الانتخابات المحلية في ألبانيا وتداعياتها

دلّت الانتخابات المحلية الأخيرة على أن الديمقراطية الألبانية لم تستقر بعد على الرغم من مرور عقدين على التحول من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي، ودلت كذلك على أن الطبقة السياسية الألبانية لا تزال تحمل إرث الصراع التاريخي بين اليمين واليسار.
1_1065028_1_34.jpg

 

محمد م. الأرناؤوط

أنهت أول انتخابات تعددية جرت عام 1992 احتكار الحزب الشيوعي للسلطة في ألبانيا بفوز الحزب الديمقراطي، ولكن مذاك الحين لم تستقر الحياة السياسية في ألبانيا بسبب التنافس المحموم بين الحزبين الرئيسيين في البلاد: "الحزب الديمقراطي" آنف الذكر الذي تأسس عام 1991 ليمثل المعارضة الديمقراطية الجديدة، و"الحزب الاشتراكي" وريث الحزب الشيوعي الذي حكم البلاد منذ 1944.

الانقسام الانتخابي المزمن
معركة الانتخابات المحلية
التداعيات

الانقسام الانتخابي المزمن 

دلّت الانتخابات المحلية الأخيرة على أن الديمقراطية الألبانية لم تستقر بعد على الرغم من مرور عقدين على التحول من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي.
وتم تداول الحكم عدة مرات خلال العقدين الأخيرين بين الحزبين المذكورين، إلا أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2009 والانتخابات المحلية التي جرت في شهر مايو/ أيار -ولم يبت فيها بشكل نهائي بعد- تثيران القلق نتيجة لتعمق الانقسام بين الشمال والجنوب الذي يتماهى مع الانقسام بين اليمين واليسار، وبسبب استخدام الشارع وإعطاء صورة غير جاذبة لألبانيا في أوروبا، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الألبانية تنتظر أفضل النتائج السياسية والاقتصادية في صيف وخريف 2011.

يذكر أن "الحزب الديمقراطي" شكل عام 1992 -بعد فوزه في الانتخابات- أول حكومة ديمقراطية في ألبانيا عملت على تفكيك تركة النظام الشمولي وتركيب نظام دستوري قانوني جديد للبلاد خلال 1992-1996. ولكن المعارضة الاشتراكية اتهمت "الحزب الديمقراطي" بتزوير انتخابات 1996، واستغلت انهيار شركات تشغيل الأموال عام 1997 لتدفع بأنصارها إلى "ثورة شعبية" أعادت "الحزب الاشتراكي" إلى الحكم خلال دورتين متتاليتين ما بين عامي 1997-2005.

وتميزت انتخابات 2005 بازدياد الاستقطاب وتبادل الاتهامات والانقسام العميق بين الناخبين إلى قسمين متساويين تقريبا، وهو ما تكرر بوضوح أكبر في انتخابات 28 يونيو/حزيران 2009 التي فاز فيها "الحزب الديموقراطي" بفارق بسيط مع اتهامات "الحزب الاشتراكي" له بتزوير الانتخابات. ونتيجة لذلك قرر "الحزب الاشتراكي" مقاطعة البرلمان الجديد وحشد الشارع للمطالبة بإعادة فرز الأصوات، وشن حملة متواصلة على الحكومة لإحراجها أمام الاتحاد الأوروبي.

كما استغل "الحزب الاشتراكي" مؤخرا الحراك الشعبي في تونس ومصر فدفع أنصاره إلى الشارع في 21 يناير/كانون الثاني الماضي ما أدى إلى سقوط أربعة قتلى وجرحى أمام مبنى رئاسة الحكومة، إضافة إلى تدخل أوروبي-أميركي لتهدئة الأوضاع.

معركة الانتخابات المحلية 

في هذا الجو المتوتر جاء اقتراب موعد الانتخابات المحلية في 8 مايو/أيار ليمنح الطرفين فرصة مهمة لإثبات الذات، وهو ما جعلها منافسة محمومة بين الطرفين تفوق ما جرى في الانتخابات البرلمانية 2009.

ركز "الحزب الاشتراكي" بكل ماكينته الدعائية والصحف المؤيدة له على بعض فضائح الفساد التي طالت شخصيات مهمة في الحكومة، ومنها إلير ميتا نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية الذي اضطر لتقديم استقالته، ليعبئ البلاد ضد "الحزب الديموقراطي" وضد رئيس الحزب ورئيس الحكومة شخصيا (صالح بريشا).

ومن ناحية أخرى ركز "الحزب الديمقراطي" كل قوته لخوض معركة العاصمة تيرانا لأنها تضم في دوائرها الانتخابية حوالي ربع السكان (800 ألف نسمة)، ولأن رئيسها الحالي إدي راما هو رئيس "الحزب الاشتراكي" الذي شغل هذا المنصب (عمدة تيرانا) لثلاث دورات متتالية.

يلاحظ هنا أن هذه الانتخابات قد شهدت لأول مرة توظيف الدين فيها من الطرفين. جاء عيد المولد النبوي الذي يحتفل به الألبان بشكل تقليدي، ليوفر الفرصة لرئيس الحكومة صالح بريشا لينتقد المعارضة الاشتراكية التي يمثلها إدي راما. وفي المقابل وظّف إدي راما البعد الديني من خلال وعده للمسلمين ببناء جامع كبير وعصري في تيرانا يلبي ما يحتاجه المسلمون في العاصمة؛ حيث يشكون من قلة المساجد التي بقيت في العاصمة بعد حوالي 50 سنة من الحكم الشيوعي. وكان راما قد طرح مشروع المسجد الجامع في مسابقة دولية وأعلن عن نتائجها (فوز مشروع ستوديو "بيغ" الدانمركي) قبل ثلاثة أيام فقط من الانتخابات المحلية.

النتائج والأزمة
كشفت النتائج الأولية المعلنة للانتخابات المحلية في 14 مايو/أيار عن نتائج متقاربة بين "الحزب الديمقراطي" و"الحزب الاشتراكي"، وهو ما زاد من حدة التنافس والتوتر في انتظار نتائج الدوائر الانتخابية للعاصمة تيرانا، التي يتنافس فيها لولزيم باشا -وزير الداخلية المقرب من صالح بريشا- أمام إدي راما، باعتبارها الحاسمة للطرفين بسبب ثقل وزنها الانتخابي. وسارع إدي راما إلى إعلان فوزه قبل صدور النتائج الرسمية بفارق عشرة أصوات فقط عن منافسه لولزيم باشا (124,597 صوتًا للأول مقابل 124,587 صوتًا للثاني)، وهو ما أدى إلى خروج أنصار "الحزب الاشتراكي" إلى الشارع للاحتفال بهذا الفوز.

ولكن "الحزب الديمقراطي" طلب إعادة فرز الأصوات لوجود أوراق مختلطة في بعض الصناديق* وهو ما رفضه "الحزب الاشتراكي" وهدد بـ "انتفاضة شعبية" في الوقت الذي بدأ فيه أنصار الحزب التظاهر حول مقر اللجنة المركزية للانتخابات وقطع الطرق في بعض المدن الألبانية، بعدما اعتبر أن القبول بإعادة فرز الأصوات مخالف للقانون.

وفي الواقع إن القانون الانتخابي في ألبانيا ليس واضحا في هذه النقطة بالذات؛ إذ إنه يحدد بوضوح المقصود بـ "الأوراق المخالفة" ولكنه لا يتعرض أبدًا إلى ما يجب عمله مع "الأوراق المخالفة" أو الموجودة في الصندوق الخطأ؛ فالطرف الآخر (الحزب الديمقراطي) يعتبر أنه من حق الناخب أن يُحتسب صوته لمن صوّت له.

في السنوات الماضية حققت ألبانيا تقدما جيدا في مجال النمو (حوالى 3%) بفضل جذب الاستثمارات من الخارج، وخاصة في مجال السياحة، وفي مجال الاندماج الأورو أطلسي.
وفي أجواء متوترة للغاية في الشارع ووسائل الإعلام احتاج فرز كل الأصوات من جديد إلى أكثر من أسبوع آخر حتى توصلت اللجنة المركزية للانتخابات بغالبية الأصوات ( 4 مع و3 ضد) في منتصف ليل 23-24 مايو/أيار إلى إعلان النتيجة الجديدة التي تصرح بأن لولزيم باشا (الحزب الديموقراطي) قد فاز بفارق 81 صوتا عن إدي راما (الحزب الاشتراكي)؛ حيث حصل الأول على 124,786 صوتًا والثاني على 124,705 أصوات. وفي حين أن إدي راما رفض القبول بالنتيجة وأعلن أن ما حدث يعتبر "مجزرة انتخابية" فقد تمهل لولزيم باشا في إعلان فوزه مؤجلا ذلك الى حين صدور البيان الرسمي النهائي للجنة المركزية للانتخابات.

وفي غضون ذلك كانت ألبانيا تشهد حضورا دوليا مكثفا (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي) لاحتواء التوتر بين الطرفين، وتفقد مراكز الانتخابات وفرز الأصوات وصولا إلى زيارة فولفغانغ غروسوك نائب رئيس المجلس البرلماني لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي في 24 مايو/أيار، الذي وصف الانتخابات بأنها "لحظة مهمة للديموقراطية الألبانية" وهنَّأ باشا بفوزه فيها، إلا أن "الحزب الاشتراكي" لم يعترف بالنتيجة الجديدة وقدَّم في اليوم ذاته (24 مايو/أيار) اعتراضا إلى المحكمة الانتخابية للطعن في هذه النتيجة.

التداعيات 

في انتظار التقرير الرسمي للجنة المركزية والنظر في الطعن الذي قدمه "الحزب الاشتراكي"، وهو ما يمكن أن يمتد إلى أسبوعين، والتهديد بدعوة أنصار "الحزب الاشتراكي" بالنزول إلى الشوارع للاعتراض على "تزوير الانتخابات"، يمكن القول: إن ألبانيا تشهد أزمة كبيرة ستكون لها انعكاسات سلبية سريعة ومتوسطة المدى، ومن مظاهر هذه الأزمة:

  1. في السنوات الماضية حققت ألبانيا تقدما جيدا في مجال النمو (حوالى 3%) بفضل جذب الاستثمارات من الخارج، وخاصة في مجال السياحة، وفي مجال الاندماج الأورو أطلسي. فقد انضمت ألبانيا إلى حلف الأطلسي في 2008، وتقدمت بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في 28 إبريل/نيسان 2009، وانضمت أخيرا إلى منطقة الشنغن. وهكذا في الوقت الذي كانت ألبانيا تنتظر فيه أفضل موسم سياحي في تاريخها نتيجة للأوضاع المستجدة في تونس ومصر وسوريا ولبنان، وتنتظر بدء المفاوضات للعضوية مع الاتحاد الأوروبي، جاءت الانتخابات الأخيرة وما شابها من توتر وتظاهر وتهديد بـ "انتفاضة شعبية" لتسيء إلى سمعة ألبانيا وتهدد ما حققته حتى الآن من نتائج اقتصادية وسياسية جيدة في السنوات الأخيرة.

  2. دلّت الانتخابات الأخيرة على أن الديمقراطية الألبانية لم تستقر بعد على الرغم من مرور عقدين على التحول من النظام الشمولي إلى النظام الديمقراطي، ودلت كذلك على أن الطبقة السياسية الألبانية لا تزال تحمل إرث الصراع التاريخي بين اليمين واليسار، والبعد الشخصي بين رؤساء الأحزاب الذي تحول إلى عدم ثقة كاملة بين الطرفين الرئيسيين. ومما يؤجج هذه الحالة الانقسام العميق في الشارع، وتقارب النتائج بين الحزبين الرئيسيين مما يشيع دائما جوا من الشك المسبق بالانتخابات والاتهام اللاحق بتزويرها. وفي هذا السياق تأتي الآن هذه الانتخابات لتدق إسفينا أكبر بين اليمين واليسار، وتزيد من توتر الوضع في البلاد قبل الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها في 2013.

  3. أثبتت الانتخابات الأخيرة استمرار الظاهرة المميزة للانتخابات البرلمانية والمحلية في العقدين الأخيرين، ألا وهي الانقسام بين الشمال (المؤيد للحزب الديمقراطي) والجنوب المؤيد (للحزب الاشتراكي). فمن المعروف أن ألبانيا يشطرها في الوسط تماما نهر شكومبيني الذي يقسم أيضا بين المكوّنين الإثنيين الألبانيين: الغيغ في الشمال والتوسك في الجنوب؛ حيث يختلف كل مكوّن عن الآخر في الشكل (الغيغ طوال القامة بينما التوسك أقرب إلى القصر)، واللهجة والذهنية (الغيغ أقرب إلى المحافظة والتوسك أكثر انفتاحا على العالم)، والثقافة المرتبطة بالدين (في الشمال تتمركز أقلية كاثوليكية وغالبية سنية بينما تنتشر في الجنوب الطائفة البكتاشية والكنيسة الأرثوذكسية المرتبطة بقوة مع اليونان التي تعتبر جنوب ألبانيا امتدادا لتاريخها وثقافتها).

  4. أثبتت الانتخابات الأخيرة استمرار الظاهرة المميزة للانتخابات البرلمانية والمحلية في العقدين الأخيرين، ألا وهي الانقسام بين الشمال (المؤيد للحزب الديمقراطي) والجنوب المؤيد (للحزب الاشتراكي).
    مع التوترات والأزمات التي تصاحب الانتخابات في ألبانيا منذ 1996-1997 أخذ الدور الدولي يزداد أكثر في ألبانيا، وخاصة دور الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ ففي الانتخابات الأخيرة كان سفير الولايات المتحدة وممثل الاتحاد الأوروبي وممثل منظمة الأمن والتعاون الأوروبي في حركة دائبة وتنقل مستمر بين المراكز الانتخابية لمتابعة التصويت ثم فرز الأصوات، وزيارة قادة الدولة والأحزاب لامتصاص التوتر وتهدئة الأوضاع التي يمكن أن تتفاقم وتنفجر في أية لحظة.

وبعبارة أخرى، لقد أوجدت الأزمات فسحة لدور دولي متزايد حتى أصبح من الصعب تصور حل للمشاكل الناشئة عن الصراع المزمن بين الطرفين الرئيسيين في البلاد ("الحزب الديمقراطي" و"الحزب الاشتراكي") دون تدخل من الخارج، وهو ما نجده في بعض الدول البلقانية المجاورة مثل كوسوفا ومقدونيا والبوسنة.
__________________
أستاذ التاريخ الحديث بجامعة آل البيت/الأردن

هامش
* يوزع النظام الانتخابي الألباني أوراق الاقتراع على عدة صناديق: صندوق للأصوات المخصصة لرئيس البلدية الكبيرة، صندوق لرؤساء البلديات الفرعية، صندوق لأعضاء المجالس البلدية. ما تسبب بوقوع أخطاء في عملية الاقتراع، حتى أن لقطة تلفزيونية أظهرت الرئيس الألباني نفسه بامير توبي وهو يضع إحدى الأوراق في الصندوق الخطأ.