نظام القذافي في قبضة القبائل الليبية

قبائل كبيرة تخلت عن نظام القذافي والتحقت بالثوار. وقد كانت من قبل تعد ركائز نظامه السياسي والأمني والاقتصادي. وسيساهم تماسكها في منع الحرب الأهلية وبناء ما بعد القذافي.







 

منصورية مخفي


لعبت القبائل على مدى قرون دوراً رئيساً في عالم السياسة والمجتمع داخل ليبيا، وضمنت بقاءها من خلال تقاليد البدو التي تعتمد على الزراعة وتجارة القوافل، إلى جانب التكافل الاجتماعي فيما بين أفراد القبيلة.





كان القذافي يعطي القبائل المال والوجاهة وفرص العمل، إلى جانب تعزيز القرابات الدموية من خلال التزاوج بين القبائل.
وقد أدت القبائل الليبية دوراً هاماً في الكفاح ضد الإمبراطورية العثمانية وضد الحكم الاستعماري الإيطالي (1912-1943)، غير أن أهمية النظام العشائري ما فتئت تذوي في ظل حكم القذافي الذي وصل إلى السلطة سنة 1969. ولا شك أن عصرنة ليبيا وبناء المدن فيها، إلى جانب التعليم الحديث، كانت كلها عوامل أرغمت الناس على ترك مناطقهم القبلية التقليدية والابتعاد عن بعض مظاهر الانتماء القبلي التي كبروا عليها، ما أدى في نهاية المطاف إلى زعزعة النظام القبلي التقليدي.

ولكن، بالرغم من بعض البيانات التي تتحدث عن الزوال التدريجي للنظام القبلي، إلا أن العديد من الناس مازالوا يُعرّفون أنفسهم من خلال انتمائهم إلى قبيلة معينة. وفي الواقع، ما فتئ التأثير القبلي يلعب دوراً هاماً للغاية منذ السبعينات، خصوصاً بسبب تسهيل الانتماء القبلي فرص الحصول على الشغل والتقدم الوظيفي. إلى جانب ذلك، وبينما كان العقيد القذافي يحاول تقليص نفوذ النظام القبلي أو حتى التخلص منه، كان أحياناً يمعن في ترسيخه، فقد كان يعتمد أكثر فأكثر على النظام القبلي لتعزيز نفوذه السلطوي، وفي نفس الوقت يقلص من قوة العديد من القبائل بفضل الامتيازات الاقتصادية والتحالفات عن طريق المصاهرة أو حتى التهديد بالعقاب. كما حاول القذافي الحفاظ على توازن القوى بين القبائل في الحكومة وباقي مؤسسات الدولة.


أما فيما يخص الجيش، فكان من الواضح أن بعض القبائل كانت تحظى بنفوذ أكبر من غيرها، وذلك في إطار سياسة "فرّق تسد". فلما كان الزعيم الليبي ينتمي إلى قبيلة القذاذفة، فقد كان من البديهي أن يقرّب أفراد قبيلته منه في المناصب الحساسة، وذلك من أجل ضمان أمنه وأمن حكومته. هذه السياسة التفضيلية أدت إلى بعض التوترات القبلية وحتى إلى المنافسة داخل الجيش، خصوصاً من طرف قبيلة المقارحة، إلى حد أن بعض الخبراء والمحللين كانوا يرون في هذه القبيلة أفضل مرشح لتنفيذ انقلاب على الزعيم الليبي، لأن العديد من أفرادها كانوا يحتلون مناصب هامة في الحكومة والأجهزة الأمنية للبلاد.


ومن الواضح أن القذافي كان يطبق سياسة العصا والجزرة فيما يخص النظام القبلي. فالقبائل الوفية له كانت تحصل على امتيازات مادية، فيما كان العقاب من نصيب القبائل المعارضة. وأدت هذه السياسة إلى ظهور مبدأ الولاء الذي كانت القبائل تستنسخه بدورها: القادة المخلصون يحصلون على الامتيازات المادية والحظوة الاجتماعية من طرف شيوخ القبائل. فقد كان القذافي يعطي القبائل المال والوجاهة وفرص العمل، إلى جانب تعزيز القرابات الدموية من خلال التزاوج بين القبائل. وعليه، كان العديد من الليبيين يجدون أنفسهم بحاجة إلى الاعتماد على العلاقات القبلية من أجل الحصول على حقوقهم أو الحصول على الحماية، أو حتى من أجل الحصول على وظيفة في مؤسسات الدولة. ومن ناحية أخرى، كانت المعارضة القبلية تُواجَه بقمع شديد. فمثلاً، أتاح ميثاق الشرف، الذي صادق عليه البرلمان شهر مارس/آذار 1997، إمكانية العقاب الجماعي للقبائل أو العائلات (غالباً من خلال سحب الخدمات الحكومية) في حال مارسوا أنشطة معارضة للنظام.


لقد عدّ المؤرخ الليبي فرج عبد العزيز نجم حوالي 140 قبيلة وعائلة نافذة في ليبيا. وحسب ما ذكره، فإن القبائل التي لها نفوذ حقيقي وواضح لا يتعدى مجموعها ثلاثون قبيلة (هناك العديد من المحللين الذين يتفقون على عشرين قبيلة لها سلطة سياسية واجتماعية). ومن بين كل هذه الـ140 قبيلة، هناك عدد منها يبلغ نفوذها إلى خارج البلاد، من تونس إلى مصر، وحتى في تشاد.


وحسب دراسة قامت بها د. أمال العبيدي (جامعة قاريونس، بنغازي)، فإن أكبر القبائل العربية في ليبيا وأكثرها نفوذاً هي قبيلة بني سالم (في برقة) وقبيلة بني هلال (غرب ليبيا). وفي الشمال الغربي من ليبيا (إقليم طرابلس)، فإن أهم القبائل هي ورفلة، وترهونة. وفي منطقة برقة، هناك قبائل كراغلة والتواجر والرملة. أما قبيلة القذافي، فقد كانت صغيرة في الأصل وغير ذات أهمية تذكر، قبل أن يصل العقيد القذافي إلى السلطة سنة 1969 ويصبح لها دور أكبر بعدها.





وتعتبر قبيلة المقارحة القبيلة الأكثر ارتباطاً وصلة بمنطقة القذافي، ومازال أمامها أن تحسم في موقفها من المظاهرات.
أما أكثر القبائل تهميشاً فتوجد في شرق ليبيا، حيث توجد أهم الموارد النفطية، وحيث أصبحت السلطة من الآن فصاعداً بعيدة عن متناول القذافي. ولقد كان الجزء الشرقي من ليبيا أول المناطق التي أعلنت الثورة، حيث أظهرت قوات الأمن الليبية علامات المعارضة مبكراً. وكان أكبر انتقاد وجهوه للقذافي هو تفضيله للقبائل المتواجدة في محيط طرابلس لسنوات عدة على حسابهم.

وتعتبر قبيلة المقارحة القبيلة الأكثر ارتباطاً وصلة بمنطقة القذافي، ومازال أمامها أن تحسم في موقفها من المظاهرات. فالقبيلة عليها دين ثقيل تجاه القذافي ونظامه، ذلك أنه أمّن لهم عودة عبد الباسط المقراحي الذي كان مسجوناً في بريطانيا في قضية تفجير لوكربي. ومع ذلك، فقد بدأت تظهر خلال الأيام القليلة الماضية بعض بوادر المعارضة داخل قبيلة المقارحة، خصوصاً في شرق وجنوب ليبيا. وحيث أن العديد من أفراد هذه القبيلة يحتلون مناصب هامة داخل الحكومة والأجهزة الأمنية، فلا شك أنهم سوف يكون لهم دور في تنفيذ انقلاب على القذافي.


في 20 فبراير/شباط، ضغط زعيم قبيلة الزوية، الشيخ فرج الزوي، على الحكومة بتهديده وقف صادرات النفط في حال رفضت وقف القمع العنيف ضد المواطنين.


وأصبح النظام الآن يواجه وضعية شائكة: لقد بدأت أقوى القبائل الليبية تتخلى الواحدة تلو الأخرى عن القذافي خلال الأيام القليلة الماضية. ومن بين هذه القبائل نجد قبيلة ورفلة، إحدى أكبر قبائل ليبيا والتي يبلغ تعداد أفرادها حوالي مليون شخص، والتي كانت سبّاقة إلى التعبير عن استيائها والجهر بمعارضتها، وذلك عبر زعيمها أكرم الورفلي.


ورغم ادعاءاته وتحديه الظاهر، لا بد أن يكون القذافي قد بدأ يشعر بالقلق؛ فتخلي زعماء القبائل الكبرى عنه سوف يعمل بالتأكيد على إحباط معنويات النظام الليبي، كما سيساهم في تقويض شرعية هذا الأخير. وهذا سوف يؤدي حتماً إلى مزيد من الانشقاق. بالإضافة إلى ذلك، بدأ القذافي يفقد سيطرته على السلطة الاقتصادية (فقد تخلت عنه قبيلة الزوية)، وكذلك على السلطة السياسية (كانت قبيلة ورفلة تعطي الشرعية لسلطته نظراً لكونها تضم مليون شخص من أفرادها).


وبعد مرور سنوات على تحكم العقيد القذافي في القبائل الليبية، يبدو أنه بدأ يفقد سيطرته على هذه الأخيرة. فالأجهزة الأمنية (الشرطة ومصالح المخابرات) كانت تحتكرها قبيلة القذافي بتحالف مع قبيلتي المقارحة والورفلة، والذين كانوا يحظون بجميع المناصب الرفيعة، ما سمح للقذافي بضمان سيطرته التامة على ليبيا. وعليه، لم يكن أحد ليتوقع انسحاب قبيلة ورفلة من هذا التحالف، حيث عارضت المعاملة القاسية التي تلقتها المعارضة خلال المظاهرات الحالية. ومن المحتمل أن تلعب هذه القبيلة، بجانب قبيلة المقارحة، دوراً كبيراً في الأزمة الحالية التي تعيشها ليبيا.


ولا يجب أن نهمل مسألة الولاء القبلي عند الحديث عن مصير النظام الليبي. فإستراتيجية القذافي في الحفاظ على سلطته كانت مبنية على إضعاف الجيش، حيث جعله’’غير قادر على فعل أي شيء ضده‘‘، حسب هنري شولر، وفي نفس الوقت تعزيز قوة الميليشيات المخلصة لنظامه، إلى جانب استقطاب القبائل بفضل ثروة ليبيا الهائلة من النفط والغاز.


لقد لعبت النخب العسكرية في كل من تونس ومصر دوراً جوهرياً خلال الانتفاضات الأخيرة في كل من البلدين، كما أنها هي التي حددت مصير الثورة في كل منهما. غير أن هذا السيناريو لن يتكرر في ليبيا، حيث أن البنية القبلية، وإن كانت سلطتها قد تقلصت خلال العقود الماضية، سوف تؤثر على الأحداث وستعمل على التفاوض أو فرض توازن جديد في القوى داخل البلاد.


وبالرغم من تهديدات القذافي المستمرة بإبادة الشعب الذي يعارضه، وحتى لو سمح له المجتمع الدولي بمواصلة قتال المتظاهرين، فإنه من المستبعد ظهور حرب أهلية في البلاد. ويبدو أن الخوف من نشوب حرب أهلية قبلية لا يعدو أن يكون جزءاً من دعاية يروج لها النظام، حيث أن ما نراه اليوم في ليبيا هو أقرب إلى وحدة الصف بين القبائل في وجه النظام منه إلى الفرقة والانشقاق. وحتى لو بدا أن النظام الليبي قد كسب بعض الجولات خلال الأيام القليلة الماضية، على الأقل في العاصمة طرابلس، ولو من خلال استخدامه للمرتزقة ضد شعبه، فإن سقوطه أصبح وشيكاً ولن يتعدى بضعة أيام. كما أن المنتظم الدولي قد نادى بتنحي القذافي، وهو ما يمكن أن يدعم موقف الضباط العسكريين الذين كانوا حتى الآن لا يجرؤون على معارضته خوفاً على أنفسهم، ولكنهم في نفس الوقت ليسوا مستعدين للسقوط معه.





البنية القبلية، وإن كانت سلطتها قد تقلصت خلال العقود الماضية، سوف تؤثر على الأحداث وستعمل على التفاوض أو فرض توازن جديد في القوى داخل البلاد.
وعليه، يمكننا أن نفترض أن الجيش والمعارضة الليبية (سواء داخل البلاد أم خارجها) والإسلاميين كلهم سوف يلعبون دوراً ما خلال الأيام القادمة، وهذا بصرف النظر عن الانتماءات القبلية لكل فرد فيهم. ولكن، حتى وإن كان بعض الخبراء يفضلون التقليل من أهمية القبائل، من خلال الإشارة إلى بنياتها التنظيمية الضعيفة ومحدودية الدور الذي تلعبه في الشؤون العامة، فإن القبائل الليبية سوف تكون ممثلة بقوة في الحكومة المقبلة. وهذا سيتحقق بالتأكيد في حال استطاع محمد الزوي، السفير السابق لدى بريطانيا، والقائد الفعلي للبلاد من الناحية التقنية (لا ننسى أن القذافي ليس برئيس ليبيا ولا برئيس وزرائها، وهو ما دأب على تكراره مؤخراً في سلسلة الحوارات الصحفية والخطابات التي كان يلقيها)، أن يجمع من حوله مختلف الجماعات المتنافسة ويتفاوض معها، إلى جانب كافة القبائل الليبية، من أجل إشراكها في مشروع بناء ليبيا الجديدة. فمن خلال شخص يثقون فيه ويحظى بدعم العالم الخارجي (الأمم المتحدة، الجامعة العربية، الاتحاد الأفريقي، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة)، سوف تستطيع القبائل الليبية وجميع قادة المعارضة الليبية أن يتحّدوا ويرغموا القذافي على المغادرة من أجل تفادي مصير السيناريو الكارثي الذي يهدد شعبه بحدوثه.

وفي جميع الأحوال، لا يجب أن ننسى أنه مهما كانت النتيجة التي ستتمخض عن هذه الأزمة، سواء كان مجلساً انتقالياً (عسكرياً)، أو حكومة وحدة وطنية، فإن المؤسسات الليبية القادمة سوف يكون عليها أن تأخذ بالاعتبار كذلك نسبة 15% من السكان الذين لا ينتمون إلى أية قبيلة والذين ترجع أصولهم إلى مجتمعات أخرى (أغلبهم من البرابرة أو الأتراك).
_______________
باحثة في المعهد الفرنسي للدراسات الدولية -باريس