قوات القذافي: احتمالات التماسك والتفكك

ما بعد سيرت يتميز بكثافة السكان وتشابك العلاقات الاجتماعية وتغلغل نظام القذافي فيهما عبر اللجان الثورية. ولن يتمكن الثوار من كسب هذه الجولة في طريقهم إلى طرابلس إلا بإقناع قواعد القذافي بالتخلي عنه.



 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


المولدي الأحمر 


القذافي وحدود نظام الزعامة


تحدي كثافة السكان وتشابك العلاقات الاجتماعية


اللجان الثورية والسوق السياسية



معركة سيرت وما بعدها تثير الاهتمام لسببين رئيسين، الأول منهما أن القتال الجاري على أشده في هذا الوقت يدور في إحدى أهم مناطق البترول في ليبيا. أما السبب الثاني، فهو أن الثوار يقتربون من منطقة سرت التي تتوسط البلاد، وهي منطقة إذا ما اجتازها الثوار يكونون قد فتحوا، نحو طرابلس، طرقا شديدة التعقيد، جغرافيا واجتماعيا، ستعري بشكل كامل تركيبة النظام السياسي الليبي، ليس على مستوى تمفصل المؤسسات البيروقراطية للدولة وعلاقتها بآليات اتخاذ القرار، وإنما على مستوى اشتغالها الميداني داخل النسيج الاجتماعي والثقافي للسكان.

هنا تُطرح جملة من الأسئلة حول الرهانات الحقيقية لمنطقة سرت بالنسبة للثوار وبالنسبة للقوات التي تحارب في صف معمر القذافي، وحول ما إذا كان العقيد سيستطيع مواصلة المقاومة بعدما دمرت القوى الدولية، التي تحاربه إلى جانب الثوار، قواته الجوية وآلياته الثقيلة التي نجح في استعمالها في البداية. وتجر هذه الأسئلة بدورها إلى أسئلة أخرى أكثر دقة، تتعلق بمدى قدرة القذافي على المحافظة على موالاة أنصاره، وما إذا كانت أصوله "القبلية"، التي تعود إلى منطقة سرت، ستلعب دورا حاسما في مصير هذه المدينة، و بالتالي في مصير نظام القذافي برمته.


القذافي وحدود نظام الزعامة





فهم احتمالات سير الأحداث بعدما بلغت مفترق طرق سرت، يكون من خلال تفحص الأسس الاجتماعية-التاريخية التي يقوم عليها نظام القذافي وخصائصها الأنتروبولوجية، وهي أسس تعطي لحكمه كل عناصر الاستبداد الصارم، مما يعطيه هامشا واسعا للمناورة تسمح له بمقاومة خصومه وبتغيير مواقفه بسهولة دون أن يتسبب ذلك في تآكل قوته بشكل حاسم.
يواجه المتابعون والمحللون لسلوك معمر القذافي السياسي معضلة من نوع خاص تتمثل في صعوبة تحديد ملامح نموذج نظري يساعد على توقع خط سير الأحداث التي يكون هو طرفا فاعلا في إدارتها، سواء على المستوى الخارجي أو الداخلي. ولهذا السبب فإن الكثير منهم يتلقف بسرعة فكرة القبيلة التي تفعل فعلها بسهولة في عقل المتلقي - إما بسبب مقبوليتها الثقافية عنده أو لقدرتها الظاهرية على ترتيب الأحداث بشكل منطقي- دون الاهتمام بجملة التناقضات التي تحتويها هذه الفكرة الغامضة  التي قد تتسبب في التعمية على الواقع التجريبي وديناميته المعقدة.

ولذلك، فإن فهم احتمالات سير الأحداث بعدما بلغت مفترق طرق سرت، يكون من خلال تفحص الأسس الاجتماعية-التاريخية التي يقوم عليها نظام القذافي وخصائصها الأنتروبولوجية، وهي أسس تعطي لحكمه كل عناصر الاستبداد الصارم، مما يعطيه هامشا واسعا للمناورة تسمح له بمقاومة خصومه وبتغيير مواقفه بسهولة دون أن يتسبب ذلك في تآكل قوته بشكل حاسم.

يقوم النظام السياسي الذي يقوده معمر القذافي على إرث قديم، خبره الفاعلون السياسيون في ليبيا، وتمرسوا على العمل به منذ زمن قديم، وذلك رغم التطور الذي عرفه المجتمع الليبي منذ الاستقلال إلى الآن. و يتمثل هذا الإرث في ما سميته، في بحث سابق، "البناء الزعامي للظاهرة السياسية" . و باختصار شديد يقوم هذا الأخير – في مجتمع ليبيا ما قبل البترول والاستقلال، حيث تسيطر الحياة البدوية وتشح الموارد - على مبدأ أن بناء أي مجموعة سياسية فاعلة يتحقق بتشكل زعامة سياسية نشيطة (بدوية محاربة أو طرقية دينية أو عسكرية حضرية)، تلتف حولها، في مرحلة أولى، مجموعة من الأفراد والوحدات العائلية التي قد تربطها علاقات جيرة أو قرابة أو مصالح شتى.

ثم تتحول في مرحلة ثانية، إذا ما توفرت الشروط اللازمة، ومنها مراكمة الموارد والقوة الحربية والرمزية، إلى مجموعة أوسع، فضفاضة الحدود، يقل أو يقوى تماسكها بحسب البعد أو القرب من النواة الزعامية التي تتوسطها. وبما أن هذه المجموعات، وبالتحديد الريفية البدوية منها، لا تأخذ شكل المجموعة السياسية النشيطة إلا في فترات متقطعة ووقت الأزمات فقط، فإن مكوناتها من الأحلاف تتسم بعدم الثبات خاصة في الأطراف، بينما تقوى في المركز روابط التبعية الزبونية وتتشابك المصالح إلى حد تكوين كتلة صماء متحدة في المحافظة على الموارد والاعتبارات المعنوية التي تنجح في مراكمتها. ولأن مثل هذه المجموعات السياسية لا تجمع بين أطرافها علاقات عضوية قوية –اقتصاديا و إيديولوجيا- فإن محافظة الزعيم على الأتباع والزبائن والأحلاف أمر هش ولا يكون إلا بتوزيع الموارد عليهم وتهديدهم في نفس الوقت بالحرب، وهو ما يحول السياسة، في الأوقات التي تختبر فيها لحمة المجموعة، إلى سوق تجري فيه المزايدة على الولاء بالمال والسلاح.







هذا هو الإرث السياسي التاريخي الذي ورثه معمر القذافي، وذهب في استغلاله إلى أقصى الدرجات معتمدا في ذلك، أولا على ما أعطته دولة الاستقلال من وسائل بيروقراطية وقهرية غير مسبوقة كي يتحرك دون منافس في كامل البلاد، وثانيا ما وفره له البترول من موارد لا يحتاج في تحصيلها إلى الآخرين وبالتالي إلى التفاوض معهم على السلطة. ومن ثم شرع في هندسة مجموعته السياسية بالطرق التي تضمن له احتكار الزعامة.












كيف نستفيد من هذا النموذج النظري في تفحص الواقع الإجرائي الميداني الذي يتحرك فيه الآن الثوار باتجاه المنطقة الساحلية الوسطى من البلاد، والتعرف على الرهانات المطروحة عليهم خلال مرحلة ما بعد سرت؟











تحدي كثافة السكان وتشابك العلاقات الاجتماعية


يرى كثير من المحللين أن أهمية منطقة سرت تكمن في أنها المعقل القبلي لمعمر القذافي. ويعتقدون بأن القبائل تشكل مجموعات متجانسة يمكنها أن تتصرف سياسيا بشكل موحد، لكنهم لا يضعون في الحسبان أن هذه القبيلة مثلت دائما من وجهة نظر ديمغرافية أقل عددا ووزنا من قبائل ليبية أخرى، وأن القذاذفة مصنفون محليا على أنهم مرابطون، أي ينتسبون إلى ولي صالح، و يعيشون تحت حماية مجموعات قبلية مجاورة كانت تاريخيا أكثر قوة و بأسا- مثل أولاد سليمان وورفلة- فهم يتوقعون أن تستميت هذه القبيلة التي تستفيد من حكم أحد أبنائها للبلاد في الدفاع عنه في سرت. و بنفس الآلية الذهنية يعتقد هؤلاء بأن سلوك سكان المنطقة الطرابلسية، وهي تمتد من مصراته إلى الحدود التونسية مرورا بالجبل الغربي، تتحكم فيه القبائل التي ستقرر، كل حسب ظروفها، مواصلة الحرب إلى جانب القذافي أو الانقلاب عليه  والالتحاق بالثوار.




منطقة سرت الغربية تفتح مباشرة على تضاريس جديدة ستتغير فيها ظروف القتال وتقنياته وطرق إدارته. وهذا يعني أن التقدم على الأرض، إذا ما جوبه الثوار بالمقاومة، سيكون بطيئا خلافا لما كان يجري بين أجدابيا والعقيلة وراس لانوف وسرت، وهذا يعطي وقتا كافيا للقذافي كي يكثف من مناورات تفكيك الأحلاف المضادة له.
إن هذا التحليل عاجز، بسبب أدوات التفكير التي يعتمدها، عن مشاهدة أربعة عناصر أساسية تجعل من الوصول إلى منطقة سرت أمرا في غاية الأهمية  بالنسبة للثوار - دون اعتبار لواقع أن سرت تشكل مسقط رأس معمر القذافي- و تطرح عليهم العديد من الأسئلة التي ما كانت تواجههم قبل الوصول إلى هذه المنطقة.

العنصر الأول، هو أن منطقة سرت الغربية تفتح مباشرة على تضاريس جديدة ستتغير فيها ظروف القتال وتقنياته وطرق إدارته. وهذا يعني أن التقدم على الأرض، إذا ما جوبه الثوار بالمقاومة، سيكون بطيئا خلافا لما كان يجري بين أجدابيا والعقيلة وراس لانوف وسرت، وهذا يعطي وقتا كافيا للقذافي كي يكثف من مناورات تفكيك الأحلاف المضادة له.

العنصر الثاني، هو أن تجاوز سرت يعني الدخول إلى منطقة ذات وزن ديمغرافي وحضري كبير، من خصائصها الجغرافية قرب مراكزها السكانية من بعضها قياسا بالدواخل الصحراوية، ومن مميزاتها التاريخية التواصل الاجتماعي المكثف بين قراها ومدنها.

ففي أغلب مراحل التاريخ الليبي الحديث شكلت مناطق مصراتة والخمس ومسلاتة المنفتحة على البحر أو القريبة منه، ومناطق بني وليد وترهونة في الدواخل، امتدادا سياسيا شرقيا لمدينة طرابلس، بينما شكلت مدينتا الزاوية وزوارة امتدادها في اتجاه الغرب. ومقابل هذين الجناحين توجد منطقة الجبل الغربي، حيث توجد مدينة الزنتان التي تحاصرها حاليا قوات القذافي، وهي المنطقة الأكثر حيوية بالنسبة لطرابلس من بين كل المناطق الداخلية المحيطة، لأنها تفتح على فزان ومن ثم على دواخل إفريقيا. و معنى هذا أن الثوار إذا ما وُوجهوا بالمقاومة خلال تقدمهم نحو هذه المناطق فإن العنصر الديمغرافي وكثافة التواصل بين المدن يمكن أن يصبحا في غير صالحهم.

العنصر الثالث، هو أن التراكمات السياسية التاريخية التي جرت في المنطقة الطرابلسية، أعطت لهذه الأخيرة هوية محلية خاصة، استغلها تاريخيا باشوات طرابلس في إدارة صراعهم السياسي ضد ثوار الدواخل، ثم اعتمدها في ما بعد زعماء الحركة الوطنية لمقاومة التأثير السياسي للسنوسيين على الأوساط التي ينشطون فيها. وقد ترتب عن هذه الوقائع التاريخية أن أهل الشرق وأهل الغرب في ليبيا يحسون بأن هناك تمايزا سيكولوجيا اجتماعيا بين الطرفين يمكن أن يُستغل للتفريق بينهما، وهذا هو أحد التحديات التي قد يواجهها الثوار في تقدمهم إلى ما بعد سرت.

العنصر الأخير، وهو الأكثر تعقيدا، يعيدنا إلى الأسس الاجتماعية والأنثروبولوجية التي يقوم عليها نظام العقيد معمر القذافي. لقد رأينا أن الإرث السياسي الذي يشتغل به هذا الزعيم يتمثل في أن صناعة السياسة من صناعة المجموعات الزعامية، وأن الهشاشة الداخلية متأصلة في مثل هذه المجموعات التي لا يمكن المحافظة عليها إلا بتوزيع المنافع واستعمال العنف. وما سيواجهه الثوار في سرت وما بعدها هو مجمل التقاطعات التي يمكن للمال والمنافع الاعتبارية والعنف أن يحدثها داخل نسيج العناصر الثلاثة السابقة التي يخترقها القذافي بمجموعته السياسية الزعامية الفذة.






اللجان الثورية والسوق السياسية


تتشكل المجموعة السياسية التي يتزعمها القذافي من اللجان الثورية، وهي لجان يُجمع شتات أعضائها من كل المناطق والفئات الاجتماعية. وتشكل نخبة هذه اللجان همزة الوصل بين القذافي شخصيا والعائلات الوجيهة في كل مكان (اللجان في كل مكان). ومن خلال هذه العائلات يحشد الأنصار ويراقب الأعداء. و في المقابل يحتكر أعضاء هذه النخبة المناصب المفصلية في الدولة ويحصلون بذلك على منافع كبيرة توفرها لهم خزينة البترول بطرق متعددة. وبطريقة جدلية، يتحولون بدورهم بالنسبة لمعمر القذافي إلى آلية سياسية تضمن له احتكار الزعامة.




ما يجعل من سرت منطقة استراتيجية غاية في الحساسية بالنسبة للجميع، ليس لأن أنصار القذافي سيستميتون في الدفاع عنها لرمزيتها بالنسبة لزعيمهم - رغم أن هذا قد يكون له أهمية- إنما لأن اختراقها يعني بالنسبة لهؤلاء وصول الثوار إلى منطقة ذات كثافة سكانية عالية، وإلى مدينة مصراته بالذات
لذلك، فإن المواقف السياسية للسكان على المستوى المحلي، يصنعها أعضاء اللجان الثورية والقيادات الشعبية وحلقات وصلهم العائلية داخل القرى والمدن ومختلف المجموعات العرقية المنتشرة هنا وهناك في دواخل البلاد.

ما هي آليات حشد الأحلاف والأنصار والزبائن داخل مختلف هذه الأوساط وفي مثل هذه الأوقات الحرجة؟ إنها توزيع المنافع الآنية والمباشرة والتهديد بالعنف ضد من لا يعلن ولاءه. من الناحية العملية، يعني هذا أن الثوار المتطلعين إلى ما بعد سرت لن يتعاملوا مع وحدات قبلية متجانسة، وإنما سيتعاملون في المناطق الطرابلسية مع سوق سياسية في ذروة نشاطها: بضاعتها الولاء السياسي للزعيم، وأداتها المساومة على الثمن. وهذه السوق، التي هي ليست في متناول الجميع، تترك جانبا الكثير من المحرومين والمظلومين والزاهدين في مثل هذه المنافع، وهؤلاء لا يستطيعون المجاهرة بمعاناتهم نتيجة خوفهم من العقاب وارتباطهم بطرق شتى بالممسكين بالمال والسلاح.

فما يجعل من سرت منطقة استراتيجية غاية في الحساسية بالنسبة للجميع، ليس لأن أنصار القذافي سيستميتون في الدفاع عنها لرمزيتها بالنسبة لزعيمهم - رغم أن هذا قد يكون له أهمية- إنما لأن اختراقها يعني بالنسبة لهؤلاء وصول الثوار إلى منطقة ذات كثافة سكانية عالية، وإلى مدينة مصراته بالذات – ولذلك هم يستميتون في محاصرتها- ذات التأثير التاريخي العريق على هذه المنطقة، لأن ذلك قد يدخل اضطرابا كبيرا في عمل نخبة اللجان الثورية والقيادات الشعبية على ضمان الولاءات المحلية في تلك الجهة.

أما بالنسبة للثوار فإن سرت وما بعدها مهمة للغاية لأن هذه المنطقة تضعهم بشكل مكثف في أتون فخاخ السلاح والقرابة والزبونية والزعامة. فالتضاريس وخصائص الهوية التاريخية للمنطقة الطرابلسية قد تزيد فخ السلاح - وقد جرهم إليه القذافي جرا- قسوة وتعقيدا، لأن كل استعمال مكثف له ضد السكان قد يؤدي بهؤلاء إلى تأكيد تحالفهم مع القذافي بالفعل لا بالحياد. والقرابة والزبونية قد تعقدان عليهم سعيهم نحو نشر حركتهم بين السكان سلميا.

أخيرا إذا كان صحيحا أن القوات الدولية قد أضعفت إلى حد كبير من قدرة القذافي على المناورة الحربية وبالتالي السياسية، فإن ما نجح فيه هذا الأخير هو أنه حيّد المثقفين الديمقراطيين من المعركة السياسية، على الأقل إعلاميا، وفرض على الغالبية لغة العروش والقبائل، إلى حد أنه أصبح يتحدى في خطاباته الجميع في معرفة أعيان كل منطقة بالاسم. ومن ثمة، فإن معركة ما بعد سرت ستكون معركة إعلام و تلاحم مع الشبان المتعطشين إلى الحرية والديمقراطية، واشتغال متأن على فخاخ السلاح والزبونية، ودعوة مستمرة لسكان طرابلس كي يحرروا أنفسهم بأنفسهم.
_______________
أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية
هوامش:
الدكتور المولدي الأحمر، الجذور الاجتماعية للدولة الحديثة في ليبيا، الفرد والمجموعة والبناء الزعامي للظاهرة السياسية، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2009