"إما السياسة وإما الزي العسكري... فالاثنان لا يجتمعان معًا" على هذا المبدأ تأسس النظام الحاكم في الجمهورية التركية.
وإذا كان كمال أتاتورك قد اتخذ هذا المبدأ شعارًا له من أجل التخلص من منافسيه العسكريين في إدارة السلطة السياسية، فإن رئيس الوزراء التركي طيب أردوغان يطبق الآن هذا المبدأ الأتاتوركي ذاته، ولكن من أجل إرساء قواعد جمهورية تركية ديمقراطية جديدة لا دور فيها للعسكريين في إدارة السلطة المدنية والسياسية.
الاستقالات وموقف أردوغان
لم تكن مفاجأة أن يقدم رئيس الأركان إيشيق قوشانر وقادة أفرع القوات المسلحة البرية والجوية والبحرية استقالتهم قبل يومين من انعقاد المجلس العسكري الأعلى؛ فثمة تسريبات وتكهنات جرت بها أقلام الصحافة التركية خلال الشهرين الماضيين بشأن احتمال استقالة رئيس الأركان. وإنما تمثلت المفاجأة حقيقة في السرعة التي جاء بها رد فعل أردوغان وقبوله لهذه الاستقالات؛ فلم يمض أكثر من ثلاث ساعات حتى صادق رئيس الجمهورية التركي عبد الله غول على قبول أردوغان لهذه الاستقالات الجماعية، وكذلك على قرار أردوغان بتعيين الجنرال نجدت أوزال قائد قوات الأمن الداخلي رئيسًا لقيادة القوات البرية ونائبًا لرئيس الأركان.
وهو رد فعل يبرز مدى إدراك القيادة السياسية لمآلات الوضع المتأزم مع الجيش، وامتلاكها لرؤية واضحة محسومة إزاء مختلف السيناريوهات المحتملة؛ فقد نجح أردوغان بقدرته على اتخاذ قرار سريع أن ينزع فتيل أزمة سياسية قبيل انفجارها، وأن يُحبط بنجاح فائق تلك المناورة السياسية التي خطط لها قادة الأركان من أجل إرضاخ الحكومة لمطالبهم.
أراد قادة الأركان بتقديم استقالاتهم القيام بخطوة استباقية قبيل انعقاد المجلس العسكري الأعلى، من أجل ممارسة الضغوط على أردوغان بصفته رئيسًا للمجلس في اتجاه ترقية أو إقالة جنرالات معتقلين على ذمة قضايا "التخطيط للانقلاب على الحكومة المدنية" المعروفة بأسماء (أرغنكون)، و(المطرقة)، وقضية وثيقة (القضاء على حزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله غولن الإسلامية).
ولم تغب عن أعين قادة الأركان أحداث اجتماعات المجلس العسكري الأعلى لعام 2010؛ عندما أصر أردوغان على استخدام سلطته السياسية؛ فرفض تعيين ثلاثة من الجنرالات ضالعين في قضية أرغنكون، كان رئيس الأركان الأسبق إيلكر باشبوغ قد رشحهم لتولي مناصب في قيادة الأركان، ودافع من أجلهم دفاعًا مستميتًا؛ ومن ثم خشي رئيس الأركان تكرار الأحداث ذاتها في اجتماع المجلس العسكري الأعلى الذي سيعقد بعد يومين، فيرفض أردوغان ترقية أربعة عشر جنرالا ضالعين أيضًا في قضيتي أرغنكون والمطرقة.
فكان أن أقدم قادة الأركان على هذه المناورة وراهنوا بمناصبهم ثقة منهم في دورهم السياسي وقدرتهم على الضغط على الحكومة، وتوهموا أن حكومة العدالة والتنمية سترضخ لمطالبهم حسب سجلات تاريخ العلاقة بين الجيش والسلطة طيلة العصر الجمهوري. بيد أن عجلة التاريخ قد استدارت هذه المرة، وارتدت عليهم، فبدلا من أن يرجع قادة الأركان إلى مواقعهم العسكرية رافعين راية النصر معلنين إذعان الحكومة لمطالبهم، عادوا إلى بيوتهم، وقد خلعوا زيهم العسكري بعد رفض الحكومة إحالة المتهمين إلى التقاعد أو ترقيتهم وإصرارها على استمرار المحاكمات، وأن يقول القضاء المدني قوله الفصل دون تدخل في شؤونه.
وإن يكن خطاب الوداع الذي ألقاه رئيس الأركان حاول استجداء عواطف زملائه العسكريين والظهور بشخصية الزعيم المناضل الذي يستقيل عندما لا يستطيع الدفاع عن حقوق رعيته، إلا أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا الجديدة، لم تعد تتلاءم مع الخطاب والدفاع عن متهمين ماثلين أمام القضاء حتى وإن كانوا جنرالات في الجيش. ورغم أن اعتقال جنرالات عسكريين أمر غير مسبوق في تاريخ تركيا، إلا أن الادعاء لو لم يكن يمتلك أدلة دامغة ما أقدم على هذه الخطوة الجريئة.
انعقد اجتماع المجلس العسكري الأعلى في الأول من أغسطس/آب 2011 برئاسة أردوغان؛ وقد ترأَّس مائدة الاجتماعات وحده دون أن يجلس إلى جواره رئيس الأركان في مشهد سيظل محفورًا في الذاكرة التركية. ورغم أنها المرة الأولى إلا أنها قد لا تكون الأخيرة؛ فحسب لائحة المجلس العسكري الأعلى لا يوجد للمجلس سوى رئيس واحد هو رئيس الوزراء، ومن ثم يحق له أن يترأس مائدة الاجتماعات بمفرده دون أن يجلس إلى جواره أحد؛ غير أن التقليد والعرف الذي استنَّه العسكريون لأنفسهم منذ تأسيس المجلس عام 1972 قضى أن يجلس رئيس الأركان جنبًا إلى جنب مع رئيس الوزراء، ومن ثم يبدو المجلس وكأن له رئيسين: مدنيا وعسكريا.
وعليه يمكن القول: إن هذا الاجتماع، وبهذه الصورة التي ظهر فيه أردوغان، كان بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة في سياق العلاقة بين السلطة المدنية والسلطة العسكرية تستند على الحقوق القانونية والدستورية، وإيذانًا بفصل جديد في مواجهة حكومة العدالة والتنمية لنفوذ العسكريين ومحاولات تدخلهم في الشأن السياسي.
تركيا الجديدة.. لا عسكر في السياسة
كان خطاب الفوز الذي ألقاه أردوغان عشية فوزه في الانتخابات العامة التي جرت في 12 يونيو/حزيران 2011 يحمل الكثير من الرسائل والدلالات بأن تركيا قد عزمت على المضي بخطى أسرع نحو ترسيخ الديمقراطية، وبذل ما بوسعها لتطوير هياكلها المؤسسية والمجتمعية وفق معايير الاتحاد الأوروبي. وهو ما يذكِّرنا برؤية حزب العدالة والتنمية التي أعلنها أردوغان عند افتتاحه الحزب عام 2001 بأنه يستهدف أن يجعل من حزب العدالة والتنمية نموذجًا عالميًّا للممارسة الديمقراطية، ومثالاً يحتذى في إقرار الديمقراطية داخل وطنه.
وقد فاز أردوغان في الانتخابات الأخيرة بنسبة خمسين بالمائة من أصوات الناخبين، وفاز معه برنامجه الانتخابي الطموح الذي تضمن خططًا وبرامج لإصلاح تركيا وتطويرها حتى عام 2023. ولا شك أن أردوغان وهو يخوض انتخابات عام 2011 ببرنامج يصل مداه إلى عام 2023، إنما يطرح على شعبه مشروع تأسيس جمهورية تركية جديدة في عيدها المئوي، وفق دستور مدني يجعل من تركيا دولة ديمقراطية محافظة متصالحة مع ذاتها التاريخية والحضارية.
تعد مسألة "تدخل الجيش في السياسة" عنصرًا رئيسيًّا من العناصر السلبية في تقارير الأداء التي يعدها الاتحاد الأوروبي بشأن تقدم تركيا تجاه الوفاء بمعايير الاتحاد الأوروبي. وكما كان الوفاء بهذه المعايير بمثابة الحصان السياسي الذي امتطاه أردوغان وقفز به تجاه تغيير تركيا وتطويرها في مختلف المجالات، كان أيضًا وسيلته إلى تقليص دور الجيش في الحياة السياسية دستوريًّا وقانونيًّا منذ أن تولى السلطة عام 2002.
ومن أبرز الأمثلة على النجاحات التي أحرزها أردوغان في تقليص دور الجيش كانت التعديلات الدستورية التي جعلت مجلس الأمن القومي مجلسًا استشاريًّا ذا أغلبية مدنية. وردَّة فعل أردوغان القوية إزاء محاولة الجيش التأثير في مجريات الحياة السياسية عبر "الإنذار الالكتروني" الذي أعلنته قيادة الأركان في موقعها على شبكة الإنترنت في 27 إبريل/نيسان 2007 احتجاجا على ترشيح أردوغان لعبد الله غول لرئاسة الجمهورية، فما كان من أردوغان إلا أن أطلق تصريحا دعا فيه الجيش إلى الالتزام بمهامه العسكرية، وعدم التعرض للشأن السياسي مطلقا؛ فرفعت رئاسة الأركان صباح اليوم التالي إنذارها من الموقع. ثم استصدرت الحكومة قرارا بمنع العسكريين من الإدلاء بتصريحات شفهية أو مكتوبة تتعلق بالشأن السياسي.
ولا ريب أن التعديلات الدستورية التي وافق عليها الشعب التركي العام الماضي في استفتاء 12 سبتمبر/أيلول 2010 كانت بمثابة نهاية لنظام الوصاية العسكرية في تركيا؛ حيث شلت قدرته على التدخل في الحياة السياسية، وجردته من الحصانة القضائية؛ فأصبح بالإمكان محاكمة العسكريين الذين لا يزالون في الخدمة أمام محاكم مدنية، كما فتحت الطريق أمام مقاضاة قادة الانقلاب العسكري الذي جرى عام 1980 على ما اقترفوه من جرائم بحق الوطن والمواطنين.
ومن نتائج هذه التعديلات الدستورية أيضًا أن أكثر من 250 جنرالاً وضابطًا لا يزالون في الخدمة أو متقاعدين يقبعون الآن في السجون التركية قيد التحقيقات في قضايا أرغنكون والمطرقة وغيرها، وهي قضايا استهدفت التخطيط للانقلاب على السلطة المدنية، والإخلال بالنظام العام، والتحريض على إثارة الشغب والفتنة العرقية والطائفية داخل المجتمع التركي، وكذلك التخطيط لإلصاق هذه العمليات الإرهابية بجماعة فتح الله غولن الإسلامية وحزب العدالة والتنمية.
ويمكن القول: إن جهود أردوغان لتقليص دور الجيش، وشل نفوذه عن التأثير في الحياة السياسية من خلال سن تشريعات وتعديلات دستورية إنما هي جهود تهدف في الأساس إلى وضع تركيا على المسار الديمقراطي الصحيح وفق المعايير العالمية، وهو مطلب جامع لكافة قوى المجتمع التركي.
وإن تكن رئاسة الأركان العامة حرصت منذ بداية توجيه الاتهامات للعسكريين عام 2009 على نفي صلتها كمؤسسة بهذه التهم، محاولة الحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية بين أبناء الوطن التركي، وأمام المجتمع الدولي، والظهور بمظهر ديمقراطي لا يتدخل في الشؤون السياسية، إلا أن ثمة عديدًا من مواقف رئاسة الأركان وقادتها تبرهن على تورطها في هذه التنظيمات الإرهابية، وضلوعها بشكل مباشر في التخطيط لها.
ومن هذه المواقف، واقعة تقديم الاستقالات الجماعية الأخيرة من كبار قادة المؤسسة العسكرية، للضغط من أجل ترقية بعض الجنرالات المتهمين بالضلوع في هذه القضايا الإرهابية، وكذلك خطاب رئيس الأركان السابق إيشيق قوشانر الذي عزا فيه استقالته إلى عجزه عن الدفاع عن الجنرالات المعتقلين. أضف إلى هذا قرار المدعي العام مؤخرا باعتقال 22 عسكريًّا من بينهم 7 جنرالات في قضية (مواقع الإنترنت) التي اشترتها رئاسة الأركان، وبثت من خلالها أخبارًا غير صحيحة لتشويه صورة حزب العدالة والتنمية وحكومته بغية تأليب الرأي العام ضده، وتحريض الشعب بعضه على بعض لتهيئة الأوضاع لتدخل العسكر بانقلاب عسكري، ما دفع المحكمة إلى إصدار قرار بضم قضية (مواقع الإنترنت) إلى قضية (التخطيط للقضاء على حزب العدالة والتنمية وحركة فتح الله غولن الإسلامية).
كل هذا يُبرز إلى أي مدى لم يعد الجيش التركي قادرًا على استغلال نفوذه والقيام بانقلاب عسكري على السلطة المدنية بأية صورة من الصور، وإلى أي درجة بات عاجزًا عن التصدي لعجلة العملية الديمقراطية التي تمضي بكل سرعة وقوة، وتدهس في طريقها كل من يحاول إيقافها.
انعكاسات محتملة على القضية الكردية في تركيا
لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إن رئاسة الأركان التركية قد نجحت على مدار الثلاثين عامًا الماضية في حربها ضد الأكراد. وحسبنا أن المشكلة الكردية تتزايد وتتفاقم يومًا بعد يوم رغم المعارك العسكرية الطاحنة التي تشنها القوات المسلحة التركية على معاقل حزب العمال الكردستاني في كل مكان؛ فبينما فشل جنرالات الجيش في تحقيق هدف "مكافحة إرهاب" حزب العمال الكردستاني، نجح الآخر في نشر قضيته وتعزيزها لدى قوى الرأي العام في تركيا وخارجها.
ويمكن أن نعزو ذلك إلى احتكار الجنرالات للملف الكردي وطبيعة التعامل معه والتي لا تخرج غالبًا عن الحل العسكري الذي يحقق للجيش هيبته ومصالحه الاقتصادية.
وعندما حاول حزب العدالة والتنمية تطبيق رؤية شاملة أعدها لحل المسألة الكردية من كافة جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لم يتزحزح الجيش عن موقفه العسكري قيد أنملة من أجل ذلك المشروع؛ فقد تبلورت الذهنية العسكرية على مدار حربها مع الأكراد على أحادية الحل العسكري، بل إن رئيس الأركان الأسبق إيلكر باشبوغ تحدث في حوار صحفي له قبل عدة أيام موصيًا خلفاءه في رئاسة الأركان بإتباع النهج ذاته، والإصرار عليه، لأنه الحل الوحيد.
ولا شك أن حركة الاستقالات الجماعية، وما أسفرت عنه نتائج التعيينات والترقيات الجديدة في المجلس العسكري الأعلى سيكون لها تأثيرها الإيجابي -بدرجة من الدرجات- على مسار الملف الكردي؛ ذلك أن الفرصة باتت مواتية لحزب العدالة والتنمية، أكثر من أي وقت مضى، لتطبيق برنامجه الشامل لحل المشكلة الكردية حلاً جذريًّا؛ بسبب أن جيلاً جديدًا من العسكريين قد تقلدوا مناصب قيادية، في مرحلة تمسك فيها القيادة السياسية بزمام الأمور، وتنفرد فيها بسلطة اتخاذ القرار بعد أن أخضعت السلطة العسكرية لإرادتها. ويمكن القول أيضا: إن الوضعية الجديدة لرئاسة الأركان التركية، بخضوعها لسلطة حكومة أردوغان، قد يكون لها تأثيرها الإيجابي أيضا في دعم توجهات السياسة الخارجية التركية ومواقفها إزاء الأوضاع المضطربة في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما في دول الجوار التركي سوريا والعراق وإيران.
إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية.. خطوات مرتقبة
ربما لم يتفق المجتمع التركي الحديث على مدار عصر الجمهورية التركية على مطلب أكثر من "مطلب ابتعاد الجيش عن ممارسة أي دور سياسي"، لاسيما بعد انتهاء فترة حكم الحزب الواحد في تركيا التي بدأت عام 1923 وانتهت عام 1946 عندما أعلن رئيس الجمهورية "عصمت إينونو" انتقال تركيا إلى نظام التعددية الحزبية.
ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع بين الجيش والسياسة في تركيا، وقام الجيش بأربعة انقلابات عسكرية من منطلق أنه الحامي لمبادئ الجمهورية التركية وعلمانيتها. وبعد كل انقلاب عسكري اعتاد الجيش أن يعزز من نفوذه داخل الحياة السياسية، ويرسخ لسلطاته داخل مؤسسات الدولة المختلفة، ويسن دستورًا جديدًا يحمي فيه مصالحه، ويؤكد فيه على دوره السياسي.
وتجلى ذلك النفوذ العسكري في آخر انقلاب عسكري عام 1997، وعُرف في الأدبيات السياسية بالانقلاب ما بعد الحداثي؛ حيث لم يستخدم الجيش فيه الآلة العسكرية، بل استخدم سلطاته الدستورية والقانونية التي خولها له دستور 1982 في كافة المؤسسات العامة والخاصة، وأملت المؤسسة العسكرية إرادتها على الحكومة المنتخبة في صورة قرارات دفعتها إليها عن طريق مجلس الأمن القومي.
ومارس الجيش نفوذا متصاعدا فرض فيه رؤيته وتوجهاته في كافة شؤون السياسة والمجتمع والاقتصاد التركي منذ انقلاب 1997 حتى وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. ولم يبدأ نفوذ الجيش في التقلص إلا من خلال عدد كبير من التعديلات الدستورية والقانونية أجراها حزب العدالة والتنمية على وضعية الجيش ودوره ومهامه.
وقد تضافرت جهود حزب العدالة والتنمية مع المراكز البحثية المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني، ورجال العلم والثقافة من أجل المضي قدمًا بخطوات أسرع في المرحلة القادمة نحو إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية بشكل تام، وأفرزت هذه الجهود خلال الأشهر القليلة الماضية خططًا ومقترحات يأخذها الآن حزب العدالة والتنمية بعين الاعتبار والدراسة لتطبيقها في المرحلة القادمة، ويمكن إيجاز هذه التوجهات في النقاط التالية:
1- المجلس العسكري الأعلى.. هيئة استشارية
يتكون المجلس العسكري الأعلى حاليا من 14 عضوًا، هم: رئيس الوزراء (مدني)، ووزير الدفاع (مدني)، واثنا عشر جنرالاً برتبة فريق من بينهم رئيس الأركان وقادة أفرع القوات المسلحة الأربعة (البرية والبحرية والجوية والأمن الداخلي وغيرهم)، ويتم اتخاذ القرار فيه بأغلبية الأصوات. والجيش ليس مسؤولاً مسؤولية سياسية عن القرارات الصادرة من المجلس، بينما تعتبر الحكومة ممثلة في عضوييها مسؤولة عن تنفيذ هذه القرارات؛ ومن ثم يقتصر دور الحكومة وأداؤها داخل هذا المجلس على تحمل مسئولية تنفيذ هذه القرارات، دون أن يكون لها أي تأثير في عملية استصدار القرارات.
وتتلخص مهام المجلس العسكري الأعلى في مناقشة الموضوعات المتعلقة بالشأن العسكري، والتصديق على قرارات ترقية العسكريين، واتخاذ القرار بشأن المزمع طردهم من الجيش لتهم أخلاقية أو لانتماءات فكرية. وتُعد قرارات هذا المجلس قطعية غير قابلة للطعن ماعدا القرارات الخاصة بالترقيات وهو حق ديمقراطي تم اكتسابه بموجب التعديلات الدستورية عام 2010م.
وتنظر حكومة العدالة والتنمية حاليًا إجراء تعديلات على بنية هذا المجلس بحيث يزداد فيه الأعضاء المدنيون من وزراء وخبراء واستشاريين، إلى حد تتحقق فيه المساواة بين المدنيين والعسكريين داخل المجلس، كما جرى في مجلس الأمن القومي. بالإضافة إلى تحويل تبعية المجلس من رئاسة الوزراء إلى وزارة الدفاع، وتحويل قيادات أفرع القوات المسلحة إلى وحدات داخل وزارة الدفاع. ومن المنتظر أن يشمل التعديل طبيعة قرارات المجلس فيتحول إلى مجلس استشاري.
أما بخصوص حركة الترقيات والتعيينات فسيتم إجراؤها وفقًا لمعايير الكفاءة والتميز بدلاً من الاستناد إلى نظام الأقدمية.
2- قيادة الأمن العام.. مؤسسة مدنية
نقل تبعية قيادة الأمن العام من رئاسة الأركان حاليًا إلى وزارة الداخلية؛ لتتحول تدريجيا إلى مؤسسة مدنية لا علاقة لها بالجيش تقوم بحفظ الأمن والنظام العام تحت مظلة الداخلية.
وينبغي التأكيد هنا على أن قيادة الأمن الداخلي "الجندرمة" التابعة لرئاسة الأركان تقوم حاليًا بمهمة الحفاظ على الأمن والاستقرار في المناطق البعيدة التي لا تخضع للسلطات المدنية في المحافظات، والتي تمثل 90% من مساحة الأراضي التركية. وهو ما يبرز مدى الانتشار العسكري في الأراضي التركية المدنية، ومدى تمتعه بسلطات لا محدودة في التعامل مع المواطنين وإدارتهم، وإخضاعهم للأحكام العسكرية.
3- إلغاء المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية
إلغاء المادة 35 من قانون الخدمة العسكرية التي تنص على أن وظيفة القوات المسلحة هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية التركية. ويعتمد قادة الجيش التركي على هذه المادة دائمًا في إضفاء المشروعية على انقلاباته العسكرية؛ حيث تخولهم الحق دستوريًّا للقيام بتدخل عسكري ضد أية حكومة أو جهة تحاول المساس بمبادئ الجمهورية التركية.
وتطالب قوى سياسية واجتماعية بتجريد الجيش التركي كذلك من أي فكر أيديولوجي، وأن يصبح جيشًا منوطا به فقط العمل العسكري ضد أعداء الوطن في الخارج بعيدًا عن أي تدخل في الحياة السياسية، أو أية وصاية على الدستور أو نظام الدولة.
4- تعديلات على وضعية المؤسسة العسكرية
إلغاء المحاكم العسكرية الإدارية العليا، واقتصار مهام القضاء العسكري على النظر في قضايا الإخلال بالنظام العسكري فقط، وإغلاق المدارس الثانوية العسكرية تمامًا. وأن تخضع ميزانية القوات المسلحة وكافة نفقاتها خضوعًا تامًّا لإشراف الجهاز المركزي للمحاسبات.
وينبغي القول هنا: إن إنهاء دور الجيش في الحياة السياسية، وتعديل وضعيته الدستورية عبر تعديلات قانونية أو دستورية أمر قد لا يمثل -وحده- ضمانة أكيده لمرابطة الجيش في ثكناته؛ فتغيير وضعية الجيش له آليتان ينبغي التأثير فيهما معا، وبشكل متزامن؛ ومن ثم تتطلب عملية التغيير، إلى جانب التعديلات التشريعية، تغييرا في الذهنية العسكرية لأجيال مختلفة في صفوف الجيش، من حيث تغيير ثقافة الفوقية العسكرية وثقافة الانقلاب العسكري المترسخة منذ عقود طويلة.
فعلى سبيل المثال ينبغي إخراج المجتمع العسكري من عزلته عن المجتمع المدني، من خلال تفكيك بنيته الفكرية ونمطياته الذهنية التليدة؛ فمن المفيد في هذا الصدد إعادة فرز المقررات الدراسية داخل المدارس والأكاديميات الحربية، وتصفيتها من المضامين الأيديولوجية الأتاتوركية؛ تلك التي تصبغ على الجيش صفة الحارس للمبادئ الجمهورية، وتُعظم من دور الجيش وتأثيره في الحياة السياسية؛ وذلك من أجل إعداد ضباط أكفاء يكرسون جهودهم وأوقاتهم لرفع كفاءة الأداء العسكري من أجل خدمة الوطن دون الشعور بالفوقية والوصاية على إرادة الشعب، ودون اعتبار التدخل العسكري في الحياة السياسية من أولويات مهامه.
وثمة حاجة ملحة، على الجانب الآخر، لأن تتضافر جهود الأكاديميين ومؤسسات المجتمع المدني من أجل إعادة تهيئة الذهنية العسكرية الموجودة حاليًا نحو الإيمان بقيم الديمقراطية الحقيقية، وحق المواطنين في فرض إرادتهم السياسية من أجل مستقبل تركي طامح للانضمام إلى الاتحاد الأوربي أو على الأقل تمثيل نموذج ديمقراطي حقيقي.
وختامًا يمكن رسم ملامح المشهد الراهن على النحو الآتي: قادة عسكريين متهمين بالضلوع في مؤامرات وقضايا تنظيمات إرهابية استهدفت الحكومة، ينتظرون أحكامًا قضائية، وحكومة عازمة عزمًا أكيدًا هذه المرة على نقل تركيا إلى ساحة ديمقراطية أرحب؛ يخضع فيها الجيش تمامًا للسلطة المدنية؛ وتنكسر فيها تمامًا ثقافة الانقلاب العسكري؛ فتتحول تركيا فيها إلى دولة ديمقراطية علمانية حقيقية.
غير أن ذلك كله لا يدفعنا إلى القول بأن عهد تدخل الجيش في السياسة قد ولَّى؛ فإن ما يمكننا الجزم به فقط، هو أن عهد الانقلابات العسكرية في تركيا بات في ذمة التاريخ، أما حق تدخل الجيش في الحياة السياسية فلا يزال مكفولاً له في دستور 1982م الحالي لحماية مبادئ الجمهورية. وما لم ينجح حزب العدالة والتنمية في سن دستور مدني جديد، فإن الديمقراطية التركية ومكتسباتها ستظل في خطر.
________________
مدير مركز القاهرة للدراسات التركية