسطين أو لبنان وعدوانية وحشية تجاه العرب والرفض المطلق في الاعتراف بالحقوق الفلسطينية. ويؤدِّي التمسُّك بالنظرية هذه بهذا الشكل الساذج إلى أخطاء مميتة وإلى استحالة أي حوار عقلاني مع القيادات الغربية، ومع الجزء من الرأي العام الغربي الذي يرى في إسرائيل ونشأتها وأمنها غاية بحد ذاتها، يجب الدفاع عنها إلى أبعد الحدود وذلك لأسباب تاريخية وآراء فلسفية-دينية شاسعة النفوذ.
وهذه الأسباب هي التي نتجاهلها تماماً لنتمسَّك بنظرية اللوبي الصهيوني المهيْمِن على مجمل السياسة الجيوبوليتيكية في الشرق الأوسط.
ونحن لا ندري أنَّ هذا الاعتقاد يريح تماماً القيادات الغربية، إذْ تجد فيه ما يبرِّئها من مساهمتها الفعالة في الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الكيان الصهيوني منذ نشأته. هذا بالإضافة إلى أنَّ بعض التعابير الحادة لوجهة النظر هذه تُعتبَر نوعاً من "اللا سامية الجديدة" باتهام اليهود أنَّهم يسيطرون على مقاليد السياسات الدولية والداخلية، وبالتالي تعرِّض من يتحدَّث عنها علناً وبحدة إلى الانتقاد أو في بعض الأحيان إلى المثول أمام المحاكم في بعض الدول الغربية.
وفي الحقيقة أنَّه يتعيَّن علينا كعرب أن نقود معركة الرأي العام داخلياً وخارجياً بأساليب غير هذا الأسلوب الذي لا يفيد، بلْ يضر، للنفاذ إلى الأسباب الحقيقية وراء موقف قيادات الدول الغربية والجزء الظلامي من الرأي العام الغربي الذي يتمسَّك بالدفاع عن إسرائيل بشراسة غريبة الشكل.
ولذا نستعرض هنا الخلفية التاريخية والفلسفية والسياسية التي أدَّت إلى تكوين هذا التلاحم بين القيادات الغربية والكيان الصهيوني، وهو تلاحم يؤدّي بهذه القيادات إلى عدم تطبيق مبادئ القانون الدولي والقانون الإنساني – وهي واضحة للغاية - لوضع حد للمأساة الفلسطينية، كما فعلته في أوضاع أخرى مماثلة في إفريقيا وتيمور الشرقية وناميبيا والبوسنة وكوسوفو، أو ما قامت به القيادات الغربية من إنشاء محاكم دولية خاصة لمعاقبة مرتكبي المجازر الجماعية في أماكن مختلفة من العالم مثل كمبوديا ورواندا وسيراليون ويوغوسلافيا.
وفي السنين الأخيرة انجرَّ العرب إلى الدخول في مناقشات سخيفة حول حوار الأديان والثقافات والحضارات، كبديل للحوار حول الأسباب الحقيقية التي تجعل القيادات الغربية لا تطبِّق مبادئ القانون الدولي في الوضع الفلسطيني (واللبناني).
وكأنَّ قضية فلسطين هي قضية أديان وحضارات وليست بالدرجة الأولى قضية احتلال أراضٍ في فلسطين وخارجها في دول الجوار (لبنان وسوريا)، وذلك بحجة القضاء على المقاومة، أوَليست هي قضية طرد وقمع الشعب الفلسطيني؟
هذا المنطق الغربي مرفوض تماماً ويجب التصدّي له بفعالية، بتأييد المقاومة ما دامت إسرائيل تتصرَّف بطريقة لا إنسانية تخالف مبادئ القانون الدولي.
لذلك لا بدَّ هنا من توضيح الظروف التاريخية الموضوعية التي تؤدّي بالدول الغربية إلى هذا التأييد الأعمى لإسرائيل، بعيداً عن سذاجة النظرية السائدة حول القوة الخارقة لحفنة من الشخصيات اليهودية التي يُدَّعى أنَّها تسيطر على كل هذه الحكومات في دول يتعدَّى عدد سكانها ما يقارب المليار نسمة.
تفكيك الخطاب الغربي المؤيد لإسرائيل
إنَّ العوامل والظروف الكائنة وراء هذا الموقف المؤيِّد لإسرائيل لهيَ عديدة، وفي هذا المقال المختَصَر سنكتفي بإبراز أهمها، وبشكل خاص تلك التي تؤثِّر بشكل رئيسي على المواقف المتَّخَذة لصالح إسرائيل، والتي تسوغ الخطاب الغربي الخشبي في موضوع أمن إسرائيل وحقها في الدفاع عن نفسها، وهو الخطاب الذي يجب أن نفكِّكه بهدف جعله يتراجع في النقاشات والمجادلات الدائرة بيننا وبين الدول الغربية(1).
أوَّلاً:الخلفية الدينية البروتستانتية
من أبرز العوامل التي تفسِّر السياسة الأميركية تجاه إسرائيل هو الخلفية الدينية البروتستانتية على النمط المتطرِّف لمدرسة الطهرانية |
فالمستعمرون الأوروبيون، وعلى رأسهم الإنكليز الذين غزوا قارة أميركا الشمالية وأبادوا السكان الأصليين من الهنود، كانوا يرون أنَّ القارة الأميركية هي أرض ميعاد جديدة وهبها الله لهم، وذلك بانتظار استعادة أرض الميعاد الأصلية في فلسطين.
وكل الدراسات والتحاليل حول القومية الأميركية وعناصر تكوينها تشير إلى أهمية هذا المكوِّن الديني السياسي، و أُعيد إحياؤه منذ عقود تحت عودة مناخ ديني في العالم وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، وإنشاء كنائس إنجالوية جديدة (New Evangelist) أصبحت تلعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية الداخلية، وأصبحت تشجِّع إلى أقصى الحدود مواصلة إسرائيل لاستيطان الضفة الغربية لاستعادة أرض الميعاد وتجميع كل يهود العالم فيها تحضيراً لعودة المسيح وتحويل اليهود إلى مسيحيين يعترفون أخيراً بنبوة وإلهية السيد المسيح. وكما لم يشعر المستعمرون الأوَّلون لأميركا الشمالية بأي وخز ضمير في ممارسة العنف وإبادة السكان الأصليين، فإنَّهم اليوم لا يرون أي عمل معيب في ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين كسكان أصليين لأرض الميعاد.
وهذه الخلفية التاريخية هي التي تفسِّر "نجاح" ما يُسَمَّى اللوبي الصهيوني.
والحقيقة هي أنَّ تركيبة اللوبي وفعّاليته الشكلية ليست سوى تعبير عن رضا وحماس أجزاء واسعة من الرأي العام المتديِّن الأميركي والقيادات الرئيسية للأجهزة الحكومية، فكل الكلام عن القوى الخارقة والاستثنائية والمؤامراتية للوبي الصهيوني لا معنى لها، إذْ أنَّ البيئة البروتستانتية السلفية التي ما تزال هي الرائدة في الحياة الثقافية والسياسية الأميركية هي التي تدفع اليهود في أميركا للدفاع الأعمى عن إسرائيل. ولذلك لا يمكن أن نتحدَّث عن قوى خارقة أو عن مؤامرة طالما أنَّ البيئة تشجِّع وبدرجة عالية الوتيرة، في التعبير عن الحماس تجاه إسرائيل والدفاع عنها ولو على حساب القانون الدولي ومصداقيته لدى شعوب الشرق الأوسط.
وفي هذا المضمار لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ كل الكتابات التي تتحدَّث عن اللوبي الصهيوني تغفل تماماً الخلفية والمُعطى التاريخي، وهذا ما حصل مؤخراً بكتاب أستاذيْن كبيريْن في جامعة هارفرد اللذيْن تجرءا وكتبا ضد اللوبي الصهيوني كتاباً مدوياً اتهمه فيه بأنَّه متحكِّم بشكل مطلق بالحكومات والمجالس النيابية ويعمل ضد المصلحة الأميركية(2). لكن للأسف هذه الطريقة في الكتابة لا تفيد القضية الفلسطينية لا من قريب ولا من بعيد، بلْ تبعدها عن التحليل الصحيح والدقيق لما يحصل على الأرض في فلسطين منذ أكثر من قرن.
كما لا بدَّ من التذكير بالعدد الكبير من اليهود، علمانيين أو رجال دين، الذين يعادون ممارسات دولة إسرائيل ويدينونها بشدة، بلْ أنَّ بعض الفئات المتدنية من الحاخامات يرون عدم شرعية وجود دولة يهودية من المنظور اللاهوتي اليهودي، وبالتالي يعتبرون الكيان الصهيوني بدعة خطيرة في حياة اليهود ومخالفة فظيعة للمبادئ الأخلاقية المسالِمة التي يتمسّكون بها.
ونرى في بعض الأحيان هؤلاء الحاخامات يتظاهرون مع الفلسطينيين أو العرب في شوارع العواصم الغربية الكبرى احتجاجاً على المجازر التي ترتكبها الدولة الصهيونية، وهذه الفئة من اليهود مهمَّشة تماماً في الغرب، ولا يُعْطى لها أي مجال يُذْكَر في وسائل الإعلام، كما في الدراسات الأكاديمية الطابع حول الكيان الصهيوني والصراع معه، بالإضافة إلى أننا لا نهتم بهؤلاء ولا نساعدهم رغم ما يمثِّلون من حجة قوية ضد مواقف المسيحية الغربية البروتستانتية المؤيِّدة بشكل أعمى لممارسة الكيان الصهيوني.
ثانياً: اللاسامية وفلسفة غربية للدفاع عن إسرائيل
بالنسبة إلى أوروبا، فالموضوع في جذوره التاريخية مختلف تماماً عن الخلفية الأميركية المذكورة، وإنْ أصبح اليوم الشعور بالضرورة الملحَّة للدفاع المستميت عن إسرائيل يلتقي مع الشعور الأميركي في تركيبة فلسفية سياسية مشتركة.
إنَّ الخلفية التاريخية لأوروبا، على خلاف الوضع الأميركي، تتميَّز بقرون من الاضطهاد ضد اليهود بشكل متصاعد أدَّت إلى محاولة الإبادة التامة للأوروبيين من الديانة اليهودية تحت النظام النازي خلال الحرب العالمية الثانية.
ويمكن تقسيم هذه النزعة الاضطهادية ضد اليهود (التي لم يعرفها العالم الإسلامي أو المسيحية الشرقية) إلى مرحلتيْن كبيرتيْن:
- المرحلة الأولى
بُنِيَ العداء لليهود في هذه المرحلة على أساس ديني محض، نظراً لمطالبة الحاخامات في فلسطين صلب المسيح أيام الحكم الروماني وعدم اعتراف اليهود بنبوة أو إلهية المسيح. فهذه المعاداة كانت لاهوتية، دينية الطابع أدَّت إلى تهميش اليهود في أوروبا وفي بعض الأحيان إلى التنكيل بهم، خاصةً خلال عهد الحروب الصليبية حيث كانت العصبية الدينية للمسيحية الغربية متأجِّجة ضد كل من ليس مسيحياً على طريقة كنيسة روما.
ومن الجدير بالملاحظة ما كان من حدود دينية الطابع لاضطهاد اليهود في هذه المرحلة، إذْ أنَّ كنيسة روما كانت ترى ضرورة الحفاظ على حياة اليهود كشعب يشهد على ولادة السيد المسيح وحياته وآلامه. وأيضاً سيتم تنصرنه مستقبلاً قبل عودة المسيح إلى الأرض. لذلك كانت الكنيسة تضع حداً للمجازر الجماعية وتحمي في بعض الأحيان اليهود من انتقام المسيحيين الغاضبين، خاصةً في مدينة روما. - المرحلة الثانية
خفَّت في المرحلة الثانية معاداة اليهود على أساس لاهوتي بعد فلسفة الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية في المساواة بين كل البشر بغض النظر عن الانتماء الديني والعرقي، لكنَّها سرعان ما تحوَّلت إلى معاداة عنصرية الطابع تحت النفوذ المتعاظِم للنظريات العنصرية الطابع التي قسَّمت العالم إلى قسميْن:- عالم آري متفوِّق يحمل شعلة الحضارة العالمية منذ أقدم الأزمنة.
- وعالم سامي مركزه في المنطقة العربية وطبيعته الجوهرية بدائية ومتخلِّفة ولا أمل في أن يرتقي إلى مستوى الحضارة الآرية.
- عالم آري متفوِّق يحمل شعلة الحضارة العالمية منذ أقدم الأزمنة.
إنَّ الخلفية التاريخية لأوروبا، تتميَّز بقرون من الاضطهاد ضد اليهود بشكل متصاعد أدَّت إلى محاولة الإبادة التامة للأوروبيين من الديانة اليهودية تحت النظام النازي خلال الحرب العالمية الثانية |
وقد أصبح، من جرَّاء هذه النظريات، يُنْظَر إلى اليهود الأوروبيين على أنَّهم عنصر غريب، سامي الأصل وليس آري، وهو يعمل مثل الطابور الخامس لتقويض الحضارة الأوروبية الآرية، وأنه مهما كانت درجة تماثلهم بالثقافات الأوروبية واندماجهم في المجتمع وبراعتهم في كل أنواع الفنون والآداب والعلوم الأوروبية، فهم غير قابلين للانصهار التام في الحضارة الآرية.
هذا بالإضافة إلى اتهامهم من قِبَل بعض الدوائر الظلامية في أوروبا بأنَّهم تآمروا مع الماسونية لتقويض أُسس المجتمعات الأوروبية، الدينية والسياسية، عبر الثورة الفرنسية وما نتج عنها من زلازل اجتماعية وسياسية؛ ومن ثم تمَّ اتهامهم بإقامة الثورة البلشفية لنفس الهدف، أيْ تقويض الحضارة الأوروبية الآرية الراقية.
ونجد كل هذه النظرات الظلامية والساذجة في مؤلَّف هتلر الشهير "معركتي" (Mein Kampf)، حيث لا يرى القائد النازي إلا حلاً واحداً وهو طرد كل اليهود من أوروبا أو إبادتهم، وبعد أن تعذَّر الطرد، تمَّت محاولة الإبادة وقد تعاون في هذه الإبادة العديد من الأوروبيين من كل الاتجاهات السياسية والثقافات الأوروبية المختلفة خلال الحرب العالمية الثانية.
وإذا تمَّ الاعتقاد في فترة ما بأنَّ محكمة نورمبرغ بإدانتها لكل الجرائم المرتكَبة من قبَل القيادات النازية قد أقفلت هذا الملف، فإنَّ إعادة إحياء قضية محاولة الإبادة هذه في الوجدان الغربي قد أتت من الولايات المتحدة عام 1979 بمبادرة من الرئيس كارتر، وهو متديِّنٌ للغاية ومنتمي لإحدى الكنائس البروتستانتية المتشددة، عندما قام بإنشاء لجنة كبيرة للإشراف على بناء نصب تذكاري ضخم في واشنطن لضحايا المحرقة.
وقد أدَّى ذلك إلى نشر العديد من الدراسات تُعْنَى بتفاصيل المحرقة، وكذلك عدد لا يُحصى من الأفلام السينمائية ومن الروايات الأدبية التي عمَّت أسواق النشر في كلٍّ من أميركا وأوروبا.
أصبحت المحرقة من جراء ذلك مادة أدبية فلسفية فنية دخلت إلى كل بيت بشكل أو بآخر، في أميركا وفي أوروبا، وأصبحت مادة تعليمية في المدارس. واستفاد طبعاً من هذا التطوّر الموصوف الكيان الصهيوني وكرَّس النظر إليه في الغرب على أنَّه ملجأ شرعي لا بدَّ منه لمن تبقّى من يهود أوروبا بعد المحرقة من جهة، وعلى انَّه تتمة تتويجية وإيجابية لمعاناة اليهود في تاريخهم.
والجدير بالملاحظة هنا اختصار تاريخ اليهود والجاليات اليهودية المتعددة المنتشرة في البلدان الشرقية أيضاً بتاريخ اليهود الأوروبيين، وكأنَّ اليهودية لم تكن موجودة بكثافة وحيوية في مناطق أخرى من العالم، وبشكل خاص في المنطقة العربية حيث عاشوا بسلام وأمان خلال قرون عديدة إلى أن أُنشئ الكيان الصهيوني، ومورِسَت ضغوطات كبيرة على المواطنين العرب من الديانة اليهودية ليهاجروا إلى إسرائيل.
ثالثاً: الانقلاب الثقافي وحضارة يهودية مسيحية!
لقد تعاظم توظيف الدين في السياسة الدولية في الأربعين سنة الأخيرة، سواءً انطلاقاً من الدفاع عن إسرائيل كدولة يهودية وردات الفعل في الشرق التي تحوَّلت من مواقف قومية عربية إلى مواقف إسلامية، أو أيضاً من خلال توظيف الديانات السماوية الثلاثة في مكافحة الشيوعية وانتشارها في العالم الثالث، أصبحت كل النزاعات الإقليمية والدولية يُنْظَر إليها على أنَّها دينية أو عرقية أو حضارية الطابع.
هذا بالإضافة إلى نوع من الانقلاب الثقافي في أوروبا حيث برز مفهوم جديد لوصف جوهر الحضارة الغربية وجذورها على أنَّها "يهودية مسيحية" وليست كما كانت الحال حتى السبعينيات من القرن الماضي "يونانية رومانية" الأصل.
ومن الملفت للنظر أن التوفيق بين اليهودية والمسيحية ككتلة ثقافية دينية وقيَمية واحدة، يناقض تماماً حقيقة التاريخ الدموي الطويل بين اليهود والمسيحيين الأوروبيين الذي كان يعكس تناقض صارخ وحاد في القيَم والنظرة إلى أمور الدنيا. وفي المقابل أصبحنا نحن في الشرق لا نتحدَّث إلا عن حضارتنا العربية والإسلامية، وكأنَّ شخصيتنا الحضارية واللغوية العربية تذوب في أممية إسلامية تشمل شعوباً وثقافات ونُظُم مختلفة.
وفي مثل هذا المناخ، فإنَّ الكيان الصهيوني أصبح يحتل مكانة مركزية رفيعة في الوجدان الغربي كخط دفاع أساسي ومتقدِّم للحضارة الغربية التي أصبحت تُسمَّى "يهودية مسيحية" أمام الحضارة العربية الإسلامية التي أصبحت تهدِّد، في نظر القيادات الغربية، سلامة العالم المسيحي اليهودي ونظام قيمه ومؤسساته الديمقراطية.
ونجح الرئيس جورج بوش خلال عهده وبحجة ما حصل في 11 سبتمبر/أيلول 2001 بنشر خطاب خشبي شمولي حول "خطر الفاشستية الإسلامية (Islamic fascism) على الحضارة الغربية. وإذْ أخفق عسكرياً في كلٍّ من أفغانستان والعراق وفي دعمه لهمجية إسرائيل، فإنَّ خطاباته النارية حول الإرهاب والخطر الإسلامي انتشرت إلى حدٍّ بعيد في الذهنية الغربية، وبشكل خاص في الإعلام والدوائر السياسية والأكاديمية وجزء من الرأي العام الظلامي المتأثِّر بالنظريات العنصرية القديمة.
رابعاً: العامل الاستعماري والعنصري
إضافةً إلى كل هذه العوامل التاريخية الوضعية، يجب ألاَّ ننسى العامل الاستعماري والعنصري الذي تجدَّد مؤخراً تحت تأثير السياسات الأميركية التي هدفت إلى السيطرة على العالم بشكل إمبريالي. وقد عادت أوروبا إلى الخضوع إلى ميْلها السابق في الاستعمار بانضمامها إلى المشاريع الأميركية ومساندة الإمبراطورية الأميركية في نشر هيمنتها عالمياً، وإنْ كنا نسمع من وقت إلى آخر بعض الملاحظات النقدية حول الأوجه المتطرِّفة للسياسة الأميركية، خاصةً في عهد الرئيس بوش.
خامساً: مسؤولية الأنظمة العربية
ما أسهل تبرير الاستسلام بأننا عاجزون عن مواجهة مؤامرات اللوبيات الصهيونية وقوَّتها في الغرب، وبالتالي إعفاء القيادات الأوروبية والأميركية من أية مسؤولية لما يحصل |
وهذا الموقف مثل تشجيعاً عملاقاً لا يُقهَر، لممارسة هذا المحور مزيداً من الهيمنة والغطرسة على المقدرات العربية، خاصةً في ظل سياسات دول عربية رئيسية تدين أعمال المقاومة على أنَّها تضر بالأمة بينما، ترى أنَّ الاستسلام هو الطريق الوحيد للخلاص ولتجنُّب مزيد من العنف.
وما أسهل تبرير الاستسلام بأننا عاجزون عن مواجهة مؤامرات اللوبيات الصهيونية وقوَّتها في الغرب، وبالتالي إعفاء القيادات الأوروبية والأميركية من أية مسؤولية لما يحصل، مما يبرِّر عدم اتخاذ المواقف والإجراءات السياسية والمعنوية المطلوبة من قِبَل القيادات العربية تجاه السياسات الغربية!
تغيير الخطاب العربي ومستقبل قوى الممانعة
إنَّ ما حصل في القمة التشاورية في الدوحة لهوَ علامة تفاؤل بالنسبة إلى المستقبل، خاصةً ببداية تغيير الخطاب العربي وإخراجه من اللغة الأوروبية – الأميركية- الصهيونية التي لا ترى فرقاً بين الجلاَّد والضحية، بلْ تؤيِّد الجلاَّد على حساب معاناة وحقوق الضحية.
- ويجب تعزيز هذا الاتجاه بتحليل صحيح وواقعي للظروف المعقَّدة التي صاغت المواقف الغربية وخطابها الخشبي في ما خصَّ النزاع حول فلسطين. وإذا كانت هناك أبعاد دينية هامة للصراع، كما هي موصوفة باختصار هنا، فإنَّ هذه المعطيات ليست إلاَّ رؤية لقمة جبل الجليد المطمور، بالإضافة إلى كونها خاصة ببعض الكنائس البروتستنتية السلفية الهوى.
- ويجب في هذا الخصوص إفهام القيادات الغربية بشكل حاسم بأن لا علاقة للإسلام والمسلمين عموما والعرب خصوصاً، بأسباب اضطهاد اليهود في أوروبا أكانت دينية أو عنصرية الطابع، وإفهامهم بأنَّ العرب لم يكونوا يوماً طرفاً في مأساة اضطهاد اليهود وفي المحرقة.
- كما يتوجَّب أيضاً إفهام القيادات الغربية أنَّ العرب قد طوروا، إسلامياً ومسيحياً، قراءة العهد القديم بحيث نتحرر من القراءة الحرفية لبعض النصوص حول أرض الميعاد، والقراءة الأخيرة هي التي تسيطر على ذهن أصحاب القرار في الغرب، وأن لا قضية أخرى يمكن أن تُناقَش في موضوع أسباب الصراع في فلسطين، وإلاَّ لا بدَّ من أن ينجرّ القيادات والمثقفون العرب إلى المنطق الغربي في النظر بعطف لا متناهي إلى إسرائيل وتبرير سياساتها الهمجية والعدوانية بحجة الدفاع عن النفس. ذلك أنَّنا نحن كعرب لم نكن يوماً طرفاً بكل هذه العوامل التاريخية المعقَّدة التي ذكرْتُها، ولا قوة في العالم يمكن أن تجبرنا على أن نتحمَّل نحن كعرب، مسلمين ومسيحيين، وزر التاريخ الأوروبي والأميركي ومآسيه وقيوده.
وإنَّ المقاومة واجب مقدَّس، سواء على أساس قيَم دينية محضة أم على أساس مبادئ إنسانوية دنيوية عامة. - وعلينا أن نُفْهِم أيضاً الدوائر السياسية الغربية لإبطال دعاياتها السافرة ضدنا، بأن لو كان الغزاة في فلسطين من الديانة البودية أو البرهمانية لكنا حاربناهم بنفس العناد، فالقضية في نهاية المطاف ليست قضية دينية، بلْ هي قضية مبادئ تحررية تصلح لكل الإنسانية، ومن يتخاذل من العرب، خاصةً قيادات الشعوب المحيطة بفلسطين تجاه واجب الممانعة ويتلكّأ عن تأييد المقاومة، فإنَّه يصبح في عداد الذين يمارسون الظلامية ويزرعون فساداً في العالم ويساهمون في زيادة حدة العنف وعدم الاستقرار في المنطقة، وفي إطالة معاناة الشعب الفلسطيني التي أصبحت لا تُطاق.
_______________
مفكر لبناني ووزير سابق
مصادر
1- لمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع، أنظر جورج قرم، انفجار المشرق العربي، من تأميم قناة السويس إلى غزو العراق 1956-2007، دار الفارابي، بيروت، 2007.
2- John J. MEARSHEIMER et Stephen M. WALT, Le Lobby pro-israélien et la politique étrangère américaine, La Découverte, Paris, 2007.