تقدم العلاقات الإسرائيلية-الصينية نموذجًا فريدًا للتحولات في العلاقات الدولية؛ إذ من الصعب توظيف أدبيات العلاقات الدولية الكلاسيكية أو أغلب النظريات المعاصرة المتداولة لتقديم تفسير متسق للتحولات التي أصابت هذه العلاقات خلال مراحل ثلاث منذ 1948 حتى الآن.
المرحلة الأولى: 1948-1956
بينما أعلنت الجامعة العربية عام 1950 اعترافها بجمهورية الصين الوطنية (تايوان) على أنها الممثل الشرعي للشعب الصيني، أعلنت إسرائيل اعترافها الدبلوماسي بجمهورية الصين الشعبية التي يقودها الزعيم الشيوعي ماوتسي تونغ؛ فإذا اعتبرنا أن الموقف العربي استجاب لمصالحه أو نتيجة ثقل دور القوى الغربية في صنع القرار السياسي العربي، فكيف نفسر الموقف الإسرائيلي؟
ورغم الاعتراف الإسرائيلي بالصين الشعبية، فإن الأمر لم يتحول إلى إقامة علاقات دبلوماسية بسبب انعكاسات الأزمة الكورية عام 1950 من ناحية، ونتيجة التحول الذي بدأ يصيب الموقف الصيني بعد مؤتمر عدم الانحياز من ناحية ثانية.
ومراجعة الإعلام الصيني خلال تلك الفترة تشير إلى أن الصين الشعبية اعتبرت أن العرب هم المعتدون على إسرائيل خلال الفترة 1948-1950، وأن "العدوان العربي على إسرائيل يتم بتحريض من بريطانيا"، كما كان الوصف السائد للرئيس عبد الناصر في هذه الفترة هو "الديكتاتور العسكري المناهض للثورة".
وإذا فسرنا الموقف الصيني في تلك الفترة بأنه للتناغم مع الموقف السوفيتي الذي كان من أوائل المعترفين بإسرائيل، إلى جانب مراهنته على أن تكون إسرائيل نموذجًا لأول دولة اشتراكية في الشرق الأوسط، فكيف نفسر الموقف الإسرائيلي الذي كان معاكسًا تمامًا للتوجهات الغربية؟
يبدو أن الإسرائيليين كانوا أكثر إدراكًا لحقيقة الواقع الصيني، وأن الصين الشعبية هي الأكثر تأهيلاً لدور دولي قادم بحكم العدد السكاني والمساحة والإرث التاريخي، وهو ما ثبتت صحته لاحقًا، وتمت إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين عام 1992.
المرحلة الثانية: 1955-1978
كان للدور الذي لعبه عبد الناصر في إنشاء حركة عدم الانحياز وتأييده لانضمام الصين للحركة، ثم تأميم مصر لقناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956، تأثير كبير في تحول الموقف الصيني بشكل متسارع إلى علاقة عدائية مع إسرائيل، وتحول عبد الناصر في الإعلام الصيني في حينها إلى "المناهض للإمبريالية والمراجعين السوفييت" (حيث بدأ الخلاف الصيني الروسي في البروز)، كما خرجت المظاهرات في بكين تأييدًا لمصر خلال العدوان الثلاثي، وأصبحت إسرائيل "مخلب الإمبريالية في المنطقة".
ورغم العداء الصيني (ماوتسي تونغ) لإسرائيل خلال تلك الفترة حتى عام 1976(وفاة ماو)، فإن إسرائيل بقيت على موقفها من تايوان لاسيما من الناحية الدبلوماسية، رغم إقامة علاقات تجارية معها، ولعل طرد تايوان من الأمم المتحدة عام 1971 (بعد مقايضة طرد تايوان من الأمم المتحدة بالتوقف الصيني عن دعم فيتنام في صفقة نيكسون-ماو المعروفة) شكَّل بداية الدليل على أن قراءة إسرائيل لمكانة الصين الشعبية على المستوى الدولي كان فيه قدر من الدقة.
المرحلة الثالثة: 1978 -الآن
شكَّلت الفترة من 1976-1978 مرحلة انتقالية في التاريخ الصيني، فبعد وفاة ماوتسي تونغ، حدث صراع على توجهات الدولة بين جناح ما عُرِف في الأدبيات الصينية بعصابة الأربعة، وتيار الإصلاح الذي كان يقوده دينغ هيساو بنغ، وهو الصراع الذي انتهى بتفوق التيار الثاني منذ المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1978، والذي أفرز أكبر تحول في الصين المعاصرة بتبني برنامج التحولات الأربعة.
ومن غير الممكن إدراك التحولات الصينية في السياسة الخارجية دون إدراك التحولات التي تركها برنامج التحديثات الأربعة (الزراعة، الصناعة، البحث العلمي، الدفاع)، وهو ما يتضح في الجوانب التالية:
1- اعتماد ميكانيزمات رأسمالية لإصلاح ما اعتبره البرنامج نقاط خلل في الاقتصاد الاشتراكي، وأبرز هذه الميكانيزمات الإقرار بدور الحافز الفردي، وتحرير التجارة الخارجية، والانفتاح أمام الاستثمار الأجنبي... الخ.
2- التغيير في بنية أشخاص السلطة من خلال التوجه نحو القيادات التكنوقراطية على حساب القيادات الأيديولوجية، ونحو الأصغر سنًّا على حساب كبار السن من بقايا القيادات الثورية أو قيادات الثورة الثقافية.
وقد كان لهذه التحولات أثرها في التحول التدريجي للسياسة الخارجية الصينية:
أ-التحول من البعد الأيديولوجي إلى نزعة براغماتية جسدها شعار تردد في الأدبيات السياسية الصينية بعد التحديثات الأربعة، وهو شعار "ليس مهمًّا لون القط، المهم أنه يصطاد الفئران".
ب-عدم الانغماس في النزاعات الحادة (مثل الشرق الأوسط)، ومحاولة تعزيز التوجهات لحل النزاعات الدولية بالطرق السلمية، لأن ذلك يخلق بيئة لانتعاش التجارة الدولية، وهو ما يعني التحول من دولة كانت تدعو إلى "ضرب الإمبريالية في كل أجزاء جسمها" على حد قول ماو، إلى دولة ذات نزعة ميركانتيلية تجعل من حجم تجارتها الخارجية الهدف المركزي لها.
لعل هذا التحول كان المدخل الذي أدركته السياسة الإسرائيلية لتعميق علاقاتها مع الصين، كما أن الصين أدركت أن هناك منافع كبرى من العلاقة مع إسرائيل، ولتفسير ذلك نتوقف عند دوافع كل من إسرائيل والصين لتطوير العلاقة بينهما.
لماذا طورت الصين علاقاتها مع إسرائيل؟
1-إدراك الصين أن تطوير علاقاتها مع إسرائيل لن يكون له أية نتائج سلبية لعلاقات الصين مع الدول العربية، نظرًا لتزايد الاعتراف العربي بشكل مباشر أو غير مباشر بإسرائيل، وانتهاء فكرة مكاتب المقاطعة العربية تقريبا. وقد تبين أن هذه النظرة الصينية كانت صحيحة؛ إذ إن علاقات الصين مع الدول العربية تتطور بشكل متسارع من ناحية، كما أنها تتطور مع إسرائيل من ناحية ثانية؛ فقد ارتفع حجم التجارة الصينية العربية من حوالي 51 مليار دولار عام 2005، إلى 109 مليار دولار عام 2009، وحوالي 70 مليارا في النصف الأول من عام 2010، كما ارتفع حجم التجارة الإسرائيلية-الصينية إلى 6.7 مليار دولار مرتفعًا عن الفترة ذاتها بحوالي الضعف.
2-الرغبة الصينية في استثمار اللوبي اليهودي في الكونجرس الأميركي بشكل خاص والنفوذ اليهودي في العالم بشكل عام؛ فمن المعروف أن المنافس التجاري والأكثر أهمية للصين هو الولايات المتحدة، وكثيرًا ما عمل الكونجرس الأميركي على استصدار قرارات تعوق العلاقات الصينية-الأميركية في قطاعات مختلفة، منها التجارية والتكنولوجية بشكل خاص.
ونظرا لإدراك الصين بأن للوبي اليهودي ثقلاً كبيرًا في صنع القرارات الأميركية، فإن تطوير العلاقة مع إسرائيل يشكِّل عاملاً لدفع إسرائيل لتوظيف علاقتها مع اللوبي اليهودي لاتخاذ قرارات لصالح الصين، أي كلما كانت العلاقات الصينية-الإسرائيلية أكثر تطورًا،كان اللوبي اليهودي في المؤسسات الأميركية أو حتى بعض الدول الأوربية أقل عداء للصين.
3-إن تطوير العلاقات بين المؤسسات التجارية والتكنولوجية ومراكز البحث العلمي الصينية مع نظيرتها الإسرائيلية، يتيح لها الوصول إلى التكنولوجيا الغربية التي يسهل على المؤسسات الإسرائيلية الوصول لها عبر فروع هذه المؤسسات الغربية في إسرائيل، بينما كثيرًا ما أُوصِدت أبواب هذه المؤسسات في وجه الصينيين، أي أن هذه العلاقة تؤدي بالصينيين بطريقة غير مباشرة للوصول للتكنولوجيا الغربية لاسيما العسكرية منها.
ولعل نظرة على العلاقات بين الطرفين خلال الفترات السابقة تعزز ما أشرنا إليه، فقد باعت إسرائيل أسلحة للصين خلال الفترة من 1984-1994 بمبلغ 7.5 مليار دولار، وشاركت 164 شركة إسرائيلية في علاقات تقنية في ميادين مختلفة مع الصين، وكانت هي المزود الثاني للصين بعد روسيا، كما كشفت الاتفاقية الصينية-الإسرائيلية عام 2000 عن تعاون في مجال الدفاع بخاصة في إنتاج طائرات بدون طيار، وهي الاتفاقية التي عطَّلتها واشنطن بعد اكتشافها، كما دفعت إسرائيل غرامة للصين بمقدار 350 مليون دولار كتعويض عن الضرر الذي لحق بها من جرَّاء إلغاء مشروع إنتاج طائرات الفالكون.
4-الرغبة الصينية في استثمار رؤوس الأموال اليهودية في العالم، من خلال جذبها إلى السوق الصيني، لاسيما أن لإسرائيل دورها في تشجيع المشروعات المشتركة بين رأس المال اليهودي والصيني.
الدوافع الإسرائيلية للعلاقة مع الصين
1- إدراك إسرائيل أن الصين واحدة من القوى الصاعدة في النظام الدولي؛ الأمر الذي يقتضي نسج علاقات مع هذه القوة وتطويرها لبناء علاقات وثيقة تجعل الصين أكثر اقترابًا من التوجهات الإسرائيلية، لاسيما في لحظات الأزمات؛ فالصين دولة نووية، وهي الأكبر في عدد السكان عالميا، ونموها الاقتصادي يشير إلى أنها ستكون حتى عام 2030 صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، ناهيك عن أنها ذات مقعد دائم في مجلس الأمن بكل ما لهذه المعطيات من آثار سياسية لا يمكن إغفالها.
نتيجة لهذه المقومات في الصين، يرى المخططون الإسرائيليون ضرورة تعميق العلاقات معها، في كل المجالات بما فيها الثقافي أيضًا، فرغم أن عدد اليهود في الصين لا يتجاوز 1500 فرد، فقد تم إنشاء جمعية الصداقة الصينية-الإسرائيلية، وتم فتح أقسام لتدريس اللغة العبرية في جامعة بكين، إلى جانب فتح فروع لتدريس اللغة الصينية في الجامعات الإسرائيلية.
2- ومن المرجح أن تكون محادثات القائد العسكري الصيني (Bingde) مع القادة الإسرائيليين خلال الأيام الماضية شملت من الناحية الصينية الرغبة في تعزيز العلاقات مع المؤسسات الصناعية الحربية الإسرائيلية، ومن الجانب الإسرائيلي الرغبة في كبح مبيعات الصواريخ من الصين لدول عربية والتي يعتقد الإسرائيليون أن بعضًا من هذه الصواريخ كان وراء تدمير البارجة الإسرائيلية من قِبَل حزب الله خلال حرب يوليو/تموز في لبنان عام 2006.
ولا شك أن مبيعات إسرائيل لبعض المنظومات الصاروخية لتايوان لمواجهة التهديدات الصينية، ثم زيارة بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي لتايوان عام 2006 وجدت رد فعل قويًّا من الإدارة الصينية.
3- يشكِّل السوق الصيني أكبر سوق في العالم (1361 مليون نسمة)؛ مما يفتح المجال أمام رؤوس الأموال والاستثمارات والمنتجات الإسرائيلية.
4- الرغبة الإسرائيلية في حشد التأييد الصيني لمواجهة ما تسميه "الإرهاب" الدولي، ونظرًا لوجود مشكلات بين الحكومة الصينية وبين مسلمي الصين في مقاطعة سينكيانغ (تركستان الشرقية) في غرب الصين (عددهم حوالي 21 مليون)، وممارسة بعض الحركات الإسلامية في هذه المنطقة نشاطات مسلحة -ولو محدودة- ضد الصين؛ فإن ذلك يفتح المجال لتعاون صيني-إسرائيلي تحت شعار مكافحة الإرهاب.
الموقف الصيني من الموضوع الفلسطيني
كان لاتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1979 والتي أيدتها الصين، أثرها الكبير في تحلل الصين من أي حرج دبلوماسي للاقتراب من إسرائيل، وجاءت اتفاقيات أوسلو ووادي عربة لتدعم هذا التوجه.
ورغم التأكيد الصيني المستمر على عدم الاعتراف بالمستوطنات الإسرائيلية في أراضي 1967، وعلى حق الفلسطينيين في دولة مستقلة على حدود 1967، ورفض التغييرات في القدس الشرقية، وعدم مقاطعة حركة حماس على غرار ما فعلته أغلب الدول الأوربية والولايات المتحدة، إلا أن الأمر يشير إلى أبعاد أخرى:
أ- وظفت الصين محادثاتها مع حركة حماس للبرهنة على أنها لا تستند في سياساتها مع الأقلية المسلمة في سينكيانغ على خلفيات دينية؛ فهي بمباحثاتها مع حماس تؤكد أنها ليست ضد الإسلام.
ب- يبدو أن الحوار من قِبل الصين مع حماس يستهدف الجذب الهادئ والتدريجي لحماس نحو دائرة المفاوضات والاعتراف بإسرائيل.
ج- تبدو بعض السياسات الصينية تجاه إسرائيل كأنها رد فعل على بعض السلوكيات الإسرائيلية السلبية، مثل: استمرار العلاقات التجارية مع تايوان، أو زيارة شخصيات حزبية أو أكاديمية إسرائيلية لها، أو استقبال إسرائيل للدلاي لاما (كما حدث عام 1994).
السيناريو المستقبلي للسياسة الصينية مع إسرائيل
يمكن اعتبار التوجهات العربية العامل الحاسم في تحديد مستقبل العلاقات الصينية-الإسرائيلية، ويبدو أن الثورات العربية المعاصرة ستجعل الصين أكثر اهتمامًا بتطور هذه الثورات؛ إذ إن التحول نحو نظم ديمقراطية في الدول العربية قد يقود لتغير في مناهج إدارة الدول العربية للصراع العربي-الصهيوني باتجاه إدارة أكثر عقلانية، وربط سلوك القوى الدولية في الصراع العربي-الصهيوني بتطور العلاقات العربية-الصينية.
أما إذ غرق الوطن العربي في حروب أهلية واضطرابات داخلية؛ فإن ذلك سيجعل المجال أكثر انفتاحًا أمام إسرائيل لتطوير علاقاتها مع الصين أكثر.
أما العوامل الأخرى، فتتمثل بشكل أساسي في العلاقات الصينية- الأميركية؛ إذ إن تطور هذه العلاقات أو توترها سينعكس سلبًا وإيجابًا على العلاقات الصينية-الإسرائيلية، وقد تكون مشكلة إعادة دمج تايوان في الصين الأم موضع توتر قادم بين بكين وواشنطن، وقد تجد إسرائيل نفسها في موضع حرج في التعامل مع أزمة من هذا النوع.
_______________
أستاذ العلاقات الدولية والدراسات المستقبلية