ثلاثة أشهر على الثورة التونسية.. أبرز التحديات وأهم العقبات

تعيش الثورة التونسية، بعد نحو ثلاثة أشهر من خلع رمز النظام السابق، مرحلة انتقالية، تبدو صعبة ومعقدة. تحاول أن تبني نظاما جديدا دون هدم كامل للنظام القديم.


 


 


 


 


 


 


 


 


 


 


عبد اللطيف الحناشي  


تعيش الثورة التونسية، بعد نحو ثلاثة أشهر من خلع رمز النظام السابق، مرحلة انتقالية، تبدو صعبة ومعقدة. إذ تتزاحم فيها الأفكار والخيارات والقرارات والإجراءات والمبادرات، في الوقت الذي تتناسل فيه المشاكل وتتضخم العقبات وتتزايد التحديات،وهو ما يشي بتراخ نسبي في الإجماع الوطني العام الذي ميّز المرحلة الأولى من الثورة، الأمر الذي يشكل خطرا فعليا على تطور الثورة وسعيها إلى بلوغ أهدافها المعلنة.

فما هي أبرز العقبات وأهم التحديات التي تعترض الثورة التونسية؟ وما هي الوسائل الممكنة للتعامل معها حتى تصل الثورة إلى برّ الأمان وتتمكن من تحقيق أهدافها الآنية والبعيدة؟


التحديات الداخلية
ضعف المجتمع المدني  
حول طبيعة النظام السياسي المنشود  
التحدي الأمني  وقوى الثورة المضادة  
ضعف البنية الاقتصادية والتنموية  
التحديات الخارجية    
سبل التغلب على التحديات والعقبات


لا بد في البداية من الإقرار أن الانجازات التي تحققت، لحد الآن، في تونس على المستوى السياسي والحقوقي تبدو ذات أهمية كبيرة، وكان بعضها من بين أهم المطالب التي تمّ رفعها من قبل القوى الوطنية والديمقراطية قبل الثورة، في حين طُرح البعض الآخر منها بعد الثورة، ومن بين تلك المكاسب يمكن أن نذكر:

- إلغاء إدارة أمن الدولة أي جهاز الأمن السياسي.
-  حـلّ حزب التجمع الدستوري الديمقراطي بحكم قضائي وتصفية أمواله وممتلكاته.
-  سنّ العفو التشريعي العام الذي استفاد منه آلاف المناضلين المُعاقبين من المقيمين والمنفيين.
- تكوين الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي ضمت ممثلي الأحزاب والمنظمات والخبراء وبعض الشخصيات الاعتبارية وممثلين عن الشباب والجهات وأُسر الشهداء... ومهمتها السهر على دراسة النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي واقتراح الإصلاحات الكفيلة بتجسيم أهداف الثورة لا سيما فيما يتعلق بالمسار الديمقراطي.
- قرار وقف العمل بالدستور، وذلك حال انتهاء مدّة الرئاسة المؤقتة (15 مارس 2011)، وهو ما ترتّب عليه وقف عمل مجلسي النواب (البرلمان) والمستشارين (الغرفة الثانية) المشبوهين والفاقدين لأي شكل من أشكال الشرعية.
- تحديد موعد يوم 24 يوليو/تموز 2011 لانتخاب مجلس وطني تأسيسي وذلك لوضع دستور جديد للبلاد.
- إنشاء هيئة عليا مستقلة للإشراف على الانتخابات.

غير أن المكاسب تلك، على أهميتها، اصطدمت وتصطدم بمجموعة هامة من العقبات والعراقيل التي من شأنها تقليص مستوى الثقة بين الحكومة المؤقتة من جهة، والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني من جهة أخرى. كما قد تسمح بتنمية التناقضات والخلافات والصراعات بين تلك الأطراف وذلك حول قضايا آنيّة وأخرى إستراتيجية ومستقبلية ذات طابع سياسي وفكري.

الأمر الذي قد يساهم، في حالة استمراره وتطوره، في التقليص من سقف الإجماع الوطني. كما أن استمرار التجاذبات السياسية الحادة أحيانا بين الحكومة المؤقتة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، من ناحية، وبين هذه الأطراف الأخيرة بعضها وبعض من ناحية أخرى، وذلك  في إطار موازين قوى  تبدو غير متكافئة قد تساعد على تصعيد التوتر الحاصل في البلاد مما قد يؤدي إلى تعطيل الاستحقاقات الدستورية والسياسية الضرورية لمستقبل الثورة.

وفي موازاة ذلك تصطدم الثورة التونسية بتحديات خارجية منها "القديمة" المتمثلة في تدخل القوى الغربية في الشأن التونسي ومستقبل الثورة، ومنها الطارئة التي جاءت بعد اندلاع الثورة الليبية واستمرار الصراع بين سلطة العقيد معمر القذافي و"الثوار" الليبيين واستفحالها بعد صدور القرار 1973 حول ليبيا.






التحديات الداخلية





استمرار التجاذبات السياسية الحادة أحيانا بين الحكومة المؤقتة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، من ناحية، وبين هذه الأطراف الأخيرة بعضها وبعض من ناحية أخرى، وذلك في إطار موازين قوى تبدو غير متكافئة قد تساعد على تصعيد التوتر في البلاد مما قد يؤدي إلى تعطيل الاستحقاقات الدستورية والسياسية الضرورية لمستقبل الثورة
التحدي الأيديولوجي:
احتدت في تونس، بعد الثورة النقاشات والمجادلات ذات الطابع الأيديولوجي وتمحورت خاصة حول قضايا ذات علاقة بالدين والهوية والمرأة والدستور.

الجدل حول هوية الدولة:
يُختزل الجدل في علاقة الدين بالدولة أو الدين بالسياسة، وخاصة الجدل حول الفصل الأول من الدستور الذي ينص على أن: "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها". وينحصر هذا الجدل بين مؤيد لبقاء الفصل الأول على حاله وبين من يرغب في أن ينص هذا الفصل على فصل الدين عن السياسة والدولة (أي الدولة العَلمانية أو اللائكية)، وبين من يرغب في أن ينص نفس الفصل من الدستور على أن يكون" الدين الإسلامي مصدرا وحيدا للتشريع". ومقابل ذلك يرغب آخرون على الحفاظ على مضمون الفصل الأول مع التأكيد أن "تونس دولة مَدَنِيّة تحكمها مؤسسات دستورية".

وفي موازاة كل ذلك يطالب القوميون والعروبيون عامة بالحفاظ على الفصل الأول من الدستور لكن مع  تغيير مضمون الفصل الثاني منه وذلك باتجاه التنصيص على أن الجمهورية التونسية "جزء من الأمة العربية" عوض المضمون الحالي الذي يشير إلى أن "الجمهورية التونسية جزء من المغرب العربي الكبير تعمل لوحدته في نطاق المصلحة المشتركة".

الجدل حول وظيفة المسجد:
يتمثل ذلك في محاولة بعض أنصار الأحزاب ذات المرجعية الدينية تحويل المسجد إلى منبر من منابر الدعاية الدينية (المذهبية) والترويج لخطها السياسي، في الوقت التي تدعو فيه أغلب الأحزاب السياسية، ومنها حزب النهضة (الإسلامي)، إلى إبعاد المسجد عن التحزب والنشاط السياسي.

ولا شك أن الإصرار على تحزب المساجد قد يؤدي إلى ما يمكن أن نطلق عليه بـ "فتنة" المساجد باعتبار التنوع السياسي للساحة التونسية بما في ذلك التنوع السياسي داخل الخطاب الإسلامي ذاته: حركة النهضة، حزب التحرير، الأحزاب الإسلامية التحررية الجديدة، الحركة السلفية... ومن مظاهر هذه "الفتنة" ما حصل مؤخرا في الكثير من مساجد البلاد برفض البعض من المصلين لهذا الإمام أو ذاك وإحلال آخر محله على خلفيات دينية (شكلية أو مذهبية أحيانا) وسياسية في الغالب إلى جانب الاختلاف حول توقيت صلاة الجمعة (واحدة عوض اثنتين) وهو أمر إن تواصل سينجم عنه تداعيات خطيرة بالضرورة.

الجدل حول  مجلة الأحوال الشخصية:
لا يعتبر هذا الجدل جديدا على المجتمع التونسي إذ برز في الفترة الاستعمارية خاصة بعد إصدار الطاهر الحداد، في بداية الثلاثينيات، كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" ثم تجدد الجدل في بداية الاستقلال وخاصة بعد صدور مجلة الأحوال الشخصية (1956) ثم أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وتجدد النقاش والجدل بعد الثورة خاصة بين تيارين أساسيين على خلفيات مرجعية متباينة:

- تيار يمكن وصفه بـ"الحداثي" تجاوزا، وهو الذي يدافع عن "المجلة" باعتبارها إحدى المكاسب الاجتماعية والثقافية والحضارية التي تحققت للمجتمع التونسي عامة وللمرأة التونسية بصفة خاصة، ويرفض بالتالي إجراء أي تغيير فيها أو تعديل عليها تسانده في ذلك أطراف أخرى ترى بضرورة تطوير هذه المجلة وإدخال بعض التعديلات عليها وبخاصة مسألة المرأة والإرث وغيرها من القضايا ذات العلاقة بالمرأة.
- أما التيار الثاني فذو مرجعية دينية غير أن رؤيته تبدو متباينة. إذ يعتبر بعض قيادي حزب النهضة أن "مجلة الأحوال الشخصية مكسب حضاري لا يمكن التفريط فيه، وهي في الأصل، تمثل اجتهادا فقهيا لذلك لا تتناقض والشريعة". كما تعتبر "التحفّظ على أحكام التبني لا يعني بالضرورة الرجوع عن المجلة".

في حين يرى طرف إسلامي آخر أن المجلة "ليست مقدسة" بما يعني إمكانية مراجعتها وإعادة النظر في بعض نصوصها. أما حزب التحرير فيعتبر "منع تعدد الزوجات منافيا للشريعة" ومن هذا المنطلق يدعو إلى التخلي عن المجلة تماما.

وفي الواقع يمثل الدين الإسلامي، في تونس عنصرا موحدا للشعب التونسي وهو أحد أبرز مقومات هويته. وقد حاول نظام الرئيس السابق بن علي بكل الوسائل إشغال مختلف القوى الوطنية وإلهائها بقضايا أيديولوجية جانبية وذلك بهدف تفكيك عرى الوحدة السياسية في ما بينها حتى يتمكن من استهدافها ومحاصرتها وإجهاض حركتها، غير أنه، ورغم كل الإمكانيات والوسائل والطاقات التي بذلها، لم يتمكن من تحقيق ذلك. إذ استطاعت بعض من تلك القوى تفويت الفرصة على النظام وذلك من خلال العمل في إطار موحد والتخلص من الضغط الأيديولوجي (هيئة 18 أكتوبر).







غير أنه وبعد سقوط رأس النظام عاد الجدل الفكري من جيد بين بعض الأطراف السياسية، التي يمكن اعتبار البعض منها هامشيا في الساحة من حيث وزنه البشري لكن تأثيراته تبدو مقلقة ومزعجة.







قد يكون هذا الجدل بمختلف مظاهره وأشكاله ضروريا، غير أن الظرفية الزمنية والمجالية لطرحه ونقاشه تبدو غير ملائمة ومن شأنها أن "تلهي" الناس عن الخوض في القضايا الأساسية التي اندلعت الثورة بسببها واستشهد الشباب من أجلها. ويبدو من هذه القضايا الجدلية أن وراءها فئات هامشية ضمن الخريطة السياسية والاجتماعية والثقافية في تونس، وتبدو هذه الفئات في الغالب ذات ارتباطات ثقافية وسياسية "مشبوهة" تتحرك في أوقات محسوبة بدقة لتحقيق أهداف معلومة خَبرتها الساحة التونسية في عهد الحكم الاستبدادي السابق.











ضعف المجتمع المدني


شهدت تونس قبل أن تنال استقلالها عام 1956 حضورا مميزا للعديد من الجمعيات والمنظمات الأهلية، لكن هذا الحضور تراجع في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة، ثم عاود الظهور مجددا في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي حرص على تضخيم عدد هذه المنظمات لاستخدام أغلبها في الدعاية للنظام وتنفيذ توجيهاته، أما المنظمات والأحزاب التي ظلت صامدة بعيدة عن التوظيف والتدجين فكان عددها محدودا ورغم ذلك ساهمت بتفاوت في النضال ضد النظام الغاشم.

وبعد الثورة، شهدت البلاد تزايدا كبيرا في أعداد الأحزاب والجمعيات حتى وصل عددها ما تقدم منها للحصول على تأشيرة العمل القانوني نحو مائة حزب لحد الآن، تم الاعتراف بواحد وخمسين حزبا منها، وأكثر من ثمانين جمعية. وهي ذات وأهداف وتوجهات فكرية وخلفيات سياسية متباينة جزئية.

كما أن تسلل بعض العناصر التابعة لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل ومنظماته، إلى بعض الأحزاب وخاصة المشكّلة حديثا، أو إمكانية تأسيس أحزاب جديدة بقيادات تابعة للحزب المنحلّ أمر وارد خاصة بعد أن تم الترخيص القانوني لحزب "المبادرة" الذي يضم شخصيات بارزة من حزب التجمع المنحل وعلى رأسها السيد كمال مرجان وزير الخارجية السابق وعضو الديوان السياسي للحزب وهو في نفس الوقت من أقرباء الرئيس المخلوع.

تبدو تجربة أغلب الأحزاب السياسية التونسية -بشكل عام- محدودة وبنيتها البشرية ضعيفة، ويغلب على الكثير منها الطابع العائلي وحتى القبلي، كما تبدو إمكانياتها المادية متواضعة نظرا لحداثة تأسيسها وهو ما قد يدفعها إلى محاولة دخول الساحة السياسية بخطاب يغلب عليه طابع الحدّة والمزايدة اللّفظية كما لا يُستبعد ارتباط البعض منها بأطراف خارجية من حيث التمويل والتأثير في توجهاتها وطبيعة نشاطها الأمر الذي قد يؤدي إلى تنافس غير متكافئ في ما بينها كما قد يدفع نحو صراعات هامشية تهدر طاقاتها مما قد يؤثر ذلك على مسار الثورة وأهدافها.






حول طبيعة النظام السياسي المنشود









يتمثل الخيار الأول في اعتماد النظام البرلماني (دون الدخول في الخيارات الممكنة بين أشكاله المطبقة في عدة بلدان) الذي تعتبره أغلب القوى والمكونات السياسية الأجدى لمستقبل البلاد

وهي من القضايا الخلافية التي يشتد النقاش حولها، وإن بأقل حدّة من القضايا الأخرى. إذ تبدو هذه المسألة على أهمية قصوى باعتبار ما عاناه المجتمع من النظام السياسي الذي انتصب منذ استقلال البلاد، لذلك، وإن كان هناك إجماع مؤكد على رفض كل القوى السياسية التونسية للنظام الرئاسي (الرئاسوي) الذي استأثر فيه رئيس الجمهورية بكل السلطات وانتهي إلى إقراره دستوريا كرئيس مدى الحياة في عهد بورقيبة (31 سنة)، أما بن عليّ فقد اعتمد طريق التحايل على القانون والشعب ليستمر في الحكم ربما لآخر حياته لولا نجاح الثورة. ورغم ذلك تبدو خيارات المجتمع السياسي منحصرة في اختيارين لا ثالث لهما:
- يتمثل الخيار الأول في اعتماد النظام البرلماني (دون الدخول في الخيارات الممكنة بين أشكاله المطبقة في عدة بلدان) الذي تعتبره أغلب القوى والمكونات السياسية الأجدى لمستقبل البلاد.

وذلك بالاستناد لتجارب معلومة ومنها التجربة التركية التي يعتبرها البعض أقرب للتطبيق في تونس من غيرها من التجارب. غير أن ما يخشاه البعض من هذا الشكل من الحكم هو ما قد يتولد عنه من عدم الاستقرار نتيجة العدد الوافر من الأحزاب وعدم وجود حزب أو حزبين قادرين لوحدهما على الحصول على الأغلبية خاصة وأن البلاد في طور تجربة جديدة.غير أننا نعتقد أنه حتى في حالة قدرة بعض الأحزاب الحصول على قدر أكثر من الأصوات من غيرها، فلا نظنّ أنها ستقدم على مجازفة مثل هذه لأنها تخشى عواقبها مثلما بينت ذلك تجربة انتخابية سابقة في عهد بن عليّ.

- أما التوجه الثاني فيختار النظام الرئاسي الذي يعتمد مبدأ التفريق بين السلطات الثلاث مع تقليص واسع لسلطات الرئيس بالتوازي مع صلاحيات واسعة لسلطة البرلمان، كما الحال في الولايات المتحدة الأمريكية... ويدور في الوقت ذاته، سجال واسع بين الأطراف السياسية وقوى المجتمع المدني حول طريقة انتخاب أعضاء المجلس الوطني التأسيسي: بين من يخير طريق الاقتراع على الأفراد بالأغلبية في دورتين، والتصويت على القوائم في دورة واحدة وتوزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي.

كما يحتدم الجدل حول الطريقة المثلى للاقتراع التي يمكن أن تعكس على النحو الأفضل تطلعات الثورة في إطار المشهد السياسي الحالي وأيضا حول أي مدى يمكن أن يؤثر تقسيم وتوزيع الدوائر الانتخابية، وهو رافد من روافد نظام التصويت في نتائج الانتخابات؟






التحدي الأمني  وقوى الثورة المضادة


يجمع كل المراقبين والمحلّلين والمفكرين على فرادة الثورة التونسية ومن بين مظاهر هذه الفرادة أنها كانت ثورة بدون قيادة سياسية برغم وجود شعارات تبدو، بدورها فريدة في محتواها الذي يختزل أبعاد إنسانية وكونية عميقة. ومن فرادة الثورة أيضا هذا الانتقال السلمي لهرم السلطة وبقاء الرموز القديمة في مكانها (رئيس الوزراء السيد الغنوشي الذي تحول إلى رئيس وزراء مؤقت ورئيس البرلمان السيد فؤاد المبزع الذي تحول بدوره إلى رئيس مؤقت للبلاد) ثم السيد الباجي قائد السبسي (البورقيبي) الذي خلف السيد الغنوشي.





كان تعيين وزير الداخلية الجديد، الذي كان يعتبر الشخصية الثانية في وزارة الداخلية في أكثر فترات حكم بن عليّ قتامة، لغزا بالنسبة إلى المجتمع السياسي، كما أن تردد الحكومة في القطع مع منظومة الفساد المالي والاقتصادي واستمرار البوليس السياسي في عمله، بالرغم من الإعلان عن حله بالإضافة إلى سيطرة رموز الاستبداد والفساد على الإدارة وعدم تغيّر الهيئات القضائية العليا كلها مؤشرات على وجود القوى السياسية القديمة في أهم مفاصل الإدارة

غير أن ذلك لا يمنع القول بوجود أوضاع قائمة تساعد موضوعيا قوى الثورة القديمة على "الالتفاف الناعم" على الثورة، وهي القوى التي مازالت رابضة في مكانها تتحرك بكل حرية تترصد وتتحين الفرص لتضرب في الوقت والمكان المناسبين. كما لم تقطع الحكومة المؤقتة الحالية، كما الأولى، نهائيا مع سياسات وممارسات النظام السابق إذ تبدو قراراتها فوقية وارتجالية في أغلب الأحيان.

مما حدا بالبعض للحديث عن حكومة "ظل" أو حكومة "شبح" فمثلا كان تعيين وزير الداخلية الجديد، الذي كان يعتبر الشخصية الثانية في وزارة الداخلية في أكثر فترات حكم بن عليّ قتامة، لغزا بالنسبة إلى المجتمع السياسي، كما أن تردد الحكومة في القطع مع منظومة الفساد المالي والاقتصادي واستمرار البوليس السياسي في عمله، بالرغم من الإعلان عن حله بالإضافة إلى سيطرة رموز الاستبداد والفساد على الإدارة وعدم تغيّر الهيئات القضائية العليا كلها مؤشرات على وجود القوى السياسية القديمة في أهم مفاصل الإدارة. لذلك ليس من الغريب أن تتسع، والحالة تلك، مظاهر العنف والفوضى في بعض مناطق البلاد وفي بعض أحياء العاصمة وفي المؤسسات الاقتصادية كما تستمر التجاوزات من قبل أعوان الأمن حيال الشباب والمحتجين والمتظاهرين سلميا.

ويعتبر الانفلات الأمني من أكبر التحديات التي تواجهها البلاد بعد الثورة حيث لا زالت مظاهر الفوضى منتشرة في مناطق مختلفة من البلاد. كما أن الاحتجاج غير المنظم، من قبل النقابات، وتواصل الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات من شأنها عرقلة النشاط الطبيعي للمؤسسات الاقتصادية  والاجتماعية وهو ما ينعكس سلبا على الاقتصاد والإنتاج والاستثمار والتشغيل المعطلة وقد يعرقل الانتقال الديمقراطي السلمي.






ضعف البنية الاقتصادية والتنموية


يمرّ الاقتصاد التونسي، بعد الثورة، بوضعية حرجة تتميز بانخفاض النشاط في عدد كبير من القطاعات الحيوية كالسياحة والنقل والتجارة والأشغال العامة إضافة إلى بطء مستوى الاستثمار وتراجع نسق التصدير بالنسبة إلى الإنتاج الزراعي والخدمات. كما تضرر القطاع الفلاحي  كثيرا، إذ  تراجعت صادرات زيت الزيتون خلال شهري يناير وفبراير إلى 11 ألف طن من حيث الكمية و41.2 مليون دينار (29.47 مليون دولار) من حيث العائدات بعدما كانت في نفس الفترة من العام السابق في حدود 12.7 ألف طن بقيمة 50 مليون دينار ( 35.76 مليون دولار).

وسجل قطاع السياحة الذي يمثل المصدر الرئيس لعائدات البلاد التونسية من العملة الصعبة تراجعا بنسبة 45% خلال شهري يناير وفبراير حسب ما أفادته تقارير حكومية. وقد توقف نسق السياحة الاستشفائية الليبية التي كانت تمثل مؤشرا اقتصاديا هاما حيث كانت نسبتها تصل إلى 9 رحلات جوية أسبوعيا من أجل العلاج والاستشفاء في المصحات التونسية.

ونتيجة لكل ذلك تراجعت نسبة نموّ الناتج المحلي الإجمالي التي قد تصل حاليا بين 0 و1 بالمائة هذه السنة مع احتمال بلوغ عجز في الميزانية يقدر بالى حوالي 5%  نظرا لتراجع  الموارد الجبائية وارتفاع النفقات العمومية. في الوقت الذي تقدر فيه الديون الخارجية للبلاد بحوالي 16 مليار دينار. وتواجه الحكومة المؤقتة معادلة صعبة بين الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والمحافظة على التوازنات الكبرى للبلاد لاسيما على مستوى المالية العمومية.

وتقدر الدوائر الرسمية عدد العاطلين الجدد، أي بعد الثورة، بنحو 13 ألف عاطل جراء إغلاق العديد من الشركات والمؤسسات التي تعرضت للنهب وللتكسير. كما شكلت عودة آلاف التونسيين النازحين من ليبيا، عقب الأحداث الدامية، عبءا اجتماعيا واقتصادياً جديداً يضاف إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد التونسي بسبب توقف المبادلات التجارية مع ليبيا التي تمثل الشريك التجاري الأول لتونس على المستويين العربي والإفريقي بحجم مبادلات يناهز المليار ونصف المليار دولار سنوياً.

كما يعيش الاقتصاد التونسي ركودا نسبيا خاصة فيما يتعلق بالمبادلات التجارية مع ليبيا حيث أدت الثورة الليبية الراهنة إلى إغلاق الأسواق الليبية وإن أقرت الحكومة المؤقتة برنامجا اقتصاديا واجتماعيا على المدى القصير يتركز أساسا على إحداث مواطن شغل جديدة في القطاعات العمومية(20 ألف موطن شغل) والخاصة وفي مؤسسات المجتمع المدني وتطوير بعث المؤسسات. غير أن الثقة ما زالت مفقودة بين قطاعات واسعة من المجتمع التونسي وبين الحكومة خصوصا في المناطق المهمّشة التي تعتبر أن أوضاعها المعيشية المتردية ظلت على حالها وهو ما قد يؤدي إلى قطيعة جديدة وبروز احتجاجات اجتماعية إذا لم تسرع الحكومة في إنجاز ما وعدت به مؤخرا.






التحديات الخارجية


تحتل تونس موقعا استراتيجيا حساسا فهي تشرف على البحر الأبيض المتوسط من جهتين، وتبلغ سواحلها البحرية نحو 1300 كلم وتبدو بذلك قريبة جدا من دول شمال المتوسط الأوروبية، وقد ازداد موقعها أهمية بوجودها بين دولتين عربيتين تملكان موارد نفطية وطاقية كبيرة وواعدة وحدودا ممتدة مع دول جنوب الصحراء، وأوضاعا سياسية تبدو غير مريحة أحيانا بالنسبة إلى الغرب، الأمر الذي ضاعف من أهمية البلاد التونسية خاصة ومنطقة المغرب العربي عامة.

ا





كان موقف القيادة الليبية معارضا منذ البداية للثورة التونسية ومنحازا لشخص بن عليّ ونظامه، وكان الخوف شديدا من قبل التونسيين من حماقة ما قد ترتكبها القيادة الليبية تجاه البلاد، وازداد الخطر بعد اندلاع الثورة من بنغازي وانتشارها في المنطقة الغربية ومواجهتها بالعنف الشديد من قبل النظام الليبي، ثم اقترابها من الحدود التونسية

لقوى الغربية:
شكّل نجاح الثورة التونسية بأساليبها وشعاراتها وأهدافها معطى إقليميا جديدا أزعج أغلب الأطراف الإقليمية والدولية التي فقدت أحد أبرز حلفائها في المنطقة بعد أن ساندته، بلا خجل، منذ اعتلائه السلطة واعتبرت نظامه أنموذجا "للتنمية" ومحاربة "الإسلام" والإرهاب!؟ الأمر الذي يفسّر بالزيارات التي قام بها إلى البلاد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية وتركيا في محاولة منها، على ما يبدو، لممارسة أشكال متعددة من الضغوط على النظام السياسي المؤقت حفظا لمصالحها الجيو_استراتيجية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وربما وَضْعَ خطوط حمر أمام اندفاع الحكومة المؤقتة تحت ضغط الشارع وقوى الثورة.

وقد كشرت كل من إيطاليا وفرنسا عن أنيابهما بعد تفاقم الهجرة السرية من تونس إلى جزيرة لمبادوزا الإيطالية منذ 14 يناير وذلك بالضغط على الحكومة الانتقالية بوسائل مختلفة لاستعادة رعاياها من المهاجرين غير الشرعيين إلى أراضيها دون اعتبار للظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد.

ليبيا:
كان موقف القيادة الليبية معارضا منذ البداية للثورة التونسية ومنحازا لشخص بن عليّ ونظامه، وكان الخوف شديدا من قبل التونسيين من حماقة ما قد ترتكبها القيادة الليبية تجاه البلاد، وازداد الخطر بعد اندلاع الثورة من بنغازي وانتشارها في المنطقة الغربية ومواجهتها بالعنف الشديد من قبل النظام الليبي، ثم اقترابها من الحدود التونسية وما نتج عن ذلك من تداعيات "كارثية" اقتصادية واجتماعية (نزوح العمال التونسيين واللاجئين من جنسيات مختلفة) على تونس، وتعقدت الأمور أكثر بعد التدخل الغربي برعاية المنتظم الدولي إذ تزايد الخوف من إمكانية محاصرة الثورة بشكل مباشر في حالة تحول التدخل الغربي من الفضاء إلى الأرض وانعكاساته المؤكدة على تونس.


سبل التغلب على التحديات والعقبات


استنادا إلى تجارب الثورات العالمية المختلفة، وتبعا للخصوصية الظرفية (الزمنية) للثورة التونسية، تدفع كل المؤشرات للاقتناع بعدم إمكانية إيقاف مسار الثورة أو الالتفاف عليها، وذلك بعد الانجازات الهامة التي تحققت، صحيح أن مسار الثورة طويل ومركب، لكن التاريخ لا يمكن أن يرجع إلى الوراء، غير أن ذلك يتوقف على وعي "حراسها" من الشباب والمجتمع المدني والسياسي وإدراكهم ضرورة التخفيض من سقف المطالب بمختلف أنواعها، في هذه الفترة الانتقالية الحساسة، والعمل من أجل تحديد الأولويات، وعدم الانسياق لخوض معارك جانبية ثانوية، ومحاصرة العقبات ومواجهة التحديات بطرق سلمية عن طريق توفير مناخ ملائم لحوار عقلاني متسامح يمهد لبلورة وفاق وطني حقيقي وصلب.

والعمل من أجل إنجاح الاستحقاق الانتخابي للمجلس التأسيسي الذي سيضع الدستور الجديد حسب الموعد المقرر سلفا لانتقال البلاد إلى الشرعية الدستورية واستعادة المجتمع ثقته في الدولة والانطلاق لبناء الوطن على أسس سليمة وصحيحة؛ على أساس قيم الكرامة والأخوة والمساواة والتضامن والتآزر فـ"عيون" العرب بل العالم على الثورة التونسية، التي تحولت إلى أحد النماذج الفريدة في التاريخ. لذا يبدو أن من أوكد واجبات كل القوى الوطنية المحافظة على المكاسب التي تحققت بفضل الثورة وحمايتها وتهيئة الظروف الموضوعية لتطويرها، ولن يتحقق ذلك إلا بتوفير حدّ أدنى من الإجماع الوطني.
_______________
عبد اللطيف الحناشي، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب، جامعة منوبة، تونس.







نبذة عن الكاتب