المواقف الدولية من الثورة الليبية

لماذا أسرعت الدول الغربية إلى التدخل في الثورة الليبية؟ هل تحولت فجأة إلى ملائكة للرحمة تحمي الشعب الليبي من بطش القذافي؟ أم أن لتدخلاتها السياسية والعسكرية الحالية أهدافا تخدم في المقام الأول مصالحها؟







 

عبد النور بن عنتر


تظهر التجربة الدولية أن التوتر الدائم بين الاعتبارات الأخلاقية والاعتبارات الإستراتيجية، في السياسات الغربية تحديدا، يُحسَم دائمًا لصالح الأخيرة. وبما أن المصالح هي العامل الحاسم في الحال والمآل؛ فإن التدخل الدولي يتميز بانتقائية شديدة (لماذا هنا وليس هناك؟). هذا جانب إشكالي في المواقف الدولية الراهنة من التدخل في ليبيا، أما الجانب الإشكالي الثاني فيكمن في التوتر الدائم هو الآخر بين مبدأين في القانون الدولي: احترام سيادة الدول ووحدتها الترابية من جهة، والتدخل الإنساني من جهة أخرى؛ حيث يقول الفريق المساند للتدخل بالمبدأ الثاني، بينما يقول الفريق المعارض له بالمبدأ الأول. ويبقى للمصالح القول الفصل في كل الحالات. وربما يصبح أبرز درس يُستخلص في العلاقات الدولية هو أن الدول لا تلجأ إلى القوة العسكرية إلا إذا كانت مصالحها على المحك.


قبل تحليل مواقف بعض الأطراف الدولية، نتوقف عند المراهنة الغربية على المشهد المرغوب فيه في ليبيا وفق مصالحها.


مشهد مرغوب فيه: إطاحة محلية المنشأ والأداء والتنفيذ
أسباب التدخل الأميركي
تناقضات الموقف الأميركي
"الاتحاد الأوروبي.. وفرنسا" حسابات المصالح والعقدة النفسية
دوافع التحرك الفرنسي في جملة من العوامل
دور الحلف الأطلسي.. لا لتسليح الثوار
روسيا.. واقعية عند ساعة الحزم، وخطاب أيديولوجي بعدها
دول أميركا اللاتينية.. طبيعة العلاقة مع أميركا هي المعيار


مشهد مرغوب فيه: إطاحة محلية المنشأ والأداء والتنفيذ 





تظهر التجربة الدولية أن التوتر الدائم بين الاعتبارات الأخلاقية والاعتبارات الإستراتيجية، في السياسات الغربية تحديدا، يُحسَم دائمًا لصالح الأخيرة.
تراهن القوى الغربية المتدخلة على إسقاط محلي لنظام القذافي تمهد له الحملة الدولية الطريق بتدميرها قوات النظام، بمعنى أن يقوم الليبيون أنفسهم بهذه المهمة. ويمكن أن نميز هنا بين مشهدين فرعيين: يكمن الأول في إطاحة ليبية بالقذافي؛ حيث تقود العملية العسكرية إلى الضغط على حاشيته ومحيطه المقرب حتى تبلغ درجة الخوف أقصاها فتجعل البعض منهم يقتنع بضرورة التخلص منه بالإطاحة به أو باغتياله حفاظا على أمنهم. بمعنى أن القوى المتدخلة تراهن على انقلاب دموي أو سلمي، وإن كانت تفضل انقلابا دمويا، لأنه سيجنبها معضلة إيجاد منفى للقذافي في حال تسوية سلمية أو إشكالية محاكمته في ليبيا أو خارجها (محكمة دولية) وما لهذه المحاكمة من إفشاء لأسرار ربما لا يراد إفشاؤها من قِبل الذين تحولت ليبيا إلى قبلة لهم في السنوات الأخيرة. كما أن الانقلاب الداخلي على القذافي يسمح للقوى المتدخلة بالاعتماد على بقايا النظام لترتيب وتنظيم المرحلة الانتقالية، مما يقيها مخاطر التغيير الجذري للنظام ومجيئ من ليس بالضرورة متوافقا مع مصالحها السياسية والأمنية في ليبيا وفي تخومها.

أما المشهد الفرعي الثاني من هذا المشهد المرغوب فيه فيكمن في تمكن الثوار، بفضل ترجيح التدخل العسكري كفة الصراع لصالحهم، من الإطاحة بنظام القذافي وتوقيف هذا الأخير لمحاكمته أو تصفيته جسديا. وهنا أيضا، تبدو الإطاحة الدموية مرغوبًا فيها لدى القوى الغربية لنفس الأسباب التي ذكرناها. لكن هذا المشهد مثير لبعض القلق لأن قوى غربية لا تثق بالمعارضة الليبية وببعض زعامات المجلس الانتقالي، أما استقبالها لها بنوع من التسرع فالغرض منه التعرف إليها ومحاولة معرفة نواياها وكذلك الدخول في نوع من المزايدة الغربية-الغربية بشأن احتضان ودعم المعارضة الليبية، بعد أن كانت هذه العواصم الغربية نفسها حتى وقت قريبا تهرول لاستقبال القذافي في عواصمها.


مشهد الإطاحة محلي المنشأ والأداء والتنفيذ هو المشهد المفضل بالنسبة للقوى الغربية لأنه يسمح لها فيما بعد بتسويق نجاح "الثورة" الديمقراطية في ليبيا، ولكن مهما كان مآل الانتفاضة الديمقراطية، فإن المحصلة النهائية تخبرنا أنه ليست الإرادة الشعبية هي التي أنجحتها وإنما التدخل العسكري الأجنبي. وهذا عكس ما حدث في تونس ومصر اللتين نجحت ثورتاهما رغم التواطؤ الغربي مع نظامي بن علي ومبارك، ثم إن هذه القوى لا تريد أن يُرفع القذافي إلى مصاف "الشهيد" (شهيد القصف الغربي)، أو يُنظَر إليه في أوساط عربية على أنه كذلك، أو يدعي أنصاره ذلك، إن تمت تصفيته على يد القوى الغربية؛ ومن ثم فالتخلص منه بأياد ليبية، عانت من تسلطه، هو خير سبيل أخلاقيا وسياسيا. بيد أن نجاح هذا المشهد مرهون بمآل الضربات الجوية، لأن فشلها سيطرح إشكالية الغزو البري. ومن هنا فإن خطر الحرب الأهلية وحتى تقسيم البلاد هو المشهد الآخر، وهو مشهد غير مرغوب فيه على ما يبدو.


أسباب التدخل الأميركي 


بدأ موقف أميركا خجولا من الانتفاضات الشعبية العربية التي انطلقت من تونس، ولم تتدارك الأمر إلا متأخرة قبل الإطاحة ببن علي لترتب، بمعية الجيش التونسي، رحيلا/ترحيلا آمنًا للرئيس المخلوع، كما كان موقفها هو نفسه تقريبا إزاء الانتفاضة المصرية؛ حيث كان همها ترتيبات ما بعد مبارك بشكل هادئ يحول دون تغيير جوهري في النظام والسياسة المصريين (عدم المساس بمعاهدة السلام مع إسرائيل كقضية أساسية). أما حيال ليبيا، فالوضع مختلف، فالقوى الغربية التي انتُقدت لتقاعسها عن مساندة الانتفاضات العربية، تبنت مبكرا مواقف مناوئة للنظام الليبي –الذي دخل دائرة أعدائها باكرا والتحق بدائرة حلفائها متأخرا جدا- حيث صبت عليه جام غضبها ليُغفر لها ما سبق.


وهناك جملة من الأسباب المتداخلة التي جعلت أميركا تتحرك ضد ليبيا وتعمل على استصدار القرار الأممي 1973 وتطبيقه، ويمكن حصرها في الأسباب الآتية:



  • ارتكاب القذافي لخطأ إستراتيجي تمثل في استخدامه القوة المسلحة ضد المنتفضين، الذين تحولوا إلى متمردين مسلحين، ليسقطوا مرغمين في فخ عسكرة الانتفاضة. وأصبح على أميركا اتخاذ موقف إزاء حرب أهلية تلوح في الأفق في بلد نفطي يتوسط بلدين خرجا للتو من انتفاضتين ناجحتين. فكان من الضروري الحفاظ على نوع من الاستقرار فيهما بالتدخل في ليبيا للتعجيل بإيجاد حل للأزمة.


  • الحسابات التاريخية والإستراتيجية مع نظام القذافي: فقد عُرف عن نظام القذافي تمويله لحركات انفصالية وعناصر وعمليات إرهابية مسَّت المصالح الأميركية. وقد عفت تلك عما سلف بإبرام اتفاق 2003 الذي تخلت ليبيا بموجبه عن برنامجها النووي -البدائي- مقابل ضمان أمن النظام، حيث ضحى القذافي بأمن بلده لحماية أمن نظامه، شأنه في ذلك شأن الأنظمة العربية الأخرى التي لا تفقه شيئا من مفهوم الأمن القومي (الوطني).





  • تراهن القوى الغربية المتدخلة على إسقاط محلي لنظام القذافي تمهد له الحملة الدولية الطريق بتدميرها قوات النظام، بمعنى أن يقوم الليبيون أنفسهم بهذه المهمة.
    التزمت ليبيا بموجب نفس الاتفاق بتدمير كل ما تملكه من صواريخ يفوق مداها 350 كيلومترًا (أمن النظام على حساب أمن الدولة)، وبعدم حيازتها لها مستقبلا؛ وبهذا فإن القوى المتدخلة متيقنة من أنها لا تملك صواريخ تهدد طائرتها أو حتى أراضيها (إطلاقها باتجاه الدول الأوروبية). ويذكِّرنا هذا المشهد الإستراتيجي بالمشهد العراقي، فقد قامت أميركا بغزو العراق لأنها كانت على يقين من خلوه من أسلحة الدمار الشامل؛ إذ إنها لا تهاجم دولة يُظن أنها نووية هكذا عبثا.


  • التدخل في ليبيا بغطاء أممي كان مناسبة ثمينة لأميركا لتكفر عن ذنوبها في العراق، ولتظهر للعالم أن عهد التحرك الأحادي قد ولَّى، وأنها تعمل مع "المجموعة الدولية" عبر مجلس الأمن وبغطاء عربي، على أساس أن الجامعة العربية طالبت بفرض منطقة الحظر الجوي. ولأول مرة يُسمع فيها للأمم المتحدة صوت وتستجيب المجموعة الدولية لطلب تتقدم به الجامعة العربية بعدما حاولت الأخيرة منذ عقود أن تضغط على المجموعة الدولية لتفعل الشيء نفسه في فلسطين. وهنا تكمن الانتقائية التي ستضع "المجموعة الدولية" أمام استحقاق أخلاقي/قيمي في غاية الصعوبة؛ حيث إن الواجب الأخلاقي -حماية المدنيين- يقوم على صلاحيات جغرافية لا حدود لها، فكيف به أن يقفز على بؤر دون سواها.


  • يعد النفط عاملا حاسما ليس من أجل السيطرة عليه -لأن الشركات الغربية تعمل في الحقول الليبية قبل الانتفاضة وليست بحاجة لتدخل عسكري مكلف للغاية- وإنما لضمان التعويض؛ فثراء ليبيا النفطي يطمئن القوى المتدخلة بأن مجهودها العسكري سيُدفع نقدا بطريقة أو بأخرى (مشاريع إعادة الإعمار، استثمارات، تسلح....). وهذه مسألة حساسة بالنسبة لقوى تعيش أزمة مالية خانقة.

تناقضات الموقف الأميركي 


يعاني الموقف الأميركي من تناقضات، أبرزها رسم الخط الأحمر الفاصل -قبل التدخل- بين القصف الجوي والغزو البري، علما بأن التجربة تفيد بأن الضربات الجوية لا تغير جوهر موازين القوى على أرض الميدان خاصة إذا تحول الصراع إلى حرب أهلية. وبالتالي فإن استبعاد إمكانية الغزو البري -لأسباب عدة- يعني أنه لا توجد حتما نية واضحة للإطاحة بالنظام، مما يعني عمليا إبقاء باب التفاوض-المساومة مفتوحا، رغم أن الخطاب الأميركي يشير إلى أن القذافي فقد كل شرعية، وهذا ما يدعم أيضا المشهد المرغوب فيه المشار إليه أعلاه.


الحقيقة أن أميركا أمام معضلات عدة:



  • فلكي يتم استصدار قرار من مجلس الأمن يجب استبعاد فكرة الغزو البري تجنبا لنقض روسي أو صيني؛ فقد كان الاكتفاء بالضربات الجوية هو الحد الأقصى لأي قرار خاصة وأنه كان لزاما صدوره في إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.


  • أميركا متورطة في بؤرتين -من صناعتها– هما أفغانستان والعراق وليس من مصلحتها ولا في قدرتها فتح جبهة/بؤرة ثالثة في هذا الشرق الأوسط القلق.


  • أنها تريد إظهار دعمها للمطلب الديمقراطي، وفي نفس الوقت لا تريد أن تحدث الانتفاضات تحولا جذريا في سياسيات دول المنطقة مما سيمس بمصالحها ومصالح حليفها الإسرائيلي، كما تعي أميركا جيدا أنه حينما تتحدث الدول العربية -بعد أن تؤسس أنظمة ديمقراطية- بلغة الأمن القومي بدلا من لغة أمن النظم الحكمة في الجمهوريات أو أمن العائلات الحاكمة في الملكيات، فإن السياسة الإقليمية ستنقلب رأسا على عقب.


  • زادت أميركا من تعقيد موقفها بازدواجيتها؛ إذ بينما تقود عملية عسكرية في ليبيا لحماية الشعب من النظام (ما يشبه عملية دولية لحفظ الأمن) فإنها في الوقت ذاته تسمح وتغطي تدخلا عسكريا في البحرين (عملية عربية بينية لحفظ الأمن) لحماية النظام من غضبة لبعض الشرائح المجتمعية.. وهذا ما يؤكد مجددا غلبة المستلزم المصلحي على المستلزم الأخلاقي.


  • شرعت أميركا في القصف الجوي دون حساب لما سيحدث فعلا وما هو مآل هذا التدخل وآجاله، وبدون رسم إستراتيجية للخروج من الأزمة، رغم أن التجربة تؤكد أنه بإمكان أي طرف أن يقرر موعد بداية الصراع، لكن لا يمكنه تحديد موعد نهايته. فماذا مثلا لو قبل القذافي بوقف إطلاق النار وانسحبت قواته إلى الجزء الغربي من ليبيا وبقي الثوار في جزئها الشرقي؟ إلى متى سيبقى الوضع على حاله؟ ثم ألا يقود ذلك عمليا إلى تقسيم ليبيا؟


  • تحمل العملية العسكرية تناقضا جليا: فمن جهة تشير تجربة سابقة إلى أن إقامة مناطق الحظر الجوي (في العراق مثلا لحماية الأكراد) لا تؤتي أُكُلها كما يراد؛ ومن جهة ثانية كيف يمكن حماية المدنيين بقصف جوي؟ إذ إن أية عملية قصف ستتسبب لا محالة في قتلهم، وهذه معضلة عسكرية يصعب حلها. ثم هل نستمر في اعتبار المدنيين الذين حملوا السلاح ضد القوات الحكومية مدنيين؟ هذا عمليا غير ممكن، لأن عسكرة الانتفاضة أدخلها في إطار الصراع المسلح، بغض النظر عن الاعتبارات الأخلاقية.

حسابات المصالح والعقدة النفسية 





الموقف الفرنسي المتواطئ مع نظامي بن علي ومبارك إلى آخر لحظات حكمهما، جعلها تصب جام غضب خطابها الأخلاقي على نظام القذافي خاصة بعد لجوئه إلى القوة ضد المنتفضين.
أكدت الثورة الليبية مجددا أن الاتحاد الأوروبي لا يتكلم بصوت واحد وأنه يبقى متعددا سياسيا رغم تحالفه اقتصاديا؛ فأول نتيجة لهذه الأزمة هي تصدع محور باريس-برلين (عكس ما حدث إبان الغزو الأميركي للعراق). فقد امتنعت ألمانيا عن التصويت في مجلس الأمن وبقيت خارج العملية برمتها. فرغم أن ليبيا تزودها بحوالي 9% من حاجياتها من النفط، فإنها رفضت التدخل العسكري واعتبرته غير مجد بالنظر للتجربة الأفغانية حينما ذهبت القوى الغربية إلى هناك بنية خوض حرب خاطفة وإذا بها تتورط في مستنقع مكلف طال أمده. كما أن ألمانيا تعتبر أهداف التدخل في ليبيا غامضة، وأن ما يحدث فيها لا يهدد أمن الدول الغربية. ويساندها في ذلك رأيها العام الرافض بأغلبية ساحقة لمشاركتها. بيد أن الرأي العام ليس بالحاسم لأن ألمانيا شاركت في حملة كوسوفا رغم معارضته. فضلا عن ذلك فإن الموقف الألماني المتحفظ من الثورة الليبية لا يخلو من دافع اقتصادي أيضا؛ إذ تقود ألمانيا حملة تقشف في أوروبا ولا ترى الوقت مناسبا لصرف أموال أوروبية في عملية عسكرية هي آخر ما يحتاج الاتحاد إليها في زمن "البقرات العجاف" هذا... وهكذا فعلت الأزمة الليبية فعلتها في البنيان السياسي الأوروبي.

ولنركز الآن على فرنسا تحديدا بحكم انخراطها -إلى جانب بريطانيا- المثير للانتباه في هذه العملية، ولانتمائها المتوسطي ونفوذها الإفريقي؛ فقد قادت فرنسا منذ الوهلة الأولى الحملة التحريضية ثم التعبوية للحشد الدولي من أجل التدخل في ليبيا معتمدة في ذلك أيضا على موقف الجامعة العربية – التي بدأت تسمع لها لأول مرة في تاريخها شأنها شأن أميركا.


دوافع التحرك الفرنسي في جملة من العوامل 



  • تعاني فرنسا أزمة داخلية خانقة، اقتصاديا وسياسيا، تسببت في تدهور شعبية ساركوزي، فجاءت الأزمة الليبية لتكون مطية لممارسة السياسة المحلية من خلال السياسة الخارجية؛ أي الخارج لإنقاذ الداخل.


  • إن الموقف الفرنسي المتواطئ مع نظامي بن علي ومبارك إلى آخر لحظات حكمهما، جعلها تصب جام غضب خطابها الأخلاقي على نظام القذافي خاصة بعد لجوئه إلى القوة ضد المنتفضين. ومن هنا فالمزايدة الحالية هي أيضا محاولة للتكفير عن الذنوب وتدارك ما سبق.


  • يفتقر ساركوزي إلى ملف أو مشروع يسوِّقه ويبرر به سياساته، فمشروع الاتحاد من أجل المتوسط أصيب بانتكاسة، ونشاطه الدولي في إطار مجموعة العشرين أُحبِط بسبب فشله محليا في تحسين وضع الاقتصاد الفرنسي. فكانت الأزمة الليبية فرصة ذهبية لتفعيل الدبلوماسية الفرنسية وإسماع صوت فرنسا.


  • لفرنسا أيضا حسابات تاريخية مع القذافي تريد تصفيتها لاسيما فيما يتعلق بالإرهاب والحرب مع تشاد حول شريط أوزو (تدخلت فرنسا حينها لنصرة حليفها التشادي).


  • لم يفِ القذافي بوعوده فيما يخص بعض الصفقات التي تم الاتفاق عليها أثناء زيارته لفرنسا، حيث تأخر في تنفيذها، ليعلن إلغاءها في الأيام الأولى من الثورة. بمعنى أن ساركوزي باستقباله القذافي ضحى بالمستلزم الأخلاقي في سبيل المستلزم المصلحي، لكنه خسر الاثنين معا، مما يفسر الطابع الشخصي الذي أخذته المسألة في بعض الأحيان.


  • معارضة القذافي بشدة لمشروع الاتحاد من أجل المتوسط، ومحاولته حشد الدول العربية ضده بدعوى أنه يفصل عرب إفريقيا عن بقية القارة مما أثار حفيظة فرنسا. كما أن سياسة ليبيا في إفريقيا تقوض، عن قصد أو غير قصد، نفوذ فرنسا في القارة السمراء، مما جعل منها منافسا للوجود الفرنسي هناك؛ حيث إن تمويل القذافي لبعض الاستثمارات في إفريقيا كتمويله للقمر الصناعي الإفريقي للاتصالات المدنية أفقد قوى اقتصادية غربية عائدات مالية معتبرة كانت تجنيها (حقوق، ديون، فوائد...)، كما أن ليبيا بقوتها المالية تساهم في بناء بعض المؤسسات الإفريقية مثل صندوق النقد الإفريقي. وهذا ما تنظر إليه فرنسا والقوى الغربية بعين الريبة لأنها ترى القارة تفلت جزئيا من قبضتها الاقتصادية. ومن هنا فالموقف الفرنسي يجب تحليله أيضا في إطار صراع النفوذ في إفريقيا.


  • وجود صراع بين القوى الغربية حول مرحلة ما بعد الحرب -أي الإعمار- في مثل هذه الأزمات، فتردد فرنسا وتأخرها في مشاركة الائتلاف الدولي المناهض للعراق (1991)، ورفضها لغزوه (2003) أضر بمصالحها وبعلاقتها مع أميركا، وبالتالي تريد أن تكون هي أول من يقتسم غنيمة (استثمارات، عقود...) ما بعد التدخل في ليبيا هذه المرة، فكانت هي بالتالي أول من يحضِّر ويقود الحملة العسكرية ضد ليبيا القذافي.


  • وجود العامل النفسي قد يفسر أيضا سعي ساركوزي للإطاحة عسكريا وفي أقرب الآجال بالقذافي، بينما تترد أميركا بشأن قلب النظام عسكريا لما تعلمته من دروس من تدخلها في العراق. وهو العامل النفسي ذاته الذي لعب دورا في الغزو الأميركي للعراق (بسبب حرب الخليج الأولى). ويثير هذا طبعا تساؤلات حول مدى تقيد فرنسا حرفيا بالقرار الأممي الذي لا يرخص لتواجد بري، بيد أن الإطاحة عسكريا بالقذافي تتطلب مثل هذا التواجد (أو على أقل الاعتماد على ثلة من القوات الخاصة). نلاحظ هنا نوعا من "التهور" والتسرع فرنسيا مقابل "ضبط النفس" أميركيا بحكم الخبرة. وقد يكون الأمر -في زاوية أخرى للنظر- أيضا تبادلا للأدوار بين فرنسا وأميركا.

دور الحلف الأطلسي.. لا لتسليح الثوار 





البعد المصلحي دائما كان ولا يزال متحكما في رسم مسارات التدخل الخارجي في الثورة الليبية، حتى ولو تقاطع في بعض منعطفاته مع المستلزم الأخلاقي.
يصعب الحديث عن الحلف الأطلسي كفاعل مستقل في مثل هذه الحالات، لأنه يعبر في واقع الحال عن مواقف دوله الأعضاء، لاسيما النافذة منها. وبالتالي فموقفه هو نتاج إجماع تلك الدول التي اتفقت مبكرا على إشراكه واختلفت حتى مطلع الأسبوع الفارط حول تسليمه قيادة العمليات العسكرية؛ فلقد انخرط الحلف في التدخل في ليبيا منذ الساعات الأولى لتبني مجلس الأمن لقراره 1973، حيث سرعان ما أرسل بوارجه الحربية لترسو على مقربة من السواحل الليبية ليشرع، يوم 23 مارس، في تطبيق الحظر على الأسلحة على ليبيا. وفي اليوم التالي فرض الحلف منطقة حظر جوي في المجال الجوي الليبي تطبيقا للقرار الأممي.

وأكد الناتو حينها على ضرورة التقيد بنص القرار الأممي (عمليات جوية دون غزو بري). وقبل تسلم الناتو مهمة القيادة العسكرية، اتخذ أمينه العام موقفا واضحا من إشكالية أثيرت مؤخرا وهي تسليح الثوار، حيث أعلن راسموسن عن معارضته لهذه الفكرة قائلا: إن الحلف الأطلسي يتدخل لـ "حماية الشعب الليبي، وليس لتسليح الشعب". وبحكم منصبه يعي معضلة التسليح وخاصة صعوبة مراقبة الأسلحة وجمعها (استرجاعها) بعد انتهاء الصراع. وهذا يعني أيضا أن الناتو لا يريد التورط في "أفغانستان جديدة" خاصة وأن أزمته المالية خانقة، وأعضاؤه لا يفون بالتزاماتهم حيال العمليات الأطلسية. ويتعارض موقفه هذا مع موقف فرنسا التي لم تستبعد مناقشة هذه المسألة (تسليح الثوار) مع حلفائها. لكن الحسم فيها يتطلب العودة مجددا إلى مجلس الأمن مما يجعلها مستبعدة.


ولا يُغفل هنا أن نقل القيادة العسكرية للحلف هي إرادة أميركية أساسا لتخفيف العبء على أميركا، رغم أنها تقوم لوحدها بحوالي 60% من المهمات العسكرية في ليبيا، فهي تريد تحميل الدول الأوروبية جزء كبيرا من المهمة، وقد يكون أيضا مناولة عسكرية وأمنية داخلية (في إطار الحلف). وهذا ربما سيسمح لأميركا بالتفرغ للترتيبات السياسية لمرحلة ما بعد القذافي.


وكان الخلاف داخل الحلف بين قطبين: الأول: معارضة تركية وألمانية لدور للحلف في الوقت الذي تستمر فيه العمليات العسكرية، والثاني: تقوده فرنسا التي تطالب بتسليم الحلف القيادة العسكرية مع احتفاظ القوى الكبرى بالقيادة السياسية، عبر مجموعة الاتصال. والهدف المقصود علنيا هو محاولة إشراك الدول غير الأعضاء في الناتو في الإدارة السياسية للأزمة. وتسليم القيادة العسكرية للناتو ينهي ميدانيا حالة التشرذم العملياتي أو تعدد العمليات (فرنسية، بريطانية، أميركية) في عملية واحدة. كما أنه يتطابق والتعامل الغربي مع أزمات سابقة حيث اتفق على قيادة عسكرية موحدة (أميركية في العراق، وأطلسية في أفغانستان، وأطلسية ثم أوروبية في البلقان). للإشارة نرى أن إصرار فرنسا على إبقاء قبضتها على الإدارة السياسية للتدخل يعني أنها عازمة على التخلص من القذافي أو على الأقل على أن يكون لها الكلمة الفصل في تحديد معالم التسوية السياسية، إن وجدت، أو في اختيار من تعتبرهم هي أهل الشرعية في ليبيا لقيادة المرحلة الانتقالية في البلاد.


روسيا.. واقعية عند الحزم، وخطاب أيديولوجي بعدها 


لا تعرف روسيا ذلك التوتر بين المستلزم الأخلاقي والمستلزم المصلحي مما يجعلها تتحرك براحة. وتؤكد على الشرعية الدولية -مجلس الأمن- لكن لم تحن بعد ساعة الحقيقة لتترك هذه الشرعية الدولية تُصنع بدونها، حيث امتنعت عن التصويت، كعادتها في مثل هذه الحالات مثل الصين. والامتناع بالنسبة لدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن (لها حق النقض) يعني أنها تعطي ضمنيا الضوء الأخضر للتدخل لكن دون تحملها لتبعاته السياسية. فهي لم تساند القرار 1973 ولكنها لم تعارضه. وبالتالي فبامتناعها تقر ضمنيا أن التدخل العسكري في ليبيا لا يضر بمصالحها، وهذا رغم العلاقات التجارية (بيع الأسلحة خاصة) الثنائية. ومن المحتمل جدًا أن تكون روسيا ناورت خلال المفاوضات حول مسودة القرار للحصول على مقابل لامتناعها عن التصويت. ولو اكتفينا بالمستوى العربي، لقلنا: إنه بحكم شبه الإجماع العربي على التدخل العسكري، فإن العملية الحسابية البسيطة: التضحية ببلد واحد مقابل ربح العديد من البلدان. وهذا درس على الدول العربية التي تعتبر روسيا حليفا لها أخذه في الحسبان.


موقف روسيا هو أن حماية المدنيين مسألة أساسية وهذا ما جعلها لا تعارض القرار الأممي خاصة وأنه اكتفى بالضربات الجوية فقط ولم يعط أي صلاحية للغزو البري الذي ترفضه. وليس هذا حبا في ليبيا ولكن خوفا من أن تقيم القوى الغربية نظاما مواليا لها هناك... وها هي روسيا التي تركت القرار يمر في مجلس الأمن تنادي اليوم بوقف العمليات العسكرية ضد ليبيا!


أميركا اللاتينية.. طبيعة العلاقة مع أميركا هي المعيار 


عانت أميركا اللاتينية من التدخلات لذا فهي شديدة الحذر من التدخل الدولي. وهذا ما جعل أوباما يحاول طمأنتها خلال جولته في المنطقة بأن الأمر يتعلق بـ "عملية عسكرية محدودة" وأن أميركا لن تنشر قواتها (غزو بري) في ليبيا. والحقيقة أن شمل دول أميركا اللاتينية يجتمع اقتصاديا ويتفرق سياسيا -شأنه شأن الشمل الأوروبي- حيث فرَّقتها الأزمة الليبية بين معارض ومساند وقابع بين المنزلتين.


تتزعم فنزويلا المعسكر -الرافض للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول- المساند لليبيا. رغم رفض القذافي عرضها للوساطة، فإنها أدانت التدخل العسكري. إلى جانب هذه المساندة بحكم نوع من التقارب الأيديولوجي، وهناك مساندة جاءت من دول، مثل: كوبا، بوليفيا، الإكوادور... التي اعتبرت التدخل يخدم مصالح القوى المتدخلة فحسب حتى ولو تسربل بغطاء أخلاقي. أما المعسكر المساند للتدخل الدولي والمناوئ لليبيا فتمثله دول، مثل: كولومبيا، الشيلي، البيرو؛ حيث ساندت القرار الأممي، وبررت التدخل العسكري على أساس أنه جاء لإنقاذ المدنيين والدفاع عن الحرية. وبين المعسكرين المتناقضين تقف دول أخرى حائرة أمام هذه المعضلة، ومنها البرازيل والأرجنتين، فتطالب من جهة بوقف كل العمليات العسكرية، ومن جهة ثانية تدين استخدام القذافي للقوة وعدم احترامه حقوق الإنسان، وتعتبر أن اللجوء إلى القوة المسلحة قد يزيد من حدة التوتر ميدانيا. وكانت قد اقترحت خطة تتضمن منح القذافي مهلة، لكن الدول الأخرى في مجلس الأمن رفضتها تخوفا من حدوث مجازر.





القوى الغربية التي انتُقدت لتقاعسها عن مساندة الانتفاضات العربية، تبنت مبكرا مواقف مناوئة للنظام الليبي –الذي دخل دائرة أعدائها باكرا والتحق بدائرة حلفائها متأخرا جدا- حيث صبت عليه جام غضبها ليُغفر لها ما سبق.
وبامتناعها عن التصويت على القرار الأممي فهي تعبر عن رفضها للتدخل، حتى وإن كان صوتها لا ثقل له (ليست عضوا دائما). لكن يبدو واضحا أن الموقف البرازيلي ليس بالعبثي لأن له تبعات: فمثلا مطالبتها بمقعد دائم في مجلس الأمن قد تكون على المحك، والعلاقة التي سعت لبنائها مع أميركا وفرنسا قد تتأثر أيضا بمعارضتها التدخل. وتدعو البرازيل لوقف إطلاق النار لحماية المدنيين وتمهيد الطريق أمام حوار بين الحكومة ومعارضيها. وترى أن تطور الوضع ودخول الناتو على الخط يتناقض ومحاولات البناء الدولي القائمة على التوافق والتشاور، والابتعاد عن الغلو في المواقف، والانفراد بالقرار الدولي.

الملاحظ أن مواقف دول أميركيا اللاتينية حددتها أساسا طبيعة علاقاتها مع أميركا وبالتحديد فيما يخص دول المعسكرين المعارض والمساند للتدخل، أما مواقف المعسكر الثالث، البرازيل خصوصا، فقد حددتها تصورات خاصة بالنظامين الإقليمي والدولي؛ فالمعسكر المناوئ للتدخل والمعروف بمعارضته للسياسات الأميركية يرى في الأزمة الليبية امتدادًا لهذا الصراع مع أميركا، والمعسكر المساند للتدخل المعروف بمساندته لسياساتها، فهو يتقرب منها أكثر من خلال هذه الأزمة. أما المعسكر الثالث، المتموقع بينهما، فهو متحير لأن الاعتدال والعمل متعدد الأطراف إقليميا ودوليا اللذين يدعو إليهما ذهبا أدراج الرياح. فها هي البرازيل بين فكي كماشة الإقرار بضرورة حماية المدنيين والإيمان بضرورة التشاور الدولي وتسوية الأزمات سلميا.


وهكذا فالبعد المصلحي دائما كان ولا يزال متحكما في رسم مسارات التدخل الخارجي في الثورة الليبية، حتى ولو تقاطع في بعض منعطفاته مع المستلزم الأخلاقي، وهو ما يفسر كثيرا من المواقف والسياسات الدولية والإقليمية المشاهدة في مجريات وقائع ما يحدث في ليبيا.
__________________
باحث في العلاقات الدولية

نبذة عن الكاتب