الاقتصاد العربي في زمن الثورات.. تحديات المرحلة الانتقالية

إن مسألة التعاطي مع القروض والديون الخارجية يجب ألا تقتصر على قرارات حكومية عاجلة، وإنما تتطلب حوارا ونقاشا مجتمعيا فاعلا لا يستثني شباب الثورات، وإن الأولى أمام الثورات العربية أن تبحث عن مصادر تمويل عربية وإسلامية تشكّل عونا حقيقا ممزوجا بروح التضمان.
1_1070110_1_34.jpg

 

حاتم غندير

تفرض طبيعة المرحلة الانتقالية التي تأتي عقب سقوط نظام وقبل تشكيل مؤسسات الدولة الدستورية الجديدة ومجالسها المنتخبة، إدراكا لطبيعة التحديات الاقتصادية التي تفرزها تداعيات انهيار النظام السابق والآثار السلبية التي يخلفها هذا التحول، فعلى عكس التحولات السياسية، يبدو الاقتصاد حساسا جدا لكل تغيرات طارئة، وهو ما يتجلى بشكل سريع في المؤشرات الاقتصادية العامة كارتفاع الأسعار، وتراجع الإنتاج والاستثمار وقيمة العملة، وتدفق السياحة، وخفض التصنيف الائتماني وغيرها.

إن الكثير من الشعارات التي رفعها الشباب والعمال والعاطلون وغيرهم في ساحات التغيير كانت ترمي إلى إسقاط أنظمة فاسدة أخفقت في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين، وبعد أن سقطت هذه الأنظمة ستظل عيون الثوار معلقة على الأهداف ذاتها، لأن إسقاط النظام لا يعني تحقيق أهداف الناس، وهذا هو التحدي الأكبر، أي بناء نظام اقتصادي يحقق مبدأ العدالة والنزاهة ويضع أسسا لأنظمة اقتصادية مستقلة وقوية، أنظمة توفر الغذاء والدواء والوظائف، دون أن يقف القائمون عليها أمام أبواب المؤسسات المالية يستجدون المعونات والمساعدات المشروطة والمكبلة للقرار السياسي.

الاقتصاد مشعل الثورات
التحديات الاقتصادية للثورات
الخلاصة

الاقتصاد مشعل الثورات 

تتباين الأوضاع المالية والاقتصادية للأنظمة العربية التي هزت أركانها الثورات إلا أنها تتفق في بنيتها وسطوتها من حيث الاستبداد السياسي والفساد المالي وتغييب التنمية الاجتماعية.
عندما أضرم الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" النار في جسده لم يكن يدرك أن ألسنة النار ستمتد إلى أماكن كثيرة وبعيدة في الجغرافيا العربية، كان الوضع مهيئا تماما لذلك وكانت الأجواء معبأة تنتظر فقط عود ثقاب لينفجر بركان الغضب الشعبي بقيادة جيل جديد من الشباب أسقطته الأنظمة الفاسدة من حساباتها كما أسقطت حقوقه من قبل.

وقد شكّل "البوعزيزي" نموذجا للشاب العربي الذي أهينت كرامته على مر عقود من الزمن، وهو واحد من بين نحو 100 مليون شاب عربي عاطل عن العمل بشكل مباشر أو غير مباشر.

وتتباين الأوضاع المالية والاقتصادية للأنظمة العربية التي هزت أركانها الثورات إلا أنها تتفق في بنيتها وسطوتها من حيث الاستبداد السياسي والفساد المالي وتغييب التنمية الاجتماعية، فكانت النتيجة قلة قليلة تستأثر بالمال في مقابل شعوب مغلوبة على أمرها تتقاسم ألوان الفقر والحرمان.

وفيما يستمر النضال الشعبي في ليبيا واليمن وسوريا، فإن بلدين هما تونس ومصر قد أسقطا النظامين وهما يخوضان معركة شاقة لإقامة أنظمة جديدة تستمد شرعيتها وهويتها وأهدافها من رحم مطالب الثورة، وإن كانت الجوانب السياسية من أهداف الثورة تلقى اهتماما وحماسا وجدالا بين مختلف الفعاليات السياسية والحزبية، إلا أن الملاحظ أن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية من أهداف الثورة لا تلقى القدر نفسه من الاهتمام والنقاش رغم أن الغالبية الساحقة من الجماهير تتطلع لإنجازات تمس جوهر حياتها اليومية في المأكل والمشرب والمسكن والوظيفة بل هي متلهفة لترى شعارات الثورة واقعا في حياتها.

هناك حقيقة يجب أن لا تسقط من حسابات صانعي الثورات، وهي التركيز على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، لأن هذه الأخيرة هي التي أجّجت الاحتجاجات التي سبقت الثورات ثم شكلت وقودا لها فيما بعد، فقد أظهر استطلاع أجراه "المعهد الجمهوري الدولي" الأميركي شمل 1200 شخص في الفترة ما بين 14-27 أبريل الماضي، أظهر أن السبب الحقيقي الذي دفع المصريين للثورة هو وضعهم المعيشي المتردي، ورغبتهم في مستقبل اقتصادي أفضل، وقال نحو ثلثي من شملهم الاستطلاع (60% ): إنهم أيدوا الثورة بسبب عدم الرضا عن مستويات المعيشة المنخفضة أو نقص في فرص العمل، فيما قال 19 % ممن شملهم الاستطلاع: إن تأييدهم للثورة كان بسبب غياب الديمقراطية.

وهذه حقيقة تؤكد ما ذهبنا إليه آنفا من أن المحك الحقيقي للحكم على نجاح ثورة من عدمه هو تحقيق رغبة الناس وتطلعاتهم في غد معيشي أفضل.

وللأسف فإن هناك مشكلة حقيقة أفرزت جزءا من واقع التخلف والبؤس العربي، تتمثل في مقولة: "أولوية السياسي على الاقتصادي"، ولطالما احتدم النقاش بين السياسيين والاقتصاديين في العالم العربي تحديدا حول الأولويات، أهي سياسية أم اقتصادية؟ لكن المنطق يقول بأن السياسة وُجِدت من أجل تأمين حياة كريمة للإنسان، وبالتالي تحقيق أهدافه الاقتصادية والاجتماعية، وهي كذلك الأداة وطريقة الحكم لتحقيق ذلك.

لم تُولِ الحكومات العربية المتعاقبة في الدول التي طالتها الثورات أهمية حقيقة للاقتصاد باعتباره الرافد الأساسي لتحسين معيشة الناس؛ ولهذا السبب اتسمت الاقتصادات العربية إجمالا بالضعف والطابع الريعي البعيد عن تحفيز عناصر الإنتاج، وإذا كانت الدول النفطية العربية قد استطاعت أن تغطي عجزها المالي بفوائض عائدات النفط المرتفعة فإن باقي الدول عانت من عجز كبيرة في موازناتها في ظل غياب رؤية تنموية محددة الأهداف والوسائل، وأيضا في ظل إهمال واضح للموارد البشرية التي تحولت بدورها إلى عبء اقتصادي واجتماعي ثقيل، ويمكن رصد ذلك من خلال المؤشرات الآتية:

أولا: مؤشر البطالة
أشار أحدث تقرير دوري لمنظمة العمل الدولية إلى أن التقديرات العامة للبطالة في العالم العربي لعامي 2009 و2010 وصلت إلى 25 في المائة لتمثل بذلك أعلى معدل إقليمي في العالم.

ما يعني وفقا للتقرير أن واحدا من أصل أربعة من الشباب العربي بات في طوابير العاطلين عن العمل، لكن الحقيقة أن الوضع أسوأ من ذلك كما صورته تقارير غير رسمية.

ثانيا: مؤشر الفقر
أظهر تقرير صدر عن الجامعة العربية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 40% من سكان الدول العربية أي 140 مليونا يعيشون تحت خط الفقر، وأنه لم يكن هناك أي انخفاض في معدلات الفقر بالمنطقة العربية على مدى السنوات العشرين الماضية.

ثالثا: مؤشر الفساد
خلال العقد الأخير الذي رفعت فيه أغلب الدول العربية شعارات الإصلاح والخصخصة برز الفساد كظاهرة وإن أخذ عدة أشكال ومستويات، وفي آخر تقرير لمنظمة الشفافية الدولية جاء العراق والسودان وليبيا واليمن ولبنان وسوريا والجزائر ومصر والمغرب من بين الدول الأكثر فسادا في العالم؛ حيث احتلّت على التوالي المراتب المتأخرة التالية، وهي: 175، 172، 146، 146، 127، 127، 105، 98 و85 في سلم الفساد العالمي الذي ضم 180 دولة.

التحديات الاقتصادية للثورات 

تحدي التراجع الاقتصادي

لم تُولِ الحكومات العربية المتعاقبة في الدول التي طالتها الثورات أهمية حقيقة للاقتصاد باعتباره الرافد الأساسي لتحسين معيشة الناس؛ ولهذا السبب اتسمت الاقتصادات العربية إجمالا بالضعف والطابع الريعي البعيد عن تحفيز عناصر الإنتاج.
للثورات عبر التاريخ كلفة بشرية تدفعها من دماء أبنائها ولها أيضا كلفة اقتصادية لا مناص منها، وتشير بعض التقارير إلى أن مصر خسرت خلال الأشهر الخمسة من بداية ثورتها نحو 30 مليار دولار، في حين أعلنت تونس حاجتها إلى 125 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة لإعادة إنعاش الاقتصاد، بينما بلغت خسائر اقتصاد اليمن خمسة مليارات دولار حسب تصريحات حكومية، وفي ليبيا تبدو الأرقام أضخم بكثير حيث قال مسؤول في المجلس الانتقالي: إن حجم الدمار الذي لحق بليبيا وصل إلى 480 مليار دولار.

الاقتصادان: المصري والتونسي يعانيان حاليا من تراجع الإنتاجية في مختلف القطاعات، ومن اختلال في بعض المؤشرات كتراجع سعر الصرف وزيادة التضخم، ومن غير شك تؤدي عملية التحول من نظام إلى آخر إلى حالة من عدم اليقين تؤدي إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية والنشاط السياحي.

ويمكننا أن نجمل أبرز التحديات التي سترافق المرحلة الانتقالية التي تسبق الانتخابات وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة في المرحلة الجديد في الآتي:

  • تراجع النمو الاقتصادي.
  • تراجع وتذبذب الإنتاج المحلي.
  • تراجع المداخيل من العملة الأجنبية بسبب تراجع السياحة وتحويلات المهاجرين.
  • زيادة عجز الموازنة بسبب تراجع الإيرادات وزيادة الإنفاق الاجتماعي.
  • تراجع الاستمارات الأجنبية في انتظار الاستقرار.
  • زيادة معدلات البطالة، وهي نتيجة منطقية لما سبق ذكره.

وتلك التحديات أمر طبيعي واستثنائي يتبع الثورات عموما، والأمر شبيه بأعمال الصيانة في المصانع والمنشآت التي تقلص الإنتاج لفترة محدودة ثم تستأنف العمل بشكل أفضل عما كان عليه، ومع ذلك هناك مخاوف من أن تستغرق هذه المرحلة الانتقالية والاستثنائية وقتا أطول مما تقتضيه وبالتالي زيادة آثارها السلبية، فالمطلوب هو تقليل الكلفة الاقتصادية والاجتماعية عبر خطط استعجالية تراعي:

  • كبح التراجع الاقتصادي عبر أدوات مالية ونقدية عاجلة، والتقليل من آثار المرحلة الانتقالية.
  • تطهير المؤسسات من الفاسدين لوقف النزيف وطمأنة العمال.
  • الوقوف مع النقابات العمالية وضبط حركاتها الاحتجاجية.
  • إطلاق حوار ونقاش فكري حول تصورات النموذج الاقتصادي المنشود.
  • تعزيز التواصل مع الدول الشقيقة العربية والإسلامية لتقديم العون.
  • تعزيز التواصل مع مؤسسات المجتمع الدولي لدعم الاستقرار الاقتصادي.

ولحسن الحظ أن الثورتين التونسية والمصرية لم تؤديا إلى تدمير البنى الأساسية للاقتصاد، فالمنشآت ما تزال قائمة، والعمالة موجودة، وهو ما يعني أن استئناف الدورة الاقتصادية بشكل أفضل مما كان لا يتطلب سوى بعض الوقت من الناحية النظرية، لأن التقليل من الفاتورة الاقتصادية للثورة يتوقف على عودة عجلة الاقتصاد للدوران بأسرع وقت ممكن.

تحدي المطالب الاجتماعية العاجلة
يخطئ من يعتقد أن المعاناة الاجتماعية العميقة التي رسمت المشهد العربي لسنوات طوال، والتي دفعت ملايين الشباب إلى الثورة وساحات التغيير، ستختفي بمجرد سقوط هذا النظام أو ذاك، بل على العكس ستستمر أو تزداد حدتها خلال الفترة الانتقالية، وهذا ما أكده الواقع، فالأسعار ارتفعت بشكل واضح خلال الأشهر الأولى من الثورة، وهو أمر بديهي بسبب تراجع الإنتاج وكذلك زيادة الأسعار العالمية لبعض المنتجات الأولية المستوردة، والأمر ذاته ينطبق على معدلات البطالة بل اضطرت بعض الشركات لتسريح العمال بسبب تدهور قدراتها الإنتاجية.

قد يكون مطلوبا من قيادات الثورة وقيادات المرحلة الانتقالية كثيرا من الحكمة في التعامل مع المطالب الاجتماعية المتنامية بعد الثورة؛ إذ لا يجوز التعاطي معها بطريقة المنع والردع بما يذكِّر بأساليب الأنظمة السابقة، وعليها أن تراعي في سلوكها وخطابها الآتي:

  • أن هذه المطالب هي مطالب مشروعة وملحة.
  • أن يكون الخطاب الرسمي متفهما لها ومطمئنا لأصحابها.
  • إنشاء هيئات وطنية ومحلية للاستماع والاقتراب من الناس.
  • وضع خطط ورصد موازنات طارئة للتعامل مع القضايا الاجتماعية الأكثر إلحاحا.
  • إشراك جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني في التواصل، والتكفل بانشغالات العامة.
  • تعزيز روح التضامن والتكافل التي برزت في ساحات التغيير.

لقد حاولت الحكومتان المؤقتتان في تونس ومصر أن تضفيا أبعادا اجتماعية على أولى موازناتها بعد الثورة، فعمدت إلى سياسة تقضي بتحقيق العدالة الاجتماعية وتخفيف الضغوط عن المواطنين لكن كان هذا على حساب الموازنة العامة للدولة، فأُقِرّ رفع الحد الأدنى للأجور، وزيادة الدعم للوقود والسلع الاستهلاكية، وهذه إجراءات على ما فيها من إيجابيات اجتماعية إلا أنها تزيد في عجز الموازنة وحجم الاقتراض الخارجي.

قد يكون إضفاء الجوانب الاجتماعية على التوجهات الاقتصادية، ودعم الطبقات الأكثر فقرا من بين أهم مطالب الثورات، لكنهما بالصيغ الحالية يُعدّان دواء مسكنا ومهدئا للجبهة الاجتماعية وليس حلا جذريا للأسباب الحقيقية التي أدت إلى تلك الأوضاع التي سادت عقودا من حكم الأنظمة السابقة.

تحدي الإضرابات العمالية

لا ترى الحكومتان المؤقتتان في تونس ومصر أي حرج في اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية والدول القريبة والبعيدة للاقتراض، وقد بررت الحكومتان هذا الأمر بتلبية الضغوط الاجتماعية المتزايدة ووضع الخطط العاجلة.
من الطبيعي أن يستعجل الناس قطف ثمار نضالهم وأن يستشعروا أنهم صنعوا إنجازا يمكن أن يلمسوه في واقع حياتهم، ومن الطبيعي أيضا أن يتخوفوا من أن يتم تجاهل مطالبهم القديمة في زحام إعادة ترتيب وصياغة أولويات الدولة، وإذا كان البعض يعيب على الإضرابات أثرها السلبي على الاقتصاد وتعطيل العملية الإنتاجية، فإن آخرين يرونها ضامنا لمسار الثورة، وضرورة لتطهير المؤسسات من الفاسدين. والإشكال هنا يكمن في القدرة على تحقيق التوازن بين الأمرين؛ فالضغوط الشعبية والعمالية على الحكومات والهيئات الانتقالية مهمة بل مطلوبة خصوصا في ظل غياب مؤسسات منتخبة من الشعب تقوم بدور الرقابة وتسهر على أهداف الثورة. لكن في الوقت ذاته فإن الإضرابات العشوائية والبعيدة عن أطر صناع الثورة الذين من المفترض أن يقوموا بضبط إيقاعها وشدتها وتوجيه تحركاتها بما يخدم الأهداف الإستراتيجية قد يشكل فعلا عبئا يضاف إلى الأعباء السياسية الأخرى.

تحد¡

نبذة عن الكاتب