الجزيرة ومنافساتها: إستراتيجيات التأثير على الرأي العام العربي

مراهنة الجزيرة، منذ ظهورها، على "الرأي والرأي الآخر"، أعطتها نفوذا كبيرا في الرأي العام العربي وجعلتها تكسر احتكار الإعلام الغربي في التحدث باسم المنطقة العربية، فسارعت عدة قوى سياسية إلى إطلاق وسائط إعلامية للحد من نفوذها المتزايد.







 

ألفة لملوم


لا جدال في أن الفضاء الإعلامي العربي قد شهد في العشريتين الأخيرتين تحولات أساسية طبعت بشكل لا رجعة فيه شروط إنتاج وتداول واستهلاك المادة الإعلامية في المنطقة. هكذا توفرت عوامل كثيرة تكنولوجية <الثورة الرقمية>، اقتصادية <الأزمة في أوروبا وأثرها على ارتفاع نفقات الإعلام العربي المستوطن فيها والقائم على التمويل السعودي في أغلبيته (1)> ، اجتماعية <ظهور جيل جديد من الشباب ذو المهارات الرقمية والمتأثر بأنماط جديدة من العمل الجمعي>، وسياسية <حرص بعض النخب السياسية الحاكمة على استثمار وسائل جديدة لتحديث وتوطيد شرعيتها>، لتحدث مجتمعة طفرة إعلامية قوضت الكساد الذي ميز الإعلام العربي على مدى عقود ما بعد الاستقلال، مفرزة وسائل إعلامية جديدة من قنوات فضائية <بلغ عددها ال700>، ومواقع على الشبكة العنكبوتية، ومدونات، وإذاعات رقمية، وحتى فضاءات افتراضية لحياة ثانية جندت بمجملها لاعبين وقوى اختلفت مرجعية فعلهم الإيديولوجي والمؤسساتي وتعددت حوافزهم الاجتماعية والسياسية.





أحدثت الطفرة الإعلامية ثغرات في احتكار النخب العربية الاستبدادية الحاكمة التي أطبقت قبضتها على الصورة والصوت وترويج الكلمة ضمن فضاء عام وطني، فأتاحت المجال لبروز فضاء جديد بديل، عصي على سياسات الرقابة ومصادرة حرية التعبير.
كان من نتائج هذه التحولات بالخصوص أثران بارزان؛ أولهما هو ما درج على تسميته في بعض الأدبيات الأكاديمية بإعلامية الفضاء العام العربي، وثانيهما العولمة الإعلامية العربية، وكلاهما مرتبطان. إذ أن هذه الطفرة الإعلامية قد أحدثت ثغرات في احتكار النخب العربية الاستبدادية الحاكمة التي أطبقت قبضتها على الصورة والصوت وترويج الكلمة ضمن فضاء عام وطني، فأتاحت المجال لبروز فضاء جديد بديل، عصي على سياسات الرقابة ومصادرة حرية التعبير، حمل معه أشكالا جديدة من التواصل والجدال والتماهي وحتى التعبئة السياسية، كما برز ذلك جليا في الإضرابات التي شهدتها مصر في الآونة الأخيرة.

ولأن هذا الفضاء قد نشأ كنطاق عابر للحدود وغير مبال بالتقسيمات القطرية الموروثة عن الاستعمار لا بل ومعترض على شرعيتها أحيانا، فقد استأثر باهتمام دوائر إقليمية وقوى عالمية معنية بموازين القوى السياسية في المنطقة العربية، ومنخرطة في استراتيجيات تسلطية إقليمية أو سياسات استعمارية جديدة.


دراسات كثيرة تؤرخ لهذه التحولات انطلاقا من منتصف التسعينات، وتحديدا منذ ظهور قناة الجزيرة القطرية في 1996، وهو تاريخ ذو معنى لأن هذه القناة قد أسست بظهورها لنمط سردي صحافي جديد نقيض ومنافس للنمط الذي كان سائدا من قبل، والذي كان مكرسا بالكامل لخدمة الأنظمة الحاكمة، وتسويق سياساتها وتحالفاتها الإقليمية. وبرزت القطيعة التي أحدثها هذا النمط خصوصا في زمن تغطية النزاعات واحتداد الصراع وتبلور الاصطفافات في المنطقة. فكانت محطتها الأولى الحرب على أفغانستان، والثانية والأهم هي الحرب على العراق. نقول المحطة الأهم لأنها تمخضت عن استحداث استراتجيات عربية وغربية لمحاصرة وقع هذا السرد والتقليل منه.


تقترح هذه المقالة التوقف عند هذه الملاحظات الأخيرة ضمن ثلاثة أجزاء، يتعرض الأول بعجالة إلى نسق الجزيرة السردي المميز ضمن الفضاء الإعلامي العربي، ويتناول الثاني أبرز ردود الفعل عليه فيما يمكن تصنيفه كفعل منعكس وشرطي، ويناقش الأخير بعض أسباب إخفاق هذه السياسات في كبح زمام هذه القناة.


الجزيرة: "نحن" و"الآخر"
في محاصرة الجزيرة
حدود التأثير


الجزيرة: "نحن" و"الآخر" 


قبل التعرض لمميزات الرواية الصحافية للجزيرة تجدر الإشارة إلى أنه ما كان لهذه القناة أن تفرض نفسها وتسمع صوتها وتنشر صورتها لولا الاعتمادات التي تمتعت بها منذ نشأتها. فالإمكانات اللوجستية والمهارات البشرية التي عبأتها الجزيرة بفضل تمويل الدولة القطرية، وما رافق ذلك من احتضان ومساندة كانت العامل الأساس في تمكين القناة من امتلاك الشروط الضرورية لتحقيق السبق الخبري والتواجد الدائم في مناطق النزاع الخافتة الحدة وغير المربحة.


لقد شكل "الرأي والرأي الآخر" جوهر البنيان السردي للقناة، ولب أخلاقيتها المهنية التي تم على أساسها ضبط معايير الكتابة الصحفية وتقديم الخبر وتنظيم الحوارات وتغطية الأحداث وترتيب تناسق الوقائع. وإن كان تطبيق هذا الشعار  محكوما هو الأخر باعتبارات سياسية - لسنا هنا بصدد الخوض فيها – إلا أنه بوأ الجزيرة منذ انطلاقتها منزلة خاصة في المشهد الإعلامي العربي لأنه سمح ببروز أصوات كانت بالأمس القريب ممنوعة من الكلمة ومحجوبة عن الرؤية في مجال الرؤية العامة . ثم سمح في نفس الوقت بالتشكيك علنا في ما كان يعتبر الحقيقة المطلقة للحاكم السياسي العربي وفك احتكاره للرواية السياسية  عبر المجادلة في شرعيته وفتح المجال للشخصيات المعارضة والمجموعات المنظمة المحظورة من فعل ذلك.


ولعل من أبرز ما كانت الجزيرة سبّاقة إليه في هذا المضمار هو فسحها مجال الظهور للجماعات الإسلامية بجميع طوائفها ومشاربها من المؤسساتية السلمية والمعتدلة إلى الداعية إلى العمل المسلح - قبل أن تتوجه هذه الجماعات بنفسها للاستثمار في وسيط الفضائيات للتواصل مع جمهورها- للتعبير عن أرائها والدفاع عن أطروحاتها.


غير أن التمايز الأساس الذي جسدته الجزيرة والذي جعلها قناة فضائية مشاكسة أو قل متحدية للأنظمة العربية، وتُستهدف مقراتها في كابول وبغداد هو مرجعيتها القومية الإسلامية التي طبعت تمثيلها للصراع والنزاعات في المنطقة العربية. هكذا وضمن تناولها للفضاء العربي ككيان جمعي محكوم بوحدة شعور الانتماء الجغرافي والتاريخي والحضاري ووحدة المصير والمعاناة حاكت الجزيرة وروجت لنظام خطابي وبنية تأليفية ضمن نسق مكتمل وكلي يقوم على تمايز بين "الأنا" <العربي والمسلم> و"الأخر" <الغربي المتسلط> في المنطقة العربية، ومزجت بين مرجعيتين للدلالة على ذلك لهما صلة وثيقة : رفض الاستبداد ومعارضة السياسات الأمريكية والتوسعية في المنطقة. هذا الخطاب يمكن النظر إليه كجزء من موضوعة "العروبة الجديدة" كما أطلق عليها عالم السياسة الفرنسي أوليفيي روا، والتي عرفها على أنها شكل من أشكال إحياء للمرجعية القومية اعتمادا على خلفية إسلامية وديمقراطية.





لقد شكل "الرأي والرأي الآخر" جوهر البنيان السردي للقناة، ولب أخلاقيتها المهنية التي تم على أساسها ضبط معايير الكتابة الصحفية وتقديم الخبر وتنظيم الحوارات وتغطية الأحداث وترتيب تناسق الوقائع.
وقد كانت تغطية القناة للحرب على أفغانستان أول نزاع يفقد فيه الجيش الأمريكي السيطرة على التمثيل الإعلامي لصالح وسيلة إعلامية عربية موجودة على نفس الأرض التي يستهدفها بصواريخه. خلال هذه الحرب أبت الجزيرة إلا أن تتيح حق الظهور الإعلامي للعدو الأول آنذاك للإدارة الأمريكية ، أسامة بن لادن. وكان تاريخ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، المناسبة الرمز لوقوف الجزيرة خارج سرب الإعلام المتواطئ مع الحرب الأمريكية حين أقدمت القناة بعد أقل من شهر على أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، وبعد ساعات فقط على بداية الحرب، على بث تسجيل لزعيم تنظيم القاعدة يتوعد فيه الجيوش الغربية المشاركة في الاعتداء على أفغانستان.

حملت هذه المحطة في طياتها عنصرا جديدا لم يألفه المشهد الإعلامي العالمي، فلأول مرة في التاريخ الحديث تتمكن قناة ناطقة باللغة العربية، ومتوطنة في المنطقة، من أن تتحول إلى مصدر للخبر، محققة بذلك انقلابا في اتجاه حركة التدفق الإخباري الذي لم يعد أحادي الاتجاه كما كان، بل بات يأتي من المنطقة العربية كذلك.


وبتغطيتها الحرب على أفغانستان نجحت الجزيرة في أن تحتل مرتبة المنتج الحصري للخبر والصورة، مهمشة بذلك لأول مرة ليس وكالات الأنباء الغربية التي كانت لها حصة الأسد في الإعلام عن العرب بل وكذلك قنوات عريقة كانت الملاذ الوحيد للمشاهد أو المستمع العربي النافر من الإعلام الرسمي : France 2 وRAI بالمغرب العربي و CNN وإذاعة BBC في المشرق.


حرب 2003 الانجلو-أمريكية على العراق سنحت للجزيرة بتأصيل سردها المميز موفرة له دفعا وتأثيرا لم يكونا متوقعين. فخلافا للحرب على أفغانستان جرت الحرب على العراق على أرض عربية غنية بمدخراتها النفطية بذريعة أسلحة الدمار الشامل التي سرعان ما اتضح بهتانها للجميع، فانكشفت مراميها الجيو-سياسية ونتائجها الكارثية حتى لمن كان عاقدا الأمل على مزاعمها في دمقرطة العراق. هذه الحرب، التي لم تتردد الجزيرة آنذاك في تسمية فاعليها ب"القوات الغازية"، عمقت من وقع الاستقطاب الحاصل في المشهد الإعلامي العربي بين اتجاهين: الأول مطاوع ومهادن أو حتى مروج للسياسات الأمريكية والثاني رافض لها.


في محاصرة الجزيرة 


كانت المواضيع المحظورة التي أثارتها الجزيرة في بداياتها مصدر قلق للأنظمة العربية والنخب السائرة في ركابها. فحاولت هذه الأخيرة جاهدة، دون نجاح ذو شأن، في الضغط على القناة لثنيها عن ذلك، رافعة الدعاوى طورا ضد الجزيرة ومراسليها ومحاولة التوسط لدى السلطات القطرية لإسكات القناة في طور أخر، أو معرقلة عملها عبر حجب الاعتماد على الصحافيين <تونس>، والتشويش على برامجها <قطع التيار الكهربائي لمنع المشاهدين من متابعة بعض البرامج ، الجزائر> أو إغلاق مكاتب القناة <سوريا، الأردن>.


حرب العراق ومن قبلها أفغانستان جعلت إدارة بوش معنية مباشرة بكبح جماح القناة. فتعددت من حينها وسائل وأشكال الضغط ومحاصرة الجزيرة، وكانت علامتها الدامية قصف مكتب الجزيرة في كابول في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 ، ومكتبها في بغداد في 8 أبريل/ نيسان 2003 الذي ذهب ضحيته طارق أيوب ، أحد مراسليها في العاصمة العراقية ، وكذلك المتابعات القضائية في حق تيسير علوني ، المراسل السابق للجزيرة في كابول.


وقد ترافقت هذه الضغوطات مع حملة إعلامية واسعة ضد الجزيرة شاركت فيها وسائل إعلامية غربية وعربية عديدة للتشهير بها والتنديد- حسب زعمهم- بعدم حياديتها ووقوفها إلى جانب البعث أو الإرهاب.


في الأثناء، أدرجت "الدبلوماسية العمومية" الأمريكية في وثيقة "الإستراتيجية القومية الأمنية" لعام  2002 البعد الإعلامي في فعلها، وتمت صياغة خطة تنص على وضع حجر الأساس لجهاز إعلامي أمريكي ناطق باللغة العربية، وأوكل انجازها إلى مجلس أمناء الإذاعات الدولية (2)، وهي الوكالة الفيدرالية المشرفة على مجمل وسائل الإعلام الدولية الأمريكية، بما فيها صوت أمريكا وإذاعة الحرية أوروبا.


هذه الخطة الجديدة التي جاهرت الإدارة الأمريكية بأهدافها لمحاصرة تأثير الإعلام العربي المسيء لسمعتها وتلميع صورتها في المنطقة العربية، جندت وسيلتين بالأساس؛ الأولى إذاعية والثانية تلفزيونية. فتم في مارس/آذار 2002 إطلاق إذاعة (سوا) تحت رعاية مكتب الإذاعات الدولية الأمريكية وبتمويل من الكونغرس لتكون كما يدعى موقعها على الانترنت: وسيلة " التواصل الفعال مع الشباب العربي في منطقة الشرق الأوسط  عن طريق تزويدهم  بآخر الأخبار والمعلومات والموادّ الترفيهية التي تُبث عبر محطات FM والموجات المتوسطة المنتشرة في جميع أرجاء المنطقة" (3). فاعتمدت (سوا) إذن على التسلية والترفيه ضمن إستراتيجية تهدف إلى الوصول إلى الشباب العربي <ما دون سن 25> عبر تبني برمجة تقلص فيها حجم المادة الإخبارية بالاكتفاء بنشرات قصيرة مقابل بث الأغاني الأمريكية والعربية، وبالأخص الحاملة لعلامة روتانا.





كانت المواضيع المحظورة التي أثارتها الجزيرة في بداياتها مصدر قلق للأنظمة العربية والنخب السائرة في ركابها. فحاولت هذه الأخيرة جاهدة، دون نجاح ذو شأن، في الضغط على القناة لثنيها عن ذلك.
كما تم في فبراير/شباط 2004 تدشين قناة الحرة التي قدمت نفسها على أنها :" قناة تلفزيونية غير تجارية ناطقة باللغة العربية و مكرسة بصفة رئيسية لتقديم الأخبار والمعلومات وتغطية الأحداث في الشرق الأوسط والعالم" عبر "برامج منوعة تشمل الحوارات والمواضيع الحياتية والصحة واللياقة البدنية والمنوعات والرياضة والموضة والعلوم والتكنولوجيا. وتسعى المحطة إلى تقديم الأخبار الدقيقة المتوازنة والشاملة، وتهدف إلى توسيع آفاق مشاهديها ليتمكنوا من تكوين آراء واتخاذ قرارات مبنية على معلومات صحيحة. " وهي مدارة من قبل شبكة الشرق الأوسط للإرسال، بوصفها مؤسسة غير تجارية ممولة من قبل الكونغرس الأمريكي.

سعت الحرة جاهدة عبر إمكانات لوجستية هامة < بما في ذلك الاعتماد على 250 موظفا> وتمويل يقدر ب 100 مليون دولار سنويا إلى إيجاد موقع لها ضمن المشهد الإعلامي العربي عبر بث برامج ترفيهية أو إعادة بث برامج أمريكية معروفة < مثل برنامج داخل أستوديو الممثلين Inside The Actors Studio >. في حين حرصت مادتها الإخبارية والحوارية على تفادي التمايز مع السياسة الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وأعطى المشرفون على القناة الأفضلية للوجوه الليبرالية وللمدافعين العرب عن التوجهات النيو- ليبرالية.


بيد أنه إذا كانت الحرة العنوان الأبرز للإستراتيجية الأمريكي الإعلامية المستحدثة في خضم الحرب على العراق في مواجهة الجزيرة، فإن قناة العربية الإخبارية مثلت العنوان العربي الرئيس للرد على القناة القطرية. وهكذا رأت العربية النور في فبراير/شباط 2003 عشية بدأ الهجوم على العراق بحجم تمويل إجمالي يضاهي 300 مليون دولار كقناة تابعة لمجموعة MBC، والتي يملكها ويترأسها الشيخ السعودي وليد الابراهيم (4). وقد ساهم في تمويلها عند التأسيس كل من مجموعة الحريري إلى جانب رؤوس أموال كويتية أردنية وخليجية. لم يخفي القائمون على العربية منذ نشأتها عزمهم على منافسة قناة الجزيرة وتحجيم تأثيرها وكذلك سعيهم أيضا إلى "اجتناب المشاكل مع الدول العربية ... وقول الحقيقة بدون إثارة" (5) في إشارة واضحة لخيار العربية العزوف عن انتقاد الأنظمة العربية وإثارة المسائل الجدلية الحساسة مثل <مسألة الحريات العامة والحقوق السياسية في المنطقة العربية>، والانتقاد الصريح للسياسات الأمريكية، وهو ذات النهج الذي سارت عليه القناة منذ تأسيسها.


ارتكزت العربية كما بين ذلك الباحثان مروان كريدي وجو خليل (6) على ركيزتين لمنافسة الجزيرة. اعتمدت الأولى على محاولة كسب حصة واسعة من الجمهور السعودي الذي لم تستطع الجزيرة لأسباب عدة استيعابه (7). وعمد الثاني ضمن خطة مدروسة ودؤوبة عبر تغطيات خاصة وكثيفة لأحداث سياسية محلية، مثل الانتخابات، إلى نيل اهتمام المشاهدين في دول عربية مختلفة. نضيف إلى ذلك نجاح العربية، حسب ما تبرزه بعض الإحصاءات، في فرض نفسها في العراق في أحيانا كثيرة على حساب الجزيرة لغياب هذه الأخيرة باعتبار العراقيل الكثيرة التي فرضت عليها. يبقى أن العربية ورغم نجاحها في غضون السنوات الماضية في قضم حصة لا بأس بها من السوق الفضائية جعلتها تتبوأ المرتبة الثانية بعد الجزيرة من حيث نسبة مشاهدة القنوات الفضائية إلا أنها لم تنجح في إزاحة الجزيرة من موقعها.


استتبع إطلاق الحرة والعربية محاولات أخرى أقل وقعا سياسيا أتت من خارج المنطقة سعت من خلالها دول أجنبية إلى إيجاد نافذة تطل من خلالها على المشاهد العربي. فعمدت فرنسا في 2006 الى تأسيسFrance 24 التي كرست فيما بعد12 ساعة من برمجتها للبث باللغة العربية ، وأطلقت الحكومة الروسية في 2007 روسيا اليوم، وساهمت الحكومة البريطانية إلى جانب البي بي سي في بعث البي بي سي باللغة العربية سنة 2008 ، وعمدت الحكومة الصينية في 2009 إلى بعث CCTV Arabic ثم جاء المولود الأخير من تركيا مع انطلاقة "تي آر تي" في ابريل/نيسان2010.


حدود التأثير 


في تقريرها الأخير لسنة 2009 تبين الاستمارة العربية العامة The Arab Public survey أن 55 بالمائة من المشاهدين في مصر (8)، أي أكبر الدول العربية على الإطلاق من ناحية عدد السكان، يفضلون الجزيرة في متابعتهم للأخبار الدولية في حين يختار 10 بالمائة منهم فقط العربية، بينما لا يمثل مشاهدو الحرة إلا عددا قليلا. نفس التقرير الصادر سنة 2007 أشار إلى أنه وللسنة الثالثة على التوالي تتصدر الجزيرة المرتبة الأولى بوصفها المصدر الرئيس للخبر ل54 بالمائة من المشاهدين قبل العربية <5بالمائة> والحرة <1بالمائة>.


في 27 يناير/ كانون الثاني 2009، حين قرر الرئيس الأمريكي باراك اوباما التوجه إلى الرأي العام العربي أختار مخاطبته من خلال العربية ولم ينبس ببنت شفة للحرة في اعتراف ضمني لإدارته بلا شعبية هذه الأخيرة.


مجمل هذه المعطيات لا تدع مجالا للشك بأنه رغم تعدد محاولات تهميش الجزيرة وتدجين الفضاء الإعلامي العربي إلا أنها أخفقت، ويبقى مجال الإعلام العربي، وبامتياز، فضاء سياسيا تنافسيا يتجاذبه لاعبون محليون وقوى دولية ساعية للتأثير. ولهذا الإخفاق أسباب عدة لعل أهمها:






  1. رغم تعدد محاولات تهميش الجزيرة وتدجين الفضاء الإعلامي العربي إلا أنها أخفقت، ويبقى مجال الإعلام العربي، وبامتياز، فضاء سياسيا تنافسيا يتجاذبه لاعبون محليون وقوى دولية ساعية للتأثير.
    أن مجمل المشاريع المنافسة للجزيرة تحمل في طياتها أسباب إخفاقها الكلي <الحرة> أو الجزئي <العربية> ونعني بذلك الخلفية السياسية التي بنيت عليها أو بعثت من أجلها. فلا تلميع وجه الإدارة الأمريكية كما أريد من الحرة أن تحققه ولا مهادنة الأنظمة العربية والمسايرة الضمنية للتوجهات الأمريكية كما هو الشأن مع العربية يحظي اليوم بتعاطف الأغلبية في المنطقة العربية.

    ذلك أن النجاح الذي حققته الجزيرة وأفلحت في المحافظة عليه على مدار السنوات الأخيرة يعود بالأساس إلى اعتبارها من قبل جمهور واسع كفضائية لصيقة أو متماهية مع هواجس وهموم "الشارع العربي" بالمعنى الذي حدده له عالم الاجتماع الإيراني عاصف البيات أي "الوجدان الجمعي والأحاسيس المشتركة والأحكام العامة التي يعبر عنها الناس العاديون في أحاديثهم وممارساتهم اليومية في الأماكن العامة ، في التاكسيات والباصات في المحلات وعلى الأرصفة أو بشكل أكثر مسموع في المظاهرات الجماهيرية" (9).


  2. تعمق الحذر من القنوات الغربية المنافسة للجزيرة بسبب تغطيتها للنزاعات المتصلة بالصراع العربي الإسرائيلي ووقوفها المبيت أو المكشوف إلى جانب إسرائيل لاسيما في حرب صيف 2006 على لبنان، أو في الحرب على غزة، في مقابل التعاطف الذي حظيت به قناة الأقصى التابعة لحركة حماس والمنار التابعة لحزب الله بسبب صمودهما أمام القصف ونجاحهما في تغطية العدوان.


  3. لقد عرف الإنتاج التلفزيوني في السنوات الأخيرة ارتفاعا في وتيرة تخصصه حصل في مجمله ضمن تقسيم وطني للمهارات، فبرزت سوريا كفاعل رئيس في الإنتاج الدرامي، مقوضة بذلك موقع مصر في هذا المجال ، وبدأت الكويت وحتى السعودية في اجتياح الدراما، في حين فرضت مصر نفسها في مجال صناعة الفيديو والإنتاج الموسيقي، وانتزعت لبنان حصة الأسد في ما يسمى بالبرامج الترفيهية الواقعية. هذا التطور، الذي ترافق مع ظهور قنوات متخصصة وكفاءات معترف بها عربيا، وفّر للمشاهد العربي فرصا واسعة لانتقاء المادة الترفيهية والرياضية والثقافية التي يرغب في مشاهدتها عززت من استقلالية استهلاكه التلفزيوني اليومي عن الإنتاج الغربي أو الخارجي.


  4. تراجع الضغط المباشر على قناة الجزيرة، والذي يمكن تفسيره بالقناعة التي حصلت بعدم فاعليته وعجزه عن إخماد صوت القناة لاسيما وأن السنوات الماضية قد ساهمت في إقناع بعض المعولين عليه بأن أي قناة تلفزيونية عاجزة لوحدها، في غياب شروط ذاتية وموضوعية عديدة، عن تغيير ميزان القوى السياسي وتقويض النظم القائمة.

_______________
باحثة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى- بيروت.






الهوامش
(1) نقصد هنا بالخصوص ال MBC التي انطلقت من لندن في 1991 وتم تحويلها إلى دبي في 2001 وال ART التي بعثت في روما في 1993 وتم نقلها في 2002 إلى عمان و ORBIT التي بدأت في 1994 في روما كذلك وتم نقلها إلى المنامة في 2005.
(2) http://www/bbg.gov
(3) http://www.radiosawa.com/about_us.aspx
(4) والتي تضمMBC1, MBC2, MBC MAX, MBC3, MBC4, MBC Action, MBC Persia, MBCFM, PanoramaFM, MBC.net, Alarabiya.net, MoBC, هياMBC.
(5) انظر الى BBC Monitoring, Profile : Al-Arabiya TV, 25 novembre 2003.
(6) Marwan M. Kraidy and Joe F. Khalil, Arab Television Industries, Palgrave McMilan, London, 2009.
(7) في شهر جانفي 2008 بلغت نسبة مشاهدة الجزيرة في العربية السعودية ال 12.83 في حين بلغت 23.95 بالنسبة للعربية.
(8) Anwar Sadat Chair for Peace and Development, University of Maryland with Zogby International 2009, Annual Arab Public Opinion Survey, Survey conducted April May 2009 in Egypt, Jordan, April, Lebanon, Morocco, Saudi Arabia (KSA) and UAE.
(9) Asef Bayat, « La « rue arabe » au-delà de l’imaginaire occidental » in Alternatives Sud, Vol.16-2009, p.139-153, p.143.