في ظل اشتعال الأزمة السياسية في اليمن، وتعليق المبادرة الخليجية، هناك سؤال يطرح نفسه بقوة، وهو: إلى أين تتجه مسيرة العلاقات اليمنية – الخليجية؟ في ضوء الجوار الجغرافي الذي يجمع الطرفين، وما يعنيه ذلك من إمكانية انتقال العدوى والاضطرابات وعدم الاستقرار في اليمن إلى دول الخليج لاسيما مع بروز مؤشرات على احتمال نشوب حرب أهلية هناك، وفي ضوء أيضًا متانة العلاقات بين الطرفين التي تمازجت وتكاملت فيها الأبعاد التاريخية والبشرية والجغرافية، وتعددت أبعادها ومجالاتها سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا واجتماعيًا، والتي كان لها أكبر الأثر في رسم مسيرة تلك العلاقات.
مرتكزات العلاقات اليمنية – الخليجية
مستقبل العلاقات اليمنية – الخليجية
مرتكزات العلاقات اليمنية – الخليجية
قبل الإجابة عن هذا التساؤل من الضروري تسليط الضوء على مرتكزات هذه العلاقات السياسية والأمنية والاقتصادية؛ لأنها ستوفر لنا خلفية جيدة يمكن الانطلاق منها للإجابة عن التساؤل المذكور أعلاه.
1- المرتكزات السياسية
مرت العلاقات اليمنية – الخليجية في سياقها السياسي بثلاث مراحل:
الأولى: خلال عقدي السبعينات والثمانينات؛ حيث انعكس واقع انقسام اليمن إلى دولتين إحداهما شمالية والأخرى جنوبية على طبيعة العلاقات السياسية بين شطري اليمن من جهة ودول مجلس التعاون من جهة ثانية، فخلال تلك المرحلة دعم اليمن الجنوبي ثورة ظفار التي اندلعت في جنوب سلطنة عمان (1965-1975) سياسيًا وعسكريًا وماليًا وإعلاميًا، انطلاقًا من الانتماء المشترك لكل من الجبهة القومية في اليمن الجنوبي والجبهة الشعبية لتحرير ظفار إلى الجناح اليساري في حركة القوميين العرب. كذلك أثار إعلان إنشاء مجلس التعاون واقتصار العضوية فيه على الدول الست تحفظ اليمن الجنوبي الذي كان يتبع المعسكر الشيوعي، والذي رد على ذلك بالدعوة إلى اجتماع لدول الجزيرة العربية والقرن الأفريقي للتباحث حول صيغة معينة لحفظ الأمن في المنطقة، فيما عارض اليمن الشمالي الذي كان يتبع المعسكر الرأسمالي قرار إنشاء المجلس لاستبعاده كذلك من العضوية فيه (1).تباين الموقف اليمني إزاء التطورات والأزمات السياسية التي شهدتها المنطقة الخليجية منذ استقلال دولها، كان أحد المحددات الرئيسية التي حكمت التعامل الخليجي مع هذا البلد.
وفوق هذا وذاك، فقد مثل ارتباط اليمن الشمالي بمجلس التعاون العربي عام 1989، بجانب نظام الرئيس العراقي "صدام حسين" مصدرًا للتوتر في العلاقات بين الجانبين، باعتبار هذا التكتل ندًا ومنافسًا لمجلس التعاون الخليجي، وفق ما صرح به آنذاك الرئيس العراقي السابق "صدام حسين".
المرحلة الثانية: خلال عقد التسعينات؛ حيث أدى قيام الوحدة اليمنية إلى انتفاء أحد المبررات المعلنة لإقصاء اليمن من منظومة مجلس التعاون، ووفّر ظروفًا لإمكانية حسم القضايا الحدودية بين اليمن وسلطنة عمان والسعودية (2)، غير أن ثمة تطورًا مهمًا حدث في أوائل التسعينات أثّر بالسلب على العلاقات بين الجانبين وهو غزو واحتلال العراق للكويت في أغسطس/آب 1990، وتأييد النظام اليمني له وبقوة، وهو ما أدى إلى استبعاد حوالي 300 ألف عامل يمني من العمالة اليمنية من دول الخليج، والتي قدرت أعدادها بنحو 1.3 مليون عامل، ووقف المعونات الاقتصادية والمساعدات المالية التي كانت تقدمها هذه الدول إلى اليمن، والتي عادت بزخم مرة أخرى في إطار برنامج تأهيل اليمن للانضمام لمجلس التعاون الخليجي؛ حيث التزمت دول الخليج في مؤتمر المانحين خلال عام 2006 بنحو 3.5 مليار دولار (3).
لكن، رغم الجرح الذي سببه الموقف اليمني من أزمة الكويت بدأت العلاقات اليمنية – الخليجية في المرحلة الثالثة تأخذ مسارًا آخر مع مطلع الألفية الثالثة وحتى الآن (4)؛ حيث تميزت هذه المرحلة بحدوث تطور إيجابي في العلاقات اليمنية – الخليجية، وذلك بصدور قرار القمة الـ 22 لمجلس التعاون بمسقط في ديسمبر/كانون الأول 2001، بالموافقة على قبول عضوية اليمن في أربع من مؤسسات المجلس، وهي: مجلس وزراء الصحة، ومكتب التربية، ومجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية، ودورة كأس الخليج لكرة القدم، علاوة على إقرار انضمامه في القمة الـ 30 بالكويت في ديسمبر/كانون الأول 2009 إلى لجنة رؤساء وكلاء البريد، تمهيدًا لدخول أوسع بعد تأهيله، واستكمال المقومات الأساسية لتحقيق الاندماج الكلي بين الجانبين.
وهكذا، يتضح أن تباين الموقف اليمني إزاء التطورات والأزمات السياسية التي شهدتها المنطقة الخليجية منذ استقلال دولها، كان أحد المحددات الرئيسية التي حكمت التعامل الخليجي مع هذا البلد.
2- المرتكزات الاقتصادية
يلاحظ أن دول المجلس تعد الشريك التجاري الأول لليمن، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من حوالي 2 مليار دولار خلال عام 2005 إلى 2.5 مليار دولار في عام 2009؛ كما ارتفع حجم الصادرات اليمنية إلى دول المجلس من42 مليون دولار عام 2005 إلى أعلى مستوى لها في عام 2008 وبقيمة إجمالية قدرها 1.07 مليار دولار، كما حقق الميزان التجاري لليمن مع دول المجلس متوسط معدل زيادة سنوية قدرها 30% خلال الفترة من عام 2006 وحتى عام 2010 (5).
ومن ناحية أخرى، بلغ حجم الاستثمارات الخليجية في اليمن نحو نصف مليار دولار في 2009، مقارنة بحوالي 284 مليون دولار عام 2008، بزيادة قدرها حوالي 43%، فيما بلغ عدد المشاريع الخليجية في اليمن منذ تأسيس الهيئة العامة للاستثمار هناك عام 1992 وحتى عام 2006 نحو 113 مشروعًا استثماريًا، بتكلفة تقدر بنحو 1.5 مليار دولار.
ويمكن تعزيز هذه العلاقات بشكل قوي في ضوء عدة اعتبارات:
أولها: قدرة اليمن على خدمة التجارة الخليجية، سواء بتوفير مسارات آمنة أو موانئ ومحطات ترانزيت وبدائل لنقل النفط والغاز الخليجي عبر الأنابيب بعيدًا عن مضيق هرمز، فضلاً عن تسهيل حركات التبادل التجاري مع قارة أفريقيا.
ثانيها: التنوع في الموارد الطبيعية التي يمتلكها اليمن؛ حيث يعد هذا التنوع حافزًا للاستثمارات الخليجية في عدة قطاعات مثل(6): القطاع السمكي والتعديني، والقطاع السياحي(7)، وبالتالي فإن توجيه بعض الفوائض الخليجية للاستثمار في اليمن يخلق قاعدة اقتصادية عريضة من المكاسب المشتركة، لاسيما وأن الغرب لم يعد ملاذًا آمنًا للاستثمارات الخليجية(8).
ثالثها: مزايا الحجم السكاني؛ حيث إجمالي عدد سكان دول المجلس 38.6 مليون نسمة، وإجمالي عدد سكان اليمن حوالي 23 مليون نسمة، وهو ما يعني أن اليمن يملك قوة بشرية مضافة لدول الخليج يمكن أن تعالج عدم التوازن السكاني مع جيرانها، ويمكن أن تحل العديد من المشاكل، فعلى سبيل المثال يمتلك اليمن ثروة بشرية عاملة تبلغ حوالي 6.5 مليون نسمة، بإمكان نسبة كبيرة منها أن تنضم إلى سوق العمالة في دول المجلس بعد تدريبها وتأهيلها، وعلاج الخلل السكاني والتحديات الاجتماعية والثقافية التي أحدثتها العمالة الأجنبية بدول الخليج، وفي الوقت ذاته امتصاص البطالة التي يعاني منها الاقتصاد اليمني.
3- المرتكزات الأمنية
بحكم الجوار الجغرافي ثمة ارتباط عضوي بين أمن اليمن من جهة، وأمن دول مجلس التعاون من جهة أخرى، وهو ما يعني أن تمتع اليمن بالأمن والاستقرار يصب في خانة تحقيق مصلحة دول مجلس التعاون، وبالمثل، فإن تمتع الأخيرة بالأمن والاستقرار يصب في مصلحة اليمن(9).
ورغم ذلك، فإنه يلاحظ في الإطار العام الناظم للعلاقات اليمنية – الخليجية في مرتكزها الأمني هو غياب التعاون والتنسيق بين الجانبين على المستوى الجماعي، وهو ما تجلى في استبعاد اليمن من العديد من الترتيبات الأمنية الجماعية على مستوى دول مجلس التعاون، كقوة درع الجزيرة، والاتفاقيات والاستراتيجيات الأمنية، واتفاقية الدفاع الخليجي المشترك، والمناورات العسكرية المشتركة وتبادل المعلومات، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ليقتصر التعاون بين الجانبين على الصيغة الثنائية(10). ويمكن هنا، الإشارة إلى أبرز الملاحظات المهمة بشأن العلاقات الأمنية اليمنية – الخليجية كالتالي:
-
نجاح اليمن في تسوية خلافاته الحدودية مع كل من سلطنة عمان، بالتوقيع في عام 1997 على الخرائط النهائية للحدود المشتركة، والسعودية بالتوقيع على معاهدة جدة في يونيو/حزيران 2000.بحكم الجوار الجغرافي ثمة ارتباط عضوي بين أمن اليمن من جهة، وأمن دول مجلس التعاون من جهة أخرى، وهو ما يعني أن تمتع اليمن بالأمن والاستقرار يصب في خانة تحقيق مصلحة دول مجلس التعاون، وبالمثل، فإن تمتع الأخيرة بالأمن والاستقرار يصب في مصلحة اليمن. - التنسيق الأمني بين اليمن والسعودية في مكافحة الإرهاب احتل الأولوية الأولى، عبر الاتفاقيات الأمنية بين الطرفين، لاسيما بعد تنامي تهديد تنظيم "القاعدة" واستهدافه للعديد من الأهداف الإستراتيجية في البلدين، وكذلك إعلان فرعي "القاعدة" في اليمن والسعودية الاندماج الكامل في يناير/كانون الثاني 2009، تحت مسمى تنظيم "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب"، بجانب امتداد عملياته إلى استهداف شخصيات ذات مواقع قيادية في الأجهزة الأمنية بالسعودية.
- مثلت الحروب الستة التي اندلعت منذ يونيو/حزيران 2004 بين القوات اليمنية وبين قوات التمرد الحوثي في صعدة تهديدًا لأمن واستقرار دول مجلس التعاون، بالنظر إلى أن الحرب تدور على حدود بعضها كالسعودية، بل إن الأخيرة دخلت في حرب مع المتمردين الحوثيين عام 2009 بعد تسللهم عبر الحدود إلى داخل الأراضي السعودية، ونظرًا أيضًا لأن الحوثية في أبعادها المذهبية تقدم فكرًا يتناقض مع المذهب السلفي السائد في دول المجلس.
ما سبق استدعى تحركًا خليجيًا جماعيًا وفرديًا، ويبرز هنا بشكل خاص دور كل من السعودية بتضامنها مع اليمن، وقطر بوساطتها للتقريب بين وجهتي نظر الحكومة والحوثيين وطرح فكرة توقيع اتفاق بين الطرفين، وهو ما أدى إلى توقيع اتفاق بين الطرفين بالفعل في يونيو/حزيران عام 2007. - بروز البعد الطائفي على الساحة اليمنية؛ فاليمن شأنه شأن أغلب دول الخليج العربي يتسم بتركيبة طائفية؛ إذ ينقسم أغلب سكانه (البالغ عددهم 23 مليون نسمة) ما بين سُنة (على المذهب الشافعي) وشيعة (على المذهب الزيدي) مع وجود غموض في تحديد نسبة وجود الطائفتين، وإن كان تقرير الحريات الدينية الصادر عن الخارجية الأمريكية عام 2006 يقدر نسبة الشيعة بـ 30% من إجمالي السكان.
- ظهور ما يسمى بـ "الحراك الجنوبي" في جنوب اليمن والذي يسعى إلى الانفصال عن صنعاء تحت دعاوى التهميش والغبن السياسي وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزء الجنوبي من اليمن، وهو ما يعني خلق مشاكل لدول الخليج على الصعيد الأمني إذا ما تطورت الأمور إلى صراع مسلح كالذي حدث عام 1994، أو إذا حدث وانقسم اليمن، وهما تحديان من شأنهما إحياء أزمات الحدود من جديد مع السعودية وسلطنة عُمان.
- بروز مشكلة القرصنة بالقرب من المياه الإقليمية لليمن؛ إذ إن تواجد القراصنة الصوماليين وممارسة نشاطهم في المحيط الهندي، وامتداد هذا النشاط إلى منطقة بحر العرب بالقرب من اليمن ومدخل البحر الأحمر يشكل تهديدًا خطيرًا لخط ملاحي دولي مهم وحيوي بالنسبة لحركة ناقلات النفط الخليجي عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر في طريقها إلى أوروبا وأمريكا عبر قناة السويس، وهو ما يستلزم ترتيبات خليجية معه لضمان أمن هذا الشريان الملاحي المهم (11). والذي يمر عبره نحو 21 ألف ناقلة نفط سنويًا، وتحمل السفن التجارية التي تمر من خلاله نحو 10% من إجمالي الشحنات البحرية العالمية سنويًا(12).
- يغلب على الوضع الأمني في اليمن حالة عدم الاستقرار نتيجة مجموعة من العوامل، أهمها: الولاء للقبيلة وليس للدولة، والصراعات القبلية الداخلية، علاوة على ظاهرة حمل السلاح؛ حيث كشفت إحصائيات عن أن حوالي 50% من الشعب اليمني يمتلك أكثر من 80 مليون قطعة سلاح(13).
وبصفة عامة، ومن خلال الاستعراض السابق لمرتكزات العلاقات اليمنية - الخليجية حتى مطلع الألفية الثالثة يتضح أن هناك خمسة عوامل رئيسية أثرت على هذه العلاقات، تتمثل في الآتي: التواصل الجغرافي والموقع الاستراتيجي(14)، والتشارك الحضاري والديني والثقافي، والتفاوت في مصادر الدخل والثروة، وتوجهات الأنظمة الخليجية، ناهيك عن الوضع الأمني في اليمن(15).
مستقبل العلاقات اليمنية – الخليجية
تأسيسًا على المرتكزات سالفة الذكر، وخصوصية العلاقات اليمنية – الخليجية، وكذلك دور دول مجلس التعاون في دعم ومساندة اليمن إزاء ما واجهه من أزمات عدة طيلة العقود الثلاثة الماضية، لم تكن دول المجلس بمنأى عن أحداث الثورة الشعبية المطالبة بتنحي الرئيس اليمني "علي صالح" عن السلطة، وذلك بهدف المحافظة على وحدته والحيلولة دون انقسامه، وتجنب التداعيات السلبية التي قد تنجم عن استمرار حالة الارتباك والقلق التي تسوده في الوقت الراهن سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا من دون إيجاد حلول توافقية للأزمة، والتي لن تقتصر تداعياتها على جر هذا البلد نحو مصير مجهول فحسب، وإنما لها تداعيات سلبية على أمن واستقرار دول المنظومة الخليجية برمتها(16) من جهة، وعلى مستقبل العلاقات بين الجانبين من جهة أخرى، ومن أبرزها:
1- بالنسبة لمسألة انضمام اليمن لعضوية مجلس التعاون
الأمر الذي لا