إيران، أزمة نظام أم أزمة مجتمع

الأزمة الإيرانية في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة وتداعياتها كانت محل نقاش في الندوة الشهرية الحادية والثلاثين لمركز الجزيرة للدراسات، والتي انتهت إلى الإقرار بوجود أزمة سياسية ذات أبعاد طبقية واجتماعية في إيران، وأن المعارضة لا تخرج عن عباءة المنظومة الحاكمة.







 

مركز الجزيرة للدراسات


اختلفت الآراء في تفسير الأحداث التي أعقبت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران وفي تحليل أبعادها ودلالاتها:


هل هي مجرد جدل سياسي ومناوشات أمنية فجرتها نتائج لم تأت منسجمة مع توقعات الكثيرين، أم هي تعبير عن تحولات اجتماعية وسياسية عميقة ظلت تعتمل في أوساط المجتمع الإيراني منذ قيام الثورة.


هل ما حصل في الشارع الإيراني وما يجري في أروقة السياسة في طهران لا يعدو كونه خدوشا في صورة الثورة وصعوبات تعترض المسيرة العادية للجمهورية الإسلامية، أم أن الأمر يؤشر إلى أزمة متعددة الأبعاد تحتاج لفهمها إلى الغوص في تاريخ الثورة وتركيبة الحكم وبنية المجتمع.


هل ستقتصر تداعيات الأحداث الأخيرة على معادلات الوضع الداخلي في إيران أم ستتجاوز ذلك إلى التأثير على دور إيران الإقليمي وفي اتجاهات سياستها الخارجية؟


هذه القضايا كانت محل نقاش في الندوة الشهرية الحادية والثلاثين لمركز الجزيرة للدراسات والتي عقدت في الأول من يوليو/تموز 2009 تحت عنوان: "إيران، أزمة نظام أم أزمة مجتمع". وأدارها د. مصطفى المرابط، مدير المركز وشارك فيها الأساتذة:



  • ما شاء الله شمس الواعظين، مستشار مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية بطهران.
  • علي أصغر محمدي سيجاني، الباحث الإيراني والدبلوماسي السابق.
  • ميشيل نوفل، الخبير اللبناني في الشؤون الإيرانية.
  • فهمي هويدي، الكاتب والمحلل السياسي المصري

في تفسير ما حصل
مآلات الأزمة وتداعياتها


في تفسير ما حصل


تنوعت آراء المشاركين في الندوة حول أحداث إيران الأخيرة، واختلفت تقديراتهم حول عمق الأزمة وطبيعة الفاعلين فيها.


1- شبه انقلاب عسكري



الرئيس نجاد أعيد انتخابه في ظل تحالف مع العسكر وتسليم السلطة للمدنيين في الظروف الراهنة لم يعد واردا. ويعزز هذا الرأي أن نسبة ذوي الخلفية العسكرية في مؤسسات الدولة أصبحت ملفتة للانتباه 
يذهب الرأي الأول إلى اعتبار أن ما حصل في إيران عقب الانتخابات يتسم بدرجة عالية من الخطورة تجعله أشبه بالانقلاب العسكري الذي يمس من طبيعة الحكم ويهدف إلى تغيير معادلات السلطة من خلال تمكين الحرس الثوري من مقاليد السياسة والاقتصاد إلى جانب التدخل الميداني المباشر في الأحداث لنصرة المحافظين وتأمين مواقعهم في النظام السياسي. وقد تأكد هذا التوجه نحو عسكرة الثورة، والذي بدأ منذ سنوات، بإقصاء التيار الإصلاحي عن الحكم، واستخدام كل الأساليب المعروفة في الانقلابات العسكرية من اعتقال المناوئين والزج برموز المعارضة في السجن وإغلاق صحفهم ومواقعهم الإلكترونية وضرب المتظاهرين ومنع تحركاتهم الميدانية ونزول العسكر إلى الشارع، أما الاستيلاء على الإذاعة والتلفزيون لاستكمال مظاهر الانقلاب العسكري فلم تكن ثمة حاجة إليه، على حد تعبير مستشار مركز الشرق الأوسط للدراسات الإستراتيجية بطهران، باعتبار أن المؤسستين أصلا في أيدي السلطة القائمة.

هذا التوصيف الذي يربط بين رؤية المحافظين لطبيعة السلطة في ظل التغيرات التي يشهدها المجتمع الإيراني، وبين خيارهم في عسكرة الحكم كحل وحيد للاستمرار في مواقعهم، يفسره الاختلاف المتنامي في أوساط طبقة رجال الدين التي أنشأت نظام الجمهورية الإسلامية ولكنها باتت عاجزة عن الاستمرار في صيانته. فالخلافات الدائمة بين كبار المراجع الشيعة تجعل من اجتهاداتهم، وخاصة تلك التي تتعلق بشؤون الدولة وطبيعة نظامها السياسي، محل خلاف جوهري يصعب تجاوزه برغم سلطة الولي الفقيه وموقعه المركزي من نظام الحكم.


إلى جانب ذلك، فقد أبرزت التطورات الأخيرة إلى السطح دور القوى ذات الطبيعة العسكرية ولاسيما الحرس الثوري في حماية النظام القائم وحراسة السلطة السياسية للمحافظين. فالحرس الثوري هو القوة الأكثر تنظيما واستقرارا وقدرة على ضمان استمرار النظام في المستقبل بكفاءة عالية.


وتشير المعطيات، حسب هذا التحليل، إلى أن الرئيس محمود أحمدي نجاد أعيد انتخابه في ظل تحالف مع العسكر وأن تسليم السلطة للمدنيين في الظروف الراهنة لم يعد واردا. يعزز هذا الرأي أن مؤسسات الدولة وأجهزتها الأخرى لم تعد بمنآى عن سياسة العسكرة حيث أصبحت نسبة من يشغلونها من ذوي الخلفية العسكرية وتحديدا من قدماء الحرس الثوري ملفتة للانتباه. فنسبة نواب البرلمان الحالي من ذوي الخلفية العسكرية -على سبيل المثال- تصل إلى 63%.


2- تطلعات مجتمع
الرؤية الثانية تعتبر أن الانتخابات الأخيرة، رغم ما شابها من جدل وما واكب نتائجها من اعتراضات في الداخل وفي الخارج، إنما هي تعبير عن تطلعات مشروعة يحملها مجتمع سياسي ومدني ينبض بالحياة، وأن ثمة دروسا بليغة ينبغي الالتفات إليها. ويؤكد بعض من يتبنى هذه الرؤية أن النظام أقوى وأكثر تماسكا مما يظنه البعض أوتصوره بعض وسائل الإعلام، وأنه قادر بما يتمتع به من شرعية وما يقوم عليه من مؤسسات دستورية وقانونية أن يتعامل مع مطالب الفئات المعترضة على نتائج الانتخابات وفق معاييره الخاصة.


هذا التحليل يصنف الفئات الاجتماعية التي وجدت نفسها في تعارض مع الواقع القائم إلى ثلاثة قطاعات أساسية وهي على النحو التالي:


- قطاع شعبي من الطبقة المتوسطة يريد مزيدا من الإصلاحات الديمقراطية ومزيدا من الحريات الفردية والعامة. وقد صوّت هذا القطاع للتغيير بواجهة من المعارضين من أبناء الثورة ولكن من داخل النظام ومؤسساته.


- قطاع آخر من رجال النظام وخاصة من التيار الإصلاحي وفي مقدمه رموزه موسوي وخاتمي وكروبي. ويرى هؤلاء أن نظام الجمهورية الإسلامية كما هو قائم ما زال يحتمل التطوير من الداخل، وخاضوا معركة الانتخابات على هذا الأساس وتظاهروا على إثر إعلان نتائج الانتخابات تعبيرا عن هذا المطلب.


- قطاع ثالث يعبر عنه جيل جديد من الشباب يريد الذهاب في مطالبه أبعد من الإصلاحيين. هذا الجيل يرى أن النظام الحالي لم يعد قادرا على تلبية حاجاته ولا على الاستجابة لتطلعاته في التغيير. وهو جيل منفتح على الآخر ويعرف العالم ويتكلم لغته ويجيد التعامل مع التكنولوجيا، وقد استفاد كثيرا مما تتيحه ثورة المعلومات والاتصالات. هذا الجيل يتطلع إلى إيران أخرى ويرغب في بناء نظام سياسي مغاير لذلك الذي أقامه مؤسسه الإمام الخميني.





ما حدث تنافس بين معسكرين وليس صراعا على هوية النظام أو على شرعية مؤسساته القائمة، والخلل يكمن في عجز المؤسسات على استيعاب مختلف التوجهات واحتواء المخالفين، والخلافات بين الطرفين تتعلق بالسياسات
بين هذه القطاعات الثلاثة يدور اليوم نقاش ثري حول بنية النظام ومصادر شرعيته وحدود صلاحياته، خاصة إزاء ما يبدو للبعض من تعارض بين مؤسسة القائد وطبيعتها الدينية، ومؤسسة الجمهورية ونظامها المدني. فحدود الشرعية الشعبية التي تأتي برئيس الجمهورية عبر الانتخاب المباشر في ظل نظام يحكمه الدستور تتداخل أحيانا مع حدود الشرعية الدينية التي يحكم بمقتضاها الولي الفقيه ويتمتع بفضلها بصلاحيات شبه مطلقة.

هذا النقاش لم يكن مطروحا على عهد الإمام الخميني نظرا لما كان يملكه من شرعية تاريخية مكنته من إقامة توازن دقيق بين الشرعية الشعبية والشرعية الدينية، وهو ما يبدو أنه اختل الآن حيث تغيرت المعادلة وأخذت الهوة بين المفهومين في الاتساع.


3- أزمة نظام
الرؤية الثالثة لا تعتبر أن ما يجري في إيران من قبيل الأزمة لا على صعيد النظام ولا على صعيد المجتمع، وتحصر ما يجري في حدود النزاع على نتيجة الانتخابات. فهي ترى أن الطرف الخاسر لم يرض بالنتائج المعلنة ولم يكتف بقبول الخسارة كما فعل من سبقه، بل نزل إلى الشارع احتجاجا بدلا من ترك الأمور تأخذ مجراها الطبيعي عبر المؤسسات الشرعية التي لها صلاحية تقرير صحة الانتخابات ونزاهتها من عدمهما. لا يرى هذا التحليل أي سند قانوني لإعادة الانتخابات كما يطالب الإصلاحيون، إذ أن ذلك سيفتح الباب أمام المطالبة بإعادتها كلما كان هناك طرف خاسر، وسوف يفقد الأجهزة الدستورية أي دور في المستقبل.


يرى هذا الاتجاه في التحليل أن حركة الاحتجاج على نتائج الانتخابات اخترقت من قبل جهات كانت تظن أن بإمكانها إحداث ثورة مخملية على شاكلة ما حصل في أوكرانيا وجورجيا وذلك بالاستناد إلى الدعم الخارجي. ولكن هذه المحاولة أحبطت في بداياتها ولم تنجح في ترجمة الرسائل التي كانت تصلها من قبيل المبالغة في تضخيم حجم المتظاهرين وإبراز الوجود باعتماد لون واحد واتهام السلطة بالتزوير كي تلغى الانتخابات.


من جهة أخرى يرى هذا التحليل أن إيران تمر بمرحلة مخاض طبيعي وأن الثورة بصدد تجديد ذاتها. فالإمام الخميني، الذي قاد الثورة وأسس الجمهورية، أحدث في صلب المجتمع الإيراني نقلة سريعة من مرحلة شبه متخلفة إلى مرحلة متقدمة. فقد أقامت الثورة نظاما جديدا على غير نموذج سابق، أي أنها حاولت بناء نموذجها الخاص القائم على مرجعية الإسلام من جهة وعلى قواعد النظام الديمقراطي من جهة أخرى. وهذه تجربة جديدة فيها الصواب وفيها الخطأ، ولا تخلو من الأزمات مثل ما حصل مع بني صدر وآية الله منتظري خليفة الإمام الخميني الأسبق.


4- تنافس لا صراع
الرؤية الأخيرة حاولت تفسير ما حدث بأنه تنافس بين معسكرين وليس صراعا على هوية النظام أو على شرعية مؤسساته القائمة، وأن الخلل يكمن في عجز تلك المؤسسات على استيعاب مختلف التوجهات واحتواء المخالفين، وأن الخلافات بين الطرفين تتعلق بالسياسات التي يسلكها هذا الطرف أو ذاك سواء على صعيد الداخل أو على صعيد السياسة الخارجية وخاصة في طريقة إدارة الملفات الحيوية والكبرى. يرى هذا التحليل أن دائرة الخلاف بين التيارين الكبيرين بدأت تتسع وأنه ما لم يتم التعاطي معها بروح احتوائية تحفظ القيم وتنتصر للمبادئ التي ارتبطت بالثورة، فإن المستقبل قد يسفر عن تهديد حقيقي لتلك القيم ولبنية النظام نفسه.


مآلات الأزمة وتداعياتها





شكك بعض المشاركين في الندوة في قدرة نجاد على إدارة المرحلة المقبلة بأسلوب المواجهة، لأن الإدارة الأميركية الجديدة بدأت تطرح الحوار كآلية للتعامل مع المنطقة، وأشاعت جوا من التهدئة الأمنية
خرجت الندوة بعدة خلاصات في ما يخص تداعيات هذه الأزمة وكيف ستؤثر على تفاعل إيران مع محيطها الإقليمي والدولي.

1- إيران جديدة
إحدى النقاط الرئيسية التي أثيرت في الندوة تتعلق بإيران ما بعد الانتخابات الأخيرة، التي لن تكون كما كانت من قبل، وذلك بغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها الأزمة وكم ستستغرق من الوقت، لأن الأحداث هذه قد خدشت صورتها، وبالتالي فإن إيران ستعمل حتما على صياغة صورة إقليمية ودولية جديدة لها.


2- الحوار مستمر 
هناك من يرى أن الأزمة بشقها الأمني قد انتهت، وذلك بناء على فرضية وجود مدسوسين ليسوا من الإصلاحيين، وإنما ينتسبون إليهم ويقومون بأعمال الشغب وتدمير الممتلكات. أما الشق السياسي فينقسم إلى قسمين، القسم الذي يتعلق بالمظاهرات في الشارع فسينتهي، والقسم الذي يخص تحاور السلطة مع المعارضين من الإصلاحيين، وخاصة حركة علماء المجاهدين برئاسة خاتمي، فسيستمر.


3- حضور خارجي 
وهناك تقدير يقول بأن الأزمة تحتاج لوقت طويل لحلها في الجانب السياسي والاقتصادي الداخلي، ولن تستطيع السلطة أن تثبت فيها حضورا في وقت قريب. في حين أن علاقتها مع الخارج ستعرف حضورا سريعا، خاصة فيما يخص الملف النووي والتعاون الإقليمي في منطقة وسط آسيا، ودعم القضية الفلسطينية وإسناد حركات المقاومة. كما أن قدرة إيران الخارجية لن تتأثر كثيرا، ذلك أن الشرعية الداخلية لأي نظام، خاصة في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، لا تؤثر على العلاقات بين الدول ومسارات التفاوض بينها.


4- اندفاع للخارج أم انكفاء للداخل 
ومن التصورات التي طرحت في الندوة تلك التي تقول بأن إيران أمام خيارين: خيار الاندفاع نحو سياسة تصعيدية في الخارج لتثبت أنها لم تضعف، وهو ما ظهرت بعض بوادره في موقفها من الاتحاد الأوروبي، باعتباره ليس أهلا للتفاوض بخصوص الملف النووي نتيجة تدخله في الأزمة الأخيرة.


أما الخيار الآخر فيتمثل في انكفاء إيران على نفسها، ذلك أن هذه الأحداث قد هزت النظام نفسه وليست مجرد مشكلة عابرة، وأن الجرح لا زال مفتوحا ولم تنته الأزمة كليا. فالأزمة انتقلت من الشارع إلى الأروقة السياسية، وبالتالي فالأزمة حين تصبح سياسية تكون أشد وطأة، لأنها تحدث شرخا على مستوى الإستراتيجيات والمواقف والطموحات.


5- لا مواجهة
 شكك بعض المشاركين في الندوة في قدرة نجاد على إدارة المرحلة المقبلة بأسلوب المواجهة، لأن الإدارة الأميركية الجديدة بدأت تطرح الحوار كآلية للتعامل مع المنطقة، وأشاعت جوا من التهدئة الأمنية ظهرت تداعياتها في العراق ولبنان وفلسطين، وهذا المناخ الجديد لا يساعد طهران على التمسك بخطاب التعبئة والتصعيد، كما لا يساعدها على تصدير مشكلتها إلى الخارج.
_______________
النص خلاصة لما ورد في الندوة ولا يعبر بالضرورة عن رأي آحاد المشاركين فيها أو مجموعهم.