
مقدمة
نجحت الوساطة الإقليمية والدولية سابقًا في ترتيب أكثر من هدنة وتبادل محدود للأسرى بين حركة حماس وإسرائيل، دون أن يؤدي أي منها إلى وقف إطلاق نار دائم وتبادل شامل للأسرى. هذه المرة تُعلن واشنطن أنها تدفع بهذا الاتجاه، وتبدو إسرائيل أقرب إلى مسار يفضي إلى هذه النتيجة وإن كانت تريده بشروطها. من الواضح أن مسار التفاوض ينطوي على مصالح ومخاوف أطرافه ومن المتوقع أن يكون إطارًا ومسارًا وليس اتفاقًا مُحددًا مكتملًا، وقد يشمل مقايضات دولية وإقليمية لأكثر من طرف، ربما تقود إلى اتفاق أوسع.
تبحث هذه الورقة المسار التفاوضي المتوقع، بين حماس وإسرائيل، والذي بدأت بوادره مع توقف الحرب الإسرائيلية على إيران، والأسس التي ستعتمدها الأطراف في مقاربة الاتفاق، وما الذي تسعى إليه، وما الذي يمكن أن يفضي إليه من خسائر ومكاسب للأطراف، وما هي التوقعات منه، وكيف ستكون تداعياته على غزة والقضية الفلسطينية.
اتفاق الإطار: تحدياته
يعتقد رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أنه "حقَّق انتصارًا" على إيران في الهجوم عليها لاثني عشر يومًا، خاصة بعد مشاركة واشنطن أثناءها في استهداف البرنامج النووي الإيراني. وقد سارع الرئيس الأميركي، ترامب، للاستفادة من هذا "الزخم"، وأوفد مبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، للحديث عن إمكان حدوث اختراق في مسار مفاوضات وقف اطلاق النار في غزة. قدَّم الوسطاء مقترحًا لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، وافقت عليه إسرائيل سريعًا ووصفته بأنه "اقتراح جيد يتوافق مع مقترح ويتكوف الأصلي"(1). لاحقًا، أعلنت حماس أنها قدمت ردًّا إيجابيًّا على مقترح الوسطاء مُطالبة بتعديلات على مضمونه. ورغم أن نتنياهو أعلن أن تعديلات حماس على المقترح "غير مقبولة"(2)، إلا أنه أرسل وفد التفاوض الإسرائيلي إلى الدوحة.
دُعي نتنياهو على هذه الخلفية لزيارة البيت الأبيض "لغرض التباحث في كيفية استثمار الإنجازات العظيمة التي حققها الطرفان على إثر الضربة الأميركية لإيران"، وفق ما نُقل عن مصادر أميركية-إسرائيلية. وصل نتنياهو إلى واشنطن، للمرة الثالثة خلال ستة أشهر، حاملًا هذه المرة "إنجازًا كبيرًا" ضد إيران، مُدَّعيًا أن هناك "فرصة تاريخية لن تتكرر وأن على إسرائيل أن تستثمرها"(3).
لكن الزيارة التي بدأت بكثير من التفاؤل واستمرت أربعة أيام تخللتها لقاءات مكثفة مع مسؤولين أميركيين كثر، انتهت بصورة مخيبة للأمال دون تحقيق إنجاز يُذكر فيما يخص وقف إطلاق النار في غزة، واكتفى نتنياهو قبل مغادرته بتصريح كرَّر فيه ما كان يردده خلال عامين بأن "إسرائيل ستهزم حماس وستعيد المختطفين، مؤكدًا على شروطه لوقف الحرب وهي نزع سلاح حماس وإنهاء حكمها"(4).
في المشهد الموازي، تستمر المفاوضات في الدوحة، بهدف التوصل إلى "اتفاق إطار تفاوضي" قبل بدء المرحلة النهائية، ومن المفترض بعد الاتفاق على "ورقة الإطار" أن ينتقل المفاوضون إلى "مرحلة نقاش تفصيلي" لها(5). تسعى حماس لضمان أن تقود هذه المباحثات إلى وضع ترتيبات لنهاية الحرب، في حين يركز نتنياهو على جعل هذه الهدنة محطة استراحة لجيشه ومحاولة لاستعادة الأسرى الإسرائيليين، مع الاحتفاظ بإمكانية العودة للقتال متى شاء.
تُشبه تفاصيل اتفاقية الإطار، كما تبدو حاليًّا، وإلى حدٍّ كبير، صفقة ويتكوف، في يناير/كانون الثاني 2025، بوقف إطلاق نار لمدة 60 يومًا، وتبادل أسرى، وبدء مفاوضات لإنهاء الحرب وانسحاب إسرائيلي من معظم قطاع غزة. لكن هذه المرة ثمة متغير آخر، وفق مصادر أميركية، وهو "تصميم الرئيس ترامب" أن يمنع نتنياهو من إفشال المرحلة الثانية من الصفقة، بعد إطلاق سراح الأسرى في المرحلة الأولى(6).
ورغم تفاؤل ترامب ووعوده، لا يزال الكثير من الألغام في الطريق نحو الصفقة: من سيحدد قائمة الأسرى الإسرائيليين الذين سيُطلق سراحهم من الأسر؛ حيث الحديث عن عشرة أحياء إسرائيليين وثمانية عشر من الأموات؟ وفي المقابل، ما مفاتيح الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين؟ ومن سيحددها؟ ناهيك عن قضية إدخال المساعدات وآلياتها ووتيرتها. والأصعب، إلى أي خطوط سينسحب جيش الاحتلال الإسرائيلي من القطاع، خاصة مع مطالبة إسرائيل بالاحتفاظ بالسيطرة على حوالي ثلث القطاع، بما في ذلك محور موراج بين مدينتي رفح وخان يونس، وفق ما أكدته خرائط تموضع جيش الاحتلال التي عرضها وفد إسرائيلي التفاوضي ورفضتها حماس؟. كما يطالب الإسرائيلي بالإبقاء على نظام توزيع المساعدات المثير للجدل الذي تتولاه ما تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية"؟(7). وأخيرًا، ماذا عن ضمانات وقف الحرب؟ وحكم القطاع في اليوم التالي للحرب؟
مقاربة الأطراف لمسار التفاوض
يطالب المجتمع الإسرائيلي، مدعومًا بموقف الجيش والمؤسسة الأمنية، بصفقة شاملة لاستعادة الأسرى وإنهاء الحرب، إلا أن نتنياهو يتمسك بعقد اتفاقيات جزئية، مُدَّعيًا أن المفاوضات الطويلة المعقدة المليئة بالأزمات قد تُودي بحياة الأسرى وتُبدد زخم الإنجاز في إيران. من الواضح أن السبب الحقيقي وراء موقفه هذا، هو خشيته من انفراط الائتلاف الحكومي؛ إذ لا تزال مفاتيحه في يدي سموتريتش وبن غفير وهما غير مُستعدَّين لوضع حدٍّ لهذه الحرب(8). والجدير بالذكر أنه، ومن باب طمأنة شريكيه هذين في الائتلاف، كان قد طلب خلال اجتماع مجلس الوزراء الذي عُقد قبل مغادرته للقاء ترامب، بإعداد "خطة جديدة لدفع الغزيين جنوبًا"(9). ومن المرجح أن نتنياهو يريد في مفاوضات هذه المرة أيضًا، صفقة جزئية تُمكِّنه من المحافظة على رصيده وقوته التي تعززت بعد الحرب على إيران.
على صعيد المسار التفاوضي، تُبدي إسرائيل مرونة في شرط إبعاد قيادات حركة حماس من قطاع غزة، وتكتفي بالمطالبة بحل الذراع العسكرية للحركة، على قاعدة أنه "لم يتبقَ الكثير من القيادات الرفيعة للحركة في القطاع لإبعادهم"(10). لكنها تتمسك بإمكانية العودة إلى القتال إذا "رفضت" حماس التخلي عن السلطة ونزع سلاحها، خاصة أن نتنياهو يريد أن يظهر بمظهر القوي، وأن الاتفاق سيحقق أهداف الحرب التي من أهمها أن "غزة لن تُشكل تهديدًا لإسرائيل"، وهذا أيضًا يتوافق مع مطلب ترامب، الذي يؤكد أن حماس "لن تكون جزءًا من الحكومة في غزة بعد الحرب"(11).
يبدو أن شرط "إمكانية العودة للحرب"، سيشكِّل الذريعة التي يُحضِّر لها نتنياهو للتحلل من الصفقة والعودة إلى القتال، خاصة إذا شكَّل المسار التفاوضي تهديدًا داخليًّا له. كما سيحتفظ بورقة إعادة انتشار وتموضع قواته في القطاع، وبآليات توزيع المساعدات والسيطرة على محور موراج، أوراقًا إضافية لاستخدامها ذرائع لنسف الهدنة إن دعته الحاجة لذلك.
بالنسبة لحماس، فإنها تعلم أن وقف إطلاق النار يمكن أن يكون مجرد تكرار لسابقيه، إن أبدت موافقتها على دخول هذا المسار دون تعهد إسرائيلي مُسبق بإنهاء الحرب، وهي تريد من الاتفاق المؤقت أن يفضي إلى اتفاقٍ شامل ينهي العدوان ويؤمِّن دخول المساعدات ويخفف المعاناة المتفاقمة في قطاع غزة"(12) (أين بداية الاقتباس؟). من هذا المنطلق، قد تُبدي حماس مرونة أكثر في موضوع الأسرى وترتيبات انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع وآليات تدفق المساعدات، وعلى الأرجح قد تبدي استعدادها للتنازل عن حكم القطاع بعد الحرب، إلا أنها ستتمسك بموقفها المعارض لنزع سلاحها، وستصر أنه لن يكون ممكنًا إلا بعد انتهاء الاحتلال. والأهم أن حماس، خاصة بعد تهديدات نتنياهو العلنية بالعودة إلى القتال إن لم تستجب لشرط "نزع السلاح"، ستتمسك بالحصول على ضمانات حقيقية من الإدارة الأميركية والوسطاء بأن نتنياهو لن يعود للقتال مرة أخرى بعد انتهاء أيام الهدنة الستين أو خلالها، أو ما يسميه الأميركيون "التمديد التلقائي" للمفاوضات بعد الستين يومًا المحددة في اتفاق الهدنة. هذا الأخير، أي "التمديد"، يُفترض به أن يحد من مقدرة إسرائيل على مواصلة القتال طالما استمرت الاتصالات(13).
الواضح كذلك أن حماس تصر على انسحاب الجيش الإسرائيلي وفق خرائط الهدنة السابقة، من 19 يناير/كانون الثاني الماضي، وربما مع بعض التعديلات التي لا تكرِّس أي حكم إسرائيلي في القطاع. خاصة بعد الحديث الإسرائيلي المُعلن عن المخططات المتعلقة "بالمدن الإنسانية" في غزة، والبقاء في محور موراج لهذه الغاية، وهو ما يعني تحويل رفح إلى "غيتو" منفصل تحت حكم عسكري إسرائيلي شامل، يتيح لها التمهيد لمرحلة جديدة من القتال "بحرية أكبر" داخل مناطق مكتظة سكانيًّا، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، ويوفر لها "محطة على طريق التهجير القسري" للفلسطينيين أو "الترانسفير" خارج فلسطين.
الحسابات المحلية والإقليمية والدولية المؤثرة في المسار التفاوضي
يبدو أن شيئًا ما قد تغيَّر في موقف نتنياهو، إثر "الإنجازات" الأخيرة في الحرب ضد إيران، وتعززت فرصه نسبيًّا في الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، وأسهمت في ذلك ضغوط واشنطن عليه لإنهاء حرب غزة، ذلك أن ترامب يريد تعزيز مكانته على الساحتين، الأميركية والدولية، من خلال الوصول إلى ترتيبات وتسويات إقليمية، ويرى في التسوية للحرب على قطاع غزة هدفًا مُربحًا على هذا الصعيد، خاصة أنه يريد الحصول على جائزة نوبل للسلام. وقد أرسل نتنياهو من ناحيته رسائل مفادها أنه لن يُفوِّت فرصة السلام مع "الدول السُّنيَّة"، وفي مقدمتها السعودية، وربما يكتفي بترتيبات أمنية مع سوريا ولبنان. لكن بات من الواضح للإسرائيليين والأميركيين أنه للمضي قُدمًا، يجب الحديث عن "ضرورة طيِّ ملف حرب غزة بعد إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة وضمان ألا تكون حماس صاحبة السيادة في القطاع بعد الحرب"(14).
محليًّا، يدرك نتنياهو أن شريكيه المتطرفين، وعلى الأخص بن غفير، الذي سبق أن عارض صفقات التبادل مرتين، سيعارضها هذه المرة أيضًا، إلا أنه حتى اللحظة لم يهدد بالانسحاب من الحكومة أو تفكيك الائتلاف بسبب الصفقة التي يبدو أنها تحظى بأغلبية في الكنيست وفي الحكومة، دون أصوات بن غفير وسموتريتش وحزبيهما. وقد بدا نتنياهو أقل خوفًا من تفكيك الائتلاف بعد عودته من واشنطن ولقاء كلٍّ منها على حدة، رافضًا أن يمنحهما ضمانات بالعودة إلى القتال بعد انتهاء الهدنة الجزئية، بحجة أن مثل هذا التعهد المسبق قد ينسف مفاوضات الهدنة(15). وربما يمهد لقاء نتنياهو بهما لتنازلٍ إسرائيلي مُرتقب في موضوع خرائط انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، بما يسمح بصيغة توافقية في هذه المسألة الشائكة.
كما أن نتنياهو لم يعد يخشى كثيرًا من تداعيات انهيار حكومته بسبب مواقف بن غفير وسموتريتش المتشددة، لأن إسرائيل على وشك الدخول في عام انتخابي على أي حال، ونتنياهو عمليًّا يخوض بالفعل حملة انتخابية، وهو واثق من أنه سيحقق إنجازًا كبيرًا لحزب الليكود بما يضمن له العودة لرئاسة الحكومة مجددًا، لاسيما مع ازدياد قوته وتقدمه على خصومه وفق استطلاعات الرأي، ورغبته في أن يستثمر "بريق الورقة الإيرانية" قبل أن تفقد وهجها وتتآكل قيمتها في الشارع الإسرائيلي(16).
علاوة على ذلك، فإن دعوة الرئيس الأميركي، ترامب، الإسرائيليين لضرورة إسقاط التهم المنسوبة إلى نتنياهو ما زالت تتفاعل في الداخل الإسرائيلي، ويطمح نتنياهو أن تُترجم هذه الدعوة واقعًا بحصوله على العفو. ولا يخفى على ترامب أن دوافع نتنياهو الحقيقية من استمرار الحرب على غزة، هي إدامة حالة الطوارئ في إسرائيل بما يمكِّنه من التملص من المحاكمة في ملفات الفساد المنسوبة إليه. يأمل ترامب عبر هذه الدعوة، إن كُتب لها التحقق، أن يُحرره من قيود المحاكمة وثقلها عليه بما يمنحه مزيدًا من القدرة على المناورة في موضوع وقف الحرب، واستثمار ما يسميانه "إنجازات كبيرة ضد إيران"(17).
أما المُتغير الأهم الذي يلوح أمام نتنياهو في مقابل إنهاء الحرب على غزة فمرتبطٌ بالتطبيع مع السعودية، وعلى الأرجح لن يمانع نتنياهو، في إطار "تسوية إقليمية" شاملة، صُدور "صيغة أميركية غامضة حول الدولة الفلسطينية"(18)، دون أن تتضمن أي إجراءات عملية ومحددة وإلزامية تقود إلى حل الدولتين(19).
سيناريوهات
لم يتمكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من إعلان وقف إطلاق النار خلال زيارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الحالية لواشنطن، واكتفى بالإدلاء بتصريحات متفائلة بأن الطرفين يقتربان من التوصل إلى اتفاق. تشير المحادثات والتصريحات التي تلت وصول نتنياهو لواشنطن إلى رغبة الطرفين، الولايات المتحدة وإسرائيل، في تحقيق هدفي الحرب، إعادة الأسرى وتدمير حماس(20). لكن ليس من المؤكد أن نتنياهو سيتمكن من تنفيذ وعده باستعادة الأسرى وهزيمة حماس فعليًّا، بعد أن مضى على حربه التدميرية ضد القطاع أكثر من عام ونصف دون أن يتمكن من إنجاز ذلك. وبالتأكيد ليس في وقت محدود يرغب فيه ترامب بالحصول على ثمن من إسرائيل مقابل التدخل الأميركي ضد إيران، وصولًا إلى ترشيحه لجائزة نوبل للسلام. وليس من الواضح ما إذا كان نتنياهو، الذي عادةً ما يؤجل القرارات إلى اللحظة الأخيرة، سيتراجع عن عرقلة مسار التوصل إلى "اتفاق إطاري"، كما ليس واضحًا أيضًا بعد هذا الاتفاق، إذا ما كان سيختار الاستجابة لرغبة الولايات المتحدة في المضي في الهدنة للوصول إلى ترتيبات تُفضي إلى نهاية الحرب، لاسيما عند اقتراب نهاية فترة وقف إطلاق النار، أم أنه سيجد ذريعة لإقناع ترامب بضرورة العودة إلى القتال واستمرار الحرب.
إن وقف إطلاق النار دون أفق سياسي ليس إلا تأجيلًا لجولة أخرى من القتال، وهذا لا يمنع أن التوصل إلى "اتفاق إطاري" سيسفر عن إنجازات فورية: وقف مؤقت للقتل في غزة، والإفراج عن بعض الأسرى من الطرفين، وإدخال كميات أكبر من المساعدات الإنسانية. لكن ما سوى ذلك تلفه الضبابية ولا يمكن الجزم بما إذا كانت المفاوضات ستفضي إلى وقف للحرب، أو ستؤدي إلى انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، وما إلى ذلك من أسئلة معلقة(21). ومع ذلك يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات مجملة:
أولًا: أن تنفجر مفاوضات الهدنة قبل أن تصل حتى إلى وقف إطلاق نار مؤقت بسبب موقف نتنياهو الرافض لتقديم تنازلات فيما يتعلق بمطالب المقاومة، من انسحاب الجيش الإسرائيلي وفق خرائط الهدنة السابقة، من 19 يناير/كانون الثاني الماضي، والمساعدات والأسرى وضمانات وقف الحرب. فمنذ إعلان انطلاق المفاوضات الحالية تتصاعد ضغوطات وتهديدات حليفيه المتطرفين، بن غفير وسموتريتش، وتزداد خشية نتنياهو من إمكانية تفكك الائتلاف وسقوط الحكومة، وقد يُضطر إلى مجاراتهما والاستجابة لضغوطهما، خاصة في ظل غياب موقف حازم من ترامب تجاه نتنياهو ليفرض عليه القبول بالصفقة.
ثانيًا: وهو الأرجح، أن يتوصل الطرفان إلى هدنة مؤقتة ثم ترفض حماس نزع سلاحها أثناء مفاوضات المرحلة التالية من الهدنة، أو ترفض أيًّا من الإملاءات الإسرائيلية المُستجدة؛ ما يعني، من وجهة نظر إسرائيلية، أن وقف إطلاق النار الحالي هو تكرار لسابقه، فتستأنف إسرائيل القتال بذريعة أن حماس غير مستعدة لنزع سلاحها والتخلي التام عن السيطرة على القطاع. ومن المتوقع أن يستخدم نتنياهو بندًا في مسودة الاتفاق ينص على أن ترامب والولايات المتحدة مُلتزمان "بمفاوضات حسن النية"، وأن يدَّعي أن حماس تنتهكه بالتمسك بوجودها ورفض نزع سلاحها(22). وربما من هنا جاء طلبه من الجيش الإسرائيلي إعداد خطة لترحيل واسع النطاق للغزيين إلى جنوب القطاع، وهذه المرة من مدينة غزة ومخيمات الوسط؛ حيث لا يزال مئات الآلاف من سكان غزة يعيشون في ظروف قاسية جدًّا. فتجدد القتال والترحيل وحصار القطاع هو حاليًّا خطة نتنياهو لـ"اليوم التالي" لوقف إطلاق النار، ما لم تعلن حماس استسلامها.
هذه النوايا أكدتها كذلك تصريحات وزير الحرب الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، بشأن استغلال وقف إطلاق النار المؤقت لإقامة "مدن إنسانية" بما يؤكد أن الغاية من الهدنة ليست إنهاء الحرب، بل منح الجيش الإسرائيلي الوقت والظروف الميدانية لإنشاء "غيتو رفح" أو معسكرات الاعتقال الجماعية. فالخطة التي تنصُّ على نقل 600 ألف فلسطيني، بالأساس من المواصي، بعد إخضاعهم "لفحوصات أمنية" للمدينة "الإنسانية" التي ستقام على أنقاض رفح، مع فرض قيود مشددة على حركتهم ومنعهم من مغادرة المنطقة، تجسِّد خطوة متعمَّدة لإفراغ غزة من سكانها وفرض واقع ديمغرافي جديد بالقوة، وتمثِّل تصعيدًا خطيرًا في مسار "الإبادة الجماعية" المتواصلة ومخططات الترانسفير، والتي من المرجح أن تشمل الضفة بعد غزة(23).
ثالثًا: من المفهوم عمومًا في دائرة ترامب أن القضاء التام على حماس ليس وشيكًا، لذا يدعو كبار المسؤولين الأميركيين، مثل نائب الرئيس، جيه. دي. فانس، ووزير الخارجية، ماركو روبيو، إلى نهج مماثل للنهج الذي اتبعه "الوسطيون الإسرائيليون" لأشهر، بمن فيهم غادي آيزنكوت، أي استعادة الأسرى أولًا، وتأجيل معالجة القضاء على حماس للمستقبل. لذا يأمل المبعوث الخاص للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أن يُحدِثَ وقف إطلاق النار المؤقت زخمًا إيجابيًّا يسمح بالتوصل إلى حل دائم. وفي حال سارت الأمور بسلاسة، فلا يزال يتعين على الفلسطينيين والدول العربية وإسرائيل، الاتفاق على رؤية لغزة ما بعد الحرب. وهو التحدي الهائل الذي ينطوي على ضمانات أمنية لإسرائيل واستثمار مليارات الدولارات لإعادة الإعمار. وربما تستجيب إسرائيل لخيار إدارة عربية مؤقتة، يتلوها لجنة مدنية فلسطينية مستقلة متوافق عليها تحكم القطاع، وبالطبع من دون حماس، رسميًّا على الأقل. وإذا ما حاولت حماس، في الأثناء تعزيز قوتها، وهو ما ترجحه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، فستكون إسرائيل حرة في شنِّ هجمات أخرى، وهذه المرة دون عبء الأسرى الثقيل. في الوقت نفسه، تواصل إسرائيل والولايات المتحدة الدفع بخطة تهجير سكان غزة بهدوء، وهي عملية لا يمكن لها أن تنضج إلا بعد انتهاء الحرب، حيث ستتخذ من قضية السماح بإعادة إعمار القطاع سيفًا لترحيل العديد من سكان القطاع إلى دول أخرى(24).
خاتمة
عمليًّا، يسير الطرفان، حكومة نتنياهو من جهة، وحماس وفصائل المقاومة من جهة أخرى، في مسار تصادمي. إسرائيليًّا، تُعد التسوية المطروحة "وصمة عار" في نظر العديد من وزراء الحكومة، الذين يتمثل هدفهم الرئيسي في احتلال القطاع بالكامل، وتشجيع الترانسفير، وضم الضفة الغربية، وتوسيع المشروع الاستيطاني. حماس بدورها تدرك أن أحلى خياراتها مُرٌّ وهي تسير في حقل ألغام، دون كثير أوراق قوة، في محاولة لوقف شلال الدم وضمان وضع حدٍّ لهذه المقتلة.
إن خطة الإطار الحالية، على أهميتها، هي اتفاق وساطة لتهدئة مؤقتة تفتقر إلى رؤية سياسية، أو إلى روافع تُترجمها إلى عملية سياسية حقيقية تقود إلى نهاية الحرب والبحث في ترتيبات حكم القطاع في اليوم التالي، ومن المرجح أن تنهار تحت وطأة الكراهية وانعدام الثقة، لأن وقف إطلاق النار دون أفق سياسي هو مجرد تأجيل لجولة أخرى من القتال.
ومع ذلك، لا يمكننا أن نتجاهل تصريح نتنياهو حول "الفرصة التاريخية التي لن تتكرر والتي على إسرائيل أن تستثمرها"، قبل خروجه لزيارة واشنطن، والذي يتقاطع مع ما ألمح إليه من تفاهمات، توصل إليها مع ترامب في ختام زيارته قائلًا: "إن ما جرى الاتفاق عليه بيني والرئيس ترامب، فيما يتعلق بغزة والمنطقة، سيتم كشف تفاصيله لاحقًا"(26). وربما يكون طي صفحة الحرب على غزة المقدمة المطلوبة لتحقيق رؤية الطرفين حول هذه التوافقات والتفاهمات بما يمهد الطريق داخليًّا لمنح نتنياهو عفوًا رئاسيًّا، ويفتح المجال أمام ترتيبات جديدة في غزة وفي الإقليم، مرتبطة بالتطبيع والأمن والاندماج الاقتصادي بما يضمن هيمنة إسرائيل في المنطقة.
- يوني بن مناحم، حماس: "رددنا بشكل إيجابي على مقترح وقف إطلاق النار، وجاهزون للبدء بالمفاوضات فورًا"، موقع خبراء الشرق الأوسط العبري، 5 يوليو /تموز 2025 (تاريخ الدخول: 8 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/lBv9e
- نفس المصدر السابق.
- إيتمار أيخنر، نتنياهو في محادثات مغلقة: فرصة لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر؛ تقييم الوزراء: يسعى لإنهاء الحرب، صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، 3 يوليو/تموز 2025 (تاريخ الدخول: 8 يوليو /تموز 2025)، https://shorturl.at/hOzPv
- يوني جباي، إلى ماذا يُلمِّح؟ نتنياهو: "سيُقال المزيد عمَّا تم الاتفاق عليه مع ترامب"، موقع كيكار هشبات العبري، 10 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 11 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/vcnNs
- الخارجية القطرية: نسعى إلى إطار تفاوضي بشأن غزة وهناك انطباعات إيجابية، موقع الجزيرة.نت، 8 تموز/ يوليو 2025، (تاريخ الدخول 9 يوليو /تموز 2025)، https://aja.ws/lcqbs3
- نداف إيال، تفضل المؤسسة الأمنية التوصل إلى اتفاق شامل لكنها ستدعم المخطط الحالي، صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية، 4 يوليو /تموز 2025 (تاريخ الدخول: 8 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/bPRNR
- حماس تريد إنهاء العدوان وإسرائيل تتوقع اتفاقًا خلال أسبوعين، موقع الجزيرة نت، 10 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 10 يوليو/تموز 2025)، https://aja.ws/vjuxm8
- ليزا روزوفسكي، طالما أن الأمر متوقف على نتنياهو، فإن وقف إطلاق النار سيكون مجرد تكرار لسابقه، صحيفة هآرتس العبرية، 5 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/hW7WP
- حاييم لفنسون، الدعاية التي انقلبت على نتنياهو: كيف يسوِّق نهاية الحرب لليمين؟، صحيفة هآرتس العبرية، 6 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/mrdZF
- يوني جباي، إلى أين يتجه نتنياهو؟ "لا تقل لي إنه لن ينجح، أراهن بحياتي كاملة"، موقع كيكار هشبات العبري، 2 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 8 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/3yFFd
- أرئيل كهانا، بين صفقة الرهائن وإعادة إعمار قطاع غزة: زيارة حاسمة لواشنطن، صحيفة يسرائيل هيوم العبرية، 6 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 8 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/xGEFR
- حماس تريد إنهاء العدوان وإسرائيل تتوقع اتفاقًا خلال أسبوعين، مصدر سبق ذكره.
- جكي خوري، وقف إطلاق نار دون أفق سياسي هو مجرد تأجيل لجولة أخرى من الموت، صحيفة هآرتس العبرية، 6 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 9 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/0Ohnq
- إيتمار أيخنر، نتنياهو في محادثات مغلقة، مصدر سبق ذكره.
- قناة كان العبرية، مصدر سبق ذكره.
- إيتمار أيختر، مصدر سبق ذكره.
- أمير بار شلوم، صفقة الرهائن هي الثمن الذي يطلبه ترامب من نتنياهو بشأن إيران، موقع زمن إسرائيل العبري، 6 يوليو/تموز 2025 (تاريخ الدخول: 8 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/KWxKk
- إيتمار أيخنر، نتنياهو في محادثات مغلقة، مصدر سبق ذكره.
- نفس المصدر السابق.
- جيلي كوهن، نتنياهو ألقى الكثير من الكرات في الهواء وبقيت هناك حتى بعد زيارته لواشنطن، هيئة البث الإسرائيلية، 11 يوليو/تموز 2025 (تاريخ الدخول: 11 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/pc3Go
- جكي خوري، مصدر سبق ذكره.
- نفس المصدر السابق.
- سماها "مدينة إنسانية" كاتس: نخطط لتجميع سكان غزة في منطقة رفح، سنفتشهم أولًا، موقع صحيفة القدس العربي، 8 يوليو/تموز 2025، (تاريخ الدخول: 11 يوليو/تموز 2025)، https://shorturl.at/vH8ax
- أرئيل كهانا، مصدر سبق ذكره.
- يوني جباي، مصدر سبق ذكره.