الحلف الأطلسي والدول المغاربية: توازنات جديدة

تَدَخُلُ الأطلسي في ليبيا تحكمه المصلحة قبل الاعتبارات الأخلاقية، وسيجعله نجاحه في إسقاط نظام القذافي طرفا في إعادة تشكيل التوازنات بين الدول المغاربية.
20111030104234756360_2.jpg

صوّب الحلف الأطلسي بعيد نهاية الحرب الباردة وجهه نحو جناحه الجنوبي الذي رأى فيه مصدر تهديد. لكن سرعان ما سعى لردم الهوة بإطلاق حوار في 1994 مع جيرانه المتوسطيين، وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية: المساهمة في الأمن والاستقرار في المتوسط، تحقيق تفاهم متبادل، تبديد "الصور الخاطئة" عن الحلف. وقد تمكّن إلى حد كبير من تغيير المناخ الأمني ومدركات التهديد في المنطقة، رغم أن صورته بقيت تعاني من السلبية. لكن تدخله في ليبيا، رغم الترحيب به في هذا البلد، يثير مخاوف في البلدان المغاربية على الصعيدين الرسمي والشعبي. وعلى هذا النحو يبدو أن الحلف أجهض جزءاً من التقدم الذي أحرزه لتحسين صورته. أما غياب المظاهرات الشعبية المنددة بتدخله في ليبيا فهي دلالة على كرهٍ في القذافي وليس حبا في الأطلسي.

ستكون لهذا التدخل تداعيات على العلاقات الأطلسية-المغاربية يصعب فهمها في الراهن لأنها مرهونة أيضا بتطورات محلية (في ليبيا والدول المغاربية الأخرى) وإقليمية. لكنْ مهما كانت الخلافات فإن وجود الحد الأدنى من المصالح المشتركة في ليبيا – والمتوسط والساحل – سيجعل الحلف وشركاءَه يُبقون على "شعرة معاوية" ريثما يمر الإعصار الليبي بسلام، على ألاَّ تعكر التطورات الإقليمية (فلسطين مثلا) والداخلية (الوضع في البلدان المغاربية التي لازالت في منأىً عن التغيير) الأجواء السياسية المتلبدة حاليا.

الحوار الأطلسي-المتوسطي: خدمة لمآرب الأنظمة

بعد أن كان مثار ريبة في مطلع التسعينيات أصبح الحلف يتمتع بصورة إيجابية لدى الأنظمة الحاكمة، بل إن إقامة علاقة معه أصبحت بحد ذاتها مطلبا ومكسبا بغض النظر عن مضمونها. وتطبع النرجسية السياسية العلاقة المغاربية-الأطلسية لأن الأنظمة تتبجح، بشكل أو بآخر، بإقامة علاقة مع أميركا ومع الأطلسي مدعية أنهما الشريكان المفضلان والاستراتيجيان.

هناك اعتبارات رئيسية تفسر التعاون بين الدول المغاربية والحلف:

  • أولا، وجود قناعة بأن الإرهاب ظاهرة عابرة للأوطان يمكن أن تمس أي بلد مما يحتم تعاونا دوليا للتصدي له.
  • ثانيا، حاجة الأنظمة المغاربية للظهور بمظهر المتعاون حتى تتجنب وصف دولها بالمارقة.
  • ثالثا، الاصطفاف مع السياسة الأميركية، تحت غطاء محاربة الإرهاب، يخدم أيضا مصالح داخلية محددة (تحييد الضغوطات الخارجية المحفزة للديمقراطية، خاصة وأن القوى الغربية تفضل الاستقرار على الديمقراطية، ما يسمح بقمع المعارضة الداخلية وحرمانها من أي دعم غربي).
  • رابعا، الحصول على شرعية خارجية لتغطية العجز في الشرعية الداخلية.
  • خامسا، الوقوف إلى جانب القوى والمنظمات الغربية هو خير سبيل بالنسبة للأنظمة لشرعنة سياساتها المحلية لمحاربة الإرهاب.
  • سادسا، محاولة كل طرف ربح نقاط على حساب الجار المنافس. وقد تسبب هذا في منافسة معكوسة: تنافس مغاربي بيني في الإقبال على تنازلات لأطراف غربية بدل التنافس من أجل افتكاك مكاسب إستراتيجية منها. والملاحظ أنه بالنسبة لكل الدول المغاربية المنخرطة في الحوار المتوسطي الأطلسي فإن العلاقة مع هذه الأخيرة امتداد طبيعي للعلاقة مع أمريكا.

 الدول المغاربية: سياسات أطلسية متباينة

من حيث طبيعة العلاقة مع الأطلسي، انتهجت الدول المغاربية سياسات مختلفة. فالمغرب وتونس تبنتا مبكرا توجها "أطلسيا"، أما موريتانيا فتبنت توجها مماثلا نسبيا لكن متأخرة، فيما تميزت السياسة الجزائرية بالتردد ثم بالتطوير السريع للعلاقة مع الأطلسي تحت عنوان محاربة الإرهاب. أما ليبيا القذافي فبقيت خارج كل المبادرات الإقليمية. وإذا كانت العلاقة مع الأطلسي قد تساهم في أمن تونس وموريتانيا، فإن إسهامها في أمن المغرب والجزائر غير وارد، لأن الأول يعتمد على تحالفه مع أميركا، فيما تحتفظ الثانية بعقيدة عسكرية مستقلة عن المظلات الأجنبية. ونكتفي هنا ببعض التفاصيل عن المغرب وتونس لأنهما من أكثر الدول المغاربية "أطلسيةً".

دأب المغرب على تقديم نفسه كشريك مميز للقوى الغربية. وكان اجتماع الرباط (2006) بين الحلف والدول المتوسطية، الأول من نوعه في بلد متوسطي، تأكيدا على هذا التوجه. ويشدد المغرب دائما على مساهمته في عمليات حفظ السلام في البلقان (البوسنة وكوسوفو) تحت قيادة أطلسية، فضلا عن توقيعه في 2009 على مذكرة تفاهم مع الحلف يتم بموجبها تبادل المعلومات الاستخباراتية، وكذلك مساهمته في العملية الأطلسية لمراقبة الملاحة في المتوسط، والمعنية بمحاربة الإرهاب. وقد عزز المغرب مكانته في علاقته مع القوى الغربية لمّا منحته أميركا (2004) صفة "حليف أساسي للولايات المتحدة خارج الحلف الأطلسي".

أما تونس، فنظرا لانكشافها البنيوي، اعتمدت باكرا على علاقات مميزة مع القوى الغربية. فقد حدد بورقيبة التوجهات الإستراتيجية لبلاده مصرحا في 1956 بأنه لو كان القرار قرارَه فإن تونس ستختار الحلف الأطلسي على الجامعة العربية. كما عرض تحويل قاعدة بنزرت، أين كانت ترابط قوات فرنسية، إلى قاعدة للأطلسي.

ترك هذا التوجه الأطلسي/الغربي لتونس  في عهد بورقيبة بصماته على سياسة البلاد. وعليه فإن انضمامها للحوار المتوسطي ليس إلا تأكيدا على هذا التوجه المبكر، وعلى علاقات أمنية وثيقة مع القوى والمنظمات الغربية.

الملاحظ أن الأطلسي جعل من محاربة الإرهاب حجر الزاوية في علاقاته مع الدول المغاربية، التي تشكل توافقا أساسيا بين الأطراف، لكنْ بتدخله في ليبيا يرسل إشارات متناقضة: فهو يتعاون اليوم مع جهاديين ليبيين سابقين ذوي نفوذ ضمن فصائل الثوار. هل يكرر الأطلسي "الخطيئة الإستراتيجية" التي ارتكبتها أميركا في أفغانستان؟

تدخل الحلف: الشروط الثلاثة

لكن لماذا تدخل الحلف في ليبيا فيما يعزف عن ذلك في دول عربية أخرى تعاني شعوبها من نفس القمع – لو بقينا في سياق "الربيع العربي"-؟ طبعا الخوض في تحليل الاعتبارات الإستراتيجية سيرفع الغموض عن هذا التدخل، فيما سيوضح الالتفات إلى المستلزم الأخلاقي أن الحالة الليبية – مثلها مثل حالة كوسوفو – التقى فيها المستلزم الأخلاقي بالمستلزم المصلحي.

إن الحلف يربط أي تدخل بثلاثة شروط هي: اتفاق سلام، قرار من مجلس الأمن، طلب رسمي من الأطراف المعنية. وقد صاغ الأمين العام للحلف آنذاك، شيفر، هذه الشروط بشأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. وهي صياغة موالية لإسرائيل على حساب الفلسطينيين، الطرف المتضرر من الوضع القائم ومآله. لكن هذه الشروط التقليدية ضرب بها الحلف عرض الحائط لمّا تعلق الأمر بليبيا لوجود قناعة داخله بضرورة التدخل بغض النظر عن مواقف الدول الأعضاء.

ويمكن تفسير هذا الاستعداد بحاجة الحلف لتحسين صورته في المنطقة – دعم المطلب الديمقراطي - وحجب الرؤية ولو مؤقتا عن فشله في أفغانستان، ولكن أيضا لتجديد وإعادة صياغة مسوِّغات وجوده، بالنسبة لدوله الأعضاء، خاصة في ظل الأزمة المالية الدولية.

يرى الحلف أن الحالة الليبية توفرت فيها ثلاثة شروط جعلت التدخل ممكنا بل وضروريا:

  • أولها، طلب داخلي من المعنيين أنفسهم، حيث يعتبر أن الشعب الليبي طلب المساعدة الدولية لإنقاذه من مجازر كان نظام القذافي سيقترفها في حقه لإخماد الانتفاضة الشعبية والإبقاء على نظامه (تحرك الحلف على أساس نوايا لا على أساس أدلة دامغة).
  • ثانيها، وجود شرعية دولية عبْر قرار مجلس الأمن الذي شرعن التدخل لحماية المدنيين. وبالتالي فالحلف تحرك في إطار الشرعية الأممية.
  • ثالثها، وجود مطالبة إقليمية بالتدخل، أي شرعنة إقليمية – عربية – للتدخل في ليبيا.

ودون الخوض في مناقشة هذه الشروط الثلاثة - من منظور أطلسي – يمكن مساءلتها من خلال اختبار درجة مقاومتها للواقع للتأكد من مداها وحدودها. فلنتصور مثلا أن هذه الشروط الثلاثة تتوفر مستقبلا في الحالة المغربية أو الجزائرية، فهل سيتدخل الحلف؟ الإجابة بالنفي، لأن ليبيا القذافي ضعيفة ولأن نظامها باع الأمن القومي للبلاد في سبيل أمنه: اتفاق 2003 مع القوى الغربية وافق بموجبه القذافي على نزع سلاح بلاده لاسيما في مجال بعض أنظمة الصورايخ الطويلة المدى – عدم حيازة صواريخ يفوق مداها 350 كلم – فضلا عن التخلي عن برنامجه البدائي في مجال أسلحة الدمار الشامل. وعليه فحتى لو توفرت الشروط الثلاثة فإن الحلف لن يتدخل، مما يجعل ليبيا حالة استثنائية. وحتى حالة كوسوفو لم يتوفر فيها الشرط الثاني، بمعنى أن التقاء المستلزم الأخلاقي (سواء تعلق الأمر بحماية المدنيين – تدخل إنساني – أو بدعم المطلب الديمقراطي) بالمستلزم الإستراتيجي – توفرهما في نفس الآن– يبقى حالة استثنائية.

الحلف والدول المغاربية: ما بعد ليبيا

كاد عدد المواقف حيال التدخل الأطلسي في ليبيا يتوافق وعدد الدول المغاربية. وإن كان بالإمكان تلخيصها في ثلاثة مواقف. أولها الموقف الرافض للتدخل الأجنبي في شؤون الدول وكان هذا موقف الجزائر وموريتانيا، ثانيها موقف متسامح مع التدخل بحكم العلاقة التحالفية مع قوىً غربية، أميركا تحديدا، وبالتالي جاء الرفض المبدئي المحتشم للتدخل ظاهريا فقط، وكان هذا موقف المغرب. أما الموقف الثالث فهو موقف تونس الانتقالية التي لم تعارض التدخل ولكن لم تسانده صراحة، وإن كان ميزان المساندة، كما هو في حال المغرب، ميالا للثوار.

بغض النظر عن صواب هذه المواقف من عدمه، ما يهم هو كيف سينعكس هذا التدخل الأطلسي على علاقة الحلف مع الدول المغاربية؟

يمكن رصد منحى العلاقة من خلال هذه المواقف. فالمرجح أن تسير العلاقة بين تونس والمغرب من جهة والحلف من جهة ثانية على نهجها المعتاد وقد تتدعّم كمقابل لموقفي البلدين حيال التدخل في ليبيا.

أمّا موريتانيا، فإن انكشافها وضعفها سيجعلانها تسعى للإبقاء على "شعرة معاوية" مع الحلف حتى وإن أبدى هذا الأخير نوعا من البرودة في التعامل معها. وإن كانت التجربة تشير إلى قدرة النظام الموريتاني على التأقلم. فبعد الانقلاب العسكري علق الحلف نشاطات التعاون مع موريتانيا، لكنه سرعان ما عاودها بعد انتخابات تعددية خرجت من رحم الانقلاب العسكري. فضلا عن ذلك فإن تعاون موريتانيا مع قوىً غربية (فرنسا وأميركا) في مكافحة الإرهاب والهجرة السرية وقيامها بمناولة أمنية في هذا الإطار لصالح القوى الغربية والأطلسي، يُبقي على أهميتها من منظور غربي-أطلسي، خاصة إذا اشتد عود القاعدة في الساحل بفعل الأزمة الليبية. أما ليبيا ما بعد القذافي فستكون علاقتها مع الحلف متميزة لاعتبارات لا داعي للتوقف عندها. وستنضم ليبيا إلى الحوار المتوسطي للحلف في وقت مبكر لتكون بذلك العضو الثامن في هذا الحوار الذي يضم دولا عربية متوسطية (مصر، تونس، الجزائر، المغرب) وغير متوسطية (الأردن وموريتانيا وإسرائيل). وقد بقيت ليبيا القذافي خارج هذا الحوار لحذر وتردد الحلفاء وتقلب مزاج القذافي.

على النقيض من ذلك قد تشهد العلاقة الجزائرية-الأطلسية برودة أو تعليقا ولو بشكل غير رسمي ومؤقت، ليس فقط لمعارضة الجزائر التدخل ولكن لاعتبار ذلك مصدر تهديد لأمنها القومي. فهي غير مطمئنة لوجود قوات أطلسية على حدودها الشرقية، وتبدي قلقا من انتشار رجال المخابرات الغربية وربما أفراد من القوات الخاصة الغربية في جنوب شرقي ليبيا، أي على مقربة من حدودها. كما أنها تنظر بعين الريبة إلى احتمال سماح نظام ليبيا الجديد للحلف بإقامة قواعد عسكرية على الأراضي الليبية. ومن هنا فنظرا لطبيعة العقيدة الأمنية للجزائر وللتدخل في ليبيا، فإن العلاقة بين الجزائر والحلف قد تشهد في المدى القريب، ولو لفترة وجيزة، فرملة للتعاون أو تأجيلا في تنفيذ برامج التعاون الثنائية. بيد أن العلاقة الجزائرية-الأطلسية معقدة بعض الشيء وإشاراتها متناقضة ومستعصية الفهم أحيانا.

فرغم تحفظها وتأخرها في بعض مجالات التعاون مع الأطلسي، فإن الجزائر من أكثر الدول العربية المنخرطة في الحوار مشاركة (من حيث عدد الضباط الذين ترسلهم) في برامج التكوين التي تقدمها الكلية العسكرية للحلف في روما، حيث ترسل الجزائر بانتظام ضباط جيشها للتكوين هناك. بينما لا ترسل دول، تعتبر الأكثر تعاونا مع الحلف، بعدد مماثل من الضباط للتكوين هناك.

تنافس مغاربي معكوس

ممّا سبق يمكن القول إن العلاقة مع الحلف قد تصبح، على الأقل في المدى القصير، مصدر خلاف إضافي في سجل الخلافات البينية المغاربية. فمن المرجح أن تكون ليبيا الجديدة أطلسية "حتى النخاع"، كعرفان منها وردٍ للجميل الأطلسي. ومن المرجح أن يقود هذا إلى اتجاهين متناقضين في العلاقة الأطلسية-المغاربية. أولهما احتمال دخول الدول المغاربية في منافسة معكوسة جديدة في علاقاتها مع الأطلسي – في مجال المناولة الأمنية مثلا بما في ذلك محاربة الهجرة– ذلك أن السقف العالي الذي ستضعه ليبيا الجديدة قد يجبر جيرانها على مزيد من التنازلات لخطب ود الحلف سعيا لنيل المكانة ذاتها التي تتبوؤها ليبيا الجديدة، خاصة في حال بقاء أنظمة في منأىً عن التغيير الديمقراطي. ثانيهما، تجميد العلاقة بتعليق النشاطات التعاونية أو على الأقل خفض التعاون إلى أدنى مستوياته تعبيرا عن عدم الارتياح والريبة حيال الأطلسي، خاصة وأن الرأي العام في معظم الدول المغاربية يبدي ريبة تجاه الأطلسي ونواياه. ثم لا ننسى أن موقف الرأي العام العربي حياله لا تحكمه اعتبارات وطنية محلية – أي علاقة الحلف بكل بلد – وإنما إقليمية (فلسطين، أفغانستان، العراق، ليبيا...).

والواضح أن الدول المغاربية، بمختلف توجهاتها، تُبقي على الاتصالات مع الحلف، حيث شاركت في اجتماع عقد مؤخرا في مقر الحلف ببروكسل ضم ممثلين عن وزارات الخارجية المغاربية. طبعا هذا المستوى المنخفض من التمثيل دلالة عن الحذر والتريث، لكن عدم مقاطعة هذا الاجتماع رسالة سياسية واضحة.

سياسة الحلف: تدخل انتقائي

من الأهمية بمكان التمييز هنا بين الدول المغاربية التي شهدت تغييرا، وبين تلك التي لم تتضح فيها الأمور بعد. ففي الفئة الأولى نجد تونس وليبيا (وإن كان التغيير في ليبيا عنيفا وبتدخل أجنبي)، وفي الثانية نجد الجزائر والمغرب وموريتانيا. وبما أن تغيير النظام مسألة واردة في الدول الثلاث، فإن سلوك أنظمتها حيال الحلف سيميل نحو التهدئة لتسويق المشاريع السياسية للإصلاح الذي تقول به هذه الأنظمة، لتخلف نفسها بتزكية دولية. وبحكم عجز الأطلسي عن الخوض في أكثر من مسرح عسكري في نفس الوقت واحتمالات وصول قوى مناوئة له إلى السلطة في هذه البلدان، فإنه من المرجح أن يلتزم الحذر ويكبح جماح تدخله الانتقائي.

نستنتج من هذا كله وجود مصلحة مشتركة بين الأنظمة القائمة والحلف، لتهدئة الأمور وضمان تحسّن تدريجي للوضع لا يقود حتما لتغيير الأنظمة. ثم إن إستراتيجية الحلف في ليبيا بعد القذافي تحتم عليه التهدئة. وتقوم هذه الإستراتيجية على أقلمة وتعريب – قد يُقبل في هذا الإطار على فتح مكتب اتصال له مع الجامعة العربية في بروكسل والقاهرة - إدارة مرحلة ما بعد الحرب، وهذا دعما للحلف نفسه، على أساس قناعة فحواها أن لجيران ليبيا مصلحة إستراتيجية في عدم تخبطها في فوضى عارمة، فضلا عن حاجة الحلف ودول الجوار لمحاربة تسلل القاعدة إلي ليبيا. وتقاطع المصالح هذا كفيل بإيجاد الحد الأدنى من التوافق بين معسكري الأمس، المعسكر المناوئ للتدخل والمعسكر المتدخل/المساند له. ثم لا ننسى أن الهاجس الأساسي للحلفاء هو طول أمد الحرب في ليبيا، لأن استعصاء الحسم العسكري بسرعة ليس في صالح الحلف، وتظهر التجربة أن طول أمد الصراع يقود إلى مخاض داخلي ينقلب على الحلف وعلى التحالف الذي جاء به إلى البلد المتدخَّل فيه، كما هو الشأن في أفغانستان.

لكن هذه المصلحة المشتركة قد تفقد مبررات وجودها في ثلاث حالات: قمع واسع لانتفاضات ديمقراطية في الجزائر والمغرب وموريتانيا مما يضع الحلف أمام امتحان عسير، التعفن الأمني والسياسي في ليبيا مما يجبره على الاستنجاد بدول الجوار - أي بالأنظمة غير المرغوب فيها أصلا-، انفجار الوضع في فلسطين على نمط الانتفاضات الديمقراطية العربية مما سيزيد الانتقائية الأطلسية والغربية تعقيدا.

وعليه يبقى مسار الأمور معلقاّ بسبب تعدد وتشعب الاحتمالات محليا وإقليميا. وهذا يعني أن "التحالفات" الحالية والقادمة تبقى قلقلة للغاية.

ومن هنا فإن التدخل الأطلسي في ليبيا ليس بالضرورة دلالة على تحول في سياسة الأطلسي. إن التدخل بسبب وجود القمع ليس مقنعا كما تدل على ذلك حالات عربية أخرى تعاني شعوبها من نفس الممارسات القمعية. بمعنى أن المعيار الإنساني يبقى في غاية من الانتقاء. ومن ثم فمن المرجح أن تكون الحالة الليبية استثناءً لقاعدة، قاعدة التدخل لدواعٍ إنسانية وأخلاقية (على الأقل من حيث الواجهة)، وتأكيدا لقاعدة أخرى، قاعدة التدخل الانتقائي البنيوية.

بالفعل تعد الحالة الليبية حالة استثنائية بكل المقاييس: طبيعة نظام القذافي غذت العداوة على مرّ العقود، غياب الشرعية أفقد النظام أي درع اجتماعي ووطني واقٍ، الرد بالأسلحة الثقيلة على انتفاضة شعبية، ضعف ليبيا عسكريا (لا خطر على القوات الأطلسية المتدخلة) لا يحتم الغزو البري، تضاريس ليبيا تسهل مهمة الضربات الجوية، إجماع عربي بتغطية وتعريب التدخل الدولي، المقايضة بين السعودية ودول الخليج من جهة والقوى الغربية من جهة أخرى (البحرين لنا وليبيا لكم)، الموقف الغربي المتخاذل من الانتفاضتين التونسية والمصرية والسعي لتصويب الأمور بصب جام الغضب على القذافي؛ كل هذه العوامل مجتمعة تجعل الحالة الليبية استثنائية بكل المقاييس.

ويبدو أن الأنظمة المغاربية الممانعة - للتغيير المحلي المنشأ – تراهن على الطبيعة الاستثنائية لالتقاء كل هذه الظروف في وقت واحد، لذا تبدي تصلبا حيال الداخل "المنتفض" والخارج المنادي بالتغيير السلمي. ومن ثم فإذا كان التدخل في ليبيا يبدو أيضا من الوهلة الأولى تحذيرا للأنظمة التسلطية التي تسول لها نفسها قمع شعوبها، فإن واقع الحال أن هذا المستلزم الأخلاقي لا مفعول له إذا غابت الاعتبارات الإستراتيجية وانكشاف البلد المستهدف.
____________________
عبد النور بن عنتر-خبير استراتيجي في الشؤون المغاربية

نبذة عن الكاتب