محكمة الحريري وسيناريو عرقنة لبنان

النظام الطائفي اللبناني يتمسك بوحدة البلد بخلاف النظام الطائفي العراقي، وإن كانت هناك قوى لبنانية تريد عرقنة بلادهم إلا أن ميزان القوى ليس حاليا في صالحها.







 

باسم أحمد حسن


أثارت تصريحات وزير الخارجية السعودي حول احتمال انقسام لبنان إلى عدد من الدويلات الطائفية مخاوف المراقبين من المنحى الذي قد تتخذه الأحداث عند صدور القرار الظني في جريمة اغتيال رفيق الحريري، وما قد يؤول إليه مصير الدولة اللبنانية على الرغم من تصريحات الفرقاء اللبنانيين المتكررة عن تمسكهم بوحدة الوطن والتعايش المشترك. وإذا كانت الأدبيات السياسية العربية قد درجت منذ سبعينات القرن الماضي على استخدام مصطلح اللبننة للإشارة إلى انهيار سلطة الدولة مقابل صعود نفوذ المليشيات الطائفية وتنامي قوة الأجنحة المسلحة التابعة لأحزاب عقائدية، فإنه ومنذ الغزو الأمريكي للعراق وما ترتب عليه من قيام نظام سياسي جديد تمت هندسته في واشنطن أصبح بالإمكان الحديث عن العرقنة. ويقصد بالعرقنة هنا إقامة نظام فيدرالي يقسم الدولة إلى مجموعة من الأقاليم على أساس قومي أو مذهبي، إضافة إلى وضع عدد من المبادئ الدستورية والقانونية التي تشلّ السلطة المركزية وتجعلها رهينة إرادة سلطات الأقاليم. وغني عن البيان أن مثل هذا النظام يختلف عن النظم الفيدرالية المقامة على أسس جغرافية وإدارية كالنظام الموجود في الولايات المتحدة مثلا، وأنه يساعد على انتشار الدعوات الانفصالية.





يقصد بالعرقنة هنا إقامة نظام فيدرالي يقسم الدولة إلى مجموعة من الأقاليم على أساس قومي أو مذهبي، إضافة إلى وضع عدد من المبادئ الدستورية والقانونية التي تشلّ السلطة المركزية وتجعلها رهينة إرادة سلطات الأقاليم.
وتشترك العرقنة مع اللبننة في العديد من المظاهر إلا أنها تختلف عنها في أمرين جوهرين: أولهما أن العرقنة تشرعن ضعف السلطة المركزية لصالح قوة الأحزاب والحركات الإثنية والمذهبية على العكس من اللبننة التي ينظر في إطارها إلى تنامي نفوذ المليشيات والأحزاب على حساب سلطة الدولة كخلل وخروج  على الشرعية، والأمر الثاني هو تمسك القوى المتصارعة في سياق اللبننة بوحدة الدولة، مثال ذلك تمسك أطراف الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي بما فيها القوى التي كانت توصف من قبل خصومها بالانعزالية بوحدة التراب اللبناني، وفي المقابل فإن العرقنة تعد بيئة حاضنة للدعوات الانفصالية تحت شعار حق تقرير المصير.

وتكون الإجابة على السؤال المطروح في العنوان من خلال تحليل توازن القوة القائم في لبنان بين القوى السياسية المختلفة عقب انهيار حكومة سعد الحريري، وعما إذا كان يميل باتجاه العرقنة أم لا.


وتنبع أهمية فهم هذا التوازن من أن العرقنة نادرا ما تتحقق طواعية وإنما يتم فرضها بالقوة كما أن إفشالها أيضا غالبا ما يتطلب استخدام القوة. ولا يختزل هذا التحليل مفهوم القوة في مكونها المادي الذي يشمل القوة العسكرية والاقتصادية والقدرات التنظيمية، وإنما يأخذ في الاعتبار أيضا العناصر غير المادية أو ما يعرف بالقوة الناعمة، كالخطاب السياسي، الإعلام والصورة الذهنية، الشرعية، والخبرة والمهارة السياسية.


وينقسم التحليل إلى ثلاثة أجزاء: يرصد الجزء الأول التحول في توازن القوة بين المعسكرين المتصارعين خلال المراحل المختلفة للأزمة، ويحلل الجزء الثاني مكاسب وخسائر كل معسكر في ضوء أهدافه والإستراتيجيات التي اتبعها لتحقيقها، ويقيّم الجزء الثالث احتمالات عرقنة لبنان في المستقبل القريب في ضوء توازن القوة الحالي في لبنان والتطورات السياسية الجارية في المنطقة العربية.


توازن القوة خلال مراحل الأزمة المختلفة
الرابحون والخاسرون
احتمالات العرقنة في المستقبل القريب


توازن القوة خلال مراحل الأزمة المختلفة 


لم يكن رفيق الحريري أول رئيس وزراء أو سياسي لبناني يتم اغتياله، ولكن يمكن القول أن ما من اغتيال سياسي آخر ترتبت عليه تداعيات سياسية كالتي ترتبت على عملية الاغتيال التي وقعت في شباط/فبراير 2005 . ولا يعود هذا الأمر إلى مكانة الرجل في لبنان بالقدر الذي يرتبط باللحظة التاريخية التي كانت تمر بها المنطقة العربية، فقد وجد المحافظون الجدد في واشنطن في اغتيال الحريري فرصة لإنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان، تمهيدا للقضاء على حزب الله وإسقاط نظام بشار الأسد لخلق شرق أوسط جديد. ويمثل هذا المشروع (1) محور الأزمة اللبنانية، وهو ما عكسه اصطفاف القوى على المستويين اللبناني والإقليمي، خاصة عقب خروج الجيش السوري من لبنان.


ويمكن القول أن الأزمة الحالية قد مرت حتى الآن بثلاث مراحل متمايزة: المرحلة الأولى، افتتحت باغتيال رفيق الحريري وانتهت بفشل العدوان الإسرائيلي في تموز/يوليو 2006، أما المرحلة الثانية فتغطي الفترة الممتدة بين هزيمة العدوان الإسرائيلي والمواجهات المسلحة في 7 أيار/مايو  2008، أما المرحلة الثالثة فبدأت بتوقيع اتفاق الدوحة وانتهت بسقوط حكومة سعد الحريري.


1- توازن القوة خلال المرحلة الأولى
مال توازن القوة في بداية الأزمة بوضوح لصالح الولايات المتحدة وحلفائها حيث التقت أهدافهم مع رغبة قطاعات كبيرة من المجتمع اللبناني في إنهاء الوجود العسكري السوري في بلدهم، وإذا كانت مشاركة بعض القطاعات خاصة القوى المارونية التي عرفت تاريخيا بالتوجس إن لم يكن العداء التام لسوريا متوقعة، فإن المشاركة الضخمة لسنة لبنان في ما عرف إعلاميا بثورة الأرز عكس واقعا سياسيا جديدا. وإذا كان من الممكن تفسير العداء الذي أظهره عدد غير قليل من السنة لكل ما هو سوري فور وقوع الاغتيال كرد فعل عاطفي على الجريمة وبعض تجاوزات القوات السورية فإن استمرار هذا المستوى الشديد من العداء حتى بعد خروج هذه القوات من لبنان، والهجوم المتواصل على سلاح حزب الله،  يمكن إرجاعه إلى حدوث تغير نوعي في التوجه السياسي للسنة الذين كانوا تاريخيا عماد التيارات العروبية في لبنان، وفي طليعة الداعمين للمقاومة الفلسطينية أثناء وجودها بلبنان؛ تغيراً أصبح معه تيار المستقبل الممثل الأبرز للفكر الشيحاوي (2) في لبنان. ولعل حزب الله استشعر هذا فعدّل من سلوكه السياسي وتحالفاته هو الآخر، وظهر ذلك في قرار المشاركة في الحكومة لأول مرة، وفي ورقة التفاهم التي وقعها مع التيار الوطني الحر، وهو ما أعطى مؤشراً على حدوث اصطفاف سياسي جديد في لبنان، وقد ظهر ذلك بشكل لا لبس فيه أثناء حرب تموز/يوليو.


2- توازن القوة خلال المرحلة الثانية



العرقنة نادرا ما تتحقق طواعية وإنما يتم فرضها بالقوة كما أن إفشالها أيضا غالبا ما يتطلب استخدام القوة.
أدى فشل عدوان تموز/يوليو إلى فقدان الولايات المتحدة وحلفائها زمام المبادرة في لبنان، خاصة وأنه ترافق مع غرق الولايات المتحدة في المستنقعين العراقي والأفغاني. والأهم أن توازن القوة العسكرية في الساحة اللبنانية منذ ذلك الوقت أصبح لصالح حزب الله وحلفائه، وهو ما جعل قوى 14 آذار تعتمد على قوتها الناعمة ممثلة في ماكينتها الإعلامية مستفيدة في ذلك من الدعم المالي والإعلامي السعوديين، كما شاركت وسائل الإعلام الحكومية المصرية في الحملات الموجهة ضد حزب الله والتي لجأت إلى الشحن المذهبي والقومي من خلال تصوير الحزب كجزء من مؤامرة شيعية فارسية لضرب السنة العرب، وهو ما جعل المحكمة الدولية وسلاح حزب الله – الذي أصبح يشكل في اعتقاد البعض خطراً على الدولة اللبنانية يفوق الخطر الإسرائيلي- أبرز عناوين الأزمة في تلك المرحلة. وجاء رد 8 آذار على تلك الضغوط في البداية سياسياً من خلال استقالة الوزراء الشيعة، وأمام إصرار حكومة السنيورة على البقاء في الحكم، على الرغم من عدم ميثاقيتها، نزلت المعارضة إلى الشارع لإسقاطها. وعوضا عن أن تعمل الحكومة أمام نذر المواجهة في الشارع على التهدئة عمدت إلى التصعيد من خلال إصدار عدد من القرارات الخاصة بشبكة الاتصالات الأرضية والتي أعتبرها حزب الله تعرض أمن المقاومة للخطر فلجأ إلى الحسم العسكري مستغلا تفوقه الواضح على مسلحي المستقبل. (3)

3- توازن القوة في المرحلة الثالثة
فتح اتفاق الدوحة الباب أمام انتخاب رئيس توافقي وتشكيل حكومة وحدة وطنية تحتفظ فيها المعارضة السابقة بالثلث المعطل، كما أعاد البيان الوزاري التأكيد على شرعية سلاح المقاومة ودعم المحكمة الدولية، وهو ما كان يمكن أن يؤدي إلى تسوية على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، إلا أن ما تسرب عن مضمون القرار الظني أكد لحزب الله استمرار الحملة ضده، خاصة وأن التسريب تمّ عن طريق وسائل إعلامية يرى الحزب أنها على علاقة بدوائر صهيونية، وهو ما أشعل الأزمة من جديد ودفع الحزب وحلفاءه إلى المطالبة بفتح ملف شهود الزور، وأدى تلكؤ سعد الحريري في الاستجابة لهذا الطلب ومماطلته في إعلان قبوله للمبادرة السعودية-السورية إلى تقديم وزراء المعارضة استقالاتهم. وكشفت التطورات التالية عن أن المعارضة لم تقدم على هذه الخطوة إلا بعد أن ضمنت تأييد أحد الوزراء التوافقيين الثلاثة في إسقاط حكومة الحريري، وأمّنت دعم وليد جنبلاط لتسمية مرشح توافقي لرئاسة حكومة جديدة، وهو ما يعني أن تيار المستقبل فقد اثنين من أهم عناصر قوته: الأغلبية البرلمانية والسيطرة على جهاز الدولة.


الرابحون والخاسرون 


1- حزب الله
يأتي حزب الله في مقدمة الرابحين حتى الآن، فالحزب الذي تعرض على مدى الست سنوات الماضية للعديد من الحملات العسكرية والسياسية لإلغائه من المعادلتين اللبنانية والإقليمية استطاع أن يحافظ على مكانته كأحد اللاعبين الرئيسين في الساحتين، فالحزب لم يتمكن من الاحتفاظ بسلاحه فحسب بل استطاع أيضا، وهو الأمر الأهم، أن يؤمن لنفسه موقعا مركزيا في تحالف عريض يضم القيادات الكبرى لثلاث من الطوائف اللبنانية الأربع الرئيسة، إضافة إلى عدد من الشخصيات السنية ذات المكانة التاريخية الكبيرة كسليم الحص وعمر كرامي، والتنظيمات السنية مثل التنظيم الشعبي الناصري، صاحب الشعبية الكبيرة في صيدا، وينضوي في إطار هذا التحالف أيضا عدد من الأحزاب العلمانية كالحزبين الشيوعي والقومي السوري، ما يجعل هذا التحالف يمثل غالبية الشعب اللبناني حتى وإن لم يعكس عدد مقاعده في البرلمان هذه الحقيقة بسبب طبيعة النظام الانتخابي اللبناني القائم على الطائفية السياسية.


وتمكن حزب الله من تحقيق أهدافه المتمثلة في الحفاظ على سلاحه وشعبيته في العالم العربي من خلال إتباع إستراتيجية اعتمدت على تأمين وضعه الداخلي من خلال:






  • استفاد حزب الله خلال جميع المراحل من شعبية ومصداقية أمينه العام لدى قطاع عريض من الشارعين اللبناني والعربي لشرح مواقفه وحشد الدعم الشعبي لها.
    أولا:
    تدعيم تحالفه مع حركة أمل للحفاظ على وحدة الصف الشيعي.

  • ثانيا: إقامة شبكة واسعة من التحالفات مع أحزاب تمثل مختلف الطوائف وفي مقدمتها التيار الوطني الحر - أكبر الأحزاب المارونية- حتى ينفي عن موقفه أي صبغة مذهبية.

  • ثالثا: الابتعاد عن التحريض المذهبي والتعامل مع الأزمة على أنها خلاف سياسي، وقد ساعده هذا على الاحتفاظ بحلفائه من السنة والحفاظ على شعبيته في العالم العربي، وأبقى على قنوات الاتصال مفتوحة بينه وبين النواب السنة المستقلين.

  • رابعا: السعي إلى استعادة حلفائه السابقين أمثال وليد جنبلاط.

  • خامسا: التشكيك في مصداقية المحكمة الدولية، وجاء تسريب تسجيل للقاء الحريري مع أحد شهود الزور ليقضي على مصداقية الحريري والمحكمة معا.

  • سادسا: القبول بحلول وسطى كالمبادرة السعودية-السورية طالما كانت تلبي أهدافه مما نفى عنه صفة التشدد.

بالإضافة إلى تلك الخطوات نجح الحزب في توظيف عناصر قوته المختلفة بما يتماشى مع متطلبات كل مرحلة، فاستخدم قوته العسكرية للتصدي للعدوان الإسرائيلي ولحسم المواجهة مع حكومة السنيورة ومسلحي المستقبل، وفى المرحلة الثالثة اعتمد على المهارة السياسية لقيادته لتوفير الأغلبية النيابية المطلوبة لدعم ترشيح نجيب ميقاتي.


واستفاد الحزب خلال جميع المراحل من شعبية ومصداقية أمينه العام لدى قطاع عريض من الشارعين اللبناني والعربي لشرح مواقفه وحشد الدعم الشعبي لها.


2- التيار الوطني الحر
استطاع التيار الوطني الحر خلال السنوات الست الماضية أن يكرّس موقعه كأكبر الأحزاب المارونية في لبنان على الرغم من تأييد بكركي لخصومه، وهو ما يؤكد حجم الإنجاز الذي حققه التيار، كما تمكن من قطع شوط كبير في طريق تحقيق هدفيه الرئيسين وهما: استعادة الدور السياسي للطائفة المارونية في اللعبة السياسية اللبنانية والقضاء على الحريرية السياسية. وفي سبيل تحقيق هذين الهدفين اتبع التيار إستراتيجية تقوم على النقاط التالية:



  • أولا: الحفاظ على استقلال قراره السياسي وإبراز شخصيته المستقلة.

  • ثانيا: المساهمة في الدفاع عن لبنان من خلال دعم المقاومة أثناء حرب تموز/يوليو.

  • ثالثا: كسر العزلة السياسية التي حاول أن يفرضها عليه تيار المستقبل وحلفاؤه من خلال ورقة التفاهم التي وقعها مع حزب الله.

  • رابعا: تبني خطاب سياسي يرى في مسيحي لبنان جزءا من المشرق العربي، وهو تطور نوعي حيث دأبت الأحزاب المارونية في الماضي على محاولة عزل الموارنة عن محيطهم العربي وربطهم بالغرب.

  • خامسا: تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الطائفية والشخصية، كما ظهر في قبول التيار باتفاق الدوحة على الرغم من عدم حصول زعيمه على منصب رئاسة الجمهورية.

  • سادسا: تسليط الضوء على الفساد المالي والإداري المرتبطين بالحريرية السياسية.

3- القوات اللبنانية
كانت القوات اللبنانية أكثر المتضررين من انتهاء الحرب الأهلية وما أعقبها من تطورات سياسية، فالحزب المنبثق عن أكبر المليشيات المارونية في السبعينات والتي شاركت إسرائيل في حصار واقتحام بيروت في  1982 ، تمّ حله وسجن قائده- بعد إدانته باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رشيد كرامي- في مطلع التسعينات، إلا أن حظوظ القوات تغيرت مع بدء الأزمة الحالية فاستعادت وضعها القانوني وقائدها الذي أمّن له تيار المستقبل عفواً قانونياً، وأصبح سمير جعجع بعد إطلاق سراحه أبرز منظري قوى 14 آذار والمتحدثين باسمها.


يمكن القول أن القوات لم تحقق تلك المكاسب بفضل جهدها الخاص وإنما نتيجة الخيارات السياسية لتيار المستقبل والإستراتيجيات التي اتبعها والتي عادت بالفائدة على القوات أكثر مما عادت على المستقبل ذاته، كذلك فقد استفادت القوات من التحريض المذهبي الذي مارسته وسائل إعلام المستقبل وقياداته لخدمة خطابها السياسي الذي يدعو إلى تأسيس نظام فيدرالي تتوافر فيه مقومات العرقنة التي سبق الإشارة لها في المقدمة.


4- تيار المستقبل



لعل رغبة السعودية في تقليل خسائرها ومعرفتها بدور سعد الحريري في إفشال المبادرة السعودية-السورية جعلاها تدعم تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة.
هو أكبر الخاسرين في الأزمة الحالية، فالمستقبل الذي كان القوة السياسية الأبرز في التسعينات، ولعب دوراً أساسياً في ثورة الأرز أصبح اليوم شبه معزول بعد أن فقد معظم حلفائه ولم يبق معه في معسكره سوى بعض الأحزاب الصغيرة والقوى الهامشية كالقوات اللبنانية وحزب الكتائب حتى أنه فشل في تأمين العدد اللازم من النواب لتشكيل الحكومة الجديدة على الرغم من أنه يمتلك الكتلة النيابية الأكبر، والوضع الحالي للمستقبل نتاج الإستراتيجية التي اتبعها في إدارة الأزمة الحالية والتي ارتكزت على مجموعة من الأفكار والحسابات الخاطئة، أبرزها:

  • أولاً: اختزال الطائفة السنية في شخص الحريري وتهميش باقي القيادات وتخوين من يختلف منها معه، بل والاعتداء عليها، وهو ما ترتب عليه وجود انقسامات حادة بين القيادات السنية، وقلل من هامش المناورة السياسية المتاح للمستقبل.

  • ثانياً: تبني خطاب مذهبي حاد جعل من الصعب على أي حزب شيعي أن يتحالف معه، كما أثار هذا الخطاب مخاوف قطاعات من الطوائف الأخرى، واستمر المستقبل في التعبئة المذهبية حتى بعد أن أظهرت مذبحة حلبا التي ارتكبها أنصاره خطورة هذا الخطاب.

  • ثالثاً: الاعتماد على تحالفات دولية وإقليمية لتعزيز موقعه الداخلي وإهمال القوى اللبنانية الأساسية.

  • رابعاً: إتباع سياسة حافة الهاوية طوال مراحل الأزمة في غياب عناصر القوة الذاتية اللازمة لإنجاح مثل هذه السياسة.

  • خامساً: التعامل مع الأزمة على أنها لعبة صفرية، ما جعل المستقبل يرفض الحلول الوسطى المطروحة  حتى التي قبلها بعض حلفائه.

وعانى تيار المستقبل طوال الأزمة من نقاط ضعف كبيرة كلفته الكثير، من أهمها:



  • أولاً: غياب أجندة واضحة خاصة بتيار المستقبل، ما جعله أداة لتنفيذ أهداف حلفائه، ولعل هذا يفسر أيضا خطابه المذهبي الحاد.

  • ثانياً: افتقار سعد الحريري للخبرة السياسية ومقومات رجل الدولة، وهو ما أظهرته بوضوح التسجيلات التي سربتها المعارضة.

  • ثالثاً: التحالف مع قاتل رئيس وزراء أسبق ومع مرتكبي مذابح بحق مدنيين عزل في صبرا وشاتيلا، وغيرهما من المخيمات والقرى، أضعف من مصداقية زعيم المستقبل بأنه يسعى إلى تحقيق العدالة، وجعل الأمر يبدو وكأنه سعي وراء ثأر شخصي أو مصالح ذاتية.

وترتب على تدهور مكانة المستقبل خسارة سياسية كبيرة للسعودية حليفته الإقليمية الكبرى ومصدر الدعم المالي الأول له. وتشكّل هذه الخسارة حلقة جديدة في سلسلة من الإخفاقات التي عانت منها المملكة مؤخرا، وكان آخرها فشل حليفها إياد علاوي في تولي رئاسة الحكومة العراقية. ولعل رغبة السعودية في تقليل خسائرها ومعرفتها بدور سعد الحريري في إفشال المبادرة السعودية-السورية جعلاها تدعم تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة.


احتمالات العرقنة في المستقبل القريب 


ستظل عرقنة لبنان قائمة كاحتمال نظري ما ظلت الطائفية السياسية والأطماع الصهيونية قائمة، إلا أن تحولها إلى واقع فعلي يتطلب توافر عاملين هما: توازن قوة داخلي يميل لصالح القوي المؤيدة للعرقنة ووضع إقليمي يدفع في هذا الاتجاه، والعاملان لا يتوافران في اللحظة الحالية. فأنصار العرقنة في لبنان قوى صغيرة تستمد حضورها السياسي والإعلامي بالأساس من تحالفها مع المستقبل. أما معارضو هذا التوجه فيشكلون أغلبية القوى السياسية اللبنانية كما تمتلك هذه الأغلبية القوة العسكرية الكافية (الجيش وسلاح المقاومة) لإفشال هذا الخيار، يساعدها في ذلك صغر مساحة لبنان و توزعها، أي الأغلبية، على كل مساحته، أضف إلى ذلك الجوار الجغرافي السوري الذي يمثل عمقا إستراتيجيا لهذه القوى.


وفيما يتعلق بالوضع الإقليمي فإن الاحتجاجات الشعبية الأخيرة خاصة في مصر وما يتوقع من تداعياتها السياسية في المنطقة تجعل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل وما يطلق عليه الفريق الأمريكي في الإدارة السعودية يتريثون قبل الإقدام على أي خطوة قد تؤدي إلى إشعال حريق آخر في المنطقة لا يمكن التنبؤ بعواقبه. لكن ذلك لا يعني أن لبنان بمنأى تماماً من خطر العرقنة في الوقت الحالي خاصة وأن توازن القوة- كما ظهر في الجزء الأول من هذا المقال- عرضة للتغير.


وهناك عاملان قد يدفعان في اتجاه العرقنة: الأول هو المزاج السائد وسط قطاعات واسعة من السنة بسبب الخطاب المذهبي للمستقبل، والذي جعلها ترى في نفسها ضحية لتهميش وإقصاء على يد الشيعة، ويزيد من خطورة هذا الأمر ما ذكرته بعض التقارير عن وجود مليشيات سلفية تم تدريبها لقتال حزب الله.





سواء اندفع القادة الإسرائيليون باتجاه مغامرة عسكرية جديدة أو سعوا للتوصل إلى تسوية مع سوريا لعزل حزب الله وتدعيم تسوياتهم مع مصر والأردن فإن استعادة التوحد اللبناني حول المقاومة إلى أن يستكمل بناء جيش وطني قوي تظل الوسيلة الأنجع لدرء الخطر الإسرائيلي.
والعامل الثاني، هو قيام إسرائيل بعدوان جديد-على الرغم من خطورة مثل هذه المغامرة في التوقيت الحالي- استغلالاً للانقسام الداخلي اللبناني وحالة السيولة الإقليمية على أمل حسم  المواجهة على الجبهة اللبنانية استباقاً للتطورات في مصر، وما قد يترتب علي أي عدوان جديد من خسائر كبيرة للمقاومة والجيش قد يستغلها أنصار العرقنة لفرض خيارهم في بعض المناطق.


وتستطيع السعودية أن تلعب دوراً كبيراً في تهدئة الاحتقان الحالي عن طريق الضغط على المستقبل لتغيير خطابه التحريضي والتوقف عن تخوين وإقصاء القيادات السنية الأخرى. ومن الممكن أن يساهم في التهدئة أيضا تشكيل قطب سني جديد - تحالف ميقاتي والصفدي- وتبنيه لخطاب توافقي. ومن المهم أن تكافح الحكومة الجديدة البطالة بين السنة وكل اللبنانيين خاصة في الشمال حتى لا يظلوا معتمدين اقتصادياً على الحريري أو غيره من القوى السياسية، ولكن يظل القرار الظني هو الصاعق الذي قد يفجر لبنان، لذا يجب على السعودية وقطر وغيرهما من حلفاء الولايات المتحدة الإقليمين الضغط على واشنطن لتأجيل صدوره خاصة في ظل التطورات الأخيرة بالمنطقة أو لعدم إعلانه في حال صدوره، أما إذا أعلن القرار فعلى هذه الدول الإقليمية أن ترسل رسالة واضحة للحريري بأنها لن تقبل أي محاولة لعرقلة جهود الحكومة الجديدة للسيطرة على الانفجار على أساس المبادرة التي سبق له رفضها.


أما فيما يخص العامل الإسرائيلي، فسواء اندفع القادة الإسرائيليون باتجاه مغامرة عسكرية جديدة أو سعوا للتوصل إلى تسوية مع سوريا لعزل حزب الله وتدعيم تسوياتهم مع مصر والأردن فإن استعادة التوحد اللبناني حول المقاومة إلى أن يستكمل بناء جيش وطني قوي تظل الوسيلة الأنجع لدرء الخطر الإسرائيلي.
_______________
باحث زائر بجامعة دنفر بالولايات المتحدة






هوامش
1- تتبنى إدارة اوباما نسخة مخففة من هذا المشروع تهدف إلى حصار خصومها وإضعافهم داخلياً عوضاً عن الغزو العسكري وهو امتداد للأسلوب الذي لجأ إليه سلفه  في السنوات الأخيرة من حكمه.
2- نسبة لميشال شيحا وهو من دعاة الانحياز إلى الغرب وتبني موقف حيادي في الصراع العربي-الإسرائيلي.
3-  يظهر الحرص الإسرائيلي على اختراق شبكات الاتصال مدى خطورة هذا القرار على أمن المقاومة و لبنان.

نبذة عن الكاتب