التعاون الخليجي بعد ثلاثين عاما: معضلة الأمن

لا يكاد يوجد اختلاف بين الباحثين والمهتمين بالشأن الخليجي على أنه في مقدمة ما يجب وضعه "تحت المجهر" النقدي والتحليلي لمسيرة التعاون الخليجية، هو قضية الأمن، والذي لا يزال يمثل "الفريضة الغائبة" في التجربة الخليجية.
1_1064552_1_34.jpg

 

محمد بدري عيد

انطلاقًا من الرؤية والإدراك لأهمية قضية الأمن، يناقش هذا التقرير مستقبل الترتيبات الأمنية الإقليمية في منطقة الخليج، ومحددات مستقبل الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بأمنها، وصولا إلى استخلاص مرتكزات إستراتيجية لنظام أمني إقليمي فعال في الخليج خلال العقد المقبل.

وتبدو أهمية مناقشة هذه القضية كذلك، بتزامن الاحتفال بثلاثينية مجلس التعاون الخليجي، مع احتدام الجدل حول التداعيات الأمنية المستقبلية للانسحاب المزمع للقوات الأميركية من العراق بنهاية العام الجاري، وتأثيرات هذا الانسحاب على الأمن الخليجي في مستوييه الوطني والإقليمي على السواء.

مستقبل الترتيبات الأمنية الإقليمية
مستقبل الدور الأميركي في أمن الخليج
تداعيات انسحاب القوات الأمريكية من العراق
الترتيبات الأمنية الإقليمية في المستقبل المنظور
مستقبل أدوار القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في أمن الخليج
مستقبل النظام الأمني الإقليمي في الخليج

مستقبل الترتيبات الأمنية الإقليمية 

شهدت البيئة الأمنية الإستراتيجية لمنطقة الخليج العديد من التطورات والتغيرات النوعية منذ نشأة مجلس التعاون الخليجي في مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي وحتى الوقت الراهن، وذلك من حيث معطياتها، ومحدداتها، ومرتكزاتها، على النحو الذي اقتضى تغيرات عميقة في طبيعة الأدوار التي تقوم بها القوى الدولية والإقليمية المعنية للحفاظ على أمن واستقرار الخليج، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية.

وبوجه عام، لا يمكن الجزم والحكم بوجود، أو بقرب تبلور، صيغة أو صيغ جديدة محددة للترتيبات الأمنية في الخليج في المدى المنظور، اللهم إلا القائم منها في الوقت الراهن، والتي تعد تطويرًا جزئيًا للترتيبات الأمنية الموجودة منذ حرب الخليج الثانية، والمرتكزة أساسًا على اعتماد دول الخليج على التعاون الثنائي مع الولايات المتحدة باعتبارها الضامن الرئيس لأمن المنطقة.

إن هذه الصيغ سوف تظل سائدة في المدى المنظور، مع تغيرات جزئية أو طفيفة تتم وفقًا لما قد تقتضيه الضرورة الأمنية القصوى لحماية المصالح الحيوية للولايات المتحدة في المنطقة، وفي مقدمة هذه الترتيبات الوجود العسكري الأميركي المباشر في المنطقة.

يدعم هذا الاستنتاج عدد من الاعتبارات العملية، يتمثل أهمها في الآتي:

  • لن يتم النظر في إمكانية إخلاء منطقة الخليج من أسلحة الدمار الشامل، والمستهدف منها إيران، دون ربط ذلك بإخلاء منطقة الشرق الأوسط عمومًا من هذه الأسلحة، والمستهدف منها إسرائيل.
    إن إستراتيجية إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما تنظر إلى أمن الخليج ضمن المنظومة الإقليمية الأشمل، التي تبدأ من ضمان تحقيق الأمن والاستقرار في العراق بعد إتمام الانسحاب الأميركي منه بنهاية العام 2011، والتوصل لتسوية مع إيران بشأن ملفها النووي لاسيما وأنها ممسكة بملفات أخرى غاية في الأهمية، بالإضافة إلى الحرص على تحقيق إنجاز في أفغانستان، هذه المعطيات تدفع الولايات المتحدة للتريث قبل الدخول في مفاوضات أو حوار شامل الآن حول الترتيبات الأمنية في الخليج.

  • التشابك والتداخل الكبير الذي أصبح قائمًا بين أمن الخليج والأمن في منطقة الشرق الأوسط عمومًا، خاصة على ضوء نتائج الحرب الإسرائيلية على لبنان في صيف عام 2006م، وعلى غزة في شتاء 2008/2009م، واللتان أكدتا أن إيران أصبحت طرفًا في الصراع العربي-الإسرائيلي من خلال دعمها كلا من حزب الله اللبناني وحركة حماس الفلسطينية، وبالتالي فإن الولايات المتحدة لن تقدم على إحداث تغييرات جوهرية في الترتيبات الأمنية القائمة في الخليج قبل التوصل إلى تسوية ما مع إيران بشأن القضايا العالقة، وإيجاد تسوية للصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثمّ يتم التفاوض بشأن الترتيبات الأمنية في الخليج ضمن الرؤية الأشمل لمستقبل الترتيبات الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط.

ومن هذا التشابك الأمني بين منطقة الخليج والشرق الأوسط، لن يتم النظر في إمكانية إخلاء منطقة الخليج من أسلحة الدمار الشامل، والمستهدف منها إيران، دون ربط ذلك بإخلاء منطقة الشرق الأوسط عمومًا من هذه الأسلحة، والمستهدف منها إسرائيل.

مستقبل الدور الأميركي في أمن الخليج 

من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة في القيام بدور القائد للقوى العالمية فيما يتعلق بأمن منطقة ودول الخليج في المدى المنظور، وذلك في ضوء مجموعة من الاعتبارات الإستراتيجية، أهمها:

  • تحوّل الولايات المتحدة من عنصر مؤثر في معادلة أمن الخليج طوال العقود الثلاثة الأخيرة، إلى جزء من هذه المعادلة في أعقاب الحرب على العراق، نظرًا لتواجدها العسكري المباشر والكثيف واحتلالها لأحد أهم الدول الرئيسية في المنطقة وهي العراق.

  • حرص الولايات المتحدة على تواجدها السياسي والأمني في المنطقة تحسبًا لأية تطورات في سياق أزمة البرنامج النووي الإيراني، وفي المقابل لا تزال دول مجلس التعاون ترى فيها الضامن الرئيس لأمن الخليج.

  • كثافة المصالح الاقتصادية والتجارية المشتركة بين الولايات المتحدة ودول الخليج؛ فحسب بعض التقديرات بلغت فوائض النفط الخليجية بين عامي 2002 – 2006م نحو 542 مليار دولار، كان نصيب الاستثمارات منها في الولايات المتحدة 300 مليار دولار، كما أن الواردات الخليجية من الأخيرة تبلغ نحو 10 مليارات سنويًا، والبضائع الأميركية أكثر وجودًا في دول الخليج مقارنة بغيرها من الدول الأخرى(1).

ومن المرجح، وفقًا للإستراتيجية الأميركية طويلة المدى وفي ضوء المعطيات الراهنة بالنسبة للملف النووي الإيراني، أن يكون هناك تواجد عسكري أميركي في العراق وعدم الاكتفاء بالقواعد والتسهيلات الخليجية الراهنة للقوات الأميركية في دول مجلس التعاون، وهو التواجد الذي غالبًا ما سيتضمن إقامة قواعد عسكرية أميركية على النحو الذي نظمته الاتفاقية الإطارية للتعاون والتنسيق الدفاعي بين العراق والولايات المتحدة والموقعة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2008.

وفي هذا السياق، يشير بعض الباحثين إلى أن الولايات المتحدة أنفقت مليارات الدولارات على تطوير ست قواعد مهمة لها في جميع أنحاء العراق، وهي تجهيزات يصعب القول إن هدفها الرئيس يقتصر على مساعدة الحكومة العراقية على توفير الأمن والاستقرار في البلاد؛ حيث يكمن الهدف الإستراتيجي من هذه القواعد في توفير دعائم للولايات المتحدة الأميركية ضد مصادر التهديد الإستراتيجي المحتملة، سواء في منطقة الخليج أو في الشرق الأوسط بوجه عام.

يشير باحثون غربيون أيضًا إلى أن الولايات المتحدة أنفقت ملايين الدولارات لتعزيز البنية التحتية لقواعد ومعسكرات في العراق، تمكِّنها في المستقبل من إنفاذ مهمات تتعلق بمعالجة حالات الطوارئ الإقليمية، والدفاع عن العراق ضد التهديدات الخارجية، وردع القوى الخارجية التي تهدد المنطقة أو تسعى لزعزعة الاستقرار. وبحسب هؤلاء الباحثين فإنه حتى نهاية عام 2007م أنفقت الولايات المتحدة الأميركية ما يقارب 240 مليون دولار لإنشاء قاعدة البلد (شمال بغداد)، وهي القاعدة الجوية الرئيسية للنقل والإمداد، كما أنفقت 46.3 مليون دولار في قاعدة الأسد، التي تعد أكبر المراكز العسكرية الجوية ومركز الإمداد الرئيسي للقوات الأميركية التي كانت متمركزة في محافظة الأنبار، قبل تسليم مهامها للقوات العراقية نهاية يناير/كانون الثاني 2010م، كما تم إنفاق 121 مليون دولار في قاعدة التليل الجوية (جنوب العراق) (2).

بالإضافة إلى ما سبق، أنفقت واشنطن في المشاريع العسكرية الأخرى نحو 50 مليون دولار لإنشاء معسكر التاجي شمال غرب بغداد، و165 مليونًا لبناء قاعدة للجيش العراقي قرب مدينة نومي، و150 مليونًا أخرى لقاعدة الكسيك في شمال الموصل(3).

ويهدف هذا الإنفاق الأمريكي على المنشآت الأمنية والعسكرية بالعراق:

  • من المرجح أن تستمر الولايات المتحدة في القيام بدور القائد للقوى العالمية فيما يتعلق بأمن منطقة ودول الخليج في المدى المنظور.
    استمرار الحرب الأميركية على الإرهاب وإن أخذت مسميات أخرى في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما الذي استعاض عن المسمى القديم بمسمى جديد هو "عمليات الطوارئ فيما وراء البحار" Emergncies Beyound Overseas (EBO)؛ مما يقتضي تعاونًا أميركيًا على مختلف المستويات مع العديد من دول منطقة الخليج على وجه الخصوص، ودول منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.

  • المساعدة، أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، في إعادة بناء العراق، واستعادة دوره الإقليمي كموازن تقليدي لإيران حفاظًا على التوازن الإستراتيجي في المنطقة.

  • توفير الحماية والأمن لحلفائها في المنطقة ممثلين في دول مجلس التعاون الخليجي، لاسيما في ظل تعاظم القدرات العسكرية لإيران والخشية من انفرادها بالسيطرة والهيمنة الإقليمية مما يمثل تهديدًا خطيرًا للمصالح الأميركية الإستراتيجية في الخليج لعقود قادمة.

تداعيات انسحاب القوات الأمريكية من العراق 

من المرجح أن يستمر الوجود العسكري الأميركي في الخليج كترتيب أمني بارز ومهم للحفاظ على الأمن والاستقرار في الخليج، في المستقبل المنظور على الأقل من وجهة نظر دول مجلس التعاون، التي تنظر إلى هذا الوجود باعتباره الموازن الخارجي للقوة العسكرية الإيرانية المتنامية.

ومع ذلك يرتبط مستقبل دور الولايات المتحدة في أمن الخليج، بمسألة مهمة للغاية تتمثل في مستقبل وجودها العسكري في المنطقة، من حيث زيادته أو تقليصه أو بقائه على حالته الراهنة، لاسيما مع تعهد إدارة الرئيس باراك أوباما بإتمام انسحاب القوات الأميركية من العراق بنهاية العام 2011 م، وتداعيات هذا الانسحاب المزمع على الأمن والاستقرار في المنطقة.

ولذلك، يرجح إعادة النظر في التواجد العسكري الأميركي بحجمه الراهن في المنطقة، دون أن يعني ذلك الانسحاب الكامل على غرار ما فعلت بريطانيا قبل نحو أربعة عقود، ولكن تنظيم هذا التواجد من حيث العدد، والعتاد، والمهام، وأماكن التمركز والتدريب، بما يوفر القدرة على مواجهة أي تهديدات لأمن المنطقة ودولها وحماية المصالح الأميركية فيها، سواء بأسلحة تقليدية أو أسلحة دمار شامل، ومع القدرة على المواجهة السريعة والحاسمة للتهديدات الإرهابية(4).

وتشير بعض التقديرات إلى أن الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج سيتعرض لانخفاض ملحوظ مع الاحتفاظ بإستراتيجية "النفاذية الدائمة مع الانتشار العسكري الوقتي".

كما أن الوجود العسكري البري تحديدًا سوف يقتصر على مجموعات عسكرية لا يزيد حجمها عن الكتيبة تجوب المنطقة من أجل القيام بمهام تدريبية ثنائية ومتعددة الأطراف، وذلك بهدف تقليص فرص العمليات الإرهابية، كما يمكن أن تحلق فرقة أو فرقتا استطلاع جوي كل عام فوق أجواء المنطقة، مع تدعيم التواجد البحري العسكري.

ويعد هذا الوضع هو الأمثل للقوات الأميركية في المنطقة خاصة وأن تزايد القدرات الصاروخية لإيران من شأنه أن يقيد حرية وقدرة الولايات المتحدة الأميركية على العمل في الخليج من أكثر من جهة، فعلى المستوى العملياتي سوف يزيد هذا الأمر من هشاشة وضع القوات البرية المنتشرة في دول الخليج (خاصة الكويت).

وفي حال ما إذا قررت الولايات المتحدة توجيه ضربة عسكرية لإيران لمنعها من حيازة السلاح النووي فإن الوجود العسكري الأميركي، حتى بعد الانسحاب من العراق، سيكون كافيًا لتنفيذ العمليات العسكرية المطلوبة ضد إيران، وبالتالي تصبح زيادة الوجود العسكري الأميركي في المنطقة غير ذي أهمية، لاسيما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن عملية عسكرية محتملة ضد إيران سوف تعتمد بالأساس على توجيه ضربات موجعة للمواقع المشتبه في أنها نووية، بالإضافة إلى مواقع الحرس الثوري، ومواقع القيادة والسيطرة، وهي أهداف سيتم قصفها اعتمادًا على القوات الجوية بالدرجة الأولى.

وإذا ما افترضنا، جدلا، أن الحاجة قد استدعت قوات إضافية, فإن الولايات المتحدة الأميركية تستطيع توفيرها عبر أوروبا أو عبر قواعدها المنتشرة في مناطق قريبة مثل أفغانستان أو تركيا أو غيرهما.

الترتيبات الأمنية الإقليمية في المستقبل المنظور 

من المرجح أن تسهم عوامل عدة في تحديد ماهية وشكل الترتيبات الأمنية الإقليمية في منطقة الخليج في المستقبل المنظور، ومن أهم هذه المحددات ما يلي:

  1. تشير بعض التقديرات إلى أن الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج سيتعرض لانخفاض ملحوظ مع الاحتفاظ بإستراتيجية "النفاذية الدائمة مع الانتشار العسكري الوقتي".
    ميزان القوى في منطقة الخليج في مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر /أيلول، والذي طرأت عليه تغيرات جوهرية سوف تؤثر على التحديات الأمنية التي تتعامل معها دول الإقليم، لاسيما مع ميله لصالح إيران، واستبعاد العراق من معادلة التوازن الإستراتيجي في المنطقة، ودخول الولايات المتحدة كطرف مباشر في هذه المعادلة. ومن ناحية أخرى، يرتبط بهذا الأمر ظهور بوادر توازن قوى جديد في المنطقة يربط ما بين أمن الخليج والأمن في منطقة الشرق الأوسط بأكمل