من بين كافة المواقف الدولية تجاه الأزمة الليبية بدا الموقف الإيطالي غامضا ومثيرا في آن؛ فالدولة التي كانت حليفا لنظام القذافي على مر السنين انقلبت إلى معسكر الأعداء، مضحية -بعد تردد وتلكؤ- بأهم شريك إفريقي على المستوى الاقتصادي والعسكري.
فما الذي وقف وراء هذا التحول وتبدل المواقف؟ ولماذا ترددت إيطاليا كثيرا قبل الانضمام لحملة الناتو ضد ليبيا؟ ولماذا انضمت أساسا؟ وما تداعيات تلك الأحداث على استقرار الحكومة الإيطالية وسياساتها على الساحة الدولية؟
توازنات الداخل الإيطالي
أزمة الفرد والدولة
بين الطاقة والعقود التجارية
حسابات الساحة الدولية
رغم أن العلاقات بين روما وطرابلس ظلت تمر بمسارات صعبة، إلا أن الحكومات الإيطالية المتعاقبة، سواء من اليمين أو اليسار، أوْلت عناية كبيرة للحفاظ على تواصل فعّال مع ليبيا. |
ويأتي أكبر تهديد للحكومة الإيطالية من لعبة التوازنات الداخلية مع بقية الأحزاب، وفي مقدمتها الحزب اليميني المعروف باسم "الجامعة الشمالية" والذي يعد أقرب الحلفاء لرئيس الوزراء الإيطالي. وتقوم أيديولوجية ذلك الحزب على رهاب الأجانب (الزينوفوبيا)، والتخويف من المهاجرين. وقد هدد الحزب بالانسحاب من الحكومة إذا ما قررت إيطاليا المشاركة في شن هجمات جوية ضد ليبيا، وهي المهمة التي استهلها حلف الناتو مستهدفا القوات المسلحة للقذافي قبل أربعة أشهر مضت.
ولسنا في حاجة لأن نوضح أن موقف حزب "الجامعة الشمالية" لا ينطلق من حبه للسلام أو مواجهته للعنف، وإنما من خشية هذا الحزب في المقام الأول من أن تؤدي الأزمة الليبية إلى طوفان من اللاجئين الأفارقة على السواحل الإيطالية، فضلا عن قلق هذا الحزب من تداعيات تلك الأزمة على رفع أسعار النفط؛ وهو ما يمكن أن يسبب ضررا بالغا للمشروعات الاقتصادية الإيطالية ومستوى معيشة الشعب الإيطالي.
ولا ننسى هنا أن حزب "الجامعة الشمالية" قبيل الأزمة الليبية قد استنفره استمرار وصول اللاجئين التونسيين إلى جزيرة لامبدوزا الإيطالية، خاصة أن ذلك التدفق خلق توترا دبلوماسيا حادا بين فرنسا وإيطاليا كان مرده إلى أن الحكومة الإيطالية قد منحت هويات إقامة مؤقتة لهؤلاء اللاجئين؛ مما سمح للكثير منهم بالوصول إلى فرنسا مستفيدين من مزايا تأشيرات الشينغين (تلك التأشيرة التي تسمح بعبور كافة الدول الأوربية)؛ وذلك بعد أن كانت فرنسا قبل ذلك تضع نقاط تفتيش على الحدود بينها وبين إيطاليا.
وفي تقييم الداخل الإيطالي فإن ليبيا هي كبرى بوابات تدفق المهاجرين الأفارقة على السواحل الإيطالية؛ فالمهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء يغادرون أوطانهم عبر ليبيا بهدف الوصول إلى القارة الأوربية مرورا بالمحطة الإيطالية. وكانت إيطاليا منذ تسعينيات القرن العشرين تشعر بالقلق من تفاقم تلك المشكلة، خاصة بعد أن قفز عدد الوافدين الأجانب من بضعة آلاف إلى 4 ملايين خلال سنوات معدودة.
وحين تناور الحكومة الإيطالية الحالية تدرك أن فرص المراوغة مع توازنات الداخل محدودة، نظرا للضعف الهيكلي في اقتصادها الذي يواجه اهتزازا في مكانته كسابع أقوى اقتصاد في العالم. ويرتبط هذا الضعف بزيادة الدَّيْن العام، وإدارة عامة سيئة وغير فعالة، وبِنى أساسية معيبة، وعجز في مصادر الطاقة ضاعف من أسعار الكهرباء في إيطاليا مقارنة بغيرها من دول الاتحاد الأوربي.
ولعل ذلك يفسر سبب السعي الدائم للحكومة الإيطالية لتعزيز الإمكانات التنفيذية للشركات الإيطالية في الخارج؛ ففي ليبيا، تتصدر إيطاليا قائمة الشركاء التجاريين، حيث تقدم روما لطرابلس 17.5 % من إجمالي وارداتها الخارجية، بينما تمثل ليبيا خامس أكبر مُصدّر للسوق الإيطالي.
في نهاية أغسطس/آب 2010، استقبل رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني الرئيس الليبي معمر القذافي استقبالا شرفيا رائعا احتفالا بذكري مرور عامين على معاهدة الصداقة الإيطالية الليبية التي وُقّعت في بنغازي في 30 أغسطس/آب 2008.
وبعد أن نصب القذافي خيمته في حديقة السفارة الليبية في روما تم استقبال العقيد في حفل ضيافة قوامه 500 امرأة شابة اختارتهن إحدى شركات الدعاية الإيطالية، وأمام هذا الجمع النسوي المثير (من فتيات ونساء شابات ارتدين أحدث ما ابتكرته بيوت الأزياء) ألقى القذافي درسا في تعاليم القرآن!
لكن من السذاجة النظر إلى العلاقة بين الدولتين عبر هذه المواقف الغرائبية والاستثنائية؛ فإيطاليا كانت قوة استعمارية مهيمنة على ليبيا من 1911 إلى 1943. ومنذ وصول القذافي إلى حكم ليبيا، مرت العلاقات بين بلاده وإيطاليا بمراحل بالغة الصعوبة.
فبعد عام واحد من وصوله إلى سدة الحكم عام 1969، طرد القذافي المواطنين الإيطاليين ممن بقوا في بلاده من فترة الاحتلال الإيطالي. وسيطر على البلاد وأمّم الممتلكات الإيطالية، وأبطل الاتفاق الإيطالي الليبي الذي كان قد وُقّع عام 1956 بين الجمهورية الإيطالية والمملكة الليبية لإعادة ترسيم العلاقة السابقة التي جمعت الطرفين. على هذا النحو كان عام 1970 بداية فترة جد عسيرة في علاقة الطرفين، طالب القذافي خلالها إيطاليا بدفع تعويضات لجرحى الحرب الذين سقطوا خلال الفترة الاستعمارية.
وعلاوة على ما سبق، كان دعم القذافي لبعض الجماعات التي توصف بالإرهابية قد خلق أزمة دولية حقيقية؛ ففي مارس/آذار وإبريل/نيسان 1986 شنت الولايات المتحدة عملية "خانق إلدورادو"؛ فقصفت طرابلس مستهدفة بشكل مباشر حياة القذافي انتقاما من التفجيرات التي وقعت في ملهى "لابيل La Belle " في مدينة برلين، وهو الملهى الذي عُرِف بتردد الجنود الأميركيين عليه.
وثارت تكهنات متضاربة بشأن موقف الحكومة الإيطالية من تلك الأحداث، ذهب بعضها إلى أن رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك، بتينو كراكسي Bettino Craxi، استبق القصف فحذّر العقيد من هجوم وشيك محتمل، وهو الأمر الذي يُعتقد أنه ساعد القذافي في أن يأخذ استعداده وينجو من القتل.
شركة النفط الإيطالية العملاقة "إني" ENI ما تزال في ليبيا ولم تترك البلاد حتى في ذروة الأزمة الأخيرة، رغم الصعوبات في العلاقة بين الحكومتين، ورغم مخاطر الحرب والقصف. |
ورغم أن العلاقات بين روما وطرابلس ظلت تمر بمسارات صعبة، إلا أن الحكومات الإيطالية المتعاقبة، سواء من اليمين أو اليسار، أوْلت عناية كبيرة للحفاظ على تواصل فعّال مع ليبيا. ويشهد على ذلك أن معاهدة بنغازي للصداقة بين الطرفين قد تفاوض بشأنها كل من رئيس الوزراء الإيطالي السابق روماني برودي ورئيس الوزراء الحالي سيلفيو برلسكوني.
وإلى ما سبق يضاف أن شركة النفط الإيطالية العملاقة "إني" ENI ما تزال في ليبيا ولم تترك البلاد حتى في ذروة الأزمة الأخيرة، رغم الصعوبات في العلاقة بين الحكومتين، ورغم مخاطر الحرب والقصف.
تعد إيطاليا واحدة من أكثر دول العالم اعتمادا على مصادر الطاقة المستوردة. ويرجع ذلك إلى ضعف القدرات الإيطالية في موارد الطاقة التقليدية ونضوب الخامات المعدنية، إضافة إلى العجز الذي تعانيه الدولة في مصادر الطاقة المتجددة بعد أن اتخذت خيار التوقف عن إنتاج الطاقة النووية بعد استفتاء شعبي في نوفمبر/تشرين الثاني 1987، في أعقاب كارثة مفاعل تشيرنوبل بأوكرانيا، وتعزز هذا القرار الشعبي بعد مأساة فوكوشيما النووية في 2011؛ مما سبب إرباكا لمخططات الحكومة الإيطالية التي كانت تنتوي إعادة بناء وتشغيل بعض المحطات النووية بحلول عام 2020.
وتعد روسيا الموّرد الأول لمصادر الطاقة لإيطاليا، وخاصة الغاز الطبيعي، ولعل هذا يفسر العلاقة الشخصية الوثيقة بين برلسكوني وبوتين. وبعلاقة شخصية مشابهة جمعت برلسكوني والقذافي يمكننا فهم كيف تحتل ليبيا المرتبة الثانية في إمداد إيطاليا بالطاقة، بل إنها المصدّر الأول للنفط بالنسبة لإيطاليا على وجه الخصوص.
ورغم أن لشركة "إني" تعاونا مشتركا مع شركة الغاز الروسي "غاز بروم"، إلا أن المشكلات التي تواجه وصول الغاز الروسي إلى الأسواق الإيطالية (بسبب تحكم أوكرانيا أحيانا في عبور الغاز الروسي إلى السوق الأوربي) لا تترك خيارا أمام إيطاليا سوى تدعيم العلاقة مع الموّرد الأقرب الذي تمثله ليبيا.
وإضافة إلى شركة "إني" التي حصلت على تصريح بالعمل مع نظام القذافي (وما يزال هذا التصريح ساريا حتى عام 2045) هناك أيضا مؤسسات إيطالية أخرى تعمل في السوق الليبي، مثل يونيكريدت Unicredit التي تعمل في مجال الخدمات المصرفية، وشركة فينميكانيكا Finmeccanica العاملة في مجال التسليح، وشركة إمبريجيلو Impregilo العاملة في مجال الإنشاء والتعمير. كما أن لنظام القذافي مساهمات ضخمة في رؤوس أموال الشركات الإيطالية.
وقد حققت معاهدة بنغازي -التي هدفت إلى وضع نهاية لتركة الاحتلال الإيطالي- آمال وطموحات برلسكوني في ليبيا، وترتب عليها كثير من التداعيات. في مقدمتها تعويض الخسائر التي مُنيت بها إيطاليا نتيجة تقديمها اعتذارا عن الفترة الاستعمارية، والتي أجبرتها على التعهد بدفع تعويضات تصل إلى 5 بليون دولار خلال 20 سنة.
وقد تعهدت إيطاليا باستخدام هذه الأموال في بناء طرق برية تصل شرق ليبيا بغربها، من مساعد على الحدود المصرية إلى رأس جدير على الحدود التونسية لمسافة تصل لنحو 1700كم. كما التزمت إيطاليا بتدريب خفر السواحل الليبي وتوفير التقنيات المتقدمة.
وكانت رؤية روما ترمي إلى أن تحقق هذه المعاهدة المصالح الإيطالية في المقام الأول، وذلك من خلال منح أولوية وأفضلية للشركات الإيطالية في المجال الاقتصادي والمؤسسات العسكرية العاملة في مجال تدريب خفر السواحل، وهو ما سيكون له مردود إيجابي على إيطاليا من خلال الحد من تدفق اللاجئين على السواحل الإيطالية (وقد تحقق ذلك بموافقة حزب "الجامعة الشمالية" المعارض للقصف الحالي لليبيا). وعلاوة على ذلك فإن الطريق البري الذي سيُمد من شرق ليبيا إلى غربها ستضطلع بتنفيذه مجموعة من الشركات الإيطالية.
على هذا النحو أحكمت معاهدة بنغازي طبيعة العلاقة التعاونية بين إيطاليا وليبيا. وقد حصلت إيطاليا بذلك على نتائج بالغة الأهمية خدمت مصالحها المحلية وسياساتها الخارجية، خاصة عبر الاستفادة من الخبرة التي ستحققها شركاتها العاملة في الأراضي الليبية. أما ليبيا فاستفادت من تعويضات الحرب واستثمرت في المشروعات التجارية الإيطالية بهدف إعادة الاستثمار في الثورة النفطية الهائلة في التراب الليبي.
حصلت فرنسا والمملكة المتحدة على ما كانتا تصبوان إليه بشن هجوم على نظام القذافي؛ وذلك عبر آلية التصويت في مجلس الأمن على القرار 1973 الذي فوّض التحالف الدولي ممارسة كافة الوسائل للدفاع عن حقوق السكان المدنيين في ليبيا. وقد لحقت حكومة برسكوني بالركب مؤخرا بعد أن تحول الأمر إلى كابوس مفزع. فقد وجد برلسكوني نفسه حائرا بين الوقوف إلى جوار حليفه الرئيس في شمال إفريقيا ووحدة المصير التي تربطه بحلفائه الغربيين وحلف شمال الأطلنطي.
وفي النهاية انضم برلسكوني إلى قافلة المهاجمين للقذافي بعد كثير تردد، بدأ برفض الضربات الجوية، ثم تحول إلى الموافقة على تقديم دعم لوجستي للتحالف، ثم السماح لقواعد الناتو على الأراضي الإيطالية بالمشاركة في الهجوم، ثم السماح للطائرات بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، ثم السماح بمهاجمة وإبطال عمل أجهزة الرادار الليبي.
وإضافة إلى صعوبات الاختيار السابقة، كانت إيطاليا تدرك أن ترددها يضعها في موقف حرج نسبيا مع المجلس الوطني الانتقالي الليبي في بنغازي، والذي يُفترض أن يصبح ممثلا عن سلطة الحكومة الليبية الجديدة في المستقبل، ومن ثم معبِّرا عن الكيان السياسي الذي سيمثل ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، ويحدد مصير عقود وامتيازات التنقيب عن النفط، الأمر الذي يضع بقاء المشروعات الاقتصادية الإيطالية في ليبيا موضع خطر.
وفي ظل تلك الخيارات الصعبة تفضل الحكومة الإيطالية أن يتحقق مخرج تفاوضي للقذافي ينهي الأزمة الحالية في بلاده، بحيث يفضي الحوار والتفاوض بين الحكومة الليبية والثوار إلى تشكيل حكومة جديدة.
في ظل تلك الخيارات الصعبة تفضل الحكومة الإيطالية أن يتحقق مخرج تفاوضي للقذافي ينهي الأزمة الحالية في بلاده، بحيث يفضي الحوار والتفاوض بين الحكومة الليبية والثوار إلى تشكيل حكومة جدي |