تعيش الدولة الأردنية حالة من الترقب والانتظار المشحون بالقلق الذي يكاد يسيطر على جميع الأطراف؛ إذ بات كل طرف سواء كان تابعا للحكومة أو من قوى التغيير والإصلاح يعيد حساباته، وينظر في تحالفاته تمهيدا للحصول على أكبر قدر من المكاسب السياسية التي يسعى إليها. ويمكن قراءة المشهد السياسي في الأردن حاليا من خلال العناصر التالية:
الشارع
أعلنت القوى المؤتلفة في الإطار المسمّى (24 آذار) أنّها سوف تبدأ اعتصامها المفتوح يوم الجمعة 15 يوليو/تموز، استئنافًا للحراك الشعبي المؤثر الصاعد باتجاه تحقيق الإصلاح الوطني الحقيقي المستند إلى مضمون الملكية الدستورية بحد أدنى. وقد أعلنت الحركة الإسلامية تأييدها ومساندتها لهذا الحراك مع العلم أنّ شباب الحركة الإسلامية منخرطون في تحالف (24 آذار) منذ البدء، وهم الطرف الفاعل والمحرك الأكثر إدامة وأثرًا.
وتبدو الحكومة والأجهزة الرسمية مصابة بحساسية شديدة من اسم (24 آذار)؛ لأنّه يذكِّر بأول مواجهة ساخنة على دوار الداخلية، أدّت إلى استشهاد أحد المعتصمين، وإصابة ما يزيد على 150 فردًا، كما أنّ هذا الحدث أخذ مساحة واسعة من الجدل السياسي في الشارع الأردني، وما زالت آثاره باقية حتى هذه اللحظة.
ولذلك عمدت الحكومة إلى حفر المكان حاليا بحجة زراعة الورود وأشجار الزينة، فأصبح عبارة عن ورشة، هذا من جانب، ومن جانب آخر أعلن الناطق الرسمي باسم الحكومة: "أنّها لن تسمح بتنفيذ فعالية الاعتصام المفتوح، وأنّها سوف تعمد إلى فضّه بالقوة والعنف".
وفي نفس السياق استطاعت الحكومة التأثير على بعض الأطراف المتحالفة في إطار (24 آذار)؛ فأعلنت انشقاقها عن هذا التحالف تحت مسمّى (جايين)، وهم مجموعة من اليساريين المتأثرين بقيادة (ناهض حتر)، واستطاعت الحكومة أيضا شق رأس المعارضة المتمثلة باللجنة العليا للتنسيق بين أحزاب المعارضة والمشكّلة من ستة أحزاب: حزب جبهة العمل الإسلامي، حزب حشد، حزب الوحدة الشعبية، حزب البعث (السوري)، حزب البعث (العراقي)، حزب الديمقراطية المباشرة (القذافي).
أصبحت اللجنة منقسمة، بحيث أصبحت معظم أحزاب المعارضة تناكف الحركة الإسلامية، ولا تشترك معها في الحراك الشعبي، وتحاول دائمًا إفشال حراك الشارع بطريقة واضحة.
ويبذل حزب جبهة العمل الإسلامي والحركة الإسلامية جهدًا كبيرًا لعدم إظهار هذا الانشقاق، ومحاولة توجيه الشارع وحراكه الشعبي في محصلة واحدة، وما زالت تبذل جهدها في وجود هذا الإطار ولو من ناحية شكلية؛ حتى لا يؤثر على روح الشارع المعنوية، وحتى لا تعطي الحكومةَ ذريعة للإمعان في تفتيت صفوف المعارضة وشرذمتها، ولكن يبدو أن ذلك لن يطول.
وقد عملت الحكومة والأجهزة الرسمية على تهدئة بؤر التحرك التي اشتعلت خلال الفترة السابقة في الطفيلة، والكرك، ومأدبا، وعمدت إلى ترتيب زيارات ملكية لهذه المواقع، من أجل تطييب الخواطر وتقديم خدمات و"مكرمات" وأموال، واستقطاب بعض الزعامات المحلية المؤثرة. وقد حققت الحكومة بعض النجاح في هذا الموضوع، ومن الملاحظ أنّ بعض الأسماء اللامعة في مجال المعارضة قبل أشهر، أصبحت الآن تدافع عن الحكومة وتلمز المعارضة؛ ومن هذه الأسماء مثلا: "محمّد السنيد" الذي تزّعم سابقًا قضية عمّال المياومة (اليومية)، فنظَّم معهم عدة اعتصامات، ونصب خيمة أمام رئاسة الوزراء؛ فتمّ اعتقاله عدة أسابيع، وتمّ الضغط للإفراج عنه، وأصبح له أثر في تشكيل بؤرة معارضة في لواء (ذيبان)، الذي استمر بالمظاهرات بشكل أسبوعي دائم؛ وبعد ذلك كله قامت الحكومة بتوظيف "السنيد" براتبٍ عالٍ، وأصبح الآن محاميًا عن الحكومة بدلاً من المعارضة.
استطاعت أن تعقد اجتماعها الإداري الأول بعد تشكيل المكتب التنفيذي المكون من 25 عضوا، يمثلون أحزاب المعارضة الستة، وجماعة الإخوان المسلمين، واتحاد المرأة، وحركة (24) آذار، واليسار الاجتماعي، وشخصيات وطنية مستقلة برئاسة دولة السيد أحمد عبيدات.
هذه الجبهة كانت محاولة لتوحيد صف المعارضة، وتوحيد المنادين بالإصلاح من أجل توحيد المطالب وتنسيق الجهود، إلاّ أنّ هذه الجبهة مصابة بدائين:
- الأول: البطء، وعدم الفاعلية، وكثرة الحسابات ودقتها، وعدم إقدامها.
- الثاني: الأحزاب القديمة المترهلة المخترقة، التي تشكل جزءًا من النظام العربي والحالة العربية الرسمية التي ثارت عليها الشعوب، فليس من المعقول أن تكون هذه الأحزاب جزءًا من تحالف الإصلاح.
انبثق إطار شعبي جديد يحوي ما يقارب 37 حراكًا شعبيًا خالصًا -لا يتبع الأحزاب التقليدية- باستثناء الحركة الإسلامية. وقد عقد اجتماعه الأول الذي ضمّ 150 شخصية من مختلف محافظات ومناطق المملكة. وفي هذا التجمع تمّ وضع إطار فكري وسياسي مرجعي، وإطار إداري تنظيمي.
وأجمع الحاضرون على تبنّي الملكية الدستورية كحد أدنى للخروج من هذا المأزق الذي تمر به الدولة، بحيث يتمّ إجراء تعديلات دستورية جوهرية تعيد بناء الدولة على عقد جديد، يتضمن إعادة السلطة الكاملة للشعب الأردني، وأن يصبح الملك رأسًا للدولة وليس رئيسًا للسلطات، وأن يتم النأي بموقع الملك عن الأمور التنفيذية والتفصيلية، وأن يشكّل رمزًا للدولة، وحارسًا للدستور، وضامنًا لحقوق الشعب وحريّاته.
هذا الإطار الشعبي الجديد يمكن أن يشكل الرافعة الجديدة للحراك الشعبي، ويمكن أن يمثل الإطار الوطني الذي يستوعب كل المنادين بالإصلاح بعيدًا عن هيمنة الأحزاب التقليدية، التي تعوق العمل أكثر ممّا تسهم في تقدمه.
السؤال المهمّ الذي يتم طرحه في كل تجمّع وفي كل نشاط، هو: هل تريد إدارة الدولة الإصلاح الحقيقي؟ والسؤال الثاني الذي أثار أزمة في الوسط السياسي: من الذي يقود حراك الشارع؟
ويبدو أن تصريح أحد القيادات الإسلامية الذي قال فيه: إن الحركة الإسلامية هي التي تقود الحراك الشعبي في الأردن في كل المواقع قد ألحق ضررًا بالإستراتيجية التي تتبعها الحركة في توحيد الجهود الشعبية والسياسية في إطار وحدوي شعبي، لا تكون الحركة الإسلامية في موقع الصدارة فيه، ولا تسود المشهد السياسي؛ من أجل إبطال أثر هذه الفزّاعة التي يستخدمها النظام في التخويف داخليًّا وخارجيًّا.
بعد صدور الإرادة الملكية بالموافقة على التعديل الوزاري الذي طال 9 وزراء شعرت الحكومة بقليل من الراحة؛ إذ إنّ هذا التعديل مدّ في عمر الحكومة؛ ولذلك نشطت في محاولة فتح حوارات مع الأحزاب وزيارتها، ومع الشباب في المناطق الساخنة، بغية التأكيد على أنّ الحكومة جادّة في موضوع الإصلاح. ولكن نتائج هذا الحوار لا يمكن أن تحقق نتائج مرجوّة على هذا الصعيد؛ إذ إن الحكومة والأجهزة التابعة لها بدأت معركة الاستعداد لموعد 15 يوليو/تموز، بالتحريض الشديد على الحركة الإسلامية، ويبدو أنّ الحكومة قد حددت الهدف بمعنى (المرمى) الذي سوف يكون معتمدًا لدخول الأهداف. وقد اتكأت على أمرين في هذا الشأن:
- الأول: عمدت عن طريق بعض الإعلاميين إلى استنطاق الشيخ (محمد أبو فارس) لإصدار فتوى حول اعتبار من قُتل في الاعتصامات شهيدًا، ومن قُتل من الطرف الآخر فهو في النّار. وهنا يتكرر المشهد مرةً ثانيةً بشكلٍ متشابه إلى حد التطابق، عندما استنطقوا نفس الشخصية بالحكم على أنّ أبا مصعب الزرقاوي "شهيد"، وأنّ القتلى الذين ذهبوا ضحية انفجارات الفنادق ليسوا بشهداء.
- الثاني: التركيز على موضوع الاتصال وعقد الصفقات بين الأميركان والحركة الإسلامية، والانطلاق من هذه النقطة لتشويه الثورات العربية، وترديد مقولة: إنّها "صناعة أميركية"، وأنها وليدة "الفوضى الخلاّقة" التي تكلمت عنها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس؛ ولذلك نجد أنّ معظم الأنظمة استخدمت هذه الركيزة في تشويه الثورات العربية إجمالاً، أمّا النظام السوري فقد عمد إلى التمسك بهذه القضية مستعينًا بالبعثيين في معظم الأقطار العربية مستشهدا أحيانا ببعض التصريحات التي صدرت عن وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون حول ترحيبها بالحوار مع الإخوان المسلمين، وإشارتها إلى أنّ هناك حوارات سابقة، كما أنّ بعض المصادر الفرنسيّة أشارت أيضًا إلى أنّ هناك بعض الاتصالات مع قيادات في الحركة الإسلامية.
وختاما يمكن القول: إن عمليات الشد والجذب بين قوى الحراك الشعبي والمجتمعي من جهة والدولة الأردنية وأجهزتها من جهة ثانية باتت تأخذ طرقا سياسية وأمنية متعددة، وصار كل طرف يعيد النظر في حساباته ومواقفه وتحالفاته؛ الأمر الذي سيجعل من الصيف الأردني الحالي صيفا ساخنا.
__________________
كاتب وباحث أردني