ما الذي يجري في قرغيزستان؟..انقلاب أم ثورة

ساهم في إحداث التحول الأخير في قرغيزستان تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى عودة الدور الروسي بصورة نشيطة إلى الساحة القرغيزية. بيد أن البلد يبقى في نهاية المطاف منفتحا على إمكانيات متعددة.







ألكسندر كنيازيق
ترجمة أحمد عزيز مصطفى


تتشابه أحداث 24 مارس/آذار 2005 و7 أبريل/نيسان 2010 التي وقعت في قرغيزستان من حيث الشكل: استيلاء بالقوة على السلطة وتغيير غير دستوري في بيروقراطية الدولة قادته النخب الروسية؛ فقرغيزستان التي تتمتع بإدارة رئاسية للدولة شهدت في الانقلابين اللذين يفصل بينهما خمسة أعوام إطاحة بأول رئيسين للبلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، وهما: عسكر أكاييف وكرمان بك باكييف.


وتختلف أحداث السابع من أبريل/نيسان 2010 بمضمونها عن تلك التي سبقتها قبل خمس سنوات في المجالين: الاجتماعي والسياسي وليس أكثر.


الوضع الاقتصادي الاجتماعي وعلاقته بالانقلابات
قصة التغيير الأخير
العوامل السياسية وصلتها بالانقلابات
التداعيات


الوضع الاقتصادي الاجتماعي وعلاقته بالانقلابات 





يقول ألكسيس دي توكفيل: "النظام الجديد هو دومًا أفضل من سابقه المنقلب عليه". فاستياء الناس لا ينتج فقط عن تردي الوضع المادي, وإنما يرتبط أيضًا بالتغييرات الحاصلة في المجتمع"، وكما كتب توكفيل: "يبدأ تعرض الدولة للتهديد عندما تجد الدولة الخارجة من الأزمات نفسها أمام النجاحات التاريخية".
فبالنظر إلى الوضع الاقتصادي الاجتماعي لم يحصل تدهور لوضع أعداد كبيرة من السكان في الفترة التي سبقت انقلاب 2005, بل إن تقييمات عام 2004 تشير إلى وجود اتجاهات إيجابية للغاية نحو النمو الاقتصادي، واستقرار وتحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي فضلاً عن استقرار العملة الوطنية؛ ففي عام 2004 كانت هناك زيادة في الإنتاج المحلي الإجمالي بنسبة 7.1% مقارنة مع عام 2003، كما ازدادت الاستثمارات في رأس المال الثابت بمعدل 2.8% زيادة عن عام 2003, وبهذا ازداد حجم الإيرادات بأكثر من 10 مليارات سوم. أما الديون الخارجية للدولة فقد بلغت عام 2004 مليارًا و834.6 مليون دولار, في حين بلغت نسبة الديون للقروض الثنائية في دَيْن الدولة العام 31.5%. وفي 11 مارس/آذار من عام 2005 وافق نادي باريس للدائنين على إلغاء 124 مليون دولار من ديون قرغيزستان, بالإضافة لذلك فقد وافقت الدول الدائنة على إعادة جدولة ما تبقى من الديون المستحقة على قرغيزيا والبالغة 431 مليون دولار.

كان ينبغي لكل هذه المعطيات أن تعزز من سلطة الرئيس عسكر أكاييف في المجتمع، ولكن كما يقول ألكسيس دي توكفيل: "النظام الجديد هو دومًا أفضل من سابقه المنقلب عليه". فاستياء الناس لا ينتج فقط عن تردي الوضع المادي, وإنما يرتبط أيضًا بالتغييرات الحاصلة في المجتمع"، وكما كتب توكفيل: "يبدأ تعرض الدولة للتهديد عندما تجد الدولة الخارجة من الأزمات نفسها أمام النجاحات التاريخية".


نتفق معه جزئيًا ونقول: إن الفقر لا يمكن أن يكون أبدًا سببًا بذاته للقيام باحتجاجات اجتماعية وخاصة في العمل السياسي, وبدون شك فإن أية حركة جماهيرية أو احتجاج يحدث نتيجة استياء حاد لقسم كبير من السكان من وضعهم الراهن، وقناعتهم بعدم قدرة النظام الحالي على تغيير هذا الوضع.


كما توجد نظرية حديثة تسمى "التدهور النسبي لوضع الفئات الاجتماعية", وطبقًا لهذه النظرية فإن الثورة لا تحدث في البلدان الأكثر فقرًا كقاعدة عامة, بل تحدث الثورة في البلدان التي تشهد بعض النمو الاقتصادي وتسير توقعات السكان فيها بوتيرة أسرع من هذا النمو. في أحداث 24 مارس/آذار 2005 نمت المعارضة السياسية حسب هذه القوانين بالتحديد, ومن المعلوم أن سيناريو الاستيلاء على السلطة بالقوة قد تم إعداده في وقت مبكر من قِبل زعماء المعارضة باعتباره واحدًا من السيناريوهات المحتملة.
أما الأسباب التي أدت إلى تغيير النظام في 7 أبريل/نيسان 2010 فهي تختلف عن أحداث 2005 من حيث المبدأ؛ فالخلفية الاجتماعية الاقتصادية كانت أكثر ملاءمة لتأجيج مشاعر الاحتجاج والتي حصلت بشكل عفوي في المناطق التي لم تكن فعليًا تملك علاقات مع المعارضة السياسية المعروفة في بيشكيك.


ويمكن التأكيد بأنه منذ أوائل أبريل/نيسان بدأت العلاقات بين قوى المعارضة المعروفة والجماعات الاحتجاجية تأخذ شكلا منهجييا  منظما, وكانت الفترة من 17 مارس/آذار مهمة لتشكيل شروط 7 أبريل/نيسان؛ وذلك بعد إقامة المعارضة أول احتجاج لها في بيشكيك وكان هزيلاً ودون نتائج تُذكر. وبعد 17 مارس/آذار بدأت تقوية العلاقات بين المعارضة والحركات الاحتجاجية الإقليمية المتولدة عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي, وبهذا المعنى فإن أحداث 7 أبريل/نيسان لم يكن ممكنًا توقعها حسب الخطة النظرية المذكورة أعلاه.


وبالعودة إلى أحداث 7 أبريل/نيسان 2010 فإن الأسباب الاجتماعية قد خلقتها السلطة ذاتها, وآخرها كانت الزيادة الحادة في التعريفات المفروضة على الخدمات المنزلية كالماء والكهرباء والتي لا يمكن للسكان تحملها؛ ففي نوفمبر/تشرين الثاني قررت الحكومة القرغيزية برئاسة دانيار أوسينوف زيادة التعريفات بشكل مضاعف ابتداءً من الأول من يناير/كانون الثاني 2010, ومن يوليو/تموز 2010 تم زيادتها إلى خمسة أضعاف بالمقارنة مع التعريفات السابقة, وأدت الزيادة الأولى إلى ارتفاع أسعار السلع جميعها؛ فعلى سبيل المثال ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة وصلت إلى 5-10%, وتضاعف سعر السكر من 30 سومًا إلى 53 – 55 سومًا للكيلو غرام, وكان لذلك تأثير ملحوظ على مستوى معيشة سكان قرغيزستان الذين يعدون من أفقر شعوب رابطة الدول المستقلة بعد طاجيكستان.


لم تحسب الحكومة النتائج المترتبة على زيادة التعريفات, ولم تأخذ بجدية مظاهرة الاحتجاج الكبيرة في منطقة نارين يوم 24 فبراير/شباط 2010. وقد طالب المشاركون في الاحتجاج بخفض الرسوم على التدفئة والكهرباء إلى النصف وزيادة الرواتب إلى 50 %، والحفاظ على الحد الأدنى المجاني وهو 110 كيلوات- ساعة لسكان المناطق الجبلية, وانتهى الاحتجاج دون وقوع حوادث.


قصة التغيير الأخير 


استغلت المعارضة نمو السخط الاجتماعي؛ ففي 15 فبراير/شباط طالبت الجماعة البرلمانية للحزب الاجتماعي الديمقراطي المعارض في قرغيزستان بإيقاف زيادة الرسوم, ووصفت المعارضة إجراءات الحكومة حول زيادة الرسوم والتي تسببت في ارتفاع الأسعار بالإجراءات "المتسرعة وغير المسموح بها"، وفي ذلك الوقت تقريبًا بدأت قيادات المعارضة بالعمل على إقامة الصلات مع المناطق المحلية.





توجد نظرية حديثة تسمى "التدهور النسبي لوضع الفئات الاجتماعية", وطبقًا لهذه النظرية فإن الثورة لا تحدث في البلدان الأكثر فقرًا كقاعدة عامة, بل تحدث الثورة في البلدان التي تشهد بعض النمو الاقتصادي وتسير توقعات السكان فيها بوتيرة أسرع من هذا النمو.
في 17 مارس/آذار عقدت المعارضة القرغيزية اجتماعًا في بيشكيك طالبت فيه السلطات بإلغاء الرسوم الجديدة على الكهرباء والتدفئة وكذلك إعادة شركات الدولة الإستراتيجية المبيعة "قرغيز تيليكوم" و"سيفيرإلكترو" و"فوستوك إلكترو" تم خصخصتها لصالح أفراد من أسرة الرئيس. كما تعالت في المؤتمر مطالب سياسية واضحة تجاه السلطات، هي: إطلاق سراح وتبرئة جميع السجناء السياسيين المعارضين للنظام، ورفع الحجب عن عدد من المواقع الإلكترونية الإخبارية على الإنترنت, وإقالة أشقاء الرئيس من المناصب الرسمية، وكذلك إقالة ابنه الأصغر مكسيم باكييف المعين بشكل غير دستوري كرئيس للجهاز المركزي للتنمية والاستثمار والابتكار والذي يضم شخصيات مشبوهة مطلوبة من الإنتربول الدولي، أمثال: مستشار مكسيم باكييف المالي يفغيني غوريفيتش الملاحَق من قِبل محكمة إيطالية بتهمة ارتباطه بمافيا كالابريا الإيطالية وبجماعات متطرفة أيضًا.

وأعطت المعارضة الحكومة مهلة لغاية 24 مارس/آذار لتنفيذ هذه المطالب، وهددت بتنظيم احتجاجات في جميع مناطق البلاد التي تطالب بـ "سلطة الشعب", وأدت محاولات السلطة منع الاحتجاجات الشعبية التي كانت مقررة في 7 أبريل/نيسان إلى الاستفزازات اللاحقة في تطور الأحداث. وقد كان انتقال السلطة الرسمية إلى أسلوب القوة لتسوية الأزمة هو الحافز المهم للتغيير الحاصل في 7 أبريل/نيسان؛ ففي 6 أبريل/نيسان استخدم رجال حفظ النظام القوة خلال مسيرات الاحتجاج لحركات المعارضة في المركز الإقليمي تالاس, واندلعت الاشتباكات بين المعارضة والسلطة في النصف الثاني من يوم 6 أبريل/نيسان في تالاس؛ وذلك بعد اعتقال الشرطة المحلية أحد قادة الحزب المعارض "أتا ميكين" بولاتبيك شيرنيازوف الذي وصل إلى المدينة للمشاركة في الاحتجاجات.


وعززت معلومات الاعتقال هذه الشعور الراديكالي الداعي إلى تغيير الأوضاع بالقوة سواء في تالاس أو في المناطق الأخرى.


ومساء السادس من أبريل/نيسان وصباح السابع منه تم اعتقال جميع قادة المعارضة السياسية تقريبًا, وكانت نائبة البرلمان وإحدى قادة المعارضة روزا أتونبايفا تحت الإقامة الجبرية.


والواضح أن مقاليد السلطة في هذه المناطق كانت بأيدي أناس لا يملكون التجربة السياسية وخاصة في تعاملهم مع الأعداد التي وصلت إلى بيشكيك في 5 – 6 أبريل/نيسان للمشاركة في الاحتجاجات. وفي صباح 7 أبريل/نيسان انتشرت المعلومات حول اعتقال قادة المعارضة بين أعضاء الحركات؛ مما أدى إلى تصاعد التوتر والرغبة في لتغيير بالقوة بين المزاج الشعبي العام رغم أن المعارضة حتى ذلك الوقت كانت تخطط للاستمرار في الاحتجاجات حتى تلبية مطالبها من قِبل السلطات.


ولكن حالما اجتمع الناس قامت الشرطة ووحدات الأمن القومي باستخدام القوة بقصد تفريق المتظاهرين إلى مجموعات صغيرة ثم القضاء عليهم كأجزاء منفصلة واعتقال قادتهم على مختلف مستوياتهم وبالتالي الحيلولة دون قيام أي احتجاج طويل الأمد؛ مما أدى إلى رد فعل من جانب المعارضة بالرد على القوة بالمثل مما أدى إلى سقوط الحكم.


العوامل السياسية وصلتها بالانقلابات 


وبدراسة أحداث مارس/آذار 2005 في قرغيزستان أي أحداث الانقلاب الأول، يمكننا القول بأنها كانت نتيجة مباشرة لعدد من العوامل الموضوعية وأولها العامل الجيوسياسي؛ حيث أصبحت قرغيزستان بسبب الأحداث العالمية نقطة تقاطع للمصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة وروسيا والصين ومصالح العالم الإسلامي الكامنة والتي لا تقل أهمية عن سابقاتها.


وبدون إسقاط حسابات العوامل الذاتية الداخلية في قلب النظام القرغيزي يجب أن نُولي العوامل الخارجية الأهمية ذاتها, ووفقًا لذلك يجب أن يبدأ التحليل بتحديد الجهة الحقيقية أو "المموِّلة" في ذلك الوقت. ومن الواضح تمامًا في هذا السياق ما يلي: أن حجم الأحداث ونطاقها الواسع يسمحان بإعطاء تفسير واحد؛ هو وجود لاعب كبير واحد في خلفية الأحداث المذكورة يسعى للوصول إلى أهدافه الخاصة الجيوسياسية العالمية, ومن الواضح أن المشار اليه ليس سوى الولايات المتحدة.


إن نظام السلطة خلال فترة الرئيس السابق عسكر أكاييف لا يمكن اعتباره نظامًا دكتاتوريًا قاسيًا, ولكنه لم يكن كذلك مهيأً بشكل صحيح لتغيير السلطة عبر المنافسة "القانونية", كما لعبت شخصية الرئيس عسكر أكاييف دورها؛ من حيث عدم قدرته على اتخاذ قرارات حكومية في ظل شروط الأزمة السياسية المتنامية؛ حيث ارتبط الرئيس عسكر أكاييف بصورة "الرئيس الديمقراطي الأول"؛ مما جعله يفكر دومًا بمسألة ما سيقوله الغرب حول هذه الأمر, وقد ساعد هذا التراخي على تجنب وقوع خسائر كبيرة في الأرواح خلال الأحداث.


كما كانت النخبة الحاكمة تعتقد -حتى اللحظة الأخيرة- أنه بإمكانها السيطرة على الوضع عن طريق المفاوضات خلف الكواليس وبالرشوة واستغلال المناصب. ومن العوامل المهمة في إضعاف نظام أكاييف اعتماده المفرط على التقارب مع الدول التي تتبنى القيم الليبرالية، وبالتالي عدم جهوزيته لاتخاذ أية تدابير صارمة لمحاولة الدفاع عن الحكومة ضمن خطوات تتنافى مع سياسات تلك البلدان.
إن حملة الانتخابات البرلمانية عام 2005 والتي كانت بمثابة العامل المحفز لأحداث 24 مارس/آذار تميزت بشكل لم يسبق له مثيل بتدخل واضح لوكالات الحكومة الأميركية في سياق السياسة الداخلية القرغيزية.


وكان لتدخل الولايات المتحدة في الانقلاب الذي وقع في 24 مارس/ آذار 2005 في قرغيزستان هدفان أساسيان:



  • أولهما: الضغط السياسي الدبلوماسي على الرئيس عسكر أكاييف وإدارته.
  • ثانيهما: العمل على المدى الطويل على تشكيل الوعي العام وإضعاف جميع الهياكل الحكومية, والدعم السياسي والمالي لجماعات المعارضة ووسائل الإعلام والأحزاب؛ حيث أصبحت المنظمات غير الحكومية عنصرًا رئيسيًا من عناصر الحركة حينها. وتمت تغذية المشاعر المعادية لأكاييف على مر الأيام, وقد اعترف أحد قادة المعارضة الشباب بايسالوف قائلاً: "لقد كان ذلك مستحيلاً تمامًا دون هذه المساعدة, فقد ساعدت الأموال الأميركية في تمويل مراكز المجتمع المدني في جميع أنحاء البلاد, حتى كان للمعهد الديمقراطي الوطني وحده 20 مركزًا, وقدمت هذه الموارد البشرية الدعم المادي والمعنوي للمعارضة القرغيزية كما وفرت لها البنية التحتية التي سمحت بنشر أفكارها بين الشعب القرغيزي".




تضمنت تصريحات القادة الروس انتقادات لقيادة باكييف ولكن لم تتضمن دعمًا للمعارضة القرغيزية, والدعم المعنوي كان خلف السطور ولم يأت بشكل مباشر إلا بعد بدء الحكومة المؤقتة عملها في قرغيزستان والتي أقامتها المعارضة صبيحة الثامن من أبريل/نيسان.
يمكن تفسير سياسة الولايات المتحدة في تلك الفترة تجاه قرغيزستان كرد فعل على سياسة أكاييف الخارجية "متعددة التوجهات" في الوقت الذي كانت فيه المصالح الأميركية بما فيها الوجود العسكري في قرغيزستان يتطلب ضمانات أكثر وثوقًا. وببساطة يمكننا القول: إنه كان هناك سيناريو أميركي لجلب نظام أكثر سيطرة على الأوضاع في قرغيزستان.

بحلول عام 2002 يدخل التنافس العسكري السياسي بين روسيا وأميركا مرحلة جديدة؛ فقد أصبح افتتاح قاعدة عسكرية روسية في قرغيزستان نوعًا من التحدي للإدارة الأميركية, وكان رد فعل الإدارة الأميركية على القاعدة العسكرية الروسية في ذلك الحين صامتًا ومتماسكًا إلى حد ما, ولكنه كان دليلاً -أغلب الظن- على اتباع الإدارة الأميركية نهجًا جديدًا ونوعيًا في قرغيزستان, كانت أحداث 24 مارس/آذار 2005 إحدى نتائجه المباشرة.


وكتحد أكبر للمصالح الأميركية اتخذت روسيا آلية معينة لتطوير اثنين من الهياكل الإقليمية والتي تمثل البديل المباشر للولايات المتحدة، وهما: منظمة شانغهاي للتعاون ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي. وبسبب نشر قاعدة كانت في 2002- 2003 من قبل قوات الانتشار الجماعية السريعة (وهي في جوهرها قوات روسية) نقول بثقة: إن موسكو قد نفذَّت أول محاولة لكي "تحل" محل الولايات المتحدة في آسيا الوسطى؛ فعلى أقل تقدير هي محاولة لتحقيق التوازن من خلال تواجدها العسكري الخاص، ووضع رهانها الأولي تحديدًا في قرغيزستان التي تعد البلد الوحيد في آسيا الوسطى من بلدان منظمة معاهدة الأمن الجماعي الذي وافق على توفير قاعدة على أراضيه للولايات المتحدة وحلفائها في حربهم بأفغانستان.


لقد كان العامل الروسي غائبًا فعليًا في أحداث 2005، وكانت إجراءات الجانب الروسي ظرفية لا أكثر، مثل قرار منح اللجوء لأكاييف على الأراضي الروسية, وإخلاء أكاييف وعائلته عن طريق قاعدة "كانت", والتفاعل التلقائي مع الإجراءات الأولية حينها للإدارة المؤقتة القرغيزية.


الانقلاب الأخير والدور الروسي
أما في أبريل/نيسان 2010 فقد كان مستوى مشاركة روسيا والولايات المتحدة في العمليات السياسية الداخلية في قرغيزستان مختلفًا, ولا يمكن إنكار تدفق بعض المعلومات التي تمس حياة الناس من الجانب الروسي إلى قرغيزستان قد أثارت قطاعات واسعة من الشعب القرغيزي, استنادًا إلى حقيقة أن عددًا من أبرز وسائل الإعلام الروسية وفي مقدمتها القنوات التليفزيونية المركزية، والعديد من المحطات الإذاعية، ومواد الإنترنت -خلال فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي- كان لها –ولا يزال- تأثير قوي على الرأي العام في قرغيزستان. ولم تفلح محاولات حكومة باكييف في الحد من تدفق المواد المعلوماتية الروسية والعالمية، ولم تفلح سوى في زيادة مشاعر الاستياء والاحتجاج في المجتمع. ومن المستحيل حاليًا تقدير تأثير هذه السياسة الموجهة والمخطط لها على الجمهور القرغيزي.


فقد أصبح الأول من أبريل/نيسان نقطة مهمة عندما اتخذت الحكومة الروسية قرارًا بإلغاء الرسوم الجمركية التسهيلية على البنزين ووقود الديزل التي تقدمها روسيا لقرغيزستان. هذه التسهيلات كانت تتمتع بها الحكومة القرغيزية كجزء مما يُعرف بمنظمة أوراسيا للتعاون الاقتصادي. وكان سبب اتخاذ هذه الخطوة من قِبل روسيا هو تشكيل الاتحاد الجمركي الجديد الذي يضم روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا والمحدَّد أن يبدأ عمله في يوليو/تموز. وينبغي حسب الاتحاد الجمركي تطبيق رسوم التصدير المماثلة للوقود الذي تقدمه روسيا إلى الدول الأخرى في كومنولث الدول المستقلة وبلدان أخرى من المجموعة الاقتصادية الأوربية التي لا تندرج في الاتحاد الجمركي. إلا أن هذا القرار أثار احتجاجات جديدة في قرغيزستان ليس ضد روسيا بل ضد النظام القرغيزي وانعكس على العلاقات بين البلدين والتي بدأت تشهد مزيدًا من التدهور. ووفقًا لوزارة التنظيم الاقتصادي القرغيزية؛ فإن موسكو لم تبلغ بيشكيك رسميًا بشأن فرض الرسوم، ولكن لا أحد في البلاد يصدق هذا الكلام.


وفي 4 مارس/آذار أخطرت الحكومة الروسية قرغيزستان بأن "بعض المواطنين القرغيزيين يعملون بصورة غير قانونية في إعادة تصدير الوقود المخصص حصرًا للاستهلاك المحلي". ووفقًا لأقوال بعض المستقلين فإن دخل مكسيم باكييف ابن الرئيس جرَّاء إعادة التصدير هذه (إعادة بيع النفط الروسي للمركز الأميركي لحمولات الترانزيت في مطار ماناس الدولي في بيشكيك) يصل إلى 80 مليون دولار  سنويًا.


وبشكل عام فقد تدهورت العلاقات الثنائية القرغيزية الروسية بشكل حاد في الأشهر الأخيرة من رئاسة باكييف, وفي فبراير/شباط علقت موسكو نهائيًا مبلغ 1.7 مليار دولار المخصصة لبناء محطة الطاقة الكهرمائية "كامبراتا-1".


ووفق التقديرات الرسمية فإن زيادة الرسوم على الكهرباء والتدفئة لا ينبغي أن يكون لها تأثير كبير على المؤشر الاقتصادي في البلد, ولكن حالما بدأت الزيادة أُجبرت العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة على زيادة أسعار منتجاتها. وأكثر المتضررين من ذلك هم المنتجون؛ وذلك لأنه بزيادة أسعار منتجاتهم لا يمكنها أن تنافس البضائع المستوردة؛ ومن هنا بدأ انخفاض الأرباح يظهر خاصة في مجال الملابس الجاهزة والصناعات الغذائية.


وتوقع الاقتصاديون المستقلون أن يكون للضرائب تداعيات خطيرة على سكان البلاد. "وهذا له تأثير سلبي على قرغيزستان؛ وذلك لأن تطبيق الرسوم الجمركية على المنتجات النفطية سيؤثر على أسعار النقل مما سيخلق ضغوطًا تضخمية".


التبعية الاقتصادية القرغيزية لروسيا، والمتمثلة في (تقديم المنتجات النفطية وعدد من السلع الأخرى, والإيرادات المالية من العمال المهاجرين الذين يعملون في روسيا, عمل المنتجين القرغيزيين للملابس الجاهزة في السوق الروسية, إعادة تصدير السلع الصينية إلى الأسواق الروسية) أثارت المزاج العام الذي يدرك أن تدهور علاقات نظام باكييف مع روسيا سيؤثر على الاحتياجات الفردية لكثير من المواطنين وأسرهم, ومن غير المرجح المبالغة في تأثير هذا العامل المعلوماتي على الشعب، ولكنه -دون شك- كان واحدًا من العوامل المساعدة على الإطاحة بنظام باكييف.


وكان عدد من تصريحات القادة الروس (فلاديمير بوتين, ثم ديميتري ميدفيديف) في مطلع أبريل/نيسان 2010 ولغاية 7 أبريل/نيسان تحمل طبيعة رد الفعل ضد الاتهامات المختلفة ضد الحكومة الروسية وضد روسيا كدولة والتي أطلقها الرئيس القرغيزي كرمان بك باكييف شخصيًا ورئيس الوزراء الأسبق دانيار أوسينوف والتي نُشرت في وسائل الإعلام الحكومية القرغيزية. تضمنت تصريحات القادة الروس انتقادات لقيادة باكييف ولكن لم تتضمن دعمًا للمعارضة القرغيزية, والدعم المعنوي كان خلف السطور ولم يأت بشكل مباشر إلا بعد بدء الحكومة المؤقتة عملها في قرغيزستان والتي أقامتها المعارضة صبيحة الثامن من أبريل/نيسان.


ولم يكن دور الولايات المتحدة في تغيير القوى الراهنة في قرغيزستان واضحًا، وليس هنالك حاليًا ما يدعو للتأكيد بأن دورها كان خاصًا. وهذا الغموض في السياسة الأميركية يرجع إلى حقيقة أن التعاون مع نظام باكييف أصبح يناسب الإدارة الأميركية تمامًا بعد 22 يونيو/حزيران 2009 عندما تم التوقيع رسميًا على اتفاق بشأن تحويل القاعدة العسكرية الأميركية في مطار ماناس إلى مركز عبور لجنود وإمدادات قوات التحالف العاملة في أفغانستان. كان الحفاظ على المرفق هو الاهتمام الأكثر واقعية ومصلحة للولايات المتحدة على المدى القصير والمتوسط, ومن المرجح أن المصالح العامة في تصورات الإدارة الأميركية ليست خاضعة للاحتمالات؛ حيث إن معظم قادة المعارضة معروف لأميركا, والكثيرون منهم هم من السياسيين المؤيدين لأميركا (أو المؤيدين للغرب).


من خلال تطور الأحداث يمكننا نظريًا فقط الإشارة إلى مشاركة ممثلي الجانب الأميركي بعد 7-8 أبريل/نيسان -وقبل أي شيء- على خط الأجهزة الأمنية، ومنفذي أوامرهم من المنظمات غير الحكومية من أجل تعميم الصراع العرقي.


إن تحويل الأزمة السياسية -الأزمة الشرعية للحكومة المؤقتة، و"مشاكل باكييف" التي لم تُحل- من وجهة نظر السيناريوهات الأميركية إلى أزمة حول عشوائية منطقة آسيا الوسطى يسمح بسهولة بظهور الصراع القرغيزي الأوزبكي في قرغيزستان وخصوصًا في منطقة فيرغانسك (وادي فرغانة), كما يسمح بظهور الصراع القرغيزي مع الناطقين باللغة الروسية في بيشكيك وفي شمال قرغيزستان. ومرة أخرى يمكن نظريًا اعتبار ظهور مثل هذا الصراع المتوسط والصراع الأوسع مؤشرًا للإدارة الأميركية باعتباره تحركًا للمصالح الروسية في الجمهورية والتي تظهر بشكل واضح اليوم مع الاتجاهات الحالية في السياسة الخارجية للحكومة المؤقتة في تعزيز علاقاتها التعاونية مع روسيا.


إن ظهور الصراعات العرقية الداخلية قد تعطي للولايات المتحدة فرصة لإدخال قوات حلف شمال الأطلسي وقوات حفظ النظام تحت رعاية الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون إلى الجمهورية في محاولة لإعادة السيناريو اليوغسلافي.


تعتمد الفرضيات البديلة على العامل الروسي -وهي بدء دخول قوات حفظ النظام من وحدات منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى الجمهورية والتي ستكون القوات الروسية ضمن أساس تشكيلها بطبيعة الحال-. ويبدو هذا السيناريو أقل إقناعا بسبب المواقف المختلفة لعضوين من المشاركين في منظمة الأمن الجماعي، وهما: أوزبكستان والتي يحظر دستورها القيام بأي عمل مسلح خارج الأراضي الأوزبكية, وكازاخستان التي تسعى للعمل في إطار السياسة "التعددية"، كما أنها رئيسة للدورة الحالية لمنظمة الأمن والتعاون.


دور الدعاية المضادة على أسرة الرئيس



إن ظهور الصراعات العرقية الداخلية قد تعطي للولايات المتحدة فرصة لإدخال قوات حلف شمال الأطلسي وقوات حفظ النظام تحت رعاية الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون إلى الجمهورية في محاولة لإعادة السيناريو اليوغسلافي.
كما لا يمكن إغفال أن هناك عوامل شخصية تدخلت سواء في أحداث 2004 أو أحداث 2010, من أجل تحفيز مشاعر الاحتجاج؛ حيث ركزت الدعاية المضادة لأكاييف بشكل رئيسي على أفراد أسرته، وتمت المبالغة بحقائق الانتهاكات التي ارتكبها ابنه أيدار أكاييف, وصهره أديليا تويغونباييف وزوجته مريم أكاييفا.

كما ركزت الدعاية المضادة لباكييف على أفراد أسرته أيضًا, وكانت الشخصيات الرئيسية هي الأخ جينيش باكييف، وتم التركيز بشكل خاص على ابن الرئيس مكسيم باكييف. فعلى مايبدو أن مدى النشاط الإجرامي لآل باكييف كان أكبر بكثير مما كان عليه في عهد الرئيس عسكر أكاييف.


كما كان هناك توتر إضافي للقوميات القرغيزية وهو البيئة المختلطة لمكسيم؛ ففي الأشهر الأخيرة ومع ازدياد وتوسع حملة المعلومات بالنسبة للشعب, تم التركيز على بيئته غير القرغيزية ,فمن بين "رفاق وأصدقاء" مكسيم باكييف هناك اثنان فقط يحملان أسماء عوائل قرغيزية: نورغول عبدالرزاقوف وجعبر أوسينوف. أما الباقي؛ فجميعهم بعوائل روسية أو تترية والكثير منهم بعوائل يهودية: ألكسي إيليسييف, ورفعت أوتيوشيف, وروستام أكجولوف, ومنهم من مواطني روسيا الفيدرالية: ميخائيل ناديل, أندريه غاليتسكي,..ومن مواطني الولايات المتحدة: روبيرت غينكين, مايكل فوكس رابينوفيتش, يفغيني غوريفيتش...وغيرهم.


وإليكم قائمة قصيرة بالمشاريع المالية والاقتصادية التي يسيطر عليها مكسيم باكييف في قرغيزستان: ستة من أكبر البنوك والتي تحوي في حساباتها 80% من الميزانية الوطنية (وكقاعدة عامة فإنه يتم تمرير المال العام للدولة عن طريق بنوك باكييف – آسيا أونيفيرسال بنك), وكذلك "قرغيز غاز" و"قرغيز تيليكوم" والسكك الحديدة القرغيزية, ومطار "ماناس" ومُشغِّل الاتصالات الخليوية "نورتيل", وجميع شركات الطاقة تقريبًا ("سيفيرو إلكترو" "أوشيالكترو" "فوستوك إلكترو"), وشبكة ضخمة من محطات الوقود "ب. ن. ك", ومعمل السيارات في بيشكيك, وودائع الذهب"جيروي", ومعامل السكر "كوشوي" و"كاييندي كانت" و"شامبان فين كومبينات" ومعمل المصابيح الكهربائية مايلوسكي, والقناة التلفزيونية الخامسة, والمحطة التليفزيونية "ن, ت, س".


وبالإضافة إلى ذلك فقد كان هناك ما يسمى بنمط "الارتداد" وهو نسبة الرشاوى التي يتلقاها مكسيم باكييف من كل مستثمر بمن فيهم المستثمرون الأجانب عند الموافقة على مشاريعهم من قِبل الحكومة، وكانت تتراوح ما بين 30-50% من إجمالي المشروع, كما كانت هذه النسبة ذاتها تقريبًا ما يناله من رشاوى الضرائب على جميع المرافق الاقتصادية في البلاد, سواء بالنسبة للشركات الكبيرة أو منافذ بيع التجزئة الصغيرة.


وبشكل عام فقد كان مستوى "التركيز على الأفراد" في مشاعر الاحتجاج في الرأي العام على باكييف أكبر بكثير مما كانت عليه خلال فترة رئاسة عسكر أكاييف.


تتحدد الأهمية الإستراتيجية لقرغيزستان بالنسبة للولايات المتحدة ولروسيا في المقام الأول من موقع قرغيزستان الجيوسياسي, وكعوامل أخرى نستطيع أن نذكر وجود موارد المياه وهي آلية للتأثير على أوزبكستان وبدرجة أقل على كازاخستان.


وعلى صعيد المنافسة العالمية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين؛ فإن قرغيزستان لا تقل أهميتها سواء من الناحية الجغرافية التي تمكن من وصول (أو عدم وصول) الصين إلى الجمهوريات السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى. ووجود القواعد العسكرية الروسية والأميركية على أراضي قرغيزستان هو حلقة خاصة من هذا التنافس والتي يمكن تعزيزها في مختلف المجالات في المستقبل المنظور.


التداعيات 


والوضع في الوقت الراهن في جمهورية قرغيزستان هو حالة من عدم التوازن, والتوقعات على المدى القصير صعبة للغاية, ويمكننا بثقة محاولة عرض السيناريوهات الأكثر سلبية والأكثر إيجابية ضمن الوضع الراهن.


السيناريوهات السلبية






 


 


 


لن تستطيع الحكومة المؤقتة التحكم بالجمهورية وإدارتها, وسيسهم كل من إدراج الجريمة المنظمة في العملية السياسية -هذه الجريمة المنظمة التي تأخذ موقف المنتظِر وقد تنشط إلى جانب المعارضين للحكومة الانتقالية- و"مشاكل باكييف" المعلقة، وتنصل الجميع من المسؤولية: كرمان بك, ومكسيم وماراتا (أولاد باكييف), والنشاط التخريبي للإخوة جينيش وأحمد باكييف, وعدد من المسؤولين في إدارة باكييف (مثلاً تيوليف, ومراد سوتالينوف وغيرهم), كل ذلك سيسهم في عدم استقرار الدولة وتحويلها إلى حالة من الصراع المسلح.

وقد وصفنا أحد سيناريوهات تطور الأحداث سابقًا، وهو إدخال قوات حفظ السلام تحت رعاية منظمة معاهدة الأمن الجماعي أو منظمة شانغهاي للتعاون؛ حيث إن البلدان التي تدخل في قوامها -وانطلاقًا من مصالحها الوطنية الخاصة- ستكون مهتمة بالحفاظ على وحدة قرغيزستان وإرساء الاستقرار فيها. وهذا مخرج إيجابي وإنهاء للسيناريو السلبي. ويمكن أن يكون التطور السلبي مرتبطًا بإدخال قوات الناتو تحت رعاية الأمم المتحدة أو منظمة الأمن والتعاون.


وهناك تنبؤ أقل قابلية وهو عدم مشاركة المجتمع الدولي في الصراع القرغيزي وحصره وعزله في إطار الأراضي القرغيزية، وهذا يعني تحولاً في سيناريو الصراع إلى سيناريو مماثل لما يتم تنفيذه في أفغانستان.
_______________
بروفيسور في الجامعة السلوفيانية في قرغيزستان، ومحلل سياسي، وقد أعد الورقة خصيصا لمركز الجزيرة للدراسات، وقام بترجمتها الصحفي والخبير في شؤون القوقاز وآسيا الوسطى أحمد عزيز مصطفى.