الصين في أفريقيا.. استثمارات غير مشروطة

يحاول أولو آدرامز مناقشة الأسئلة التالية في هذا المقال: كيف تطورت العلاقات الصينية الإفريقية؟ وما هي أسسها؟ وما الأسباب التي تقف خلف القلق الأمريكي من خطوات التنين الصيني في إفريقيا؟ وما السبيل لبناء علاقة متوازنة بين الدول الإفريقية والصين؟
1_951032_1_34.jpg

رئيس الوزراء الصيني ون جياباو يتحدث في مؤتمر صحفي (الفرنسية-أرشيف)

آدمز ولوو

باتت القارة الإفريقية ساحة تنافس اقتصادي محموم بين القوى الجيوسياسية التقليدية الممثلة في دول أوربا الغربية والولايات المتحدة والقوى الاقتصادية الصاعدة الممثلة في الصين. ففي هذه القارة السمراء تمكنت بكين عبر عقود من العمل الجاد المتصل من تحقيق تغلغل فعّال مع كثير من الدول المحورية على أصعدة سياسية واقتصادية وعسكرية.

كيف تطورت العلاقات الصينية الإفريقية؟ وما هي الأسس التي تقوم عليها السياسة الخارجية لبكين في القارة الإفريقية؟ وما الأسباب التي تقف خلف القلق الأمريكي من خطوات التنين الصيني في إفريقيا؟ وهل من سبيل لبناء علاقة متوازنة بين الدول الإفريقية والصين؟ يهدف المقال الحالي إلى إلقاء بعض من الضوء على جنبات تلك الأسئلة ومحاولة الإجابة عليها.

جذور العلاقات.. تعاون متعدد الأبعاد
الأهداف الثنائية.. مشاريع تعود بالنفع للطرفين
القلق الأمريكي.. الصين مورد السلاح الأول بافريقيا
التعاون الصيني الأفريقي.. نظرة مستقبلية

جذور العلاقات.. تعاون متعدد الأبعاد

ما تزال أنماط التعاون الاقتصادي والسياسي التي جمعت الصين بالدول الإفريقية في تسعينيات القرن العشرين كما هي، مع بعض اختلافات طفيفة. فشهية الصين الشرهة تجاه الموارد الطبيعية ـ خاصة مصادر الطاقة ـ ما تزال المحفز الأول لدعم وصول التنين الصيني إلى القارة السمراء
يمكن تتبع جذور العلاقات الصينية الإفريقية بالعودة إلى مؤتمر باندونغ في إندونيسيا عام 1955. فمنذ ذلك التاريخ وحتى سبعينيات القرن العشرين، قدمت الصين للدول الإفريقية مساعدات مدعومة بحوافز سياسية. وقد تضمن معظم هذه المساعدات مشروعات للبنية الأساسية وتنمية القطاعات الاقتصادية. وحين شهدت الصين نموا اقتصاديا ملحوظا في ثمانينيات ذلك القرن، بدأت بكين تعيد رسم أهداف سياساتها الخارجية، واضعة نصب أعينها عقد روابط ثنائية على أسس من البراغماتية الاقتصادية والأهداف وثيقة الصلة بالتجارة، ولم تشغل نفسها كثيرا بالأهداف السياسية أو الأيديولوجية.

واستمر الاهتمام الصيني يكافح بجد لعقد روابط مع إفريقيا فبلغ ذروته في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين كرد فعل للنمو الاقتصادي الصيني وتوجهات السياسة الصينية الهادفة إلى تخطيط مشروعاتها المحلية على مبدأ "التصنيع من أجل التصدير" وهو ما مكّن بكين من توثيق روابطها بدول عديدة، ومن بينها كثير من الدول الإفريقية الغنية بالسلع والمواد الأولية.

وفي إفريقيا وغيرها من الأقاليم، دافعت الصين عن الأعراف الدولية القائمة على الحيادية وسيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وكان ذلك جليا في الفترة التي تصاعد فيها الانتقاد الدولي للصين بسبب سحقها للتظاهرات المطالبة بالديموقراطية التي تجمعت في ميدان تيانانمن عام 1989.

وكما في العقود الأولى، لعبت إفريقيا دورا مهما في الإستراتيجية الصينية الساعية إلى تحقيق أهدافها السياسية عبر أروقة الأمم المتحدة وغيرها من المنتديات الدولية، والتي تتمع فيها الدول الإفريقية الأعضاء بميزة إمكانية التصويت ككتلة واحدة بناء على المصلحة المشتركة. وكانت كثير من الأهداف الصينية خلال تلك الفترة قابلة للتعديل استرضاء للحكومات الإفريقية، التي كانت تسعى إلى دعم تجارتها وجذب رؤوس الأموال لتعويض خسائرها الناجمة عن استنزاف احتياطي مواردها الطبيعية خلال الحقبة الاستعمارية.

وقد اعتنقت كثير من الدول الإفريقية آنذاك مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى. وفي بعض الحالات، كانت الدول الإفريقية تتعرض مثلها مثل الصين لانتقادات دولية تتعلق بأساليب الحكم غير الديموقراطية والسجل السيئ في حقوق الإنسان.

وما تزال أنماط التعاون الاقتصادي والسياسي التي جمعت الصين بالدول الإفريقية في تسعينيات القرن العشرين كما هي، مع بعض اختلافات طفيفة. فشهية الصين الشرهة تجاه الموارد الطبيعية ـ خاصة مصادر الطاقة ـ ما تزال المحفز الأول لدعم وصول التنين الصيني إلى القارة السمراء، مع تنبؤات بأن النمو الاقتصادي الإفريقي الحالي وإمكانات تحوله في المستقبل المنظور إلى سوق استهلاكي كبير سيأخذ تلك العلاقات إلى مزيد من التعاون بين بكين والعواصم الإفريقية.

وتعمل السياسة الصينية حاليا على تعزيز التحالف مع عديد من الدول الإفريقية عبر جهود دائمة ومتزايدة لعزل تايوان دوليا، فضلا عن الجهود التي تبذلها بكين لدفع الدول الإفريقية للتصويت في الأمم المتحدة والمنتديات الدولية الأخرى على أهداف سياسية متنوعة تصب في النهاية في صالح الصين.

ورغم المعدل المتسارع الذي تتوغل من خلاله الصين بمدى واسع وأشكال متعددة في القارة الإفريقية، فإن هذا التطور الناجح لبكين يؤدي إلى تعقيد وتشابك العلاقات الإفريقية الصينية ويفرض تحديات يصعب السيطرة عليها بشكل كامل.

فالمشروعات التبادلية بين الصين والدول الإفريقية آخذة في التأثر بشكل متزايد بالأحداث الدولية المتنوعة، والتوجهات السياسية والدبلوماسية، سيما أن بعضا من هذه الأحداث تدور رحاه على الأرض الإفريقية وبعضه الآخر يقع غير بعيد عن تخومها. ومن الأمثلة على ذلك ردود الأفعال الدولية على مشكلة دارفور في السودان، والدعم الغربي لإرساء أشكال حوكمة ناجحة، وشفافية مالية، وتنافسية اقتصادية معولمة.

الأهداف الثنائية.. مشاريع تعود بالنفع للطرفين

في كل تجمع يعقده منتدى فوكاك، تبذل الصين جهودا كبيرة تشيع من خلالها حجم الفوائد التي استفادت إفريقيا منها بفضل تكوين ذلك المنتدى
ترتسم الأهداف الثنائية على المستوى الاقتصادي والسياسي والعلاقات البينية التي تقيمها الصين مع الدول الإفريقية على مرسوم صيني رسمي صدر عام 2006 يحمل عنوان "السياسة الصينية تجاه إفريقيا". ويحدد هذه المرسوم أهداف الصين في خلق شراكة إستراتيجية جديدة مع دول القارة. وتشترط هذه السياسة أن تُرسى العلاقات الرسمية الصينية مع دول القارة على التزامٍ وتعهدٍ بمبدأ "الصين الواحدة" في التعاون مع جمهورية الصين الشعبية (أي عدم الاعتراف بـ "تايوان") باعتبار أن ذلك المبدأ هو "حجر الأساس" الذي تقوم عليها تلك العلاقات الثنائية.

ومن بين أكثر الجهود التي تحاول الصين دعمها لتوثيق العلاقات مع القارة الإفريقية يأتي منتدى "فوكاك" للتعاون الصيني الإفريقي Forum on China-Africa Co-operation (FOCAC). وهذا المنتدى هو جهد شامل وموّسع بادرت به الصين لإقامة تنمية اقتصادية تعود بالنفع على الطرفين، ومد جسور من التعاون والعلاقات السياسية مع القارة الإفريقية.

وقد تشكل هذا المنتدي في أكتوبر/ تشرين الأول 2000 في بكين خلال قمة جمعت رئيس جمهورية الصين الشعبية بـزعماء خمس وأربعين دولة إفريقية. واتفق المشاركون المؤسسون في هذا المنتدى على لقاءٍ كل ثلاث سنوات بشكل متناوب بين الصين وإفريقيا. وقد عقد اللقاء الثاني لمنتدى "فوكاك" في إثيوبيا سنة 2003 وخلاله تبنى المشاركين "خطة عمل" للمستقبل. وأثناء ذلك اللقاء وعدت الصين بدعم تعاونها مع القارة الإفريقية في مجالات تنمية البنية التحتية، والرعاية الطبية، وتطوير الموارد البشرية، وتوجيه القطاع الخاص الصيني للاستثمار في الزراعة الإفريقية.

وفي كل تجمع يعقده منتدى فوكاك، تبذل الصين جهودا كبيرة تشيع من خلالها حجم الفوائد التي استفادت إفريقيا منها بفضل تكوين ذلك المنتدى.

وكي تعزز جمهورية الصين الشعبية من المشاركة الإفريقية في اللقاء الأول للمنتدى بادرت بإعلان تعهدها بإسقاط ديون مقدارها 10 بلايين يوان ( نحو 1.21 بليون دولار أمريكي) عن الدول الإفريقية المثقلة بالديون، فضلا عن إعلانها الالتزام بتوسعة نطاق المساعدات الخارجية التي تمنحها الصين لتلك الدول.

وبحلول عام 2006 كانت الصين قد قدمت إعفاءات جمركية غطت 191 سلعة مستوردة من 30 دولة إفريقية، وجعلت من 17 دولة إفريقية مقاصد سياحية لمواطنيها، وقامت بتدريب عشرة آلاف مهني إفريقي.

وبحلول 2009 أيضا قدمت الصين دعما في صورة "قروض تفضيلية" قيمتها 3 بليون دولار، و"قروض للمشترين الأكثر تفضيلا" مقدارها بليونا دولار خصصت للدول الإفريقية الفقيرة، فضلا عن أنها أرسلت للقارة الإفريقية مائة من أفضل خبرائها في المجال الزراعي، وأسست عشرة مراكز للتقنيات الزراعية، وشيدت ثلاثين مستشفى، وقدمت منحا مقدارها أربعون مليون دولار لإقامة مراكز طبية وإنتاج عقاقير لعلاج ومكافحة الملاريا.

كما قامت بإرسال ثلاثمائة مواطن صيني من المتطوعين للعمل الإنساني على غرار الأعمال التطوعية التي تقوم بها "فيالق السلام" العالمية، كما شيدت الصين مائة مدرسة في المناطق الريفية، وقامت بتدريب 15 الف مهني إفريقي، وضاعفت من عدد المنح الحكومية التي تمنحها جمهورية الصين الشعبية للطلاب الأفارقة من ألفين إلى أربعة آلاف منحة سنويا.

وتشمل الفوائد التي عادت على إفريقيا من التعاون الصيني تأسيس صندوق التنمية الصيني ـ الإفريقي برأسمال يزيد عن 5 بليون دولار بهدف تشجيع ودعم الشركات الصينية للاستثمار في إفريقيا، فضلا عن توفير المساعدة للاتحاد الإفريقي في مهامه المختصة بحفظ السلام، وزيادة عدد المواد التجارية المتمتعة بصفة الإعفاء الجمركي التي تُصدّرها الدول الإفريقية الفقيرة المرتبطة بعلاقت دبلوماسية مع الصين، إضافة إلى تعهد بكين بتقديم تدريب صيني للقادة العسكريين في عدد من الدول الإفريقية وتقديم العون لتكوين جيوش نظامية حديثة في دول أخرى.

القلق الأمريكي.. الصين مورد السلاح الأول بافريقيا

ترى أمريكا أن التعاون الصيني الإفريقي سيزيح خلف الستار قضايا حقوق الإنسان ويسقطها من أولويات العمل الدولي المشترك. ويتضح ذلك بشكل حقيقي في أروقة الأمم المتحدة، حيث تصر الصين وحلفاؤها الأفارقة على إضعاف لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان
كان لمزج الصين بين الإعانات والتجارة، وميلها لرسم صورة المشروعات التجارية والقروض الميسرة باعتبارهما "مساعدات" للقارة الإفريقية، مثارا للنقد الغربي الذي اعتبر المساعدات التي تقدمها جمهورية الصين الشعبية لإفريقيا لا تهدف سوى خدمة مصالح بكين، ولا تقوم على أساس تعاون متبادل "يربح فيه الطرفان" على نحو ما تحاول الصين التأكيد عليه في علاقاتها بالقارة.

وتشعر الولايات المتحدة بالقلق من أن المساعدات التي تقدمها الصين "بدون شروط" ربما تؤدي إلى تقويض الأهداف السياسية التي أصبحت تشكل جزءا مكملا من إستراتيجيات برامج المساعدات الخارجية التي تقدمها واشنطن. وتشمل هذه الإستراتجيات وضع شروطٍ توقف تقديم المساعدات والقروض على إذعان وطاعة الحكومات للأعراف الدولية المرتبطة بالحوكمة الرشيدة، وإرساء حكم القانون، والشفافية، واتباع وسائل مكافحة الفساد، والالتزام بالمعايير البيئية العالمية، واحترام حقوق الإنسان.

ولهذا الهدف تعتقد الولايات المتحدة أن ما تقدمه الصين من شراكة تجارية مع مساعدات وقروض، وما تُصدّره من عتاد عسكري لحكومات دول إفريقية مثل زيمبابوي والسودان، إنما يؤدي إلى تحريض هذه الدول على انتهاك منهجي وموثق لحقوق الإنسان وتكريس الحكم الاستبدادي، وهي المظاهر الأكثر عرضة للنقد والعقوبات الاقتصادية من قبل الولايات المتحدة.

كما تخشى الولايات المتحدة أيضا من أن العروض التي تقدمها الصين بطرح مزيد من القروض وبشروط ميسرة لدول القارة الإفريقية ستؤدي إلى إرهاق كاهل الدول الإفريقية بديون جديدة، الأمر الذي سيفضي في النهاية ـ بحسب واشنطن إلى تقويض كل الجهود التي قدمتها الدول الغربية المانحة حين أسقطت قدرا كبيرا من الديون الإفريقية.

وقد لوحظ على سبيل المثال أنه مع زيادة الاستثمار الصيني في صناعة النفط بالسودان، زاد التعاون العسكري بين الدولتين. وليس من المستغرب إذن أن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان قد لجأ في غير مرة إلى الصين طلبا للسلاح. وقد قدمت بكين للحكومة السودانية أسلحة مصنعة في الصين في مقدمتها الدبابات والقاذفات، والأسلحة المضادة للطائرات، والمروحيات، والمدافع الرشاشة، وراجمات الصواريخ، والذخائر، وقد استخدمت الخرطوم كل هذه الأسلحة خلال الحرب الأهلية الدائرة منذ زمن طويل في البلاد.

وتبعا للولايات المتحدة، فإن التعاون الصيني الإفريقي سيزيح خلف الستار قضايا حقوق الإنسان ويسقطها من أولويات العمل الدولي المشترك. ويتضح ذلك بشكل حقيقي في أروقة الأمم المتحدة، حيث تصر الصين وحلفاؤها الأفارقة على إضعاف لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان. فالصين تمكنت من التعويل على كافة الدول الإفريقية في تلك اللجنة، بما في ذلك تلك الدول صاحبة السجل السيء في حقوق الإنسان، وفي مقدمتها السودان وإريتريا وزيمبابوي وسيراليون والكونغو، وذلك من أجل الوقوف معا مطالبين بمبدأ عدم التدخل في الشأن الداخلي للدول. كما تقدم الصين الحماية لمثل هذه الدول بالتصويت ضد العقوبات المطروحة بحقها في مجلس الأمن الدولي.

وبإحساس القوة العظمى، تشعر حكومة

نبذة عن الكاتب