الثورات ومستقبل النظام العربي

الثورات مست ركيزتين هامتين في النظام العربي، مصر وسوريا، تقود الأولى محور الاعتدال والثانية محور الممانعة، وسيتمخض عن ذلك نظام جديد يجمع بين ضرورات الماضي وفرص الحاضر.

201191211557612580_2.jpg

بدا "الربيع العربي" كما لو كان طوفانًا باغت النظام الإقليمي العربي، على نحو اعتبره نفر من الخبراء المسمار الأخير في نعش ذلك النظام، في حين ارتآه فريق آخر فرصة تاريخية لتفكيكه وإعادة تشكيله، أو حتى تدشين نظام إقليمي جديد ربما يختلف في الهيكل والأهداف. وفيما لم يضع الربيع العربي أوزاره بعدُ كما لم تتضح الحدود أو الأسقف التي ستتوقف عندها موجة التغيير والتحول المصاحبة له، يمكن وضع تصور مبدئي أو بلورة رؤية استشرافية، في ضوء ما هو متاح من أدوات ومعطيات، لتداعيات ذلك الربيع على مستقبل النظام الإقليمي العربي في صيغته التقليدية المتعارف عليها.

مرحلة سيولة بين عهدين

ربما يكون عصيًّا على أي باحث موضوعي التنبؤ بالشكل النهائي الذي سيكون عليه النظام الإقليمي العربي الجديد، في ظل حالة الصيرورة التي تخيم على مجمل تفاعلاته بمختلف مستوياتها واتجاهاتها، وما تستتبعه من ردود فعل مهمة ومتواصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي؛ فعلى صعيد التحولات والتفاعلات القُطرية، هناك شعوب عربية نجحت في إسقاط أنظمتها الحاكمة بدرجات متفاوتة من العمق كتونس ومصر وليبيا، في حين يمضي فريق ثان على الدرب لتحقيق ذات المطلب كاليمن وسوريا، وقد تزامن ذلك مع نجاح بعض الأنظمة العربية في احتواء نصيبها من موجة الاحتجاجات الشعبية والإفلات، ولو مرحليًّا، من الاهتزاز والتداعي عبر تبني حزمة من الإصلاحات الشاملة لاسترضاء شعوبها.

وفي حين ألقت أجواء الحذر والترقب والبطء بظلالها على مواقف وسياسات الأنظمة التي تصارع من أجل البقاء، غرقت بدورها الدول التي قطعت شوطًا طويلاً على درب التغيير -كمصر وتونس وليبيا- في إعادة ترتيب أوضاعها الداخلية أمنيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا بما يتماشى وتطلعات شعوبها وأهداف ثوراتها. فكالمعتاد، غالبًا ما لا تتصدر قضايا السياسة الخارجية سُلَّم أولويات الأنظمة والحكومات الناجمة عن ثورات أو انتفاضات شعبية خلال المراحل الانتقالية؛ إذ تستأثر الشؤون الداخلية وإعادة بناء الدولة بالاهتمام الأكبر وذلك إلى حين الانتقال من حالة الثورة إلى مرحلة الدولة بعد الانتهاء من وضع الأطر الدستورية والقانونية والمؤسسية اللازمة.

وبناء عليه، يجوز القول: إن السياسات الخارجية للعديد من الدول العربية في ظل الربيع العربي لم تتبلور بشكل مستقر ونهائي بعدُ؛ ومن ثَمَّ لا يتعدى ما يصدر عنها من سلوكيات ومواقف كونه ردود أفعال آنية على أزمات أو استجابات مرحلية للتحديات. وقد وضح ذلك جليًّا في تعاطي المجلس العسكري والحكومة الانتقالية في مصر، على سبيل المثال، مع ملفين في غاية الأهمية، هما الموقف من إيران والعلاقة مع إسرائيل. فما كاد وزير الخارجية المصري بعد سقوط نظام مبارك -نبيل العربي- يستجيب لحماسه واندفاعه ويعلن أن مصر لا تعتبر إيران عدوًّا، ولا ترى موانع جوهرية لتطبيع العلاقات معها، حتى تراجع الرجل لاحقًا ورهن مثل هذه الخطوة باعتبارات أخرى مهمة كأمن الخليج، وعدم تدخل إيران في شؤون جيرانها، وتخليها عن إستراتيجية تصدير الثورة، وهو التحول الذي أرجعه خبراء إلى ضغوط خليجية وغربية وإسرائيلية انهالت على مصر الثورة لحملها على العدول عن أي تقارب "إستراتيجي" مع إيران.

وبدرجة ما من التشابه، جاء تضارب مواقف القاهرة بشأن الرد على انتهاك مروحية عسكرية إسرائيلية مؤخرًا لمعاهدة كامب ديفيد بعبورها الحدود مع مصر، وقتلها ستة أفراد أمن مصريين على الجانب المصري منها؛ حيث تناقضت بيانات الحكومة الانتقالية ما بين "سحب" السفير المصري لدى تل أبيب أو "استدعائه" من عدمه.
 وعلى مستوى التفاعلات العربية مع المحيطين الإقليمي والدولي، تطل برأسها أهمية دور دول الجوار الجغرافي العربي كما القوى الدولية الكبرى، لاسيما أن النظام الإقليمي العربي لا يعد حاصل التفاعلات البينية لدوله فقط وإنما يشمل أيضا مجمل سياسات تلك الدول حيال محيطها الإقليمي والدولي؛ فمثلما حرصت القوى الدولية الكبرى إبان تدشين ذلك النظام قبل زهاء سبعة عقود مضت على ألا يشكل تهديدًا لمصالحها في المنطقة، التي يتصدرها أمن إسرائيل والنفط بالطبع، أو إرباكًا لحساباتها وإستراتيجياتها الكونية، تعمل اليوم بدأب حتى لا تنأى أية صيغة للنظام الإقليمي العربي، الذي من المتوقع أن ينبلج من الربيع العربي، عن هذا السياق.

أما دول الجوار العربي، التي سعى كل منها بطرق مختلفة لترويض النظام الإقليمي العربي واستئناسه بغية تعظيم استفادتها منه قدر المستطاع، سواء في نجاحاته أو إخفاقاته، فلا تألُ جهدًا الآن من أجل الاحتفاظ بغنائمها من ذلك النهج عبر المشاركة، ولو جزئيًّا، وعن بُعد وبأدوات متنوعة، في إعادة تشكيل وهندسة ذلك النظام، غير أن أي مسعى آني لتقويم مدى نجاح تلك الإستراتيجيات الإقليمية والدولية إزاء النظام العربي يبقى عملاً شائكًا ومعقدًا طالما ظلت آليات التحول القُطري الداخلي الحادة أو مؤثرات التدخل الخارجي القوية في ذلك النظام حتى الآن في طور الصيرورة ولم تصل بعد إلى صيغة مكتملة وواضحة المعالم.

ارتباك مركز "الاعتدال": مصر بعد مبارك

علامات استفهام عديدة تطرح نفسها بشأن مستقبل السمت الاستقطابي الذي خيم على النظام العربي طيلة عقود بصيغ مختلفة. وبما أن أوضاع البلدان العربية لا تزال في مرحلة سيولة، تتنوع الرؤى والتصورات في قراءة المشهد؛ فمن جهة، يمكن الادعاء بأن ربيع العرب قد يقود، لا محالة، إلى تقويض الموجتين الثانية والثالثة من السمت الاستقطابي داخل النظام العربي والمتمثلتين في نشوء محوري "الاعتدال" و"الممانعة" وكذا الصراع السني-الشيعي الممتد والذي يتخذ من سوريا الثائرة هذه الأيام مسرحًا له.

فعلى صعيد محور "الاعتدال"، شكَّل سقوط نظام مبارك، الذي كان الركن الركين لهذا المحور، صفعة قوية له، ففي حين صرح وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي السابق، بنيامين بن اليعازر، بأن مبارك كان بمثابة "كنز إستراتيجي لإسرائيل"، توحي المؤشرات الأولية للسياسة الخارجية المصرية بعد ثورة يناير/كانون الثاني برغبة لدى القاهرة في تبني منحى أقرب إلى "النمط التركي" في التعاطي مع واشنطن وتل أبيب، بمعنى اتخاذ موقع وسط بين محوري الاعتدال والممانعة التقليديين، بحيث تُقلِّص من الانصياع للضغوط الأميركية والإسرائيلية، من دون تصعيد انفعالي أو صدام مفتعل مع واشنطن وتل أبيب، مع عدم التسامح إزاء أي صلف أو تطاول إسرائيليين.

ففي أول رد فعل لمصر ما بعد مبارك على تهديدات إسرائيل لقطاع غزة، خرجت القاهرة عن صمتها وحذَّرت تل أبيب من عواقب اجتياح القطاع أو القيام بأية أنشطة عدوانية ضد الفلسطينيين، ومضت القاهرة في استضافة قادة فتح وحماس، وأنجزت اتفاقًا مبدئيًّا للمصالحة بينهما. وفيما يتصل بدول الجوار، اتسم موقف حكومة مصر الانتقالية ومجلسها العسكري حيال العلاقات مع كل من إيران وتركيا بمسحة من الانفتاح؛ حيث أبديا استعدادًا "حذرًا ومشروطًا" للتطبيع مع الأولى، في حين خطت خطوات لافتة في التقارب مع الأخرى.

وربما يصب في مجرى هذا الطرح ما كتبه المحلل الإسرائيلي شلومو شمير في صحيفة "هآرتس" يوم 22 فبراير/شباط الماضي "يتفق الجميع في الأمم المتحدة على أن عدم وجود مبارك باعتباره عاملاً معدِّلاً -يساعد على تهدئة النفوس في الأزمات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية- هو ضربة شديدة للدبلوماسية الأميركية تُضعف مكانتها باعتبارها عاملاً مؤثرًا في تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، فلطالما تدخَّل مبارك لممارسة الضغوط على الفلسطينيين للقبول بأوضاع كانوا يرفضونها". وفي ذات السياق، يرى الباحث الأميركي اليهودي هنري سيجمان رئيس مشروع الولايات المتحدة-الشرق الأوسط، أن إسرائيل قد تواجه نتيجةً للربيع العربي تحديًا وجوديًّا؛ فمن شأن تغيير النظام في مصر أن يضع حدًّا لسياسة مبارك القائمة على دعم التدليل الأميركي لإسرائيل، وأن يقوض في شكل خطير الوضع الإستراتيجي لإسرائيل بعد أن تغيرت حسابات الربح والخسارة بالنسبة لها".

كذلك، تحمل الأزمة التي تأججت مؤخرًا بين القاهرة وتل أبيب في طياتها تهديدًا مباشرًا بالإجهاز على ما تبقى مما يُسمَّى محور الاعتدال؛ ففي أول رد فعل مصري، تقدمت القاهرة باحتجاج رسمي لدى إسرائيل، التي اكتفت بالإعراب عن أسفها ولم تقدم اعتذارًا رسميًّا صريحًا، وتزامن ذلك مع احتدام جدل مصري حامي الوطيس بشأن معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، ما بين مطالبات رسمية بإعادة النظر فيها وإدخال تعديلات تسمح لمصر بتأكيد سيادتها على سيناء، وضبط الأوضاع الأمنية على الحدود مع إسرائيل، وأخرى شعبية تُلحُّ في تجميدها والرد بشكل حاسم على "العدوان الإسرائيلي" عبر وقف تصدير الغاز المصري لإسرائيل، وإغلاق سفارتها بالقاهرة، وطرد سفيرها، وتسليم القتلة لمصر.

وتحت وطأة الضغط الشعبي المتفاقم، الذي بات من الصعب تجاهله بعد أن فاقمت ثورة يناير/كانون الثاني من دور الجماهير في عملية صنع القرار على الصعيدين الداخلي والخارجي، ربما لا يجد المجلس الأعلى للقوات المسلحة كما الحكومة الانتقالية برئاسة عصام شرف مناصًا من المضي قُدمًا في إبداء شيء من التشدد حيال إسرائيل تطلعًا للاحتفاظ بثقة الجماهير فيهما.

وبقراءة مغايرة، يمكن الزعم بأن الربيع العربي قد لا يُفضي بالضرورة إلى تقويض محور الاعتدال العربي كلية وإنما من شأنه أن يُضفي تغيرًا طفيفًا على دور مصر فيه وأسلوبها في قيادته، فقد تسعى مصر ما بعد مبارك، أيًّا كانت توجهات نظامها، لإحداث حالة من التوازن بين علاقاتها ومصالحها مع الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، واعتبارات السيادة والمصالح الوطنية والقومية واسترضاء الشارع المصري من جهة أخرى.

وهو ما ظهر جليًّا في إعلان القاهرة بعد الثورة التزامها بكافة المعاهدات والاتفاقات المبرمة مع إسرائيل، وإظهار استعدادها استئناف التعاون والتنسيق مع واشنطن وتل أبيب لضبط الأوضاع الأمنية على جانبي الحدود بما يحول دون تسلل عناصر جهادية فلسطينية أو مهاجرين أفارقة غير شرعيين إلى جنوب إسرائيل عبر الأراضي المصرية، علاوة على عدم إبداء أية رغبة في وقف تصدير الغاز لإسرائيل برغم ما تكشَّف من فساد وإضرار بمصالح مصر في هذا الصدد وبرغم الضغوط الشعبية المطالبة بوقف هذا الأمر، فضلاً عن سعي القاهرة لمواصلة جهود الوساطة بين حركة حماس وإسرائيل لإتمام صفقة تسليم الجندي الإسرائيلي الأسير لدى الحركة، جلعاد شاليط، كما لم تتوقف جهود الوساطة المصرية بين إسرائيل من جانب وقيادات الفصائل الفلسطينية وممثلي الحكومة المقالة في غزة من جانب آخر لمنع تصاعد التوتر، والعودة إلى تهدئة ما قبل الأحداث الأخيرة.

ولعل طريقة إدارة المجلس العسكري وحكومة شرف لأزمة قتل الجيش الإسرائيلي ستة جنود مصريين مؤخرًا تصب في هذا المجرى؛ فرغم رصد قوات المراقبة الدولية العاملة في سيناء "أو إف إم" في تقريرها عن الأحداث مخالفتين ارتكبتهما إسرائيل عند العلامة الحدودية الدولية رقم 79 الواقعة في منطقة النقب وسط سيناء -حيث وقع الحادث- تمثلتا في اجتياز الحدود، وإطلاق الرصاص على جنود وضباط مصريين في الجانب المصري، التزم الموقف الرسمي المصري الهدوء وضبط النفس، على نحو أشادت به إسرائيل، كما اعتراه تخبط واضح ما بين سحب أو استدعاء السفير المصري لدى إسرائيل من عدمه.

تداعي محور "الممانعة": الأسد يترنح

متنوعة هي الأخرى تلك الرؤى التي يمكن من خلالها استشراف مستقبل محور الممانعة العربي؛ فمن زاوية، يمكن القول: إن انتفاضة الشعب السوري ضد نظام بشار الأسد وطريقة تعاطي ذلك الأخير معها، وردود الفعل الإقليمية والدولية على تلك الطريقة، من شأنه أن يوجه ضربة قاصمة لذلك المحور ولموقع سوريا المركزي فيه على أكثر من مستوى.

فعلى المستوى القطري، كان لإمعان الجيش السوري في مباشرة أقسى درجات القمع ضد شعبه الأعزل المطالب بالحرية، في الوقت الذي يغض الطرف عن الاحتلال الإسرائيلي للجولان، ويتخاذل عن الرد على الخروقات والانتهاكات المتكررة من جانب الطيران الإسرائيلي للأجواء والمواقع الحيوية السورية، دور محوري في تفنيد مزاعم النظام البعثي الخاصة برفع لواء المقاومة و"الممانعة" على نحو جعل منه هدفًا لمؤامرات الغرب ومخططات الصهيونية، واتهاماته للمتظاهرين بالعمالة لإسرائيل وأميركا، التي طالما اتخذ منها تكِأة لقمعهم كيما يواصل الممانعة والمقاومة اللتين يدعيهما.

ومن شأن ذلك أن يسقط من يد النظام البعثي ورقة استخدام "أدوات غير سورية" لتحقيق أهداف سياسية تتعلق ببقائه، كالسماح بفتح مكاتب للمقاومة الفلسطينية بجناحيها الوطني والإسلامي وفي مقدمتها حركتا المقاومة الإسلامية حماس والجهاد الإسلامي، وتقديم دعم سياسي ولوجيستي لحزب الله اللبناني وبعض القوى اللبنانية الأخرى، وتأسيس تحالف إستراتيجي مع إيران، وهو ما أسماه ثوار سوريا ممارسة النظام سياسة "الممانعة والمقاومة عبر آخرين" سرعان ما يتخلى عنهم إذا ما وجد في ذلك مصلحة له، على غرار ما حدث مع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1998، وما يحدث الآن مع ثوار سوريا، حينما سمح وبشكل مفاجئ لمسيرة العودة بالتوجه إلى حدود هضبة الجولان المحتلة يوم 15 مايو/أيار ثم يوم 5 يونيو/حزيران الماضيين في مسعى لتسخين جبهتها بدماء المئات من الشهداء والجرحى، ليؤكد ما ذهب إليه رامي مخلوف أحد أركان النظام السوري بأن إسرائيل لن تنعم بالأمن إذا ما تزعزع النظام السوري.

وإقليميًّا، يبدو أن إمعان النظام السوري في استخدام أقسى مستويات القمع والعنف لإجهاض انتفاضة شعبه رافضًا تبني إصلاحات حقيقية تعينه على امتصاص الغضب الشعبي وتجاوز الأزمة، قد أفضى إلى حدوث تصدعات في علاقته مع أطراف إقليمية ودولية مهمة؛ فإلى جانب تآكل رصيده لدى قطاع واسع من الشعوب والأنظمة العربية، بدأت تحالفاته مع قوى إقليمية تعرف طريقها للأفول على غرار ما يحدث الآن مع تركيا، التي تحوَّل التقارب الإستراتيجي معها إلى توتر يكاد يدنو من القطيعة بعد اهتزاز الثقة وتبادل الاتهامات بين الأسد وأردوغان، وتردد أنباء عن نية تركيا إقامة منطقة آمنة على الحدود مع سوريا، التي ردت من جانبها بزيادة عدد دورياتها العسكرية على طول الجانب السوري من الحدود.

ودوليًّا، يبدو أن دائرة الإجماع الدولي على رفض ممارسات النظام السوري ومعاقبته ومطالبته بالتنحي تتسع يومًا بعد آخر، حتى بعض الأطراف الدولية التي تربطها مصالح حيوية وعلاقات وثيقة مع نظام دمشق بما يحملها على إظهار بعض التحفظ على النهج الغربي التصعيدي في التعاطي معه كروسيا والصين والبرازيل، لم تتورع عن إبداء استيائها من ممارساته، والإعراب عن قلقها على مصيره في ظل تآكل قدرتها على مناصرته حتى النهاية.

استمرار السمت الاستقطابي: نحو محاور جديدة

لم تكن أجواء الاستقطاب الحاد داخل النظام الإقليمي العربي وليدة السنوات القليلة المنقضية وإنما هي تعود إلى سِنِي تأسيسه الأولى منذ العام 1945، غير أنها اتخذت سمتًا فجًّا في خمسينيات وستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي بين ما كان يُسمى في حينها "الأنظمة المحافظة" و"الأنظمة الثورية"، مهَّد السبيل لاندلاع صراع بين محور سعودي-أردني وآخر مصري، بين الجمهورية العربية المتحدة وإقليمها الشمالي سوريا وبين الاتحاد الهاشمي الأردني-العراقي. كما برز الصراع بين البعثين السوري والعراقي، ونشبت الحرب الإيرانية-العراقية، ونشأ تحالف سوري مع إيران، وبدأ التغلغل السوري في لبنان، واستخدام الورقة الفلسطينية بإنشاء جبهات "رفض وخلاص". وقد كانت هذه الموجة في أحد جوانبها انعكاسًا للصراع الإستراتيجي الأيديولوجي الدولي السائد وقتذاك.

ومع انتهاء الحرب الباردة وانطلاق عملية التسوية السلمية الشاملة للصراع العربي-الإسرائيلي عام 1991، بدأت موجة جديدة من الاستقطاب الحاد تجتاح النظام العربي؛ حيث شكَّلت مصر "مبارك" الركن الأساسي لمحور ما يُسمَّى "الاعتدال" الذي كان عمليًّا يمثل الواجهة العربية المقربة من السياسة الأميركية في المنطقة. ومن جهة أخرى، مثَّلت سوريا "البعث"، المتحالفة مع إيران، الركن العربي الأساسي لما يعرف بمحور "الممانعة"، وهو الذي مثَّل، كما كان يعلن، الواجهة العربية المعارضة للسياسة الأميركية والإسرائيلية.

واليوم، تكاد الأزمة السورية الحالية تدفع بالمنطقة صوب حرب إقليمية بالوكالة تكون ساحتها دمشق بين الجناح السني بقيادة السعودية وتركيا والجناح الشيعي بقيادة إيران، في الوقت الذي لا يستبعد خبراء أن تغدو دمشق أيضا ساحة للمواجهة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جانب وإيران من جانب آخر، ومنطلَقًا لإعادة هندسة المنطقة جيوإستراتيجيًّا، وإعادة صياغة العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية وفقًا لأسس واعتبارات مغايرة في ضوء التطورات الجديدة التي تعتري المنطقة هذه الأيام.

وما من شك في أن بقية الأعضاء في محوري، الاعتدال والممانعة، سواء كانت دولاً أم منظمات، سوف تتأثر بشكل كبير بسبب التغيير الجذري في موقع وطبيعة العضوين الأساسيين في هذا المحور أو ذاك؛ فمن شأن نشوء أنظمة عربية جديدة في كل من تونس ومصر وليبيا ومن بعدهم سوريا واليمن في مرحلة لاحقة عقب ثورات شعبية أطاحت بالأنظمة السابقة، أن يوجِد فرصًا مواتية داخل النظام العربي لبروز موجة استقطابية جديدة مستقبلاً أشبه بالموجة الأولى التي نشبت قبل أربعة عقود خلت بين النظم "الثورية" والنظم "التقليدية" أو "غير الثورية".

فلقد أبرزت ردود الفعل القلقة والغاضبة من قبل بعض الأنظمة التي نجت، حتى الآن، من التسونامي الثوري العربي، حيال سقوط أنظمة متحالفة معها ثم مثولها للمحاكمات الشعبية، مدى توجس الأنظمة الباقية مما يجري في ظل بقاء قلقها بشأن احتمالات انتقال عدوى السقوط إليها متأججة برغم الإجراءات الاحترازية والوقائية المتنوعة التي اتخذتها للتخندق والتمترس في مواجهة الطوفان الثوري الشعبي الجارف.

فلقد تبلور اتجاه خليجي نحو تشكيل ما يُسمَّى "كتلة الخليج الموسع"، التي تطلعت إلى ضم الأردن والمغرب إلى مجلس التعاون الخليجي، بالرغم من البعد الجغرافي والتركيبة الاجتماعية المختلفة ومن دون إخضاع نمط التعاون والاندماج السياسي والاقتصادي فيه لشرط القرب والتواصل الجغرافي، كما طرح مفكرون سياسيون خليجيون فكرة مبادرة "الكونفيدرالية الخليجية"، خصوصًا بعد اهتزاز ثقة دول الخليج في دعم واشنطن للأنظمة العربية الحليفة إثر تخليها عن أنظمة تونس ومصر وليبيا، وهو ما ولَّد شعورًا عربيًّا بالقلق والحاجة إلى صوغ إستراتيجيات وقائية تعتمد على الذات أكثر من الارتكان إلى الخارج.

لا شك أن تشكُّل "محور الخليج الموسع" قد يتجاوز الأردن والمغرب ليشمل بلدانًا أخرى، من شأنه أن يؤثر في تكوين وهيكل النظام العربي مستقبلاً، خصوصًا بعد أن أبرز ربيع العرب مدى تنامي دور دول مجلس التعاون الخليجي على مستوى التفاعلات العربية والإقليمية بشكل تجلَّى في المبادرة الخليجية لإنهاء الأزمة اليمنية، والتي صارت مرجعية أساسية وشبه وحيدة لتسوية تلك الأزمة، كما في مواقف بعض دول المجلس المؤثرة من ثورات مصر وتونس وليبيا وسوريا، والتي كان لها دور مهم في مجرياتها عبر تحريك المواقف الدولية والإقليمية الأخرى، حتى إن الرئيس الأميركي ناشد السعودية وتركيا العمل معًا لحمل الرئيس بشار الأسد على التنحي.

والواقع أن اتجاه دول مجلس التعاون الخليجي نحو مثل هذا المسعى يعكس تشظيًا واضحًا في بنية النظام العربي من خلال ميل بعض وحداته للاستعاضة عنه بتكوينات واتحادات إقليمية فرعية بديلة.
_______________
مدير تحرير مجلة الديمقراطية بمركز الأهرام

نبذة عن الكاتب