المتظاهرون في ميدان التحرير

ترى الكاتبة المصرية أميرة هويدي أنه من الوارد أن يشن الأمن المصري حملة اعتقالات واسعة النطاق على المتظاهرين حرصا على استمرارية النظام وهذا الإصرار مرشح أن يدخل مصر في نفق مظلم لن يحسمه سوى تنحى مبارك، أو المزيد من الكوارث
1_1040442_1_34.jpg







أميرة هويدي


مع كل يوم يمر على رفض الرئيس حسنى مبارك التنحي، وإصراره -رغم الاحتجاجات المستمرة منذ 25 يناير/ كانون ثاني، إضافة إلى المظاهرات المليونية الثلاثة- على البقاء في الحكم حتى انتهاء ولايته الخامسة في سبتمبر/ أيلول القادم، يزداد إصرار المتظاهرين في ميدان التحرير على موقفهم المطالب برحيله الفوري. هذا على الرغم من تنوع خلفيات هؤلاء المتظاهرين الاجتماعية، والاقتصادية ومستوى احتكاكهم العملي بالسياسية وكذلك مراحلهم العمرية التي تتراوح ما بين العشرينات إلى الأربعينات والخمسينات.


من هم هؤلاء المتظاهرون؟
عناد وعناد مضاد.. من سيستنزف الآخر؟
ماذا بعد؟


من هم هؤلاء المتظاهرون؟





يصعب تحديد نسبة الإخوان في ميدان التحرير حتى في أوقات المبيت في الميدان حيث ينخفض عدد المتظاهرين إلى أدني مستوى له. والتقدير الوحيد لحجمهم هو العدد الذي يلتف حول رموز الإخوان التي تذهب إلى المتظاهرين وتتحدث معهم، والبالغ حوالي 15% من المتظاهرين، الذين يضمون من هم خارج الجماعة بالطبع
الصامدون في ميدان التحرير منذ 28 يناير/ كانون ثاني، تلك الجمعة التي شهدت مسيرات حاشدة في القاهرة وعدة محافظات نحو ميدان التحرير (وقوبلت بعنف حاد من قوات الأمن التي قتلت في هذا اليوم وحده 150 شخصا على الأقل) يعدون بالآلاف في الليل وعشرات الآلاف بالنهار. يجمعهم هدف واحد: رحيل مبارك. لا توجد لديهم قيادة، ولا يستطيع أحد أن يدعى أنه يمثلهم نظراً لضخامة عددهم، وعدم ترابط مجموعاتهم -إن وجدت- وتباين الشرائح التي يمثلوها، والأهم، عدم انتماء الكتلة الأكبر من هؤلاء لأي تيار سياسي.


الأمر الوحيد الواضح حتى اللحظة، وحتى دخول المظاهرات يومها الـ 13، أن المزاج العام لهؤلاء شديد الراديكالية في موقفه الرافض لأي حل لا يشمل رحيل مبارك، بما في ذلك التفاوض مع أية جهة أيا كانت، لأنهم يرون أن عدم تنفيذ مطلبهم يعنى ببساطة أن الثورة بأكملها كانت دون جدوى، وأرواح شهدائها ذهبت هباء.



طغى على الإعلام المصري الرسمي مؤخراً نظرية أن جماعة الإخوان المسلمين، وهي أكبر قوى سياسية معارضة، "خطفت" مظاهرات التحرير وأنها تحركها. وهي نظرية لاقت نوعاً من الرواج لكونها تستدعى المقولة السائدة عن "البديل" السياسي للنظام الحاكم في مصر. ورغم أن الإخوان قاموا بإصدار بيان في 3 فبراير/ شباط أعلنوا فيه أن ليس لديهم تطلع للرئاسة، وأنهم متفقون مع الإرادة الشعبية علي دولة "مدنية ديمقراطية" فإنه لا يزال هاجس "الدور الإخواني" يطغى على عملية التعرف على المعتصمين في ميدان التحرير.


وبما لا شك فيه، أن الجماعة أعلنت قبل 28 يناير/ كانون ثاني أنها ستشارك في المظاهرات، لكن أعضاءها وأنصارها تاهوا في مئات الألوف ثم الملايين التي خرجت بعد ذلك. ومن الصعب تحديد نسبتهم حتى في أوقات المبيت في الميدان حيث ينخفض عدد المتظاهرين إلى أدني مستوى له. إن التقدير الوحيد لحجمهم في التحرير هو العدد الذي يلتف حول رموز الإخوان التي تذهب إلى المتظاهرين وتتحدث معهم، والبالغ حوالي 15% من المتظاهرين، الذين يضمون من هم خارج الجماعة بالطبع.


وحتى الحركات "الشبابية" التي برزت إعلاميا في السنوات الأخيرة مثل: "6 ابريل" فإنه وجدودها يكاد يكون صفرا على أرض ميدان التحرير، رغم تواجد الكثير من أعضائها به، ورغم الشهرة التي تحظى بها رموز الحركة . وينطبق الحال على حركة "كلنا خالد سعيد" التي تكونت على موقع «فيس بوك» بعد تعذيب شاب أسكندري في يونيو/ حزيران 2010 حتى الموت على يد مخبرين للشرطة. وقد تحولت المجموعة إلى موقع مهم لنشر أخبار الاحتجاجات وأشكال المعارضة المختلفة للنظام ووصل عدد أعضائها على فيس بوك حوالي نصف مليون شخص. وحتى اللحظة تروج صفحة "كلنا خالد سعيد" لأخبار المظاهرات المناهضة لمبارك رغم اختفاء أحد مؤسسي الصفحة منذ بدء المظاهرات، ويعتقد انه ربما رهن الاعتقال أو قُتل.





المقيمون في ميدان التحرير هم خليط من مدونين شباب، وعمال مصانع، وأطباء، ويسار راديكالي، وأبناء الطبقة الوسطى، وليبراليين، وإسلاميين، وأساتذة جامعيين، وصحفيين، وفنانين، وموظفين حكوميين، وعاطلين عن العمل، ومنقبات، ومحجبات، وغير محجبات، من كل الفئات العمرية
في مقابل الوجود الإخواني الصغير، والملموس بطبيعة الحال، فقد تجلى وجود "التراس" كرة القدم، وهي مجموعات شبابية -شبه متطرفة- منظمة للأندية الكروية التي تنتمي إليها، ولديها عادات وتقاليد خاصة بها للتشجيع وللوقوف إلى جانب فرقها الكروية. ويتميز هؤلاء بالجرأة الشديدة وابتكاراتهم التشجيعية، من دق الطبول ورسم أو كتابة لافتات غير تقليدية، وبرزوا في مصر خلال العامين الماضيين بعد أن تكرر اصطدامهم بالأمن عدة مرات في أحداث شغب كروية، طوروا خلالها خبرات في الكر والفر من الأمن. وكان لهؤلاء دور لافت في "معارك" التحرير وتصديهم بشكل حاد وجريء لهجوم "البلطجية" على المتظاهرين. ويعرف هؤلاء كيف يقيمون "متاريس" حماية وحرق سيارات، وإحداث فوضى في إطار تنظيمي يخدمهم.

وهكذا، فإن المقيمين في ميدان التحرير هم خليط من مدونين شباب، وعمال مصانع، وأطباء، ويسار راديكالي، وأبناء الطبقة الوسطى، وليبراليين، وإسلاميين، وأساتذة جامعيين، وصحفيين، وفنانين، وموظفين حكوميين، وعاطلين عن العمل، ومنقبات، ومحجبات، وغير محجبات، من كل الفئات العمرية. لكن الكتلة الأكبر هي لأناس عاديين من كل فئات الشعب التي خرجت للتظاهر لأول مرة ويستحيل تعريفها؛ ولهذا السبب ترفض أن يدعى أي طرف أنه يمثلها، رغم ظهور عدة مجموعات تقول إنها تتحدث باسم "شباب التحرير" أو انضمام بضعة عشرات ممن هناك إلى قوائم "لجان الحكماء" التي تتشكل من خارج التحرير، ومن قبل أطراف لم تنزل الشارع من قبل، وأغلبها لم يصطدم بالنظام أصلا. وتحولت قوائم الحكماء تلك إلى مصدر استفزازي للمتظاهرين الذين يعرضون أمنهم وحياتهم للخطر لمجرد خروجهم للاحتجاج منذ بدء المظاهرات (قتل حتى الآن أكثر من 160 إضافة إلى اختفاء أكثر من 400 يعتقد أن أغلبهم قتلوا).


من المهم تفهم حالة تشبث هؤلاء بمطلب رحيل مبارك الفوري، والحالة النفسية التي تتملكهم جراء بقائهم طوال هذه المدة في ميدان التحرير، الذي خاض حروبا حقيقة سقط خلالها قتلى وكان المعتصمون والمتظاهرون الذين يذهبون هناك يقاومون بشدة محاولات البلطجية أو أتباع النظام إخراجهم من التحرير بإلقاء المولوتوف وترعبيهم بالسلاح الأبيض والرصاص الحي الذي أصاب عدة أشخاص آخرهم صحفي مصري لقي مصرعه. وبسبب هذا المزاج، وبسبب تنوعهم وضخامة عددهم، يصرون على رفض تشكيل لجنة تمثلهم. وعندما طرح أحدهم هذه الفكرة من باب الاستعداد للتفاوض في حالة تنحى مبارك، هوجم وتعرض للضرب لا سيما أنهم يعتبرون أن كل الأحزاب التي بدأت في التفاوض مع النظام بالفعل، غير شرعية ولا تمثل سوى أصحابها. ويفسر هذا الموقف عدم اكتراثهم بنزول أمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، وهو عضو في إحدى لجان "الحكماء"، وذلك يوم 4 فبراير/ شباط.



عناد وعناد مضاد.. من سيستنزف الآخر؟





إن كان مبارك يوصف بالـ"عنيد"، فهؤلاء الشباب يظهرون عناداً مضاداً أشد ويقولون إنه يزداد صلابة كل يوم. ومع ذلك، تتطور أساليبهم يوم بيوم. ففكرة قداس الأحد في 6 فبراير/ شباط جاءت بمثابة تصادف هذا اليوم مع الأحد، ثم تطورت كموقف سياسي يسعى لدحض الادعاء أن المتظاهرين في التحرير من الإخوان
يظل الحشد للتظاهر المليوني الوسيلة الوحيدة التي يرى المتظاهرون بالتحرير أنها قد تحقق مطلبهم، بعد أن تيقنوا أن "القوة الفاعلة" من الشعب منحازة إليهم بشكل طبيعي، وأن عدد هؤلاء بالملايين، بدليل خروج هذه العدد للتظاهر ثلاث مرات خلال 11 يوما. وليس واضحاً بعد كيف سيطور المتظاهرون من أساليبهم لممارسة المزيد من الضغط لتحقيق هدفهم، سوى التجمع بأعداد كبيرة في ميدان التحرير. صحيح أن المظاهرة المليونية الثالثة (الجمعة 4 فبراير/ شباط) اختلفت عن الجمعة التي سبقتها بأنها تمحورت حول الصلاة في الميدان نفسه لأول مرة، وأن قداسا سيعقد في المظاهرة المليونية الرابعة (الأحد 6 فبراير/ شباط) ، إلا أن مساحة تحركهم لا تزال متمركزة في التحرير الذي، وأن لم يحقق المرجو منه بعد، يظل "احتلاله" أداة ضغط في حد ذاتها لكونه قلب وسط القاهرة وعصبه، وطالما استمروا في شل حركته المرورية فسيظل وجودهم هناك شوكة موجعة في حلق النظام.

و في غياب التخطيط الاستراتيجي المستقبلي للمعتصمين -كونهم بلا قيادة- تُطَور ديناميكيات عملهم يوم بيوم بشكل عفوي. فعندما فشلوا في إجبار الرئيس مبارك على التنحي في 1 فبراير/ شباط، أعلنوا عن مظاهرة مليونية لـ «جمعة الرحيل» 4 فبراير/ شباط، وعندما لم تحقق هدفها، تطور الأمر إلى الإعلان عن ثلاث مظاهرات في «أسبوع الصمود» الأحد 6 فبراير/ شباط، والثلاثاء 8 فبراير/ شباط والجمعة 11 فبراير/ شباط.


من المهم ملاحظة أن تلك الآلاف بميدان التحرير لم تجلس وتجتمع لتقرر هذه التواريخ. كل ما في الأمر أن بعضهم أو أحدهم تحدث للإعلام -الملهوف أصلا- معبراً عن فكرته تلك، فنقلته المحطات أو قناة فضائية كبيرة، ليصبح واقعاً يتعرف عليه ويلتزم به الآلاف المعتصمون بالميدان. أي أن آلية القرارات وتنفيذها عفوية، تقوم على اللحظة وتعتمد على النشر الإعلامي الواسع لتحقيقها. وهذه الدينامكية مهمة للتعرف على طبيعة اتخاذ القرار في هذه المرحلة الفيصلية والهامة في تاريخ مصر. فحتى الآن، وقود الثورة مستمد من تلك الطاقة الجماعية الغاضبة.


يبدو أن النظام يراهن على تبدد طاقة هؤلاء، وقصر نفسهم، لإنهاء مشهد التحرير الذي يراقبه العالم دقيقة بدقيقة. في المقابل، يرى المتظاهرون، وتحديداً المعتصمون، أن استمرارهم مسالة محسومة، وغير قابلة للتفاوض قبل رحيل مبارك. ويدركون أن هذا الوضع يزيد من تعقيد الأمور على الجميع، بما في ذلك هم أنفسهم والنظام. ولكن إن كان مبارك يوصف بالـ"عنيد"، فهؤلاء الشباب يظهرون عناداً مضاداً أشد ويقولون إنه يزداد صلابة كل يوم. ومع ذلك، تتطور أساليبهم يوم بيوم. ففكرة قداس الأحد في 6 فبراير/ شباط جاءت بمثابة تصادف هذا اليوم مع الأحد، ثم تطورت كموقف سياسي يسعى لدحض الادعاء أن المتظاهرين في التحرير من الإخوان. ويفكر بعضهم الآن في طرق أخرى لتفعيل ضغطهم، منها دراسة القيام بمسيرات لم يتحدد بعد خطوط سيرها.



ماذا بعد؟


"يجب أن يرحل"، هكذا يقولون، لكنه لا يرحل. إن الموقف يزداد خطورة لأنه يدخل مصر في مرحلة عدم استقرار أسوأ كثيراً من الأسبوع الأول للتظاهر. ففي حالة استمرار مبارك في البقاء، ونجاح الأمن في كسب المعركة مع المتظاهرين، من سيتولى الحكم بعد ذلك ستظل شرعيته مجروحة لأن الجانبين -المتظاهرين والنظام- مصرون كل منهم على استنزاف الآخر، وتكلفة ذلك ستكون باهظة.


يعلم المتظاهرون أنهم مستهدفون ويصرون على المضي قدماً حتى لو سقط منهم المزيد من القتلى. ولأن الجيش بات طرفاً في الأزمة، سيضر كثيراً في حالة تطور الأمر في هذا الاتجاه التصعيدي. حتى وإن لم تسفك دماء، من الوارد شن الأمن حملة اعتقالات واسعة النطاق على المتظاهرين، من الصعب جداً أن لا تضر، مجدداً، بصورة النظام "الجديد-القديم" الذي هو في أمس الحاجة لدعم سياسي واقتصادي من المجتمع الدولي حتى يخرج من أزمته التي يساهم، ببقاء مبارك رئيساً، في استمرارها، وهو يعلم، أو يرفض أن يقبل أن كتلة شعبية ضخمة من المصريين لن تستسلم. وهذا الإصرار مرشح أن يدخل مصر في نفق مظلم لن يحسمه سوى تنحى مبارك، أو المزيد من الكوارث.
______________
كاتبة مصرية