الأوراسيون قادمون..أطروحة جديدة لفلاديمير بوتين

تقدم هذه الورقة قراءة في مقترح بوتين تشكيل اتحاد أوراسي يمهد الطريق أمام الدول الأعضاء ليس فقط لتكامل اقتصادي، بل لتمكين هذه الدول من إسماع صوتها في أروقة صنع القرار الدولي، ووضع قواعد لإدارة المباراة الدولية، بما يحدد أطر وملامح المستقبل.
201111211452298734_2.jpg

في توقيت مهم للغاية، وقبل ستة أشهر من انطلاق الانتخابات الرئاسية الروسية التي سيشهدها شهر مارس/آذار 2012، قدم رئيس الوزراء الروسي، بالغ النفوذ والقوة، والمرشح الأقوى للعودة إلى مقعد الرئاسة فلاديمير بوتين، أطروحة للمستقبل السياسي لبلاده، تلك الأطروحة التي شغلت المحللين في محاولتهم الكشف عن خفايا اللغز الذي تحتويه.

ففي مقالته التي نشرتها في 4 أكتوبر/تشرين صحيفة إزفيستيا الروسية واسعة الانتشار، كشف فلاديمير بوتين عما يبدو أنه برنامجه للفترة الرئاسية المتوقعة، والقائم على مشروع تكامل سياسي يضم الجمهوريات السوفياتية السابقة، بحيث يؤدي هذا المشروع إلى خلق كيان دولي جديد متعدد الأطراف يسمى "الاتحاد الأوراسي".

يقول بوتين في أطروحته: "نقترح تشيكل نموذج من تكتل فعال من الدول، قادر على الارتقاء إلى مصاف الأقطاب الدولية العظمى في عالمنا المعاصر، تكون لديه القدرة على تشكيل حلقة وصل متينة بين أوروبا من ناحية وإقليم آسيا – المحيط الهادئ المتمتع بدينامية نابضة من ناحية ثانية".

ويصف فلاديمير بوتين هذا الهدف بالمهمة "الطموحة" و"الملهمة". وبحسب بوتين، فإن الاتحاد الأوراسي سيمهد الطريق أمام الدول الأعضاء ليس فقط لتكامل اقتصادي، بل "لتمكين هذه الدول من إسماع صوتها بوضوح في أروقة صنع القرار في المحافل الدولية، ووضع قواعد لإدارة المباراة الدولية، بما يحدد أطر وملامح المستقبل". ويعتقد بوتين أن الاتحاد الأوراسي هو بمثابة جزء مكمل للبيت الأوروبي الكبير كما يرى ضرورة بناء هذا الكيان الجديد على قيم "الحرية والديموقراطية واقتصاد السوق".

وقد طرح بوتين هذه المبادرة الجديدة في أعقاب إعلان الرئيس الروسي الحالي دميتري ميدفيدف خلال مؤتمر الحزب الحاكم "روسيا الموحدة" عن عدم نيته الترشح لفترة رئاسية جديدة. وبينما احتفت بعض وسائل الإعلام بخطوة ميدفيدف، أثار بعض المراقبين الآخرين نقاشا ساخنا حول الدوافع الحقيقية والتداعيات المترتبة على تلك الخطوة.

دوافع بوتين

ومن بين الآراء التي تستدعي الانتباه، ما ذهب إليه رئيس "معهد التنمية الحديثة" في موسكو إيغور يورغينتس، والذي يعد أحد الليبراليين الروس المدافعين صراحة وبقوة عن إعادة انتخاب دميتري ميدفيدف، ومناديا حتى اللحظة الأخيرة إلى عدم ترشح بوتين لفترة رئاسية جديدة. يرى يورغينتس أن مفهوم الاتحاد الأوراسي هو من بنات أفكار "تكتل المحافظين" داخل النخبة الروسية الحاكمة، في خطوة تُظهر مدى قوتهم مقارنة بـ "مجموعة الليبرالين" الغامضة داخل هذه النخبة. وتبعا ليورغينتس، فإن مشروع الاتحاد الأوراسي يعبر عن النجاح الذي حققه المحافظون في كسب آذان فلاديمير بوتين مقارنة بما حققه الليبراليون.

وبحسب يورغينتس، فإن "الوضع المتقلب للاقتصاد العالمي، والتشكك في مصير اقتصاد منطقة اليورو، إضافة إلى العديد من المشكلات الأخرى، كلها ساهمت في تكوين حجج اتخذها الكرملين لعدم المخاطرة بالرهان على مستقبل يقوم على مساهمة إستراتيجية روسية جادة في شراكة مع الغرب. ومن شأن تلك المشكلات التي تواجهها الدول الصناعية الكبرى أن تصب في صالح المحافظين الروس، الذين استغلوا هذا الوضع في دعم موقفهم لتقديم بديل إستراتيجي للتنمية خلال السنوات المقبلة. ويقوم هذا البديل -على نحو ما يذهب يورغينتس في مقابلة أجرتها معه مؤخرا صحيفة كومرسانت اليومية- على استعادة "المجال التقليدي للمصالح الروسية".

على أية حال، لا تنحصر أسباب تقديم أطروحة بوتين الجديدة في تزايد الشكوك حول تراجع القوة الاقتصادية للولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وذبول تأثيرهما السياسي فحسب، فالمحللون المستقلون يؤكدون على أن الاتحاد الأوراسي الجديد سيجعل من بوتين أكثر تمكنا وحرية في ممارسة دوره في بيئة سياسية خالية من التحديات. فالزعماء الذين يتصدرون المشهد السياسي في دول الاتحاد السوفياتي السابق، وهي ذاتها الدول التي يطمع بوتين في ضمها إلى الاتحاد الأوراسي، ينتمون جميعا لنفس الجيل السياسي لفلاديمير بوتين، وفي مقدمتهم نور سلطان نزارباييف في كزخستان، وإمام علي رحمانوف في طاجيكستان، وألكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا.

وغني عن البيان أنه بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991 صعد هؤلاء الزعماء الى سدة الحكم في بلادهم من بين زحمة النخب الشيوعية السابقة، وأصبحوا رؤساء لدول مستقلة. وتجمع هؤلاء الزعماء جميعا نفس الخلفيات الأيديولوجية، ويتحدثون نفس اللغة السياسية، ولديهم شكوك عميقة في حقيقة الأدوار التي يلعبها الغرب، تلك الأدوار التي يرون فيها الدول الغربية منشغلة في المقام الأول بمصالح وسياسات دلفت إلى فضاء ما بعد السوفياتية محملة بأجندات خفية. ومن ثم فإنهم يريدون أن يُسمع صوتهم دون أن تتأثر اقتصادياتهم بأي خلل من جراء ذلك، على نحو ما يرى ألكسندر ريتوف، الأستاذ في معهد موسكو للعلاقات الدولية، في مقابلة له مع قناة الجزيرة.

وفي إشارة لم تخل من بُعد رمزي، حرص فلاديمير بوتين في مقالته بصحيفة إزفيستيا على أن يبدد الشكوك، بأن يكون هذا المشروع التكاملي الجديد هادفا إلى "استعادة الاتحاد السوفيتي بطريقة أو بأخرى". ومع ذلك، حظيت هذه الإشارة باهتمام وتعليق كثير من المحللين الذين اعتبروا أن الاتحاد الأوراسي إذا ما تم تكوينه فسيكون استنساخا للاتحاد السوفياتي، مع ضبط بعض مؤشرات استقباله على موجات وقائع القرن الحادي والعشرين.

وغني عن الذكر أن فلاديمير بوتين، ذلك الضابط السابق في المخابرات السوفيتيية (كي جي بي) الذي صعد صعودا مدويا من غياهب السياسة إلى سدة السلطة قبل نحو عقد مضى، كان مغرما على الدوام بالعصر الذهبي لقوة الإمبراطورية السوفياتية، على خلاف سلفه بوريس يلتسين، الذي كان فخورا بتحطيمه للنظام الشيوعي القديم، وتفكيك الاتحاد السوفياتي.

ودون أية محاولة لإخفاء حنينه للماضي السوفياتي، ذهب بوتين ذات مرة إلى أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان "أكبر مأساة شهدها القرن العشرون". وفي واحدة من تعليقاته الأخيرة قدم السكرتير الإعلامي لفلاديمير بوتين دميتري بيسكوف تصريحا مفاجئا حين عبر عن تقديره لفترة حكم الزعيم السوفياتي الأسبق ليونيد بريجنيف،  والذي ظل محل سخرية ونقد منذ عهد البيروسترويكا، حيث اعتبر المراقبون فترة حكمه رمزا لـ "الركود" أو ما يعرف في اللغة الروسية بـ "زاستوي zastoi".

ولقد شهد عهد بريجنيف ما عرف باسم "الاشتراكية المتطورة"، التي كانت تنادي بإقامة اتحاد أخوي لا ينفصم، يجمعه عدد لا حصر له من الروابط، ويشكل كيانا سياسيا "ذا نزعة ديموقراطية مركزية".  ولم يستغرق الأمر سوى تسع سنوات بعيد موت ليونيد بريجنيف في عام 1982 إلا وانهار بشكل مدو البناء الأسري لأمم الاتحاد السوفياتي الذي زعم بريجينيف أنه اتحاد غير قابل للانفصام، وحل محله "كومونولث الدول المستقلة"، الذي جمع في عضويته الجمهوريات السوفيتية السابقة، واعتبر وسيلة لتحقيق "طلاق هادئ ومتحضر للعائلة السوفياتية".

وقد اتضح لاحقا أن فكرة كومونولث الدول المستقلة قد تعرضت لتحولات جذرية، وإعادة صياغة متتالية في أروقة الكرملين منذ أواسط تسعينات القرن العشرين، ووجدت فيها موسكو وسيلة لدعم الروابط السياسية الجديدة، وتدعيم عملية التكامل الاقتصادي بعيد انهيار النظام السوفيتي. ومع تطور مفهوم الكومونولث، أصبحت موسكو في هذا التحالف الجديد مطالبة بتأمين دور ريادي لها، تظهر معه كلاعب أساس في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي.

تجارب وحدوية سابقة

والسؤال الآن، هل يمكن القول إنه بعد مرور 20 سنة من تفكك الاتحاد السوفياتي ـ والذي تحل ذكراه في ديسمبر/كانون الأول هذه السنة، فإن فضاء ما بعد السوفياتية ما زال مكبلا بحطام مشروعات الوحدة الجامعة لدول الاتحاد السابق، والتي انطلقت واحدة تلو الأخرى، لها من الشكل رونقا ومن الجوهر جسدا ميتا؟

فالتكامل الاقتصادي داخل إطار كمونولث الدول المستقلة فقد اليوم محفزاته ودوافعه، وتحولت معه لقاءات القمم التي تجمع رؤساء دول الكومنولث الى مناسبات للاسترخاء والترف، لدرجة أصبح معها أقرب إلى ناد للحصول على أسفار ورحلات للترفيه لرؤساء دول الاتحاد، والتمتع ببعض الفعاليات والأنشطة المصاحبة، كسباقات الخيول. ولكن ذلك لا يمنع من وجود بعض الفوائد، كتوفير فرصة لرؤساء هذه الدول للالتقاء وجها لوجه، ومناقشة بعض القضايا الثنائية على هامش لقاءات تلك القمم متعددة الأطراف.

ولعل الاتحاد الجمركي الذي يجمع روسيا وبيلاروسيا وكزخستان ما يزال يعاني من اختبائه في مرحلة النسيان والإهمال، وبحلول عام 2012 تنتظر الدول الأعضاء في هذا الاتحاد خلق منطقة اقتصادية موحدة، وإن لم تكن لها عملة مشتركة.

وفي الشهور الأخيرة، حاولت موسكو جاهدة دفع الاتحاد الجمركي خطوة للأمام بضم أوكرانيا، شريكها التجاري الأكبر، في الوقت الذي كانت فيه الأخيرة غير راضية بصفقة الغاز التي تمت بين الطرفين عام 2009، والتي وقعتها عن الجانب الأوكراني رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو، والتي تقبع الآن في السجن جراء فساد تلك الصفقة التي حققت فيها مصالح لروسيا على حساب بلدها، ضمن ما عرف بـ "الأسعار التفضيلية للأصدقاء".

وبدرجة أو بأخرى، ما تزال أوكرانيا قادرة على مقاومة ضغوط الكرملين ملمحة إلى أنه ليس بوسعها قبول عضوية الاتحاد الجمركي لما قد يسببه ذلك من إثارة حفيظة الاتحاد الأوروبي الذي تسعى أوكرانيا إلى التكامل الاقتصادي معه. ومن المتوقع أنه بنهاية العام الجاري، ستوقع أوكرانيا اتفاقية الارتباط التجاري مع الاتحاد الأوروبي بما يتضمنه ذلك من اقتراب الاتفاق على تكوين منطقة تجارة حرة، والتي ينظر إليها باعتبارها الجائزة الكبرى للتكامل الأوكراني مع الاتحاد الأوروبي.

ويمكن أن يتحول الاتحاد الجمركي إلى "اتحاد الأربعة" بحلول الربيع المقبل، وذلك بعد إعلان رئيس الوزراء القيرغيزي عمر بك بابانوف مؤخرا عن نية بلاده الانضمام إلى هذا الاتحاد. وعلى أية حال،، فإنه ليس من المتوقع أن دولة صغيرة للغاية مثل قرغيزيا، محتبسة في آسيا الوسطى باقتصاد أعرج، وتعتمد على الإعانات الخارجية بشكل مفرط، يمكنها أن تقدم شيئا لتحريك ودفع ذلك الاتحاد الجمركي المتعثر.

وبالنسبة لبقية الكيانات الاتحادية الأخرى، وفي مقدمتها التجمع الاقتصادي الأورو- آسيوي، والذي يضم ست دول من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، ومنظمة تعاون شنغهاي التي تضم إلى جانب روسيا والصين أربع دول من دول آسيا الوسطى الخمس، ومنظمة اتفاقية الأمن الجماعي، فإن كل هذه المنظمات التجميعية، رغم ما يصدر عنها من تصريحات رنانة، لا تتجاوز حقيقة كونها "حبرا على ورق".

وإذا أجملنا ما سبق، يمكننا التساؤل: هل ثمة ضمان ألا تلقى الخطط الجديدة التي أعلن عنها بوتين في صياغة "الاتحاد الأوراسي" ذات المصير الذي لقيته التجمعات السابق الإشارة إليها؟

التحديات وفرص النجاح

في محاولة الإجابة على هذا السؤال، تبنى بعض الخبراء الروس نهجا يتسم بالشك تجاه الإعلان الجديد، عاقدين مقارنة بين حقبة بوتين واتحاده الأوراسي الجديد وبين حقبة بريجنيف التي اتسمت بالركود والسير وفق توجيهات الحزب الشيوعي للاتحاد السوفياتي. في المقابل أبدى خبراء آخرون تفاؤلا كبيرا تجاه أطروحة بوتين الجديدة، ولدى هؤلاء المتفائلين، فإن إزالة الحواجز الجمركية، التي يسعى إليها الاتحاد الأوراسي، ستقدم قوة دفع لتنمية التجارة والروابط الاقتصادية بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

وعلاوة على ما سبق، سيعطي هذا الاتحاد لملايين السكان ممن يعيشون في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق حرية أكبر للحركة بين دول الإقليم. وعلى نحو ما يشير ألكسندر لوكن ـ مدير مركز منظمة شنغهاي للتعاون والذي يتخذ من موسكو مقرا له ـ فإن شعوب الاتحاد الأوراسي سيتمتعون بالمزايا التي يتمتع بها نظراؤهم الأوروبيون في حركتهم الحرة داخل نطاق الشينغن.

وبحسب لوكين، فإن عضوية الاتحاد الأوراسي المقترح ستبدو لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق محققة لخيار "الكل رابح"، ففي مقابل التخلي النسبي عن قدر من السيادة السياسية الفردية سيتحقق قدر واسع من المنافع الاقتصادية بمجرد أن يحقق التكامل الاقتصادي زخمه المنتظر.

وعلى أية حال، يذهب مدير مركز التقنيات السياسية في موسكو ألكسي مكاركين إلى أنه على المدى الأبعد، فإن المشروع الأوراسي يمكن أن يواجه مشكلة أساسية تتمثل في معارضة النخب المحلية في تلك الدول من الساسة ورجال الأعمال ممن يتطلعون إلى الترابط الاقتصادي مع الغرب، فإذا هم وضعوا أسهمهم الكبرى في التكامل الاقتصادي مع روسيا فسيحول ذلك دون تكاملهم وشراكتهم مع الدول الغربية. وبحسب ما يذهب إليه مكاركين، فإن النموذج الروسي في الاقتصاد والسياسة لم يعد محل جذب واهتمام من قبل جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، على نحو ما أثبتت خبرة الخمس عشرة سنة الماضية، فزعماء هذه الدول من الجيل الذي ينتمي إليه بوتين سيفسحون عاجلا الطريق لزعماء جدد من جيل شاب من طبقة التكنوقراط ، وأولئك لا يجدون كثير إغراء في فكرة بوتين عن الاتحاد الأوراسي.

وإلى ما سبق، تضاف إشكالية أخرى تتعلق بكيفية اتساق مشروع بوتين عن الاتحاد الأوراسي مع المسار الذي تحدثت عنه موسكو كثيرا بشأن التحديث والتنمية، والذي كان علامة مميزة للخطاب السياسي للرئيس الحالي دميتري ميدفيدف. ويرى الخبراء أن الارتكان إلى إستراتيجية تنمية تقوم على التقنيات المتقدمة والتنمية الإبداعية التي أعلن عنها ميدفيدف لن تجد لها بديلا في ظل الرئاسة الجديدة المتوقعة لفلاديمير بوتين رغم أن مسار التحديث الذي أعلنه ميدفيدف مرارا هو السبيل الوحيد لضمان مكان لروسيا في نادي النخبة الذي يضم القوى الصناعية الكبرى، وهو أيضا بمثابة المخرج الوحيد لإعادة بناء الاقتصاد الروسي، الذي ما يزال يعتمد على تصدير النفط والغاز والمواد الخام.

ويحذر نفر من الخبراء من أن هدف تحديث الاقتصاد الروسي لا يمكن تحقيقه دون تعاون شامل مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان. وعلى نحو ما يتضح من استشراف المهام التي تنتظر أن تضطلع بها روسيا خلال مسار التحديث في الفترة الرئاسية المقبلة لبوتين ومشروعه الأوراسي، فمن المحتمل أن توضع مجموعة من الأولويات الخاطئة للسياسية الروسية، كما قد يقع الكرملين في خطأ "الرهان على الجواد الخاسر". فالاتحاد الأوراسي مع دول مثل بيلاورسيا وقرغيزستان أو طاجيكستان -تلك الدول التي تستجدي المساعدات الخارجية- لا يمكنه أن يقدم لروسيا ما تحتاجه بشكل ملح، وإلا تحولت هي الأخرى بدورها إلى اقتصاد متخلف في حقبة ما بعد أزمة الاقتصاد العالمي التي نحياها اليوم.

ولقد ظهرت هذه الفكرة بجلاء بين دفتي كتاب خرج للنور حديثا بعنوان "روسيا في السياسة العالمية بعد الأزمة الاقتصادية" وضعه الباحث الروسي والأكاديمي والخبير الشهير في الشؤون الخارجية سيرغيه كرتونوف، يذهب المؤلف في كتابه إلى أنه "خلال العقدين الماضيين كان الفشل هو مصير كافة مشروعات التكامل في الفضاء الجغرافي المتكون على أنقاض تفكك الاتحاد السوفيتي".

ويؤكد كرتونوف، علاوة على ما سبق، على أن كافة دول فضاء ما بعد السوفياتية والتي تدرجها روسيا في قائمة دول "المصالح الإستراتيجية" ليس من بينها دولة واحدة بوسعها تسهيل مسار روسيا نحو التحديث التقني والاقتصاد العالمي. بل على العكس، فإن روسيا -كي تعطي انطباعا بأن التكامل السياسي والاقتصادي في حقبة ما بعد السوفياتية يكتسب زخما- ستضطر إلى ضخ نفقات مالية ضخمة لترجمة هذا التكامل على أرض الواقع، وهو ما سيؤدي حتما إلى إهدار موارد وثروات روسيا، فضلا عن عرقلة مسارها نحو عملية التحديث، على نحو ما يذهب كرتونوف في كتابه.

ويدعم محللون آخرون ما ذهب إليه كرتونوف، ممن يشيرون إلى أن مشروع الاتحاد الأوراسي الذي يطرحه بوتين سيعيد في أغلب الأحوال إنتاج نموذج "الدولة الراعية – الدولة الزبونية" والذي تتبعه روسيا في علاقاتها مع جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق على مدار العقدين الماضيين.

وبحسب رئيس مركز الدراسات الأوروبية والدولية بالمدرسة العليا للاقتصاد دميتري سوسلوف، فإن الفرق الأساس بين بناء الاتحاد السوفياتي وعملية التكامل الأوراسي في فضاء ما بعد السوفياتية هو أن روسيا ليست لديها النية هذه المرة لتطبيق ذلك بوسائل قسرية لإرغام دولة ما على الانضمام للاتحاد، على نحو ما يرى سوسلوف في حوار له مع القناة الإخبارية "روسيا اليوم". ويضيف سوسلوف إلى ذلك أنه "ليس هناك من يتحدث اليوم عن استخدام القوة العسكرية على سبيل المثال ضد أوكرانيا إذا لم ترغب في المشاركة في الاتحاد الجمركي والاتحاد الأوراسي".

وعلى أية حال، لا يكمن الإشكال الأكبر في أن روسيا ستجبر شركائها "قسرا" على الانضمام للاتحاد الجديد، بل تكمن الإشكالات الحقيقية في شروط وملابسات هذه الشراكة في المستقبل. ومن المرجح أنه في الوقت الحاضر فإن فكرة الاتحاد الأوراسي ستروق لبعض زعماء جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وذلك لغرض واحد وهو أنهم سيستمرون في استدرار الدعم الروسي على نحو ما يفعلون عبر العقدين الماضيين.

وقبل فترة طويلة من إعلان أطروحة الاتحاد الأوراسي، لخص الأمر لي بوضوح بيتر لوتشنسكسي (أول رئيس لجمهورية مولدوفا المستقلة) بقوله "إذا أردت أن تحقق معي تكاملا سياسيا واقتصاديا، فعليك أن تدفع فاتورة ذلك، طالما أنك الأكبر والأكثر ثراء". ومن أسفٍ أن موسكو تدرك هذه المشاعر وتعي مدى انتشارها في جمهوريات ما بعد السوفيتية، والتي تعبر عن نفسها في المقولة الشهيرة "إذا أردت اتحادا تكامليا فعلى الرحب والسعة، لكن ادفع لنا مقابل ذلك".

وفي النهاية، يمكن القول إن المشروع الأوراسي قد يضع روسيا بوضوح في موقف المتبرع والممول، بحيث تجد نفسها في شكل من أشكال الالتزام بتصدير الغاز الطبيعي بأثمان بخسة، وتقديم منح مالية لا ترد لشركائها، وحين يحصل هؤلاء على هذه المنح فكيف لهم أن يترددوا حينئذٍ في الترحيب بشكل جديد من أشكال التكامل في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق.
__________________
سيرغيه ستروكان-كاتب ومحلل سياسي روسي

نبذة عن الكاتب