العلاقات التركية مع مصر بعد الثورة: الواقع والطموحات

تحاول تركيا إقامة تحالف إستراتيجي مع مصر ما بعد الثورة، إيمانًا منها بقدرات مصر على استعادة مكانتها الإستراتيجية في المنطقة وتفعيل قواها الكامنة، ولأن مصر هي قاطرة الدول العربية الأخرى سياسيًّا وثقافيًّا، وبنهضتها ينهض الشرق الأوسط.
2011103010131397734_2.jpg

جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" لمصر وتونس وليبيا في مرحلة حرجة وحساسة تمر بها منطقة الشرق الأوسط مع اندلاع الثورات العربية في مطلع العام الجاري. وفي هذه المرحلة الانتقالية التي تشهدها الدول العربية بالمنطقة نحو إقامة نظم ديمقراطية، تسعى الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية وشرقية عديدة للمشاركة في صوغ المستقبل السياسي والاقتصادي لدول المنطقة؛ فتطرح رؤاها وإستراتيجياتها، وتُقدم دعمها المادي والفكري لقادة هذه الثورات العربية.

ولم تكن تركيا التي تسعى لأن تصبح قوة إقليمية فاعلة بمنأى عن هذا السباق؛ فمنذ الأيام الأولى للثورات العربية وتركيا تتابع عن كثب وتقرأ وتحلل مآلات الأوضاع في دول المنطقة؛ فاتخذت ردود أفعال متباينة في المستوى والسرعة تجاه كل ثورة على حدة؛ فتريثت كثيرًا إزاء الثورة التونسية، وبدا رد فعلها أكثر قوة ووضوحًا تجاه مصر، وانتهجت الحل الدبلوماسي إزاء الأوضاع في البحرين، وبدت أكثر تحفُّظًا إزاء الأوضاع في ليبيا، وحاولت بلورة رؤية مختلفة تجاه الأوضاع في سوريا.

أولاً: كيف تقيِّم تركيا الوضع الحالي في مصر

تحظى مصر بمكانة بالغة الأهمية في السياسة الخارجية التركية الجديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط؛ إذ تُعد مصر، بما تحوزه من وضعية جيوسياسية وجيوثقافية وجيواقتصادية، بالنسبة لتركيا بوابتها الرئيسية لكل من الشرق الأوسط والقارة الإفريقية. وقد بذلت الخارجية التركية جهودًا عديدة في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك من أجل توطيد العلاقات بين البلدين وتعزيزها في مجالات عديدة بُغية إقامة تحالف إستراتيجي قوي في المنطقة، بيد أن طبيعة العلاقات المصرية-الأميركية وارتباطها بالمصلحة الإسرائيلية كانت تقف دائمًا عائقًا أمام تطوير العلاقات التركية-المصرية.

وفي الأيام الأولى لاندلاع الثورة المصرية بادر رئيس الوزراء التركي أردوغان بتوجيه خطاب إلى مبارك، دعاه فيه إلى الاستجابة لمطالب شعبه. وهو خطاب عبَّر عن مكانة مصر لدى تركيا ودعمها لها في الانتقال إلى حياة ديمقراطية.

وكانت زيارة الرئيس التركي عبد الله غول إلى مصر قد تركت بصمتها على خط هذه العلاقات بين البلدين؛ إذ كان أول رئيس يزور مصر بعد الثورة ويلتقي مع قادة المجلس العسكري، ويجتمع بقادة الثورة، وزعماء الأطياف الفكرية المختلفة في مصر بمن فيهم جماعة الإخوان المسلمين.

وحملت زيارة رئيس الوزراء التركي أدروغان إلى مصر دلالة رمزية أيضًا؛ إذ إنها الزيارة الخارجية الأولى التي يقوم بها أردوغان بعد فوزه في انتخابات يونيو/حزيران الماضي، والتي تخالف العرف الدبلوماسي التركي بأن تكون أولى زيارات رئيس الوزراء إلى قبرص التركية أولاً، ثم إلى أذربيجان الشقيقة التركية؛ ومن ثَمَّ فهذه الزيارة تستبطن رسائل ودلالات عديدة في سياق تحولات وتوجهات السياسة الخارجية التركية تجاه الشرق الأوسط عامة وتجاه مصر وإسرائيل خاصة.

وحتى يتسنى لنا سبر أغوار هذه الزيارة، والوقوف على أهدافها ومراميها المتوسطة وبعيدة المدى؛ فإن من الفائدة هنا التذكير بما كتبه وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في كتابه العمق الإستراتيجي قبل أكثر من عشرة أعوام وهو الكتاب المعروف بأنه دستور السياسة الخارجية التركية الجديدة؛ حيث يقول: "لأن تركيا هي الوريث التاريخي لآخر كيان جامع، جيوسياسيًّا وجيوثقافيًّا وجيواقتصاديًّا في المنطقة؛ فعلينا اعتماد مقاربة إستراتيجية تمكِّنها من تجاوز التمزق الجيوسياسي والجيوثقافي والجيواقتصادي، وتمكنها من الإحاطة بالمنطقة بوصفها كلاًّ متكاملاً. كما يجب عليها تطبيق هذه المقاربة على مراحل ومرونة تكتيكية كافية. ومثل هذه المقاربة لن تساهم في زيادة تأثير تركيا في المنطقة فحسب، بل ستمكِّن تركيا أيضًا من الاضطلاع بدور لا يمكن إغفاله في التوازنات الدولية والتوازنات الإقليمية"*.

ثانيًا: العلاقات التركية المصرية: الأهداف الإستراتيجية

تتبنى تركيا رؤية جديدة في سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط ترتكز على توظيف عمقها الثقافي والتاريخي والسياسي لدى دول وشعوب المنطقة من أجل بناء شرق أوسط جديد قوي يمثل محور قوة جديدًا بين التكتلات العالمية. وتحاول تركيا الاستفادة من أوضاع ما بعد الثورة في مصر من أجل إقامة تحالف إستراتيجي معها؛ إيمانًا منها بقدرات مصر دولة وشعبًا على استعادة المكانة الإستراتيجية المصرية، وتفعيل قواها الكامنة. ذلك أن القيادة السياسية في تركيا تدرك تمام الإدراك أن مصر هي قاطرة الدول العربية الأخرى سياسيًّا وثقافيًّا، وأن بنهضتها ينهض الشرق الأوسط.

ويمكن تحديد أبرز الأهداف الإستراتيجية من زيارة أردوغان لمصر في النقاط التالية:

1. تصدير "الخبرة التركية"
تحاول القيادة السياسية التركية الاستفادة من الجاذبية التي يحظى بها "النموذج التركي" في العالم العربي، وهو النموذج الذي روجت له وسائل الإعلام الغربية والعربية بقوة في الأعوام الأخيرة باعتباره تيارًا ثالثًا استطاع إحداث توازن بين العلمانية والإسلام.

ورغم أن زيارة أردوغان إلى مصر تناولت الكثير من القضايا والموضوعات والاتفاقيات إلا أن حديث أردوغان عن العلمانية كان هو النقطة الأبرز التي تركت تأثيرها لدى تيارات المجتمع المصري المختلفة: الإسلامية والليبرالية واليسارية. تلك القوى التي كانت تنتظر من زيارة أردوغان الحصول على تأييد لبرامجها ومشاريعها الوطنية؛ حيث رأى كل تيار منها أنه يمثل الرؤية الأردوغانية في مصر؛ ففوجئت هذه التيارات بأن أردوغان لا يمثل التيار الإسلامي أو التيار الليبرالي أو التيار اليساري كلاًّ على حدة؛ بل يمثل كل هذه التيارات مجتمعة تحت مظلة "المشروع الوطني". وهو المشروع الذي دعا أردوغان كافة القوى السياسية والوطنية في مصر إلى تبنيه بتجاوز التمزقات الأيديولوجية والصراعات الشخصية.

وأعلن أردوغان أن دولته لا تستهدف تصدير "النموذج التركي" إيمانًا منها بأن كل دولة وحدها هي القادرة على إنتاج نموذجها الخاص، وأن تركيا يمكنها فقط تقديم يد العون إلى أصحاب المشروعات الوطنية بما تملكه من خبرات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والأمنية.

2. تعزيز النفوذ التركي في المنطقة أمام إسرائيل وإيران
شهدت العلاقات التركية-الإسرائيلية مؤخرًا توترًا متزايدًا انتهى بطرد تركيا للسفير الإسرائيلي، وتجميد العلاقات التركية مع إسرائيل في المجالات العسكرية والدفاعية، وإعلان تركيا تحريك سفنها الحربية نحو شرق البحر المتوسط متحدية بذلك الهيمنة الإسرائيلية على مياه المتوسط. وقد جاءت هذه التطورات بعد صدور تقرير الأمم المتحدة المعروف بتقرير "بالمر" بشأن الهجوم الإسرائيلي على أسطول الحرية، وهو التقرير الذي أضفى الشرعية على حصار غزة.

وفي الوقت ذاته عاشت مصر موقفًا مشابهًا مع إسرائيل بعد مقتل جنودها على الحدود، ورفض إسرائيل الاعتذار أو تحمل المسؤولية؛ فاندلعت المظاهرات الشعبية الغاضبة، واستلهمت روح الموقف التركي تجاه إسرائيل، وقامت بمحاصرة السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، وهو ما اضطر السفير الإسرائيلي إلى مغادرة مصر.

ويمكن القول: إن حالة العزلة التي تحاول تركيا فرضها على إسرائيل، خاصة بعد قيام الثورات العربية كانت واحدة من أهم الأهداف الإستراتيجية لهذه الزيارة وإن لم تُتوَّج بمعاهدات أو اتفاقات إستراتيجية في هذا المجال بين مصر وتركيا.

وكان للخطاب الذي ألقاه أردوغان في اجتماع جامعة الدول العربية بشأن الموقف التركي من إسرائيل تأثيره البالغ لدى الدول العربية وشعوبها خاصة وأنه ينطلق من القاهرة موجهًا إلى المجتمع الدولي؛ حيث أعلن أن دولته أضافت شرطًا ثالثًا لعودة العلاقات التركية-الإسرائيلية إلى سابق عهدها بالإضافة إلى شرطي الاعتذار عن قتل الأبرياء، ودفع التعويضات لأسر الشهداء الأتراك، وهو أن ترفع إسرائيل الحصار عن غزة.

ولا شك أن إطلاق هذا الشرط قد ربط حل ملف أزمة العلاقات التركية-الإسرائيلية بقضية هي من صميم الهم العربي والصراع السياسي بين العرب وإسرائيل خلال العقود الماضية؛ فتركيا تُدرك أن مفاتيح القضية الفلسطينية بما فيها حصار غزة في الأيدي المصرية فقط؛ ومن ثَمَّ كان توجه أردوغان نحو إقامة تحالف إستراتيجي -من خلال تشكيل مجلس أعلى للحوار بين مصر وتركيا- يرنو فيما يرنو إليه إلى تطويق إسرائيل في المنطقة.

وتحمل القضية الفلسطينية أهمية خاصة بالنسبة لتركيا لاسيما في الأيام الأخيرة، لدرجة أن رئيس الوزراء التركي طيب أردوغان قد تحدث عن قيام الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة دون أن يتحدث عن مشكلات تركيا الداخلية التي يأتي "الإرهاب" في مقدمتها. وفضلاً عن ذلك فإن قيام تركيا بالتنقيب عن البترول والغاز في شرق المتوسط قبالة سواحل قبرص التركية، إنما دفعت إليه دفعا لما رأته في السياسات التي ينتهجها القبارصة اليونانيون من امتداد للسياسات الإسرائيلية؛ ومن ثَمَّ تكتسب العلاقات المصرية-التركية أهمية أكبر تصب في صالح تركيا بشأن نذر حرب باردة جديدة تلوح في أفق الشرق المتوسط؛ فمصر وتركيا دولتان تتحكمان في جنوب وشمال شرق البحر المتوسط، وعليه فإن إقامة تحالف إستراتيجي بين هاتين القوتين الإقليميتين سيكون مؤثرًا في أي صراع مع القوى الدولية بشأن تقاسم مصادر البترول والغاز في هذه المنطقة.

ولا ريب أن هذا التخطيط الإستراتيجي يصب في مصلحة كلا الدولتين: مصر وتركيا، فأوضاع ما بعد الثورة في مصر تتطلب الوقوف مع حلفاء أقوياء مثل تركيا، التي تتمتع بقدر قوي من القبول لدى الشعب المصري، وتمثل لديه نموذجًا ناجحًا للتعايش بين الإسلام والعلمانية. أما تركيا فتستهدف بتبنيها القضية الفلسطينية تعزيز مكانتها الإقليمية لدى الدول العربية والإسلامية، والإمساك بأوراق ضغط في المحافل والمنتيات الدولية تحرك بها مصالحها الوطنية في عديد من قضايا النزاع الموجهة ضدها، مثل: المسألة القبرصية والأرمن والاتحاد الأوربي.

ترتكز تركيا في اقترابها من المنطقة، ومحاولتها ملأ الفراغ الإستراتيجي بها على روابطها الدينية والثقافية والاقتصادية مع دول وشعوب المنطقة؛ فكون تركيا دولة سنية يُعد سببًا قويًّا لقبولها عربيًّا وإسلاميًّا في مواجهة ما يوصف لدى بعض المراقبين "بالمد الشيعي المدعوم من إيران".

إن حالة الصراع المستتر بين تركيا وإيران على ملأ الفراغ الاسترايجي بالمنطقة في السنوات الأخيرة، قد شرع يُعبر عن نفسه بشكل أوضح بعد الثورات العربية، ولعله تجلى في الدعم الإيراني للنظام السوري، وحشد إيران لكافة قواها من أجل الإبقاء على نظام بشار الأسد خشية تحول النظام السوري إلى نظام ديمقراطي ذات أغلبية سنية، قد يحول دون استمرار النفوذ الإيراني في المنطقة.

وتتفق مصر وتركيا بكونهما حليفتين للولايات المتحدة الأمريكية في قدرتهما على الحد من النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، لهذا استهدفت هذه الزيارة التأكيد على وحدة المصالح الوطنية والإقليمية في المنطقة بين مصر وتركيا. وفي نفس السياق ليس غريباً أن تتزامن زيارة أردوغان مع تدشين تركيا اتفاقية نشر الدرع الصاروخي الأطلسي على الأراضي التركية. ورغم أن تركيا أعلنت على لسان وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو أن هذا الدرع ليس موجهًا ضد دولة بعينها سواء كانت إيران أو إسرائيل؛ إلا أن إيران تُعد أكثر الدول تخوفًا من هذا الدرع الصاروخي.

3. تعزيز التعاون الاقتصادي مع مصر
تبذل تركيا جهودًا حثيثة في اتجاه إنجاح الثورات العربية، وظهور وجوه سياسية واقتصادية جديدة تفتح آفاقًا أرحب في مجالات التعاون بينها وبين دول المنطقة؛ ومن ثم كان العامل الاقتصادي مدخلاً أساسيًّا في هذه المرحلة من أجل تعزيز التعاون مع مصر ما بعد الثورة في مرحلة إعادة البناء الاقتصادي، وتفعيل مشروعات ضخمة لتحقيق النهضة الاقتصادية لكل من تركيا والعالم العربي.

وعليه فقد اصطحب أردوغان خلال زيارته إلى مصر ستة من وزرائه وعددًا كبيرًا من المسؤولين والمستشارين السياسيين وأكثر من 250 رجل أعمال ومستثمر تركي؛ ما أضفى على الزيارة طابع الزيارة الاقتصادية في المقام الأول؛ حيث تم عقد عشر اتفاقيات للتعاون بين البلدين في مجالات الصناعة والتجارة والتعليم. كما تم الإعلان عن رفع حجم التبادل التجاري بين مصر وتركيا من 3,5 مليار دولار هذا العام إلى 5 مليارات عام 2014م لتصبح 10 مليارات عام 2015.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العامل الاقتصادي يمثل محورًا أساسيًّا في سياسة تركيا الخارجية؛ فمع توجه تركيا نحو المزيد من العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول العالم العربي خلال السنوات الخمس الأخيرة تدفقت رؤوس الأموال التركية نحو العديد من الدول العربية والإسلامية ولاسيما سوريا واليمن وليبيا ومصر والسودان. وباندلاع الثورات العربية، ووقوف تركيا إلى جانب هذه الثورات ضد أنظمتها التقليدية فقدت تركيا الكثير من استثماراتها، وتعرض رجال الأعمال والمستثمرون لنكبات واضحة جرَّاء وقوفهم إلى جانب سياسة تركيا نحو الانفتاح على العالم العربي.

وعليه يمكن القول: إن هذه الزيارة وما تبعها من زيارة أردوغان إلى تونس وليبيا كانت بمثابة "حملة تعويضات" لرجال الأعمال والمستثمرين الأتراك، وضخ المزيد من الاستثمارات التركية، فضلاً عن تعزيز النفوذ الاقتصادي في دول ما بعد الثورات في مرحلة إعادة البناء.

ثالثًا: عوائق أمام تطور العلاقات التركية-المصرية

أقدمت تركيا في السنوات الأخيرة بخطى حثيثة على إقامة شراكات وتحالفات إستراتيجية مع دول العالم العربي، كان آخرها تأسيس مجلس أعلى للحوار الإستراتيجي بين مصر وتركيا. وهو أسلوب سياسي تركي يتسم بالمبادرة والاستباقية. وتشير هذه الحركية الفائقة إلى مدى الإصرار التركي على الولوج إلى العالم العربي عبر بواباته المختلفة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.

كما أن هذا الاقتراب التركي بات يحظى بقبول متنامٍ من قبل مصر على المستويين الرسمي والشعبي على مستويات مختلفة بعد عقود من "الارتياب" في نظرة كلا الطرفين إلى بعضهما البعض، ولعل ذلك التقبل المصري للمبادرات والمشروعات التركية يرجع إلى رغبة مصر في الاضطلاع بدور رئيسي في إحداث التوازنات وصناعة السلام في الشرق الأوسط، خاصة في فترة ما بعد اندلاع الثورات في العالم العربي، وفي مواجهة التمدد الإيراني الذي استفاد من حالة الفراغ الإستراتيجي الحالية.

غير أن هذه التطورات الإيجابية التي تشهدها العلاقات التركية-المصرية حاليًا تظل رهنًا بعوامل أخرى، منها ما هو داخلي يتعلق بالطرفين المصري والتركي، وأخرى تتعلق بالمستجدات على الساحة الإقليمية والدولية.

على المستوى التركي، يمكن القول: إن السياسة الخارجية التركية الجديدة تجاه مصر تضع مصر في بؤرة اهتمامها وتكثف مشروعاتها تجاهها منذ اندلاع الثورة المصرية، غير أن استمرارية هذه الرؤية والإستراتيجية التركية مرهونة حتى الآن ببقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة؛ ذلك أنها مباديء ورؤية حزبية يصعب القول بأنها باتت جزءًا من عقيدة الخارجية التركية؛ ومن ثَمَّ يكون كل تحول طفري يجري في الداخل التركي عنصر خطر وتهديد لهذه العلاقات.

كما أن مصر ما بعد الثورة تشهد نشأة وبلورة جديدة لبنيتها السياسية في إطار مرحلة التحولات الحزبية والتطورات الأيديولوجية؛ قد تتفق أو تختلف في بعض المساحات مع النموذج التركي. وتُعد حالة عدم الاستقرار السياسي في مصر عنصرًا داخليًّا غير أنه شديد التأثير في تطوير الرؤية المصرية لسياستها الخارجية نظرًا لارتباطها بعملية الصراع بين الرؤية التقليدية ورؤى جديدة ترتكز على تحقيق المطالب الشعبية لاسيما فيما يخص العلاقات المصرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل.

ويمكن القول: إن نمو الحس القومي العربي المنغلق على نفسه في فترة ما بعد الثورة المصرية قد يؤثر سلبيًّا على سياسات التقارب التركي-المصري، لاسيما مع تكثيف تركيا لمبادراتها بقضايا الشأن العربي، وهو ما قد يفرز حالة من التخوف والقلق من ارتداد وارتجاع المكانة المصرية أمام تقدم تركيا في المنطقة.

وفيما يخص العوامل الخارجية، يأتي الملف الإسرائيلي على رأس هذه العوامل؛ حيث سيؤثر التدهور المستمر للعلاقات التركية-الإسرائيلية على العلاقات التركية مع النظام في مصر الذي يحاول بقدر استطاعته الحفاظ على حالة التوازن في علاقاته بإسرائيل في المنطقة، خاصة في هذه الفترة الحرجة التي يمر بها، مراعيًا لأقصى درجة متطلبات تحالفه مع الولايات المتحدة. غير أن كل تحسن سيطرأ على العلاقات التركية-الإسرائيلية يمكنه أن يؤثر سلبًا على الصورة التركية لدى النخبة والشعب المصري ويسحب من رصيد تركيا لديهما؛ فإن كان الملف الإسرائيلي أحد ملفات الخارجية التركية فإنه بالنسبة لمصر الملف الأبرز وقضيتها الأساسية منذ قيام الجمهورية المصرية.

رابعًا: صورة المستقبل

لقد دخلت تركيا ومصر مرحلة الحوار الإستراتيجي وقد توفرت لديهما الرغبة المشتركة لإجراء تعديلات في التوازنات بالمنطقة. ولاريب أن مصر بما لديها من خبرات في القراءة والتحليل للمؤشرات والتغيرات الإقليمية يمكنها أن تسهم بدور أساسي وقوي مع تركيا في صناعة السلام بالمنطقة وتحقيق استقرارها ونهضتها مستفيدة من ارتباطات تركيا بالمنظمات الدولية.

تحتاج تركيا إلى مصر بقدر ما تحتاج مصر إلى تركيا؛ ومن ثَمَّ يصعب الحديث عن دور تنافسي على الدور الزعامي في المنطقة؛ فكلتاهما دولتان قويتان ولهما عناصر قوة مختلفة ومتفقة على مستويات عدة يمكن لها أن تحقق لهما توازنًا في القوي يحول دون أن يطغى أيٌّ منهما على دور الآخر ومكانته.

فالشرق الأوسط حاليا أحوج ما يكون إلى الحركية التركية والخبرة المصرية من أجل إقرار السلام والعدل وتحقيق التقدم والنهضة لدول المنطقة جميعًا.
________________
د. برهان كورأوغلو-أستاذ في جامعة بهتشه شهير، إستانبول

هامش
* العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية، أحمد داود أغلو، النسخة العربية من إصدار مركز الجزيرة للدراسات والدار العربية للعلوم، ص 487

نبذة عن الكاتب