العلاقات السودانية الليبية وأزمة دارفور

لا ترغب ليبيا، ولأسباب تتعلق بأمنها وبما بذلته خلال السنوات الماضية، بخروج ملف مفاوضات دارفور من يدها. وجاء تعثر محادثات الدوحة، وانسحاب مصر من هذا الملف إضافة إلى تحسن العلاقة بين تشاد والسودان لينعش أمالها بإمكانية استعادتها لهذا الملف.
52fc23a02c6b45bd8f57e65f3d01b59f_18.jpg
العلاقات السودانية الليبية وأزمة دارفور (الجزيرة)

عرفت العلاقات السودانية الليبية عموما مدا وجزرا، وتداخل فيها السياسي بالشخصي خلال الحقبة الماضية، وأصبحت أزمة دارفور –خاصة في الفترة الأخيرة- إحدى الأزمات المرشحة للإطاحة أو للإساءة للعلاقات بين البلدين.

لماذا إغلاق الحدود مع ليبيا

فقد أصدر وزير الداخلية السوداني إبراهيم محمود قرارا بإغلاق الحدود السودانية مع ليبيا، حيث عللت وزارة الداخلية السودانية قرارها هذا -من خلال بيان نشرته على الإنترنت- بخشيتها من تعرض حركة المرور بهذه الطرق الحدودية لتهديد وعدوان المتمردين والخارجين على القانون، الذين يقومون بالنهب أو فرض الرسوم والجبايات غير القانونية، مع تعريض الأرواح والممتلكات للخطر في كثير من الأحيان.

يرى الحكام السودانيون في استمرار العلاقات السودانية الليبية على مدى العشرين عاما الماضية، دليلا على نجاعة أسلوبهم الدبلوماسي مع العقيد القذافي. ولكن استمرار العلاقات متصلة طوال فترة نظام الإنقاذ لا يرده المراقبون فقط لبراعة الدبلوماسية، وإنما لتوازن المصالح بين البلدين

واللافت أن القرار السوداني المذكور آنفا جاء بعد يوم واحد من تصريح المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات السوداني محمد عطا، بأن الأجهزة الرسمية السودانية تتابع مع نظيرتها الليبية وضع توجيهات العقيد القذافي بإبعاد خليل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة من ليبيا موضع التنفيذ.

لكن مصدرا ليبيا ذا صلة بالملف السوداني نفى لجريدة (الأخبار) السودانية في 28 يونيو/حزيران 2010 صحة ما صدر على لسان مدير المخابرات السودانية بأن الزعيم الليبي معمر القذافي قد أصدر تعليماته بطرد رئيس حركة العدل والمساواة من الأراضي الليبية.

ويبدو أن تفاؤل المسؤولين السودانيين بالاستجابة الليبية لطرد إبراهيم، قد جاء بعد زيارات إلى ليبيا واتصالات كثيفة قام بها مسؤولون سودانيون، وتوجت باتصال هاتفي من الرئيس السوداني عمر البشير بالعقيد الليبي معمر القذافى، احتج فيه على وجود زعيم حركة العدل والمساواة في ليبيا، مع تمتعه بحرية التحرك والاتصال بوسائل الإعلام.

والواقع إن هذا التفاؤل الذي بلغ ذروته فيما صرح به رئيس جهاز الاستخبارات السوداني إبراهيم محمود من أن ليبيا بصدد القيام بالإجراءات العملية لطرد الرجل، قد تبدد إلى درجة إقدام السلطات السودانية على إغلاق الحدود مع جارتها ليبيا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزارة الخارجية السودانية قد قالت إن الخرطوم أبلغت طرابلس بالقرار عبر القنوات الدبلوماسية قبل إبرامه، وأن العلاقات مع ليبيا جيدة ولن تتأثر بهذا الإجراء الإداري الاحترازي منعا لأية تحركات سالبة عبر الحدود بين البلدين، على حد تعبير معاوية عثمان خالد الناطق الرسمي لوزارة الخارجية السودانية، في حين علقت ليبيا على قرار الإغلاق بكونها تتفهم الخطوة السودانية.

لاشك أن اللغة الصادرة من طرابلس بتفهم الخطوة أو من الخرطوم بمتانة العلاقات بين الجارتين الشقيقتين لا تتعدى كونها محاولة لتخفيف ما هو شديد التعقيد في العلاقات السودانية الليبية، ليس فقط من خلال ملف دارفور الأخير فقط، بل  يعود هذا الأمر لأربعين عاما خلت، أي منذ تسلم العقيد القذافى السلطة في سبتمبر/أيلول عام 1969، حيث  لم يتوقف مذ ذاك، التدخل الليبي الفعال في المشهد السياسي السوداني، بما يؤكد ما أصبح يشبه القاعدة العامة في العلاقات بين البلدين والتي يعرفها الساسة السودانيون جيدا، ألا وهي أن الدور الليبي الفاعل في دقائق الشأن السوداني أضحى من المعطيات الثابتة والمؤثرة، وأن التقليل منه أو محاولة تحييده من أزمة دارفور هو نوع من الوهم الذي  لا يمكن أن يصدقه أحد في السودان.

هذا الدور ليس فقط بدافع موازنة المصالح الليبية في تداخلها مع السودانية، وإنما أيضا بقوة طريقة الإدارة السياسية السودانية في تعاملها مع الدبلوماسية الليبية المتقلبة. ولهذا يرى الحكام السودانيون في استمرار العلاقات السودانية الليبية على مدى العشرين عاما الماضية، دليلا على نجاعة أسلوبهم الدبلوماسي مع العقيد القذافي.

ولكن استمرار العلاقات متصلة طوال فترة نظام الإنقاذ لا يرده المراقبون فقط لبراعة الدبلوماسية، وإنما لتوازن المصالح بين البلدين، فعلى امتداد هذه الحقبة تقريبا، كانت ليبيا تعيش ظروف الحصار الغربي منذ عام 1992 على خلفية قضية لوكربي، في الوقت الذي كان السودان يعيش ظروفا مشابهة على خلفية الموقف الغربي من حكومة الإنقاذ الوطني، وظروف الحرب في الجنوب ودارفور، ولهذا كان ضروريا الاعتماد المتبادل بين البلدين، وفعلا كان للسودان دور مشهود في كسر الحصار على ليبيا، كما أن ليبيا بالمقابل وقفت مع السودان في أكثر أوقاته حرجا.

قانون العلاقات بين البلدين

ولفهم القانون العام الذي يحكم هذه العلاقات، فإن قراءة المحطات الأساسية للعلاقات السودانية الليبية، ربما تساعدنا على التنبؤ بالصورة التي يمكن أن تفضي إليها التطورات الراهنة في العلاقة بين البلدين:

حينما وصل العقيد القذافي إلى السلطة في سبتمبر/أيلول 1969، كان الرئيس السوداني جعفر نميري قد سبقه إلى السلطة في السودان بأربعة أشهر، وتحديدا في مايو/أيار 1969. وكان النظامان الثوريان ينتميان بصلة البنوة إلى النظام الناصري في مصر الذي كان يروج وقتها لنظرية تثوير النظام العربي، كخطوة ضرورية لتجاوز أزمنة النكسة والهزيمة التي حلت بمصر سنة 1967، وبالتالي كان النظامان السوداني والليبي في طليعة هذا المشروع التثويري، وراجت فكرة الوحدة بين الجمهوريات الثلاث، مصر والسودان وليبيا، ولاقت استحسانا كبيرا من الزعيم الليبي معمر القذافى، حتى أنه جعلها أحد المرتكزات في العلاقات السياسية الخارجية لليبيا.

وبناء على فكرة الوحدة، كانت أول تدخلات القذافي المباشرة في الشأن السوداني في يوليو/تموز1971، حين أطاح انقلاب هاشم العطا بالرئيس نميري، فقد كان رئيس مجلس قيادة الانقلاب وقتها المقدم بابكر النور وزميله عضو المجلس فاروق عثمان حمد الله، على متن طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي أجبرتها السلطات الليبية على الهبوط عندما كانت تعبر الأجواء الليبية في طريقها إلى الخرطوم. واعتقلت السلطات الليبية حينها قادة الانقلاب وسلمتهم للرئيس نميري بعد استرداده السلطة، وقام هو بدوره بتصفيتهم مع عدد من قادة الحزب الشيوعي الذي تم تحميله مسؤولية الانقلاب.

أخطر مراحل هذه العلاقة ما اعترفت به القيادة الليبية نفسها، وهي أن ليبيا كانت أول وأهم مصادر دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق في العام 1984، حدث ذلك في ذروة التوجهات القومية للعقيد القذافى. وكان الدعم الليبي فعالا حيث اشتمل على صواريخ مضادة للطائرات روسية الصنع حدت من فاعلية سلاح الطيران السوداني في حرب الجنوب

ولكن تدهور العلاقات مع نظام نميري أخذ في التسارع، عندما أجبرت السلطات السودانية خمس طائرات تمر فوق سماء الخرطوم في طريقها إلى يوغندا بالهبوط بالخرطوم. فقد كانت يوغندا وقتها على وشك خوض حرب ضد جارتها تنزانيا، وذلك في صراع كانت أطرافه: الرئيس التنزاني "جوليوس  نايريري" والرئيس الكنغولي "ملتون أوبوتي" من جهة، والرئيس اليوغندي "عيدي أمين" من جهة أخرى.

وكان السودان وقتها قد أكمل توقيع اتفاقيات تلزمه بعدم التدخل في شؤون الأفارقة المجاورين له، لكن القذافي اعتبر ذلك خيانة للعهود ونكرانا للجميل لا يمكن قبولهما، ومن ثم تجذر الخلاف بين نميري والقذافي حتى غدا شخصيا بينهما.

ومنذ ذلك الوقت عمل القذافى على احتضان كل معارضة سودانية تهدف إلى الإطاحة بنظام نميري، وبلغ الأمر ذروته بتمكين المعارضة المكونة من قوى الجبهة الوطنية في يوليو/تموز 1976 من غزو الخرطوم، مع العلم أن قوى الجبهة الوطنية كانت تتكون من حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي والإخوان المسلمين. وقد مد القذافي هذه الجبهة بالتمويل والتسليح وكافة أشكال الدعم لغزو الخرطوم والإطاحة بنميري، وكانت تلك الخطوة أخطر ما تعرض له نظام نميري من تحديات.

ومنذ ذلك الوقت سارت العلاقة بين النظامين في اتجاه المواجهة المستمرة، حيث تبنى نميري مساعدة الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وقام القذافي بالرد عسكريا على ذلك فأقدم على قصف الإذاعة السودانية بطائرة ليبية قاذفة بعيدة المدى من طراز يو (22) في 16 مارس/آذار 1984، لاعتقاد القذافي بأن الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا تبث إرسالها الموجه إلى ليبيا من الإذاعة السودانية.

ولكن أخطر مراحل هذه العلاقة ما اعترفت به القيادة الليبية نفسها، وهي أن ليبيا كانت أول وأهم مصادر دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق في العام 1984، حدث ذلك في ذروة التوجهات القومية للعقيد القذافى. وكان الدعم الليبي فعالا حيث اشتمل على صواريخ مضادة للطائرات روسية الصنع حدت من فاعلية سلاح الطيران السوداني في حرب الجنوب.

الأكثر إثارة للدهشة والاستغراب ما كشف عنه الفريق أول سلفاكير، النائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة ورئيس حكومة الجنوب، ورئيس الحركة الشعبيَّة، في الأول من يوليو/تموز 2009، من أن القذافي اتصل به في الثالثة من صباح أحد أيَّام زيارته لطرابلس، ليؤكد له مساندته لجنوب السودان إذا ما قرَّر الانفصال عن شماله، في استفتاء 2011

وكان الأكثر إثارة للدهشة والاستغراب ما كشف عنه الفريق أول سلفاكير، النائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة ورئيس حكومة الجنوب، ورئيس الحركة الشعبيَّة، في الأول من يوليو/تموز 2009، من أن القذافي اتصل به في الثالثة من صباح أحد أيَّام زيارته لطرابلس، ليؤكد له مساندته لجنوب السودان إذا ما قرَّر الانفصال عن شماله، في استفتاء 2011.

وأنه "إذا أراد الجنوبيُّون أن يقترعوا على الاستقلال فينبغي ألا يخشوا أحداً، وسأقف إلى جانبهم .. لقد كان من الخطأ الإبقاء على الجنوب موحَّداً مع الشمال بعد عام 1956.. كان ينبغي أن ينفصل، إما كدولة مستقلة أو ينضمَّ إلى دولة أخرى في شرق أفريقيا"، ووعده القذافيً بإرسال خبراء ليبيِّين إلى جنوب السودان للمساعدة في إعادة إعمار البنية التحتيَّة وتطوير الزراعة.

وحين انفجرت الأوضاع في دارفور في شتاء 2003 ما كان يمكن لليبيا أن تظل بعيدة عنها لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية.

ويعود الأمر إلى الاعتبارات التالية:

1- هنالك تداخل قبلي كثيف بين البلدان الثلاثة، السودان وتشاد وليبيا. فإذا كانت تشاد هي المحضن الأول لحركات التمرد في دارفور بحكم تدهور العلاقات السودانية التشادية واعتبارات أخرى إثنية وثقافية، فإن ليبيا كانت مسرح التحرك لفصائل التمرد، بحكم تشابك التداخلات والمصالح بين السودان وليبيا. فهناك الآلاف من أبناء دارفور يعملون في ليبيا، بل ومنهم من ينتمي إلى اللجان الثورية الليبية، ومنهم أعداد مقدرة تنتمي لقبيلة الزغاوة التي ينتمي إليها عدد من قادة العدل والمساواة ومنهم زعيمها خليل إبراهيم. وهكذا حدث الترابط الحميم  بمسألة دارفور.

2-ومن الأسباب الموضوعية أيضا أن ليبيا لا تستطيع غض النظر عن كل ما يجرى على حدودها مع تشاد والسودان، إذ تعتبر ليبيا هذين البلدين بمثابة عمق حيوي لأمنها الوطني، خاصة وأن تاريخ العلاقات بين تشاد وليبيا مليء بالمواجهات التي كان أهمها الحرب على قطاع (أوزو) الذي خرجت منه القوات المسلحة الليبية مهزومة بعد سنوات من الحرب التي كسبتها تشاد بدعم غربي، وخاصة بدعم فرنسي لحسين هبري الذي حسم الصراع  لمصلحة تشاد. واستكملت تشاد انتصارها بقرار محكمة العدل الدولية بالحكم لمصلحتها في فبراير/شباط من عام 1994.

وعلى هذا الأساس لا تستطيع ليبيا تجاهل الاضطرابات الأمنية على الحدود الليبية سواء مع السودان أو تشاد، لأن لها تاثيرات على أمنها الداخلي، ولهذا تجد ليبيا نفسها مجبرة على التدخل سواء بصورة مباشرة أو غبر مباشرة، لمراقبة التطورات هناك، والتأكد من القدرة على احتواء آثارها السالبة عليها.

ولم يكن السؤال يوما لماذا تتدخل ليبيا فيما يجرى في دارفور؟ ولكن السؤال هو كيف يتم هذا التدخل؟ وما مدى أثره في توسيع دائرة الحرب أواحتوائها لمصلحة الفرقاء جميعا؟.

يخشى كثير من المراقبين لشأن العلاقات السودانية الليبية من أن خطوة إغلاق الحدود قد تتيح للسلطات الليبية التخفف من مسؤولياتها  الأمنية على الحدود السودانية الليبية بحجة أن السلطات السودانية قد تولت بنفسها مسؤولية الحدود، وبالتالي يمكن لليبيا أن تغض الطرف عن  حركة العدل والمساواة لتتحرك بحرية وإن لم تقدم لها يد المساعدة، وستكون الحجة في ذلك أن قرار السودان بإغلاق الحدود يعني أخذ شأنه بنفسه، وأن عدم إشراك ليبيا في تأمين الحدود، يعني أن لا مسؤولية لها ولا عليها في هذا الشأن.

تأثير أزمة دارفور على العلاقات بين البلدين

ويرى كثير من المراقبين أن ليبيا تشعر بالمرارة والخذلان بخروج ملف مفاوضات دارفور من يدها، وذلك لأهمية هذا الملف بالنسبة إليها من أكثر من ناحية:

أزمة دارفور تجاور ليبيا وتمس عمقها الحيوي، ولها تأثيرها المباشر على أمن ليبيا، مما يقتضي من الأخيرة أن تلتزم المراقبة اللصيقة لتطورات أزمة دارفور وأن تطمئن للنتائج التي قد تفضي إليها أية مفاوضات بهذا الخصوص

1-  أزمة دارفور تجاور ليبيا وتمس عمقها  الحيوي، ولها تأثيرها المباشر على أمن ليبيا، مما يقتضي من الأخيرة أن تلتزم المراقبة اللصيقة لتطورات أزمة دارفور وأن تطمئن للنتائج التي قد تفضي إليها أية مفاوضات بهذا الخصوص.

2- استثمرت ليبيا سياسيا في الأزمة من خلال محاولاتها العديدة لتقريب وجهات النظر عندما كان طرفاها الأهم هما السودان وتشاد، وذلك باستضافة محاولات مصالحة تراها ناجحة بين رئيسي البلدين، كما حدث في قمة سرت في أكتوبر/تشرين أول 2004 وطرابلس في مايو/أيار 2006، وسرت الثانية في أبريل/نيسان 2007، إضافة إلى ما لا يحصى من الاجتماعات والمؤتمرات.

كما بذلت طرابلس جهودا في تجميع الحركات المسلحة التي تقف وراء تأجيج الأزمة واستمرارها، كما حدث في اجتماعات سرت الأولى وسرت الثانية، وأروشا بتنزانيا. وكانت ليبيا تنتظر أن تحصد من نشاطها هذا بعض النجاحات السياسية في حل هذه القضية، أو أن تعطيها على الأقل رقابة لصيقة  تمكنها من التحكم بالمآلات التي قد تفضي إليها أية عملية تفاوض.

3- بسبب ما سبق بيانه، فإن لليبيا حساسية تجاه ابتعاد ملف دارفور عن مائدتها التفاوضية، فقد كادت العلاقات السودانية الليبية أن تتدهور لدرجة القطيعة عندما تمكن العاهل السعودي الملك عبد الله من إبرام اتفاق بين الرئيسين عمر البشير والتشادي إدريس ديبي بالجنادرية بالمملكة العربية السعودية مايو/أيار 2007. وقد بلغ تسفيه القذافي يومها للخطوة بوصفها (الدبلوماسية المضحكة ).

وقد سارع الرئيس التشادي إدريس ديبي للمشاركة في قمة طرابلس بين الرئيس الليبي معمر القذافي والمصري حسني مبارك التي انعقدت بعد الجنادرية مباشرة، والتي كانت بمثابة اعتذار عن اتفاق الجنادرية، كما أن الرئيس ديبي كان قد اتصل بالقذافي وأخبره بأنه لبى فقط دعوة الملك عبد الله، وأن الاتفاق  الذي وقعه مع الرئيس السوداني لا يختلف مع اتفاق طرابلس الذي وقع في فبراير/شباط 2006.

فسابقة الموقف الليبي من اتفاق الجنادرية تجسد حساسية ليبيا تجاه نقل ملف دارفور بعيدا عنها، وكان يمكن أن تتكرر تجاه الدوحة، لولا أن الملف جاء إلى الدوحة عبر تكليف عربي مصدره القمة العربية، كما جاء بدفع إفريقي ودولي لم يشأ القذافى الوقوف أمامه حينها، بل أبدى تأييدا ظاهرا له، إضافة  إلى وجود تقدير خاص يكنه العقيد القذافي لعلاقته بدولة قطر وأميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.

لكن تعثر محادثات الدوحة، بموقف حركة العدل والمساواة منها، وانسحاب مصر من الملف بطرد إبراهيم خليل بعد تعرضها لضغوط سودانية، وتحسن العلاقة بين تشاد والسودان التي قادت إلى رفض إنجمينا استقبال خليل إبراهيم الذي ظل محبوسا بها في إحدى طائرات الخطوط الجوية الليبية لمدى 18 ساعة، فقد فيها هو والوفد المرافق له أوراقهم الثبوتية بما فيها جوازات السفر، بتعمد سلطات الأمن التشادية إتلافها. كل ذلك أعاد الملف مرة أخرى لطرابلس وجدد أملها بإعادة التحكم فيه من جديد.

ولم تستطع ليبيا الصبر على إبقاء زعيم حركة العدل والمساواة صامتا لأكثر من شهر، حين سمحت له بالحديث عبر وسائل الإعلام وخاصة حديثه لقناة الجزيرة الفضائية (23 يونيو/حزيران 2010) الذي أرسل فيه رسالة واضحة برفضه لمنبر الدوحة، وبالتالي ضرورة تأسيس منبر آخر حدد في تلك المقابلة مواصفاته، وهي أن يتمكن من حضوره والعودة إلى معسكرات جنده في السودان على الأرجل أو بالسيارات دون التعرض لمخاطر القرصنة الجوية، علما بأن مواصفات مقر المفاوضات الجديد الذي يرغب فيه خليل لا تكاد تنطبق إلا على ليبيا.

ولكن هذا الخيار بنقل مقر المفاوضات يواجه موقفا سودانيا صلبا عبر عنه الرئيس البشير بأن منبر الدوحة هو آخر المنابر لحل مشكلة دارفور، محذرا رافضي السلام بفرضه عليهم رغم أنوفهم متوعدا بشن الحرب عليهم بقوله من ( أراد السلام أو يسالم فمرحبا به وإلا فليقابلنا في الغابة)، وهذه اللغة تناسب الآن ما يجري على الأرض في منطقة دارفور، حيث شنت القوات السودانية ضربات متوالية على حركة العدل والمساواة، ولا شك أنها أضعفتها لدرجة كبيرة.

الواضح هنا أن ثمة رغبة ليبية في نقل المقر الجديد للمفاوضات إلى ليبيا، وهي رغبة  تصطدم مع الإرادة السودانية في بقائها في الدوحة، وضمن هذه المعادلة المعقدة تسعى حركة العدل والمساواة إلى الاحتفاظ  بقدر من القوة من شأنها أن تجبر الحكومة السودانية على استجداء السلام أينما كان موقعه، سواء في منبر الدوحة أو في أي منبر آخر تمليه الظروف، وهذا المسعى يتقاطع على نحو أو آخر مع رغبة القيادة الليبية.

ثمة رغبة ليبية في نقل المقر الجديد للمفاوضات إلى ليبيا، وهي رغبة تصطدم مع الإرادة السودانية في بقائها في الدوحة، وضمن هذه المعادلة المعقدة تسعى حركة العدل والمساواة إلى الاحتفاظ بقدر من القوة من شأنها أن تجبر الحكومة السودانية على استجداء السلام أينما كان موقعه، سواء في منبر الدوحة أو في أي منبر آخر

ولهذا، فإن تقوية حركة العدل والمساواة تصبح ضرورة لابد منها، وهى ضرورة ربما تحتم على ليبيا دعمها سياسيا وعسكريا، وتجربة العلاقات السودانية الليبية لا تستبعد هذا التطور. بل إن السودانيين في مرات عديدة طوال أزمة دارفور أشاروا ضمنا بأصبع الاتهام إلى ليبيا، ومن ذلك ما ذكروه بأن القوة الهائلة التي اجتاحت بها حركة العدل والمساواة مدينة أم درمان في العاشر من مايو/حزيران 2008، والتي قدرها البعض بأكثر من 400 سيارة مسلحة لابد من أن تقف وراءها دول مجاورة.

وعلى الرغم من امتناع الحكومة السودانية رسميا عن اتهام ليبيا، إلا أنها استدعت سرا السفير الليبي في الخرطوم واستوضحته عما جرى، حتى أن دوائر سياسية وصحفية رددت الاتهام -الذي لم يتضح- بصورة واضحة.

قبل هذا التطور في العلاقات السودانية الليبية كانت حركة العدل والمساواة في وضع لا تحسد عليه، إذ بدأت الحملة الدبلوماسية التي أطلقتها الخرطوم لمحاصرة الحركة تحقق أهدافها بدرجة كبيرة بطرد زعيم العدل والمساواة من تشاد، واستجابت السلطات المصرية للضغوط السودانية بطرده من القاهرة.

ولكن الآن، هل يستطيع المراقب أن يقول بأن الحركة استردت ملاذها الآمن في ليبيا؟ وهل تتسع وظيفة هذا الملاذ الآمن إلى أكثر من كونه استضافة إنسانية لمن استجار بالزعيم الليبي كما تقول الدبلوماسية الليبية، أم أنه سيكون تلاق سياسي وعسكري تستعين به حركة العدل والمساواة لترميم أوضاعها الصعبة ميدانيا، فتكسب أوراقا جديدة على طاولة التفاوض أيا كان موقعها؟ وهل ستمكن ليبيا الحركة من الوصول إلى مصاف القوة المطلوب دون أن تحول بينها وبين التفاوض خارج ليبيا؟

الإجابة على هذه الأسئلة تتحدد على ضوء الاتجاه الذي ستسلكه العلاقات السودانية الليبية، ولا شك أن معرفة النوايا الليبية تجاه حركة العدل والمساواة وزعيمها تظل ضرورية لفهم المسار الذي ستسلكه هذه الأزمة.

والواقع أن المعلومات الصادرة عن حركة العدل والمساواة إلى حد الآن، تقول إن ليبيا شرعت في اتصالاتها لتسويق فكرة البحث عن منبر جديد يكون بديلا لمنبر الدوحة، وهذا الأمر لم ينفه السفير الليبي في الخرطوم في حوار مع جريدة الأخبار السودانية في الأول من يوليو/تموز 2010 حين سئل عن شروع ليبيا في اتصالات لإقامة منبر في طرابلس لحل أزمة دارفور، حيث أجاب بالقول أن "القصة ليست منبرا في الدوحة أو في طرابلس أو في أديس أبابا، إنما القصة في العمل الجاد والرغبة الأكيدة من كل الأطراف للوصول إلى حل لمشاكلهم".

ومما سيتحكم بمسار الأزمة أيضا، قدرة الحكومة السودانية على تنفيذ قرار إغلاق الحدود بحيث تستعصي على حركة العدل والمساواة، وكذلك قدرتها على التواصل الدبلوماسي الذي يحول دون تحول هذه الأزمة الصامتة بين ليبيا والسودان إلى أزمة معلنة، وبالتالي وقوع البلدين في مواجهة مفتوحة.

وأضف إلى هذا مدى استعداد النظام السوداني الحالي للاستمرار في إدارة العلاقات مع ليبيا بالرغم من الاضطراب الذي يرافقها على مدى العشرين عاما الماضية، وهو مما برعت فيه الدبلوماسية السودانية. وما مدى قدرته الآن على إمداد هذا الرصيد بمزيد من حبال الصبر، والنفس الطويل؟ ولا يخفى على السودان قدرة ليبيا على الإيذاء إن ضعفت قدرته على التحكم في إيقاع علاقاته مع طرابلس.
_______________
مدير مكتب الجزيرة في الخرطوم