باكستان والجماعات المسلحة.. حروب بالوكالة

تعتمد باكستان منذ إنشائها على إستراتيجية الحرب بالوكالة، وتواجه اليوم السياسة الأميركية بهذه الإستراتيجية لرخص ثمنها وقلة تكاليفها المالية والسياسية، لكنها لا تستطيع تجاهل المطالب الأميركية حتى النهاية ومن ثم فهي مرغمة على البحث عن صيغة ما للتوافق مع واشنطن.
20111030102423930580_2.jpg

تشهد العلاقة بين واشنطن وإسلام أباد توترًا غير مسبوق بعد سنوات عشر من التحالف بينهما ضد ما يوصف بالإرهاب، وذلك في أعقاب الاتهام الأميركي لباكستان بالتعاون مع شبكة سراج الدين حقاني، ومن ذلك ما جاء على لسان رئيس هيئة الأركان الأميركية مايكل مولن الذي قال: إن شبكة حقاني "ذراع عسكرية للمخابرات الباكستانية".

كما طالب البيت الأبيض وأعضاء في الكونغرس الأميركي باكستان بقطع علاقتها مع جماعة حقاني، وأن تصنفها على أنها منظمة إرهابية، وأن تشن عملية عسكرية شاملة على شمال وزيرستان من أجل تطهيرها من هذه الجماعة بوصفها الأخطر على القوات الدولية في أفغانستان.

ولكن باكستان رفضت كل هذه المطالب وردت مباشرة باتجاه تعزيز الجبهة الداخلية من خلال عقد مؤتمر لعموم الأحزاب الباكستانية تحت رعاية رئيس الوزراء، وربما يكون هذا هو الجانب الإيجابي في الأزمة بالنسبة للباكستانيين؛ إذ إنهم -لأول مرة- يتفقون فيما بينهم على شيء وهو التصدي للسياسة الأميركية في باكستان.

سياق تاريخي.. محاولة للفهم

منذ إنشاء الدولة الباكستانية عام 1947 وإسلام أباد تعتمد إستراتيجية الحرب بالوكالة؛ فقد قامت بتحرير كشمير الباكستانية الحالية عبر ميليشيات بشتونية لتتجنب التورط في حرب شاملة مع العدو الهندي الذي لا تقوى على مواجهته، لاسيما وأن الاستقلال كان حديث العهد.

وسارت على النهج نفسه في حرب انفصال بنغلاديش عام 1971؛ حيث دعمت جماعات مسلحة، مثل: البدر والشمس وغيرهما، وتكرر الأمر نفسه معها بعد عقود في الحرب بأفغانستان ضد السوفيت والشيوعية من خلال دعمها للجماعات الأفغانية وحتى الباكستانية المقاتلة، ليمهد ذلك الطريق إلى تأسيس جماعات مسلحة كشميرية تقاتل الهند، وتجلَّى ذلك في أكثر من توتر مع الهند بدءًا من مواجهة كارغيل عام 1999 وانتهاء بهجمات مومباي عام 2008.

وتواجه باكستان اليوم السياسة الأميركية أو بعض خياراتها في المنطقة بالإستراتيجية آنفة الذكر ذاتها، أي الحرب بالوكالة لرخص ثمنها وقلة تكاليفها المالية والسياسية ونحوهما، إضافة إلى قلة تداعياتها على الدولة. وهذه الإستراتيجية فرضها أيضًا الواقع الجيوإستراتيجي لباكستان التي ترى أنها تعيش في جو من الحلفاء المشكوك بإخلاصهم، وتحديدًا الحليف الأميركي وإمكانية انقلابه عليها في أية لحظة كما حدث بعد فترة الانسحاب السوفيتي من أفغانستان عام 1989، وحينها تخلت أميركا عن باكستان رغم وقوف الأخيرة إلى جانب "المجاهدين الأفغان" ضد السوفيت، بل أكثر من ذلك فرضت واشنطن عقوبات عسكرية واقتصادية على إسلام أباد بدلاً من مكافأتها على خوضها حربًا كانت حربًا لأميركا في كثير من وجوهها.

شبكة حقاني وباكستان

تعود نسبة الشبكة إلى جلال الدين حقاني وهو في أواخر السبعينيات من عمره ويعاني من مرض عضال، ولا يقوى على قيادة الحركة الآن.

وجلال الدين حقاني أحد القادة القلائل من قادة المجاهدين السبعة الذين عارضوا التدخل الأميركي في أفغانستان، وكان يتبع القائد يونس خالص زعيم الحزب الإسلامي الذي توفي قبل سنوات، وقد التحق بحركة طالبان الأفغانية بعد أن برزت وبايع زعيمها الملا محمد عمر، وكان أبرز قائدٍ له في الشرق الأفغاني، وهذا لم يمنع حقاني من استمرار علاقاته المتميزة مع باكستان التي بدأت مع بدء الجهاد الأفغاني أواسط السبعينيات. ومع اشتداد المرض عليه سلَّم حقاني الأمر لأبنائه وبرز من بينهم ابنه الأكبر سراج الدين حقاني كأكبر القادة الذين تحدوا القوات الغربية في الشرق الافغاني، وهو يتخذ من مناطق شمال وزيرستان القبلية منطلقًا لنشاطاته وتجمعه علاقة مع باكستان، وتحديدًا مع الاستخبارات الباكستانية.

ولفهم العلاقة بين باكستان وشبكة حقاني لا بد من فهم الجوار الجغرافي بين الطرفين؛ فباكستان تعتمد في تأمين حدودها منذ إنشائها على العلاقات التي تربطها بالقبائل الأفغانية- وهو ما خبرته  خلال فترة الغزو السوفيتي لأفغانستان- حيث لعبت القبائل الأفغانية وتحديدًا جماعة جلال الدين حقاني ثم نجله سراج الدين من بعده دورًا مهمًّا في هذا الشأن؛ فكانوا بمثابة جنود لباكستان يدافعون عن حدودها بثمن مالي وبتكلفة سياسة لا تُذكر مقارنة بالتكلفة التي ستتكبدها إذا ما نشرت قواتها وجيشها هي، كما هو الأمر على حدودها مع الهند.

ويشار في هذا السياق إلى أن شبكة حقاني هي جزء لا يتجزأ من حركة طالبان الأفغانية وبالتالي لا يمكن تخصيصها بالحديث وكأنها حركة منفصلة عن طالبان، وهو ما يثير تساؤل الباكستانيين وغير الباكستانيين عن سر حديث الأميركيين عن شبكة حقاني دون الحديث عن الحركة الأم "طالبان".

ويبدو أن ما يقلق الأميركيين من حقاني هو وجوده في منطقة تعج بطالبان باكستان، من أمثال القائد الطالباني الباكستان غل بهادور الذي يقود شمال وزيرستان، بالإضافة إلى شبكة القاعدة التي يتردد أنها تنشط في تلك المنطقة وهو مدعاة لأن تتعاظم مخاوف الأميركيين أكثر فأكثر.

وجاءت هجمات المسلحين الذين يُعتقد أنهم من جماعة حقاني على السفارة الأميركية، وكذلك على مقر الاستخبارات المركزية الأميركية وسط كابول مؤخرًا لترفع نسبة التوتر في العلاقة الباكستانية-الأميركية بسبب شبكة حقاني، هذا فضلاً عن عمليات نوعية أخرى يُعتقد أن الشبكة نفذتها ضد القوات الأميركية والدولية في أفغانستان.

وقد رأت التحليلات الأميركية تماثلاً بين أساليب الهجومين الأخيرين وأسلوب مهاجمة مومباي عام 2008، في إشارة إلى أن الجهاز الأمني الباكستاني هو من درَّب الطرفين: عسكر طيبة منفذ عملية مومباي، وشبكة حقاني منفذة هجوم كابول. مع الأخذ بالاعتبار أن التوتر بين البلدين بدأ مع انفراد واشنطن بقتل زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن قرب إسلام أباد، وظهور اتهامات أميركية لباكستان بأنها متورطة في تأمين الحماية لبن لادن قرب عاصمتها.

تُقرُّ إسلام أباد بوجود علاقة لها مع شبكة حقاني، وتبررها الاستخبارات الباكستانية بأنها من أجل أهداف إيجابية وليست من أجل زعزعة الوجود الأميركي في أفغانستان. وتقول إسلام أباد: إن للشبكة أيضا علاقات مع دول أوربية وغير أوربية في إسلام أباد، وذهبت وزيرة الخارجية الباكستانية حنا رباني إلى القول: "إن شبكة حقاني كانت يومًا ما الطفل المدلل للأميركيين". ولكن بنظر البعض فإن واشنطن حين عجزت عن استمالة جماعة حقاني إلى صفها وشق حركة طالبان بدأت باتهام باكستان كونها لم تُرِد أو لم تستطع إقناع الشبكة بالانفصال عن طالبان وعقد مصالحة مع الحكم في كابول.

ويدلل الباكستانيون على عدم وجود تأثير كبير لهم على الحركة من خلال الإشارة إلى حادثة اختطاف نجل الجنرال الباكستاني طارق مجيد، الذي نُقِل إلى الشرق الأفغاني حيث تتواجد الحركة ولم تستطع إسلام أباد الإفراج عنه بعد أن طلب خاطفوه فدية تُقدَّر بـ 70 مليون روبية.

تدرك باكستان أن الورقة الأهم لها في سياستها الخارجية تتمثل في الإبقاء على علاقات طيبة وقوية  مع مجموعات مسلحة تؤمِّن لها مصالحها أو قد تتقاطع معها في المصالح، خاصة مع تزايد إحساسها بعظم خسارتها في أفغانستان مقابل تزايد النفوذين الهندي والإيراني على حساب نفوذها. وهي تدرك أن هناك مساعي أميركية لحرمانها من الحضور السياسي في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لأنها بالنسبة لواشنطن مجرد حليف عسكري وليست حليفًا سياسيًّا وهو أمر كافٍ ليقلق صناع القرار الباكستانيين، وبالتالي ستقاتل بكل ما تستطيع لضمان نفوذها في أفغانستان ما بعد الانسحاب الدولي.

وتخشى باكستان أيضًا من أن تشكِّل المطالبة الأميركية بقطع علاقتها مع شبكة سراج الدين حقاني سابقة تعطي الهند الفرصة لأن تطالبها أيضًا بقطع علاقاتها مع منظمات كشميرية ووصمها بالإرهاب، بل والمطالبة بالقضاء عليها عبر شنِّ هجمات مسلحة وفي هذا مقتل حقيقي لباكستان وسياستها في كشمير.

العلاقة بين أميركا وباكستان

إن العلاقات بين باكستان وأميركا لن تصل إلى درجة القطيعة؛ فالطرفان لا يحتملان ذلك كما لا يقويان على تحمل تداعياته، فواشنطن لديها حليف مهم ولا تستطيع أن تستغني عنه في الحرب على ما يوصف بالإرهاب التي لم تنته بعد، خصوصًا وأن واشنطن مقبلة على استحقاقات الانسحاب من أفغانستان وتسليم الأمر للقوات الأفغانية، لاسيما أنه في حال صحة التقديرات الأميركية بأن حليفة باكستان -وهي شبكة حقاني- وراء الهجمات على الأميركيين، فإن هذا سيكون أكثر مدعاة للخوف من حليف بهذه القوة والعمل على تجنب خسارته وإلا فإنه سيسبب لها الكثير من المتاعب في أفغانستان، وهو الذي يعرف الكثير من نقاط ضعف واشنطن وقوتها هناك، فضلاً عن أن هذا الحليف الباكستاني رخيص الكلفة سياسيًّا وماليًّا بخلاف أي تحالف مستقبلي قد تعقده مع دول أخرى في وسط آسيا أو الهند.

أما إسلام أباد فهي لا تقوى ماليًّا على قطع العلاقات مع واشنطن وهي التي ربطت اقتصادها منذ إنشائها على المساعدات الأميركية، وقد أدركت واشنطن ذلك تمامًا حين قدمت لها مساعدات لتسيير شؤونها وأمورها، وليس للاعتماد على نفسها كما يحدث في العلاقة مع الصين.

ولكن هذا لن يمنع باكستان -إذا ما استمرت الضغوط الأميركية- من اتباع سياسة حافة الهاوية مع واشنطن من أجل انتزاع امتيازات مالية أو سياسية ونحوهما، وهو ما تجلى في أزمتها مع المخبر الأميركي رايموند ديفيس الذي قتل أشخاصًا باكستانيين وسجنته المحكمة الباكستانية لتقوم واشنطن بالمطالبة بالإفراج عنه على أنه ديبلوماسي رغم توعد باكستان بعدم الإفراج عنه، إلا أنها عادت ورضخت مقابل امتيازات مالية أميركية.

والمراد هنا أن باكستان قد تخضع في النهاية للضغوط الأميركية ولكن ليس بالضرورة أن تكون الاستجابة بقطع علاقتها مع شبكة حقاني بقدر ما قد تكون على شكل شنِّ عمليات على شمال وزيرستان، ولكنها لن تكون جادة في استهدافها للشبكة أو في محاولة القضاء عليها.

وفي هذه الحال من المتوقع أن تلجأ باكستان إلى تقوية علاقاتها مع الصين التي أبدت استعدادها غير مرة مساعدة باكستان، وقد استقبلت هذه الأخيرة بالفعل نائب رئيس الوزراء الصيني ووزير الأمن الذي عرض على باكستان تقديم مساعدات، في إشارة قرأها المراقبون على أنها محاولة لملء الفراغ الأميركي في حال انهارت العلاقات بين الطرفين.

وتحلم الصين منذ عقود بأن تتراجع العلاقات الأميركية-الباكستانية من أجل أن تستأثر بكل إيجابيات ومنافع التحالف مع باكستان، وحرمان واشنطن من هذه الامتيازات الجيوسياسية. كما أن الصين لديها مصالح حيوية مع باكستان سواء من أجل مواجهة الخصم الهندي، أو من أجل الإطلالة على بحر العرب وميناء غوادر أو لتعزيز نفوذها في أفغانستان المقبلة.

خلاصة

لا يزال الطرفان الأميركي والباكستاني يحتاجان لبعضهما البعض في هذه المرحلة وخاصة في حربهما على الإرهاب؛ فواشنطن تحتاج مساعدة لوجستية واستخباراتية وعملياتية من باكستان ولا تقوى على التضحية بهذه العلاقة، وبالمقابل تحتاج إسلام أباد إلى مظلة أميركية في مواجهة الهند، وكذلك إلى مساعدة مالية لأن الاقتصاد الباكستاني مرتبط بنسبة كبيرة منه، بمحاربة ما يوصف بالإرهاب.

لذا فمن المستبعد أن يصل الطرفان في خلافهما إلى حد القطيعة، والراجح أن يتوصلا لصيغة توافقية بين الطرفين تتراجع باكستان بموجبها عن كبريائها أو بعضه كما حصل مع  حادثة الأميركي رايموند دايفيس، ولكن بنفس الوقت لا تضحي بموجبها بالعلاقة مع شركائها الأفغان وتحديدًا شبكة حقاني أو من في منزلتها.
__________________
أحمد الخطيب-باحث مختص بالشأن الباكستاني

نبذة عن الكاتب