كوسوفا: أزمة سياسية داخلية ومواعيد خارجية حاسمة

كوسوفا تعاني من أزمة سياسية داخلية أضعفت تماسكها في مواجهة مواعيد هامة خارجية تتعلق باستقلالها وحاجتها إلى استثمارات خارجية كبيرة في اقتصادها.







 

محمد م. الأرناؤوط


جاءت الذكرى الثالثة لإعلان الاستقلال الكوسوفي في 17 فبراير/شباط 2008 في الوقت الذي كانت كوسوفا تعيش أزمة سياسية ومؤسساتية متواصلة منذ عدة شهور، منذ نهاية سبتمبر/أيلول 2010، ستكون لها نتائجها السلبية على الداخل وعلى التفاوض مع بلغراد خلال هذا العام. ويأتي هذا التطور المفاجئ بعد أن حظيت كوسوفا بدعم دولي غير مسبوق خلال 2010، تمثّل أولا في إعلان محكمة العدل الدولية عن رأيها القانوني في يوليو/تموز 2010 وتعزّز ثانية في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الذي يدعو إلى إطلاق مفاوضات مباشرة بين بلغراد وبريشتينا حول القضايا الناشئة عن الاستقلال وليس حول الاستقلال نفسه.





الأزمة السياسية المؤسساتية المتواصلة منذ عدة شهور يمكن أن تؤثر سلبيا على كوسوفا في عدة مجالات حيوية.
وهكذا بعد الزخم الدولي المؤيد لكوسوفا جاء تصاعد التنافس بين الحزبين الرئيسيين في كوسوفا ("الرابطة الديمقراطية الكوسوفية" التي تأسست في 1989 وقادها إبراهيم روغوفا إلى وفاته في 2006 و"الحزب الديمقراطي الكوسوفي" المنبثق عن "جيش تحرير كوسوفا"، الذي يقوده هاشم ثاتشي، ليؤدي إلى أزمة سياسية ومؤسساتية غير مسبوقة.

فقد كان حزب "الرابطة الديمقراطية الكوسوفية" (ردك) الذي ارتبط باسم إبراهيم روغوفا يحصد الغالبية في الانتخابات البلدية والبرلمانية إلى وفاته في 2006، حيث جرى انشقاق فيه قاده رئيس البرلمان آنذاك نجات داتسي. ولم يستطع رئيس الحزب الجديد الأكاديمي فاتمير سيديو أن يؤمن الغالبية في أول انتخابات برلمانية بعد غياب إبراهيم روغوفا في 2007، حيث فاز بالغالبية لأول مرة خصمه السياسي اللدود "الحزب الديمقراطي الكوسوفي"(ح د ك). ونتيجة لذلك فقد تشكل تآلف سياسي تحت ضغط دولي(أوربي أمريكي) تمخض عن تقاسم رئاسة المؤسسات الثلاث، حيث حصل حزب "ح د ك" على رئاسة البرلمان (يعقوب كراسنيشي)، ورئاسة الحكومة (هاشم ثاتشي)، بينما حصل حزب "رد ك" على رئاسة الدولة (فاتمير سيديو) التي لها سلطات محدودة حسب الدستور الكوسوفي.


وقد قاد هذا التحالف إلى ترتيب إعلان الاستقلال الكوسوفي في 17 فبراير/شباط 2008 والمعركة الدبلوماسية مع بلغراد في المحافل الإقليمية والدولية (الأمم المتحدة والاتحاد الأوربي ومنظمة المؤتمر الإسلامي الخ) لنيل الاعتراف بالدولة الجديدة في أوربا والعالم.


ولكن بطء الاعتراف الدولي والتنافس على المصالح في دولة الاستقلال أثار من جديد الحساسيات والخلافات بين الحزبين الرئيسين في البلاد مما فجّر في أيلول/ سبتمبر أزمة مؤسساتية غير مسبوقة. فقد كان على رأس الدولة فاتمير سيديو أن يستقيل من رئاسة حزب "رد ك" حسب دستور البلاد، الذي لا يجيز لرئيس الدولة أن يكون ممثلا لحزب سياسي، ولكن تأخره عن ذلك دفع الطرف الآخر إلى رفع الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا التي حكمت بعدم جواز ذلك. وعوضا عن أن يستقيل سيديو من رئاسة الحزب فقد استقال من رئاسة الدولة في 27 سبتمبر/أيلول 2010 لكي يقود الحزب في الانتخابات المبكرة. وفي الوقت نفسه جرى سحب الثقة من الحكومة التي يرأسها هاشم ثاتشي مما أدى إلى استقالتها في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وهكذا غدت كوسوفا منذ ذلك الحين بدون رأس للدولة، حيث يفوض الدستور رئيس البرلمان بتولي المنصب إلى حين إجراء انتخابات جديدة، وبدون برلمان وبدون رئيس أصيل للحكومة في انتظار الانتخابات البرلمانية الجديدة.


ومع أن الانتخابات البرلمانية جرت في 12 ديسمبر/كانون الأول 2010 إلا أن ما شابها من مخالفات أدى إلى إجراء انتخابات تكميلية في عدة محافظات خلال يناير/كانون الثاني 2011 تمخضت عن خريطة جديدة للقوى السياسية في البلاد بعد الإعلان عن النتائج النهائية لها في 30 يناير/كانون الثاني 2011. ومع أن الحزبين الرئيسيين حافظا تقريبا على وضعهما في البرلمان الجديد (34 مقعدا لحزب "ح د ك" و27 مقعدا لحزب "رد ك" من أصل 120 مقعدا) فقد توزعت المقاعد الجديدة على قوى جديدة وقديمة. وهكذا فقد احتلت الحركة الشبابية الراديكالية " تقرير المصير"(ت م) التي يقودها ألبين كورتي المركز الثالث بحصولها على 14 مقعدا، وحصل "التحالف لأجل مستقبل كوسوفا" المنشق عن "ح د ك"، بقيادة راموش خير الدين على 12 مقعدا، بينما حصل الائتلاف الذي يقوده رجل الأعمال بهجت باتسولي على رأس "التحالف لأجل كوسوفا جديدة" على 8 مقاعد، وهو ما حصل عليها "الحزب الليبرالي المستقل" (ح ل م) الذي يقوده سلوبودان بتروفيتش. وتجدر الإشارة إلى أن الدستور الكوسوفي يخصص حصة من عشرة مقاعد للأقلية الصربية (5-6% من عدد السكان) ولكنه أيضا يفسح المجال للصرب للتنافس في الانتخابات المباشرة، مما رفع عدد المقاعد التي يمثلها بتروفيتش إلى 12 مقعدا.


ومع هذه الخريطة الجديدة للقوى السياسية تعقّد تأليف الحكومة الكوسوفية الجديدة، التي تحتاج إلى ائتلاف لحزبين رئيسيين للغالبية الألبانية في كوسوفا، بعد أن أعلن حزب "الرابطة الديمقراطية الكوسوفية" الذي أصبح يقوده الآن عيسى مصطفى عن رفضه لأي تآلف حكومي مع "الحزب الديمقراطي الكوسوفي"، حيث أصبح يدعو إلى حكومة انتقالية تشرف على انتخابات مبكرة بسبب ما شاب الانتخابات الأخيرة من مخالفات. وقد كان الخيار الآخر تشكيل حكومة ائتلافية مع "التحالف لأجل مستقبل كوسوفا"، حيث عرض عليه هاشم ثاتشي منصب رئيس الدولة وسبعة وزراء في الحكومة، ولكن قيادة الحزب اشترطت ألا يكون ثاتشي على رأس الحكومة الجديدة بعد أن وافقت الجمعية البرلمانية في المجلس الأوربي على إجراء تحقيق دولي حول اتهامات لثاتشي بتورطه في مافيا للاتجار بالبشر والأعضاء البشرية والمخدرات.


وبسبب هذا الرفض لم يعد أمام ثاتشي سوى أن يشكّل حكومة بالاتفاق مع حزب رجل الأعمال باتسولي "التحالف لأجل كوسوفا جديدة"، الذي كان يشترط أن يكون منصب رئيس الدولة له شخصيا، ومع "الحزب الليبرالي المستقل" الذي يقوده الصربي سلوبودان بتروفيتش. وقد اضطر ثاتشي إلى القبول بهذا الأمر في 14 فبراير/شباط 2011 على الرغم من معارضة بعض الأعضاء النافذين في قيادة الحزب (يعقوب كراسنيشي و فاتمير ليماي الخ)، مما فسح المجال لالتئام البرلمان الكوسوفي الجديد في 21 فبراير/شباط 2011، وانتخب رئيسا له (يعقوب كراسنيشي) وحدّد اليوم التالي لانتخاب رئيس الدولة والتصويت على الحكومة الجديدة.





يخشى المراقبون الكوسوفيون المستقلون أو القريبون من المعارضة أن تؤدي هذه الأزمة إلى إضعاف موقف كوسوفا في المفاوضات وإلى قبول الحكومة الجديدة بخيارات لا تنال الرضا الشعبي.
ولكن اجتماع البرلمان في اليوم التالي (22/2/2011) أبرز أن البلاد قادمة على أزمة كبيرة لأن القوى الثلاث الرئيسة للغالبية الألبانية ("الرابطة الكوسوفية الديمقراطية" وحركة "تقرير المصير" و"التحالف لأجل مستقبل كوسوفا") التي تمتلك 53 مقعدا في البرلمان (من أصل 120) قاطعت الاجتماع. ونتيجة لذلك فقد حصل باتسولي في الجولة الأولى على 54 صوتا وفي الجولة الثانية على 58 صوتا، بينما ينصّ الدستور الكوسوفي على ضرورة الحصول على ثلثي الأصوات وعلى النصف زائد واحد في الجولة الثالثة، وإذا لم يتحقق ذلك يحل البرلمان وتجري انتخابات جديدة. وبسبب هذا الوضع طلب "الحزب الديمقراطي الكوسوفي" استراحة ، مع أن ذلك يخالف الدستور، حيث هدّد ثاتشي قيادة الحزب بالاستقالة إذا لم يلتزم الجميع بالتصويت لباتسولي. ومع العودة للتصويت حصل باتسولي على 62 صوتا ليصبح بذلك الرئيس الثالث لكوسوفا. وفي الجلسة ذاتها منح البرلمان بالأصوات ذاتها الثقة للحكومة الجديدة برئاسة ثاتشي، التي حصل فيها على منصب نائب رئيس الحكومة ممثل من حزب باتسولي وممثل آخر من حزب بتروفيتش. وبالإضافة إلى ذلك فقد منح ثاتشي لبتروفيتش وزارتين للصرب (وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة المهجّرين).

ولكن هذه النتيجة كانت بداية وليست نهاية للأزمة السياسية والمؤسساتية في كوسوفا. فلم تقبل المعارضة الكبيرة التي تمثل غالبية الألبان انتخاب رجل أعمال يحمل جنسية سويسرية ويعد شخصية خلافية في المجتمع الكوسوفي، بسبب اتهامات له حول ثروته الكبيرة التي جناها في روسيا خلال عهد يلتسين، بهذا العدد من الأصوات ومع المخالفة الصريحة للدستور المتمثلة بقطع الجلسة الانتخابية لممارسة الضغوط على بعض الأعضاء لأجل التصويت لانتخاب باتسولي. ولأجل ذلك فقد قرر الحزبان الرئيسان للغالبية الألبانية ("الرابطة الديمقراطية الكوسوفية" و"التحالف لأجل مستقبل كوسوفا") التقدم باعتراض إلى المحكمة الدستورية العليا.


ومن ناحية أخرى، فقد أدى تهديد ثاتشي بالاستقالة حين اعترض بعض أعضاء حزبه على التصويت لأجل باتسولي إلى أن يحدث تصدع في حزبه. ففي اليوم التالي عبّر عن هذا التصدع رئيس البرلمان كراسنيتشي، الذي يشغل أيضا منصب سكرتير "الحزب الديمقراطي الكوسوفي"، حيث اعترف بوجود مخالفة صريحة للدستور، وبأنه رفض تهديد ثاتشي ولم يصوت لباتسولي وبأن الحزب يتجه للانقسام.


ومن هنا فإن هذه الأزمة السياسية المؤسساتية المتواصلة منذ عدة شهور يمكن أن تؤثر سلبيا على كوسوفا في عدة مجالات حيوية. أما المجال الأول فهو صورة كوسوفا في الخارج، التي يمكن أن تؤثر على تدفق الاستمارات الأجنبية التي تحتاج إليها كوسوفا على وجه السرعة في هذه المرحلة الانتقالية، كما يمكن أن تؤثر على إبطاء حركة الاعتراف بالدولة الكوسوفية التي توقفت عند الرقم 75، وهو ما يعني استمرار وجود مسافة كبيرة لتخطي حاجز المائة والحصول على عضوية الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. ومن ناحية أخرى، فقد تأخرت المفاوضات بين بلغراد وبريشتينا التي دعا إليها قرار الجمعية العامة منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وليست كوسوفا مع هذه الأزمة المتواصلة جاهزة لأن تدخل هذه المفاوضات من موقع قوي بالمقارنة مع بلغراد المستعدة جيدا لها. ويخشى المراقبون الكوسوفيون المستقلون أو القريبون من المعارضة أن تؤدي هذه الأزمة إلى إضعاف موقف كوسوفا في المفاوضات وإلى قبول الحكومة الجديدة بخيارات لا تنال الرضا الشعبي.
_________________
أستاذ التاريخ بجامعة آل البيت بالأردن