التفاعلات الخارجية مع الانتفاضة التونسيّة: المواقف والاستراتيجيات

فاجأت انتفاضة تونس القوى السائدة إقليميا ودوليا وأوقعتها في ارتباك شلّ تجاوبها، فتجاوزت الأحداث الأوربيين، فلم يستطيعوا أن يحافظوا على بن علي الذي طالما ساندوه رغم استبداده ولا أن يقفوا مع تطلع التونسيين إلى الديمقراطية التي طالما نادوا بها.







 

براء ميكائيل


سقوط الرّئيس التّونسي السّابق زين العابدين بن علي السّريع، لم يفاجئ مراقبي ومحلّلي الشّأن التونسي فحسب، بل إنّ الحكومات السّائدة على السّاحتين الإقليميّة والدوليّة لا بدّ أنها شعرت وكأنّ الأحداث التونسيّة أتت بمثابة زلزال مفاجئ وغير متوقّع ينبغي من ثمّ إيجاد سبل التّعامل السّريعة والملائمة له، وهذا يذكّرنا بما كنّا قد شاهدناه من 20 سنة حين انهار حائط برلين بين ليلة وضحاها، فتساءل العالم بأكمله عن المعنى الفعلي لهذا الحدث المذهل ونتائجه المتوقّعة، وكذلك كيفيّة وسبل التعامل معه.





ما كانت الدول الأوروبية تسعى إليه وما زالت هو التأكّد من إيجاد الفرص الّتي تقود أنظمة كنظام بن عليّ إلى الدّفاع عن رؤياها ومصالحها حول بعض القضايا الجوهريّة، ومنها الحدّ ممّا يسمّى المدّ الإسلامي والراديكاليّة.
لكنه يبقى أيضا من الجدير بالذكر أنّ ما فُرض على الشعب التونسيّ من تعسّف وسوء معاملة وتضييق وأوضاع معيشيّة بائسة يتحمّل أيضا مسؤوليته قدر كبير من حكّام وحكومات العالمين العربي والغربي على وجه الخصوص، فحقائق النظام التونسي طالما كانت معروفة للجميع وبالتفصيل. وقد يكون هذا هو السّبب الأساسي للارتباك الّذي أصاب أغلب النظم السّياسيّة السّاعية إلى إيجاد طريقة تعامل سليمة وغير قابلة للانتقاد مع التطوّرات القائمة في البلاد. غير أنّه ضمن طرق التعامل هذه الّتي لم تتّضح بعد كلّ مساعيها، تبقى التّساؤلات حول مستقبل التطوّرات التونسيّة الدّاخليّة وتأثيرها المفترض على العالم العربيّ أو على جزء منه مطروحة. ومن ثمّ، يقودنا الوضع التّونسي وخصوصيّاته إلى طرح قضيّة ماهيّات طرق الحكم القائمة على السّاحة العربيّة بشكل عام، وكذلك التغييرات الجذريّة الّتي باتت متوجّبة على الآليات السّياسيّة الإقليميّة، وذلك على الأقلّ إذا افترضنا أنّ أغلب حكّام المنطقة متمسّكون فعلاً باجتناب الصّورة المذلّة الّتي قد تفرض نفسها عليهم يوماً ما جرّاء ال"تَوْنَسَةِ" الّتي قد تمسّ بلادهم على المدى المتوسّط أو البعيد.

السند الدولي والإقليمي لنظام بن علي
من البركان التونسي إلى حيرة القوى الدوليّة
الدلالات والمستقبل المتوقّع للتطوّرات التونسيّة
من النهضة التونسيّة إلى ردّ الاعتبار العربي والإسلامي


السند الدولي والإقليمي لنظام بن علي 


يبدو العالم اليوم وكأنّه انقلب رأساً على عقب. ولا ينبعث هذا الشعور انطلاقاً من الوضع السّائد في تونس فحسب، رغم أنّ الأوضاع القائمة في هذا البلد تشير، على عكس ما كان قد قيل حتّى الآن، إلى قدرته على تفعيل تغييرات جذريّة في مجرى الأحداث الشرق أوسطية.


فالواقع هو أنّ أبرز العلامات على سرعة تحوّل المواقف المطروحة كانت انطلاقا من ردّة فعل من كانوا من أشدّ المدافعين عن الرّئيس التّونسي حتّى وقت قريب، وقرّروا من ثمّ التّذكير باتّفاقهم والشّعب التونسي على ضرورة إحداث تغييرات جذريّة في بلادهم يكون فحواها إتمام مسيرة تمتاز بطابعها الديمقراطي.


ولا يقتصر هذا الوضع على دول أغلبها عربيّة بل على العكس من ذلك، فقد يقتنع كلّ من تعمّق في المسألة وحاول التدقيق في مواقف الحكّام والحكومات المختلفة من حكم بن علي بأنّ ربّما الحكومات والدول الغربيّة، وبشكل أخصّ الأوروبّيّة منها، هي الّتي بدت الأكثر تلاؤماً وتأقلماً مع النظام الّذي أسسه بن علي، وذلك على الرّغم من تمسّك الاتحاد الأوروبّيّ المعروف ـ أو المفترض ـ باحترام أسس ومبادئ كحرّيّة الصّحافة وحقوق الإنسان وحقّ الإدلاء بآراء سياسيّة مهما كان طابعها، وهي جميعاً مسائل افتقر النظام التّونسي الّذي ترأسه بن علي إلى ترسيخها ولو بشكل جزئي ومبدئي.


ولكن هذا لم يمنع الأوروبيين على وجه التحديد من تحبيذ سبل التعاون والشراكة الّتي طالما سمحت لتونس أن تتميّز عن الكثير من الدول المجاورة لها. فكانت مسيرة برشلونة الّتي انطلقت باسم تمسّك الأوروبيين بتقوية العلاقات اليوروـ متوسّطيّة، وكانت لتونس مرتبة متميّزة في هذا الإطار سواء من المنظور المادّي أو على قاعدة تمسّك الأوروبيين بالحفاظ على علاقات طيّبة مع نظام اعتبرته نموذجاً للاعتدال. وكانت موازاة لذلك عمليّة ال5+5 وهي عبارة عن هيئة يوروـ متوسّطيّة اصغر حجماً، جمعت بين خمس دول أوروبية وخمس دول من الضفة الجنوبية لحوض المتوسّط، وهي تسعى إلى تنشيط بعض من القضايا اليوروـ متوسّطيّة الّتي لم تفلح برشلونة في تطويرها. أمّا قناعة محبّذي مجموعة ال5+5 فقد انطلقت من مبدأ إيمانهم بقدرة الأجواء اللطيفة القائمة بين عدد قليل من ممثّلي الحكومات اليوروـ متوسّطيّة على إتمام قدر أكبر من المشاريع. وقد حصل هنا أن نالت تونس حصّة الأسد، كما برز ذلك مثلاً على صعيد بعض الاتّفاقات السّياحيّة وما رافقها من دفع الأوروبيين المبالغ الطائلة لإقناع تونس بالقبول بمشاريع توحي وكأنّه للعلاقات الاوروـ متوسّطيّة آفاق مثمرة تمتدّ إلى ما لا نهاية. غير أنّ الجهود الأوروبية هذه كانت لها خلفيّات أقلّ صفاء ممّا بدا للوهلة الأولى.





رؤية واشنطن المتشائمة نسبيّاً إزاء نظام بن علي تعود جذورها إلى انعدام وجود قيمة إستراتيجية لبلد كتونس من وجهة نظر الأمريكيين أكثر ممّا هي عائدة إلى تمسّكهم بأيّ نوع من الأسس والمبادئ الديمقراطية.
في الواقع، ما كانت الدول الأوروبية تسعى إليه وما زالت هو التأكّد من إيجاد الفرص الّتي تقود أنظمة كنظام بن عليّ إلى الدّفاع عن رؤياها ومصالحها حول بعض القضايا الجوهريّة، ومنها الحدّ ممّا يسمّى المدّ الإسلامي والراديكاليّة. لقد كسب الرّئيس التونسيّ المخلوع زين العابدين بن علي لقب الاعتدال لا لكونه متمسّكا بسياسات داخليّة معتدلة ومتأقلمة ورؤى الاتحاد الأوروبي، بل كان هذا الوسام الّذي ناله من قبل نظرائه الغربيّين مكافأة لرفضه القوانين والأسس العائدة إلى الشريعة الإسلامية وتطويره السّياسات الّتي تحدّ من نفوذ الحركات الرّاديكاليّة أو المعارضة له، ومن ضمنها الأحزاب المماثلة لحزب النهضة التّونسي. ومن هنا برزت الأسطورة الّتي قيل بموجبها أنّ بعض الأنظمة القمعيّة أمثال نظام بن علي تكمن ميزتها في قدرتها الفعّالة على منع ما يعرف بالإسلام المتشدّد من البروز على السّاحة السّياسيّة. وهي قناعة راسخة في ذهن أغلب الحكومات الأوروبية، وبدت وكأنّها، وعلى الرّغم من اعوجاجها، بوصلة للسياسات الّتي يطبّقونها مع الدول ذات الأغلبية المسلمة بشكل خاصّ.

ومن ثمّ يبقى من الصّعب أن تسير السياسات الأوروبية بشكل مختلف الآن وقد ثار الشعب التونسي، إذ ستبقى الآليات السياسيّة الأوروبية معلّقة على موضوع منع ما تسمّيه التطرّف الإسلامي من أن يأتي بأنظمة مبنيّة على النموذج الإيراني مثلاً. كما سيبقى من الصعب منع اغلب الحكومات العربيّة الإقليمية من طبيعة دعمها لأنظمة مثال نظام بن علي. فالعالم العربيّ طالما برز كسلسلة من الأنظمة السّياسيّة المتشابهة والمتّفقة على أنّ التجديد المحدود أو المعدوم للطبقات السياسيّة الحاكمة يمثّل أكبر ضمان لاستقرار البلاد. فهل كانت هناك حكومات أشادت وعن قناعة بنهضة الشعب التونسي، وأقرت بأنّه يتّجه نحو طريق سليم؟


لقد رأى البعض استثناء ملحوظاً في وضع الولايات المتّحدة، الّتي طالما حدّت من علاقاتها مع نظام بن علي، وشدّدت مراراً ـ ولو بصورة غير رسميّة وغير معلن عنها بصريح العبارة ـ على ضرورة أن يسود في البلاد وضع يتلاءم وطموحات الشعب التونسي، غير أنّ هذه الحالة المتأزّمة نسبيّاً والّتي برزت بشكل أكثر وضوحاً في بداية التسعينات من القرن الماضي ينبغي علينا أن لا نبالغ في مسبّباتها. فرؤية واشنطن المتشائمة نسبيّاً إزاء نظام بن علي تعود جذورها إلى انعدام وجود قيمة إستراتيجية لبلد كتونس من وجهة نظر الأمريكيين أكثر ممّا هي عائدة إلى تمسّكهم بأيّ نوع من الأسس والمبادئ الديمقراطية. وإلا لما وجدنا مبرّرا لمحافظة واشنطن على علاقات طبيعية مع كلّ من المغرب والجزائر أو حتّى مصر وليبيا إلى الآن. وقد تفسّر أيضاً خصوصيّة نوع العلاقة التونسية الأمريكية بتحبيذ بن علي تطوير العلاقات السياسيّة والتجاريّة مع الاتّحاد الأوروبّيّ الذي قلّما حاسبه على أداءه في ما يتعلّق بحقوق الإنسان، وربّما هذا ما ساعد في أن يصبح الاتّحاد الأوروبي لاعباً اقتصاديّاً أساسيا يمثل 80 بالمائة من مجموع الصادرات والإيرادات التونسيّة.


من البركان التونسي إلى حيرة القوى الدوليّة 


الاعتبارات الاقتصاديّة هذه لا بدّ لنا أن نحرص على عدم المبالغة في أهمّيّتها وقدرتها على تحديد مجرى الأمور، إذ أنّ تمسّك الاتحاد الأوروبي بعلاقات متينة مع تونس حدّدته عناصر سياسيّة وإستراتيجية أكثر ممّا هي اقتصاديّة ومادّيّة. ومن المنطلق نفسه، بدت سياسات الكثير من الدول المكوّنة للاتّحاد الأوروبي مماثلة لما جرت عليه من قبل الأوروبيين، بل وكانت أكثر جرأة أحيانا. ومن الأدلة على ذلك ما ورد من قبل الدبلوماسيّة الفرنسيّة، الّتي طالما عرفت بتمسّكها بعلاقات متينة مع نظام بن علي. فعلى سبيل المثال، حينما اندلعت المواجهات الأولى في تونس في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول 2010، تميّزت وزيرة الخارجيّة الفرنسيّة ميشيل اليو ماري، وهي حديثة عهد بهذا المنصب، بموقفها الداعي إلى إسناد ودعم الحكومة التونسيّة إزاء "أعمال الشغب" الّتي انطلقت حينئذ. بل ورد بعد ذلك خبر أنّ فرنسا كانت قد تهيّأت لإرسال طائرة معبّأة بأسلحة وأدوات مضادّة للشغب إلى تونس، غير أنّ هذه الشحنة تأخّرت عن موعدها إذ اضطرّت إلى البقاء على أرض مطار باريس في اليوم المحدّد لإقلاعها، أي في الجمعة 14 من يناير/كانون الثاني 2011، وهو اليوم الّذي سقط فيه الرّئيس بن علي رسميّاً.





في حال تمكّن التونسيّون من إتمام مسيرة ديمقراطية فعليّة تقودهم إلى تنظيم انتخابات مباشرة وشفّافة يعيّنون عبرها ممثّليهم السّياسيّين وقادتهم الفعليّين، ستكون ساعتها قدرة التونسيّين على التأثير على ذويهم في المنطقة كبيرة جدّاً.
وكان طبعاً سقوط بن علي المفاجئ مربكا لأغلب العواصم الّتي طالما أصرت على سلامة سياسات نظام بن علي. ولم تصبّ الأمور هنا في مصلحة الدبلوماسية الفرنسيّة الّتي اضطرّت إلى تصحيح موقفها من التطوّرات التونسيّة دون الوقوع في تهم النفاق والتناقض مع ذاتها وحتّى اتباعها سياسة الكيل بمكيالين. وهذا ما فسّر طبيعة المواقف المتّبعة من قبل فرنسا وبريطانيا وحتّى الاتّحاد الأوروبي بمجمله، فكلّهم حاولوا أن يصرّوا بشكل أو بأخر على تمسّكهم بالاستقرار واستتباب الأمن في تونس، وهي طريقة سعوا عبرها إلى التأكيد على حسن نواياهم تجاه الشعب التونسي دون أن يضطرّوا في الوقت نفسه إلى تبرير موقفهم من الرّئيس المخلوع. وثمة مواقف أكثر شفافية برزت هنا في حالة ألمانيا مثلاً الّتي أقرت بأنّ ما جرى في تونس وقع بسبب معاناة الشعب من الرّكود الّذي طالما ساد في البلاد. غير أنّ العبارة الأكثر شفافية وإخلاصا ربّما وردت على لسان الإيطاليّين، أو على الأقل، هذا ما بدا حينما خرجت الناطقة باسم وزارة الخارجية الإيطاليّة، وقالت أنّها مقتنعة بأنّ التّاريخ قد يحكم على أداء الرّئيس بن علي من منظار جيّد وإيجابي، إذا ما نظرنا إلى مدى التطوّرات البنّاءة، وإن لم تكن كافية، الّتي تمكّن من إتمامها على الأصعدة الاقتصاديّة والمدنيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة على حدّ سواء.

وتكون إيطاليا قد جرؤت هنا على اتّخاذ موقف قلّما وجدناه فيما ورد من قبل دول الشرق الأوسط مثلاً، ما عدا ربما القائد الليبي معمّر القذّافي الزعيم الوحيد الّذي أصر على قناعته بأنّ بن علي كان وما زال أفضل من بإمكانه إرشاد البلاد وجرّها نحو الآفاق السّليمة. أما الولايات المتّحدة، الّتي طالما شاب الفتور علاقاتها مع تونس، فلم تجد أي مانع بعد مغادرة الرّئيس بن علي البلاد من التأكيد على دعمها الشّعب التونسي وتطلّعاته، وكان لهذا الموقف معنى واضح وهو سعي إدارة اوباما إلى إيجاد أمثلة جديدة تستطيع عبرها الإصرار على تمسّكها الفعلي بترسيخ الأسس الديمقراطيّة أينما كان ذلك ممكناً، والمعنى هنا هو الإصرار على أنّ العمليّات العسكريّة الجارية في العراق وبشكل أخصّ في أفغانستان كانت وما زالت اعتباراتها تعود إلى مبادئ وقناعات شفّافة وقيّمة يحملها الأمريكيون. ومن غير المستبعد بالطبع أن تكون واشنطن قد سعت هنا أيضا إلى اتّخاذ موقف يميّزها عن الاتّحاد الأوروبي الّذي اتّضحت عدم سلامة مواقفه السابقة. فانعدام وجود أيّ قيمة إستراتيجية مضافة لتونس من وجهة نظر الولايات المتحدة لا يتناقض ورغبة واشنطن في كسب أكبر عدد ممكن من الدول الّتي تهمّ الأوروبيين إلى جانبها، وتكون حينئذِ قد صدّت طريقا جديدا أمام أوروبا حتى لا تتيح لها فرصة البروز السياسيّ والاستراتيجي.


الدلالات والمستقبل المتوقّع للتطوّرات التونسيّة 


قد تكون للتطوّرات التونسيّة دلالات عدّة قد نضطرّ إلى انتظار مضيّ قدر أكبر من الوقت قبل أن نتمكّن من تحديد محصّلتها الفعليّة. ولكن ما يبدو أكيدا هو أنّ للنهضة الشّعبيّة، الّتي تلت إقدام محمد بوعزيزي على إحراق نفسه احتجاجاً على الوضع المرير السّائد في بلاده، نتائج أكيدة سنتمكّن من تقييمها عاجلاً أم آجلا. قد يكون من المبالغ فيه أن نتوقّع هبوب موجة عامّة من "الدمقرطة" على مجمل دول الشرق الأوسط خلال الأشهر أو حتّى في بضع سنوات قادمة. فعلى الرغم من أنّ هذا الافتراض ما زال قائماً ومعقولاً، يجب علينا أن نعي أيضا أن الكثير من التطوّرات المتبقّية في هذا المجال ما زال محكوما بما سيستطيع التونسيّون نيله على الصعيد السياسيّ الداخلي في المرحلة القادمة.


ففي حال تمكّن التونسيّون من إتمام مسيرة ديمقراطية فعليّة تقودهم إلى تنظيم انتخابات مباشرة وشفّافة يعيّنون عبرها ممثّليهم السّياسيّين وقادتهم الفعليّين، ستكون ساعتها قدرة التونسيّين على التأثير على ذويهم في المنطقة كبيرة جدّاً. فالواقع، أنّ الأوضاع القائمة إلى اليوم في العراق وأفغانستان أتت بمردود سلبيّ على السّير المفترض للعمليّات الديمقراطيّة في الشّرق الأوسط. فتردّي الأوضاع الأمنية والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في هذين البلدين المحتلّين، وكذلك كلّ ما عرف من حرص الولايات المتّحدة على الحفاظ على مصالحها قبل أن تنظر إلى تطلّعات الشعوب وأمنياتها، كلّ هذه الخصوصيّات أتت لتحدّ من مقدرة العناصر الخارجيّة على نثر بذور الديمقراطيّة وترسيخها في هذا البلد أو ذاك. أمّا الحالة التونسيّة القائمة فلها ميّزة أساسية تكمن في أنّ الحركة انبثقت من مطالب جاءت من الشعب التونسي مباشرة ودون أيّ تدخّل خارجي يذكر. ويبقى إذاً الأمل هنا قائماً بأن تعمّ عمليّات الإصلاح والديمقراطيّة في البلد فتكون بشرى خير للعديد من مجتمعات المنطقة الرّاغبة في الانتقال إلى نظام مختلف جذريّاً، سواء كان هذا في الجزائر أم المغرب و مصر وغيرها من البلاد الّتي طالما افتقرت إلى احترام مواطنيها وأخذ احتياجاتهم بعين الاعتبار.


أما إذا فشلت العمليّة التونسيّة، وهو افتراض وارد وما زال قائماً، فهذا لا يعني أن كلّ من يتمنّون حدوث عمليّات مماثلة في المنطقة سيتردّدون في ذلك، بل على العكس، فالأحداث التونسيّة الجارية تكمن أهميتها في أنّها أثبتت بأنّ تهيئة الظّروف لإحداث تطوّرات جذريّة في المنطقة هو أمر معقول ومطروح. أما عن إمكانية حدوث التغيير عاجلاً أم أجلا فهي مسألة مختلفة بعض الشيء، وليس من الضروري أن تأخر التغيير سيقوض سير الأمور في باقي المنطقة. فعلى الرّغم من أنّ العمليّات الديمقراطيّة بشكل عام تحتاج إلى أجواء وظروف مهيّأة سواء على مستوى التعدّد الحزبي أم فيما يتعلّق بوجود آليات مراقبة ولوجستية مناسبة لإقامتها بشكل سليم، غير أنّه بات من الواضح اليوم أنّ رياح التغيير بدأت تهبّ على الشرق الأوسط، وهذا ما ينبغي علينا أن نعيه ونعتبره مصدر تفاؤل. أمّا الطّريقة المثلى الّتي سيعمّ عبرها التغيير فهي أيضا مسألة يتوجّب على الشّعوب المعنيّة، لا على دول أجنبية كانت أم غير أجنبية، إقراره حسب ما يتناسب مع طلباتهم وطموحاتهم الفعليّة.


من النهضة التونسيّة إلى ردّ الاعتبار العربي والإسلامي 





قد يكون من المبالغ فيه أن نتوقّع هبوب موجة عامّة من "الدمقرطة" على مجمل دول الشرق الأوسط خلال الأشهر أو حتّى في بضع سنوات قادمة.
لقد أكدت الانتفاضة التونسيّة أنّ الشّعوب العربيّة ليست أقلّ ذكاء وحسّاً من غيرها بل أنّها على العكس من ذلك قادرة على فكّ القيود التعسّفيّة الّتي طالما ساهمت دول أجنبية وغير أجنبية في فرضها على شعوب المنطقة. فالسيناريو المستحسن يكمن في حقّ التونسيّين في تقرير مصيرهم بأنفسهم، بعيداً عن أي تدخّل أجنبي أو أوروبي أو حتى عربيّ  في عمليّاتهم السياسيّة. فقد ولّى العهد الّذي سادت أثناءه فكرة علوّ الشّعوب والمجتمعات والطبقات السياسيّة غير العربيّة على مثيلاتها من العرب، وكلّ ما بات ناقصاً الآن هو إتمام المسيرة التونسيّة بالشكل السّليم الّذي ستقدّم منطقة الشرق الأوسط عبره نموذجاً إصلاحيّاً طالما بحثنا عنه سواء في العالم العربي أم في الدول الشيوعيّة السابقة. ويكون حينئذ العالمان العربي والإسلامي قد استعادا اعتبارهم بالفعل، بل ونالوا حقّهم من تاريخ كثيراً ما كان ظالماً بحقّهم.
_______________
مدير أبحاث في مؤسّسة العلاقات الدوليّة والحوار الخارجي-إسبانيا

نبذة عن الكاتب