المعروف عن الروس أنهم يسيرون على مبدأ الكثير من العمل والقليل من الكلام, أو حتى بدون هذا الكلام في بعض الأحيان.والاستعراضية كسلوك وكمبدأ تكاد تغيب عن الكثير من السلوكيات الخاصة بالدولة والسياسة والاقتصاد وحتى الاختراعات.
ويبدو أن الغرب والولايات المتحدة الأميركية، بالرغم من سياسات المواجهة التي امتدت لأكثر من نصف قرن, لم يفهموا الشخصية الروسية وكيفية صنع القرار في روسيا، بالرغم من الخرق الكبير الذي استطاع الغرب والولايات المتحدة الأميركية القيام به من خلال عملية "انهيار الاتحاد السوفيتي".
عودة الدب الروسي إلى الساحة الدولية
لعبة المصالح بين موسكو وواشنطن
كان وصول ديمتري ميدفيديف إلى السلطة في الكرملين، ضمن سيناريو أعده فلاديمير بوتين بشكل رائع ضمن "لعبة الديمقراطية" بعد أن رفض اقتراحات مجلس الدوما وحزب روسيا الموحدة بتمديد فترة رئاسته لولاية ثالثة. وهكذا حل ديمتري ميدفيديف محل بوتين على كرسي الرئاسة, وانتقل بوتين إلى منصب رئيس الوزراء.
هذه الفترة منذ ربيع عام 2008، وحتى الوقت الحاضر, تعتبر فترة مهمة وحساسة, وضعت منجزات بوتين على الصعيدين الداخلي والخارجي أمام اختبارات صعبة, فهل صمدت السياسة الخارجية الروسية ومنجزاتها التي أعادت الهيبة إلى روسيا الاتحادية باعتبارها قوة كبرى قادرة على التأثير في صنع القرارات الدولية؟
الانبعاث الروسي من جديد على صعيد الساحة الدولية قد عقَّد الأمر على الولايات المتحدة الأميركية التي وصلت بقواعدها العسكرية وقواعد حلف الناتو إلى خاصرة روسيا |
يقظة الدب الروسي
كما قررت أوكرانيا وجورجيا الانضمام إلى حلف الناتو, وأخذت واشنطن تلّوح بنشر عناصر الدرع الصاروخي في كل من التشيك وبولندا. لكن صبر موسكو لم يدم طويلا إزاء استفزازات أمريكا وحلفائها في كلٍّ من أوكرانيا وجورجيا, خاصة وأن "الفراق " الأميركي الروسي قد بدأ منذ ربيع عام 2007 أثناء مؤتمر ميونيخ للتعاون والأمن الأوربي لما هاجم بوتين سياسات واشنطن الخارجية.
ولم تكتف القيادة الروسية برئاسة بوتين بالتصعيد الإعلامي ضد واشنطن بل ذهبت إلى اتخاذ خطوات عسكرية ملموسة لإظهار قوتها تجاه واشنطن وأعضاء حلف الناتو. وهذا الإجراء العسكري تمثل في استئناف تحليق الطائرات الروسية حاملة الصواريخ الإستراتيجية من نوع تو – 60، والتي تُسمى في الغرب بطائر البجع , وتو – 95 إم سي والتي تُسمى في الغرب بالدب. وبدأت هذه الطائرات تحلق على مقربة من الحدود الأميركية والكندية, بل ذهبت موسكو إلى أكثر من ذلك عندما قامت بالبحث عن مطارات لهذه الطائرات في كل من كوبا وفنزويلا.
لكن واشنطن وبالرغم من الفشل الذريع في سياستها الخارجية في كل من العراق وأفغانستان وتعثر حلفائها سواء في منطقة الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى التي وصل إلى سدة الحكم فيها عدد من قادة "الثورات الملونة" في كل من أوكرانيا وجورجيا وقرغيزستان, استمرت في سياستها الاستفزازية ضد موسكو لاختبار أعصاب القيادة الروسية الجديدة التي وصلت إلى دفة الحكم برئاسة ميدفيديف الذي صُوّر على أنه شخصية ديمقراطية ذو ميولات غربية.
فبعد وصول ميدفيديف إلى السلطة في مارس/آذار عام 2008 قام حليف واشنطن الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي بعملية عسكرية استفزازية ضد روسيا، تمثلت بمحاولته -وعن طريق القوة العسكرية- إرجاع إقليمي ابخازيا وأوسيتيا الجنوبية إلى جورجيا, بالرغم من أن هذين الإقليميين قد انفصلا عن جورجيا من عام 1991 وكذلك وجود قوات روسية هناك لحفظ الأمن والسلام.
وكان رد القيادة الروسية قويا لم تتوقعه واشنطن، ولا حليفها ساكاشفيلي، فدحرت قواتها القوات الجورجية، ودخلت الأراضي الجورجية حتى أصبحت على مرمى حجر من العاصمة تبليسي. وهكذا نشبت أزمة خطيرة, فوقفت واشنطن وحلفاؤها في الناتو عاجزين لا يعرفون كيفية التصرف مع قرار روسيا باستخدام القوة لحماية مصالحها, وكان الكرملين أعاد إلى الأذهان أحداث هنغاريا عام 1956 وأحداث ربيع براغ عام 1968، ثم دخلت باريس على خط تسوية النزاع الروسي-الجورجي، فاتفق الطرفان المتنازعان على انسحاب القوات الروسية من جورجيا.
ولكن الكرملين أصر على الاعتراف بالإقليمين المذكورين وإنشاء قواعد عسكرية فيهما بالبر والبحر. ولم تستطع إدارة بوش ولا الناتو اتخاذ أية خطوات ضد موسكو، بل إن موسكو دعت دولاً أخرى للاعتراف بالإقليمين المذكورين وفتح سفارات فيهما. وبهذه الخطوة الحاسمة ضربت روسيا مرحلة التفرد الأميركي بالقيادة العالمية وسياسة تشديد الخناق على موسكو.
وبخصوص هذه المسألة، أي الحرب في جورجيا والقرار الروسي باستخدام القوة, كتب مايكل سبيكتر، أحد الخبراء الأميركيين في شؤون روسيا، يقول :"لقد انتهت الفترة التي كانت فيها الولايات المتحدة الأميركية تتعامل مع روسيا مثل تعاملها مع جامايكا. يجب التعامل معهم (أي الروس) كأناس كبار لديهم من الرؤوس النووية أكثر مما لدى أي أحد آخر باستثنائنا نحن".
وبعد هذه الأحداث توقف قرار الناتو بقبول كل من جورجيا وأوكرانيا في عضوية حلف الناتو, بعد أن كان قاب قوسين. واستمرت السياسة الخارجية الروسية ترتب أوراقها في دول الجوار القريب (جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق)، وكانت هناك محاولات من موسكو لغلق القاعدة العسكرية الأميركية في منطقة ماناس بقرغيزستان.
ونسقت موسكو مع الرئيس القرغيزي عسكر باكاييف فقدمت له الدعم عبر قروض ميسرة لإغلاق القاعدة العسكرية الأميركية, إلا أن باكييف شقّ عصا الطاعة على موسكو, ولم يلتزم بتنفيذ وعوده, فقررت موسكو في بداية إبريل/نيسان من العام الحالي التخلص منه بوقف إمدادات مشتقات النفط الروسي المدعومة التي كانت تُقدَّم له, وانتهى به الأمر إلى الهروب من البلاد واللجوء الى جمهورية روسيا البيضاء.
وهكذا، بدأنا نشهد تصاعد الدور الروسي في السياسة الخارجية في زمن ميدفيديف الذي استمر على نهج بوتين. ومن أبرز الأحداث والنجاحات التي شهدتها السياسة الخارجية في زمن ميدفيديف، عودة الدفء للعلاقات الروسية-الأوكرانية بعد وصول فيكتور يانوكوفيتش إلى السلطة، وهو الحليف المقرب إلى موسكو, ورحيل فريق الثورة البرتقالية الموالي للغرب.
فتحسنت العلاقات الروسية-الأوكرانية باضطراد خلال أسابيع من وصول يانوكوفيتش إلى السلطة, وخاصة فيما يتعلق ببقاء أسطول البحر الأسود الروسي في الموانئ الأوكرانية لفترة ربع قرن مقابل إعطاء الغاز الروسي بأسعار تفضيلية لأوكرانيا. من كل هذا يبدو أن موسكو قد أعادت ترتيب أوراقها في دول حديقتها الخلفية.
لعبة المصالح بين موسكو وواشنطن
يبدو أن مبادئ السياسة الخارجية التي رسمها فلاديمير بوتين خلال فترتي رئاسته من عام 2000 إلى 2008 بدأت تعطي ثمارها خلال فترة ديمتري ميدفيديف, الذي استمر هو الآخر في تشدده تجاه الغرب والولايات المتحدة الأميركية عندما تعلق الأمر بأمن روسيا القومي.
يبدو أن واشنطن التي تجيد لعبة المصالح عندما تجبر على ذلك, سمحت لموسكو عبر الوسائل الدبلوماسية، وضمن برنامج الإدارة الأميركية الجديد مع موسكو، والذي أطلق عليه برنامج تفعيل العلاقات الروسية الأميركية, بإطلاق يدها في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة والتي تمثل "الخاصرة الرخوة " لروسيا مقابل وقوف موسكو إلى جانب واشنطن في بعض الملفات التي تعتبرها واشنطن في غاية الأهمية لها, ولعل أبرزها الملفان: النووي الإيراني والملف الأفغاني.
فواشنطن التي بدأت حربها في العراق, وقالت إنها لن تحتاج إلى الأمم المتحدة وقراراتها, اضطرت في نهاية عام 2006 للرجوع لتطلب مساعدتها بالعراق, واضطرت أيضا إلى الرجوع إلى روسيا وطلب دعمها اللوجستي في عملياتها العسكرية في أفغانستان. بل وشراء الطائرات المروحية الروسية من نوع مي – 17 لقوات حلف الناتو, بل إلى الذهاب إلى موسكو لطلب "النصيحة" و"التشاور" لدراسة التجربة السوفيتية في أفغانستان.
وبعد أن تأكدت موسكو من التنازلات الأميركية والتي حصدتها موسكو في ملفات مهمة كملف أوكرانيا وجورجيا وعناصر الدرع الصاروخي, وازدياد وصول رؤوس الأموال الأميركية للاستثمار في قطاعات الاقتصاد الروسي, ذهبت موسكو وعن طيب خاطر إلى مجلس الأمن لتصوت لصالح العقوبات ضد إيران, وإيقاف شحنة الصواريخ الروسية المتطورة من نوع إس300. وأمام غضب القيادة الإيرانية التي كانت تعتمد على دعم موسكو, علّق أحد كبار مستشاري الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف، سرغي بريخودكو، على تصريحات الرئيس الإيراني المهاجمة لموسكو: "بأن عالم اليوم هو عالم مصالح , لا عالم شعارات ثورية وتصريحات ديماغوغية".
وفي هذا الشأن، كتبت السيدة نينا ماميدوفا، رئيسة قسم إيران في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، تقول: "لا توجد لروسيا اليوم مع إيران أية مشاريع اقتصادية كبيرة، فالمشاريع القديمة قد نُفِّذت وانتهت، ولم يوقع الجانبان أية مشاريع اقتصادية جديدة.
أما حجم التبادل التجاري مع إيران فيشكل اليوم 0,4% في ميزان التجارة الخارجية الروسية, ثم إن روسيا لاحظت أن إيران بدأت بالتوجه إلى الصين لشراء الأسلحة, متخلية عن صفقات السلاح الروسي".
ويبدو للمتتبع للشأن الروسي-الأميركي, أن الأميركيين لا يستطيعون فهم خطوات الدب الروسي بالرغم من كل إمكانياتهم, وهذا ما عبَّر عنه وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس بشأن القرار الروسي الأخير تجاه إيران وإيقاف توريد إس 300 عندما قال: "إن الموقف الروسي مصاب بالشيزوفرينيا أو الانفصام".
_______________
مستشار رئيس معهد الدراسات الإستراتيجية الروسية