الآفاق المستقبلية لإستراتيجية إسرائيل النووية

نظرا للإحساس المتزايد في إسرائيل باستمرار عناصر التهديد لوجودها فإنها ستركز خلال السنوات الخمس القادمة على إيران، وتحافظ في نفس الوقت على سياسة الغموض التي تنتهجها فيما يخص برنامجها النووي إلى حد الآن.








 


وليد عبدالحي



بات امتلاك إسرائيل لأسلحة الدمار الشامل بكل أصنافه (النووي، الجرثومي، الكيماوي) أحد مسلمات حسابات القوى في الشرق الأوسط،، وأصبح البحث في طبيعة الإستراتيجية المستقبلية لإسرائيل في توظيفها لهذه الترسانة هو هاجس البحوث الإستراتيجية.

ونظرا لاعتبار "بقاء الكيان السياسي" هو قاعدة الفكر الإستراتيجي الإسرائيلي، فإن دالة المنظور الإستراتيجي هي حرمان القوى المعادية من كل ما يمكن أن يهدد هذا البقاء.

ورغم أن عناصر التهديد للكيان قد تأتي من متغيرات أخرى غير متغيرات القوة (مثل المتغير الديموغرافي على المدى البعيد، واحتمالات التحول في التحالفات الدولية، أو في صراع داخلي على المدى البعيد أيضا، لا سيما إذا تعرض الكيان لملابسات غير معهودة في التجربة التاريخية الصهيونية)، رغم ذلك فإن الإستراتيجية النووية تساهم في ضمان استمرار وجود الكيان عبر المبادئ التالية:










مبدأ بيغن: الحرمان


خيار شمشون: علي وعلى أعدائي


السيناريوهات المستقبلية


مبدأ بيغن: الحرمان


أولا: حرمان البيئة المحيطة من أي امتلاك لهذه الأسلحة، ولتحقيق ذلك لا بد من اعتماد التكتيكات التالية:

أ- اعتماد الضربات الاستباقية (preemptive strike)، والتي تعني إجهاض محاولات دول المنطقة امتلاك الأسلحة غير التقليدية في بداياتها، وهو ما كان واضحا في ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، وضرب ما قيل أنه منشأة نووية سورية عام 2007.





تقوم الضربة الاستباقية على أساس استخدام أسلحة تقليدية لتدمير أهداف غير تقليدية، لأن استخدام أسلحة تكتيكية غير تقليدية قد يعزز نزوع دول المنطقة نحو الخيارات النووية أو الجرثومية

وتقوم الضربة الاستباقية على أساس استخدام أسلحة تقليدية لتدمير أهداف غير تقليدية، لأن استخدام أسلحة تكتيكية غير تقليدية قد يعزز نزوع دول المنطقة نحو الخيارات النووية أو الجرثومية، وقد يكون التقبل الدولي لخيار امتلاك دول المنطقة لهذه الأسلحة أقل اعتراضا من الوضع الحالي.

ويتوارى وراء فكرة الضربة الاستباقية في العقل الإستراتيجي الإسرائيلي الإدراك التام لنقاط ضعف جوهرية في البنية الإسرائيلية تتمثل في النقاط التالية:

- صغر المساحة الجغرافية، وفقدان الدولة للعمق الإستراتيجي، وهو ما اتضح في حرب 2006 مع حزب الله الذي تمكن من إيصال صواريخه للعمق الإسرائيلي.
- الارتفاع الشديد في نسبة الكثافة السكانية في إسرائيل، مما يجعل حجم الخسائر عاليا إلى حد يصعب احتماله، حيث تبلغ الكثافة السكانية في الكيلومتر المربع الواحد حوالي 310 أفراد عام 2009، مقابل 220 نسمة /كم2 عام 1990، وهي من أعلى النسب في العالم، مما يجعل الخسائر البشرية في حالة استخدام أسلحة غير تقليدية عالية إلى حد لا يطاق.
- تركز المرافق الرئيسية للمجتمع في مناطق محددة بما يجعل نسبة الدمار عالية جدا في حالة الاستهداف العسكري.

ب- توظيف الضغط الدولي لتفكيك المشروعات المحتملة في هذا الاتجاه، وقد اتضح ذلك في النموذج الليبي، وقبله في ضغوط أقل حدة مع مفاعل عين وسارة الجزائري، وكما يجري حاليا مع البرنامج النووي الإيراني.

ج- المراقبة الشديدة للعلماء ومراكز الأبحاث والبعثات العلمية للدراسة في الجامعات الأجنبية من قبل طلاب دول المنطقة، وليس هناك ما يمنع من التصفية الجسدية لهؤلاء العلماء كما حدث مع عدد من العلماء المصريين والعراقيين والإيرانيين، أو إغراء العلماء لترك مواقع عملهم أو الالتحاق بمراكز غربية.

وقد كان مناحيم بيغن هو الأكثر تأكيدا على هذا الجانب الخاص بحرمان أية دولة من الامتلاك للسلاح النووي، وهو ما عرف بمبدأ بيغن.






خيار شمشون: علي وعلى أعدائي


ثانيا: إستراتيجية إسرائيل في حالة امتلاك أحد الأطراف في المنطقة لهذه الأسلحة: ويضع المخطط الإسرائيلي في هذا الاتجاه الاحتمالات المستقبلية التالية:
أ- أن تمتلك دولة أو أكثر من دول المنطقة أسلحة نووية أو بيولوجية
ب- أن تمتلك تنظيمات سياسية أسلحة نووية أو بيولوجية، لاسيما مع التطور وانتشار التكنولوجيا، ويتم التركيز في هذا الجانب على حزب الله وتنظيم القاعدة.
ج- أن تتحالف دول وتنظيمات في امتلاك أسلحة نووية وبيولوجية.

ولمواجهة هذه الاحتمالات، فقد بنى الإستراتيجيون الإسرائيليون تصوراتهم على النحو التالي:

1- التحلل التدريجي من إستراتيجية الغموض النووي التي اعتمدتها إسرائيل منذ بداية برنامجها النووي في الخمسينات من القرن الماضي، إذ أن ذلك سيحقق الردع الأكيد من ناحية، كما أن الغموض الإستراتيجي كان بهدف عدم إعطاء المبرر القانوني لدول المنطقة لامتلاك هذه الأسلحة من ناحية أخرى، فإذا امتلكت إحدى الدول لهذه الأسلحة فإن الغموض يفقد أحد وظائفه.

ويبدو أن تصريحات يهود أولمرت في ديسمبر/ كانون الأول 2006 وقبلها تصريحات شيمون بيريز في ديسمبر/ كانون الأول 1995 عن التخلي عن الخيار النووي تسير في هذا الاتجاه التدرجي بغرض تحقيق الردع الكافي.

2- خيار شمشون(Samson Option): وقد أخذ هذا التصور قدرا كبيرا من المناقشات بين الإستراتيجيين الإسرائيليين أو من يتعاون معهم، وهو ما يتضح في مشروع دانيال (Project Daniel) أو في  مناقشات لويس رينيه بيغ (Louis Rene' Beres) الذي كان قريبا من الحكومة الإسرائيلية، أو النماذج التي طرحها يحزقئيل درور(Yehezkel Dror)..الخ.

ويقوم هذا الخيار على افتراض المواجهة مع أطراف "غير عقلانية"، ويذهب هذا السيناريو على أساس وجود "دول انتحارية"(Suicide States) على غرار وجود أفراد انتحاريين، سواء استجابة لتصور لدى هذه الدول بأنها قادرة على تحمل الضربة الأولى بينما لا تستطيع إسرائيل تحملها، أو استجابة لتصورات قادة في المنطقة من "غير الآبهين بالنتائج".





إسرائيل لا تعول على الضمانات الدولية في أمنها إلا كعامل مساعد وليس كعامل إستراتيجي، بل ترى أن ضمانها لأمنها بنفسها هو الأساس الإستراتيجي، ويترتب على التصور السابق أن إسرائيل قد تلجأ للعمل العسكري إذا أدركت بشكل كاف أن هناك خطرا فعليا يهدد وجودها، حتى لو لم توافق الولايات المتحدة على هذا التصرف، لأن إسرائيل لا تحتمل هزيمة واحدة

وفي هذه الحالة فإن المواجهة مع هذا الاحتمال يقوم على ما يسمى "حكمة التظاهر بعدم الحكمة"(Rationality of pretended irrationality)، أي العمل على إقناع كافة الأطراف بأن إسرائيل على استعداد للذهاب في المواجهة إلى حد" سلوك الدولة المجنونة "(Crazy State) كما يسميها درور، والذي لا يرى أهمية للبعد الأخلاقي في صراع يقوم في جوهره على إفناء أحد الأطراف.

3-اعتماد مبدأ "تحول المنظور، أوالنموذج المسلمة"(Paradigm Shift) في مجال التكنولوجيا، ويقوم ذلك على أساس التقليص في نسبة الإنفاق العسكري على الأسلحة التقليدية، والتركيز على تطوير التكنولوجيا في المجال غير التقليدي، استنادا لإمكانية تحقيق تفوق تقني يقود إلى تعطيل إمكانيات العدو غير التقليدية (مثل تطوير أجهزة الإنذار المبكر، تطوير الصواريخ الاعتراضية، تطوير نظم الحماية...الخ).

4- عدم الثقة في الضمانات الدولية أيا كان مصدر هذه الضمانات: يصنف الباحث الإسرائيلي أريه شليف استنادا لدراسة داوتي الضمانات الدولية إلى نوعين هما: ضمانات مشتركة تقدمها الدول العظمى وضمانات فردية تقدمها دولة كبرى أو أكثر ضد دولة أخرى.

ويدل تاريخ العلاقات الدولية أنه خلال الفترة من 1815-1985، أي خلال 170 سنة أعطت الدول الكبرى ضمانات 115 مرة، غير أن جدوى هذه الضمانات كان محدودا بشكل واضح. بناء عليه، فإن إسرائيل لا تعول على الضمانات الدولية في أمنها إلا كعامل مساعد وليس كعامل إستراتيجي، بل ترى أن ضمانها لأمنها بنفسها هو الأساس الإستراتيجي.

يترتب على التصور السابق أن إسرائيل قد تلجأ للعمل العسكري إذا أدركت بشكل كاف أن هناك خطرا فعليا يهدد وجودها، حتى لو لم توافق الولايات المتحدة على هذا التصرف، لأن إسرائيل لا تحتمل "هزيمة واحدة".

ويتعزز هذا التصور بعدد من المؤشرات التي تدل على احتمال تراجع المكانة الإسرائيلية في الإستراتيجية الأميركية بشكل خاص والغربية بشكل عام، منها:

أ- فقدان إسرائيل لوظيفتها في مواجهة الاتحاد السوفياتي (الذي لم يعد موجودا).
ب- فقدان جدوى المساعدة الإسرائيلية للسيطرة على منابع النفط (فقد أصبحت منابع النفط تحت السيطرة العسكرية الأميركية وفي حماية عدد هام من القواعد الأميركية في المنطقة).
ج- تحول إسرائيل إلى نوع من العبء الإستراتيجي في كثير من الحالات، وهو ما عبر عنه بشكل واضح عدد من أبرز الإستراتيجيين الأميركيين المعروفين بتعاطفهم التقليدي مع إسرائيل، من أمثال غوردسمان وغيره.
د- الصورة السلبية المتزايدة لإسرائيل في المجتمع الدولي، وهو ما أكدته استطلاعات الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة، كما أن الاتجاه(Trend) في هذا الجانب يدل على التصاعد الخطي، وهو أمر قد يكون له أهمية أكبر على المدى الطويل.






السيناريوهات المستقبلية


نظرا للإحساس المتزايد في إسرائيل باستمرار عناصر التهديد لوجودها، فإن توجهاتها قد تأخذ المسارات التالية:

أولا:التركيز التام خلال السنوات الخمس القادمة على إيران لتحقيق أحد الاحتمالات التالية:
أ- تمكن المجتمع الدولي من الوصول إلى رقابة تامة للبرنامج النووي الإيراني، من خلال التعزيز المتواصل للحصار الاقتصادي والتقني والمالي، والقبول بوجود دائم للمراقبين الدوليين في إيران.
ب- التواصل مع المعارضة الإيرانية لتغيير النظام السياسي عبر تعاون غربي إسرائيلي عربي.
ج- تشديد المراقبة على تسليح سوريا وحزب الله.
د- رصد العلاقات السورية الإيرانية مع كوريا الشمالية.
هـ- استخدام القوة التقليدية لتدمير أية مشروعات ذات صله بالبرامج النووية في سوريا أو مخزون محتمل لدى حزب الله من الأسلحة غير التقليدية لا سيما الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية.
و-القيام بضرب المنشآت الإيرانية بهدف تعطيل المشروع النووي، وقد رجح رئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني في أواخر يونيو/ حزيران 2010 خلال اجتماع قمة الثمانية في أونتاريو هذا الاحتمال، ورأى كوردسمان من ناحيته أن يتم ذلك باستخدام أسلحة نووية تكتيكية قادرة على تدمير مكثف لمنشآت معينة في مساحة محددة.




إسرائيل ستواصل إستراتيجيتها التقليدية في احتكار السلاح النووي على المدى القصير من 3-5 سنوات قادمة، وبمقدار نجاحها في هذه الإستراتيجية أو فشلها تتحدد السيناريوهات الأكثر ترجيحا في المدى البعيد، لكن الاستقرار لن يكون من نصيب المنطقة في المدى المتوسط
ثانيا: من الواضح أن إيران ستعتمد إستراتيجية الغموض الإستراتيجي على غرار النموذج الإسرائيلي، ونظرا للتعقيدات الهائلة في البرنامج النووي الإيراني (توزيع واسع لمرافق البرنامج، الغموض في طبيعة هذه المرافق، التحصينات القوية التي كشفت عنها بعض صور الأقمار الصناعية، المخاوف من ردود فعل غير محددة من إيران ومن حزب الله) فإن إسرائيل قد تجد نفسها مع إيران في ظروف تشبه ظروف قبولها بالقنبلة النووية الباكستانية التي كانت تعارضها، بل هناك من يشير لدعوة إسرائيلية للهند للتعاون معا لتدمير المرافق النووية الباكستانية في الفترة الأولى لإعلان امتلاك باكستان للقوة النووية، في فترة حكم ضياء الحق.

ثالثا: في ظل التصور السابق فإن إسرائيل ستسعى إلى التعامل مع الاحتمالات التالية (في حالة التأكد من امتلاك إيران للسلاح النووي):
أ- احتمال التحول في التوجهات الإيرانية بعد مرحلة خامنئي.
ب- احتمال دخول إيران في مواجهات مع دول أخرى عربية أو غير عربية.
ج- احتمال الاضطرار لقبول بإيران نووية.

رابعا: تنطوي الإستراتيجية الإسرائيلية على عدم الاعتراض على تفكك باكستان, وبالتالي احتمال تفكيك برنامجها النووي، خوفا من وقوع منشآتها النووية في يد جماعات سياسية أو نظام حكم بديل للقائم حاليا.

وقد عبر شيمون بيريز عن ذلك بشكل واضح عندما قال: "من الضروري الانتباه إلى الأسلحة النووية الباكستانية،لأن باكستان دولة غير آمنة، ومستقبلها غير مؤكد".

خامسا: احتمال تحقق السلام في الشرق الأوسط بشكل يضعف إلى حد بعيد السباق النووي. ولعل هذا الخيار هو المفضل لدى القوى الدولية، لما في ذلك من فوائد تحول دون السباق النووي في المنطقة، وتدفع إلى النمو الاقتصادي واستقرار أسعار وتدفق النفط، وتحجيم تنامي التيارات الراديكالية في المنطقة. غير أن الطرف الإسرائيلي لا يرى ذلك أمرا متاحا في المستقبل القريب.

سادسا:احتمال انضمام إسرائيل إلى حلف شمال الأطلسي كعضو كامل العضوية، وينسجم هذا التصور مع فكرة توسيع نطاق عمل الحلف باتجاه الجنوب نحو البحر المتوسط ونحو غرب آسيا. ورغم أن انضمام إسرائيل قد يفقدها حرية اتخاذ القرار، إلا أنه يوفر لها مظلة واقية من المخاطر التي تهدد وجودها.

وقد كان وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي أفيغدور ليبرمان من أكثر المتحمسين لهذه الفكرة، وقد عبر عن ذلك في يناير/كانون الثاني 2007،عندما دعا إلى الانضمام إلى حلف الأطلسي ودخول الاتحاد الأوروبي.

سابعا: القبول الإسرائيلي تحت ضغوط دولية وإقليمية بفكرة التخلي عن أسلحتها النووية والقبول بتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وقد يتعزز هذا الجانب بتحقق الاحتمال السادس من ناحية، ونجاح مشروع الاتحاد من أجل المتوسط الذي يتبناه الأوروبيون من ناحية أخرى.

ويمكن القول بأن إسرائيل ستواصل إستراتيجيتها التقليدية في احتكار السلاح النووي على المدى القصير من 3-5   سنوات قادمة، وبمقدار نجاحها في هذه الإستراتيجية أو فشلها تتحدد السيناريوهات الأكثر ترجيحا في المدى البعيد، لكن الاستقرار لن يكون من نصيب المنطقة في المدى المتوسط.
_______________
أستاذ جامعي وباحث في الدراسات المستقبلية