تكتسب قضية الأمن المائي الخليجي "الحيوية" أهمية متزايدة بالنظر إلى مجموعة من الاعتبارات، هي:
-
الاعتبار الأول: يرتبط بالخبرة التاريخية لمنطقة الخليج العربي، ويؤكد أن الأمن الإقليمي والوطني لدول المنطقة ليس ببعيد عن التفاعلات الصراعية حول المياه والتي تطورت بالفعل إلى نزاعات مسلحة؛ فقد كانت المياه أو بالأحرى الخلافات على المياه بين بعض القوى الإقليمية بالمنطقة، سببًا في اندلاع أولى الحروب الثلاث التي شهدتها المنطقة على مدار العقود الأربعة الأخيرة؛ حيث كان النزاع حول تقاسم مياه شط العرب أحد الأسباب -المعلنة على الأقل- في نشوب الحرب بين العراق وإيران عام 1980، وهي الحرب التي دامت نحو ثماني سنوات، تكبدت فيها دول المنطقة، وفي مقدمتها دول مجلس التعاون، كلفة باهظة أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا.لم تعد المياه متغيرًا اقتصاديًا أو تنمويًا فحسب، بل أصبحت أيضا وبالدرجة الأولى مسألة أمن وطني وضرورة إستراتيجية ملحة، ومتغيرًا حاكمًا في العلاقات الدولية بتفاعلاتها الصراعية والتعاونية على السواء. - الاعتبار الثاني: يتصل بكون منطقة الخليج العربي تعاني أصلاً، من معضلة الأمن على المستويين الإقليمي والوطني، خصوصا دول مجلس التعاون الخليجي؛ وذلك لاعتبارات عديدة، فإذا ما أُضيف لذلك البعد المائي الذي يعاني أيضا من انكشاف وهشاشة في الوقت الحاضر، ومرشح للاستمرار في نفس المسار وبقوة في المستقبل، كان لزامًا على دول الخليج أن تولي اهتمامًا متزايدًا ومركزيًا لأمنها المائي، لاسيما في ضوء التطورات التي أدخلت المياه كمتغير حاكم في العلاقات الدولية في العقود الأخيرة؛ حيث إنه مع تزايد النمو السكاني والتوسع العمراني والتنموي بهذه الدول، فإن استمرار ندرة الموارد المائية لدول الخليج يشكل تهديدًا إضافيًا ومضاعفًا لأمنها الوطني المباشر وأمن الإقليم برمته.
- الاعتبار الثالث: يتمثل في الإشكاليات السياسية المتعلقة بدول الجوار الإقليمي التي لديها وفرة في الموارد المائية، ومن ثم تمثل أحد الخيارات المتاحة أمام دول مجلس التعاون الخليجي لاستيراد المياه العذبة منها.
وتتجلى هذه الإشكاليات من مصدرين مختلفين، فمن جهة أولى قد تكون هذه الدول المجاورة راغبة لكنها غير قادرة على إمداد دول الخليج باحتياجاتها من المياه -في حال اعتمدت الأخيرة هذا الخيار- وذلك بسبب الخلافات التي قد تكون بين تلك الدول ونظيراتها التي تتشارك معها الموارد المائية الفائضة، كما هو الحال بالنسبة لتركيا والعراق وسوريا التي تتشارك في تقاسم مياه نهر الأناضول.
ومن جهة ثانية، قد تكون هذه الدول المجاورة قادرة على هذا الإمداد، لكنها راغبة في القيام بذلك وفق شروط معينة على النحو الذي يجعل من المياه في هذه الحالة أداة ضغط سياسي على دول الخليج بما يمثل قيدًا على مرونتها وحرية حركتها السياسية إقليميًا وعالميًا.
وتمثل إيران المثال الأبرز والأسرع قفزًا إلى الأذهان في هذا السياق، لاسيما في حال تصاعد أزمة برنامجها النووي مع المجتمع الدولي؛ حيث كانت قد طرحت قبل سنوات عدة مشاريع لتلبية احتياجات بعض دول مجلس التعاون بالمياه من نهر الكارون.
يسلط هذا التقرير الضوء على واقع ومستقبل الأمن المائي لدول مجلس التعاون الخليجي، مبينًا الأبعاد، والتحديات الراهنة، ومستشرفًا السيناريوهات المستقبلية المحتملة لهذا الملف الإستراتيجي الحساس، ومن ثم يخلص إلى ملامح إستراتيجية مستقبلية للأمن المائي الخليجي، ببعديه الوطني والجماعي؛ بما يضمن تقليص احتمالات تعرض دول المجلس لتحديات أكثر خطورة، ومواجهتها لاختبارات أكثر صعوبة فيما يتعلق بأمنها المائي في العقود المقبلة، والتي من المتوقع أن تشهد تفاعلات صراعية أشد ضراوة على المياه مما هي عليه الآن، ربما تقود- في بعض الحالات ووفق معطيات هيدرو-بوليتكية "سياسية-مائية" معينة- إلى اندلاع حروب بسبب الندرة المائية والصراع المتزايد على تقاسم هذا المورد الطبيعي المهم الذي هو أساس كل شئ حي.
المياه والأمن
الواقع الراهن للأمن المائي الخليجي
الموارد المائية في دول الخليج
محددات الأمن المائي الخليجي
مستقبل الأمن المائي الخليجي
ملامح إستراتيجية خليجية للأمن المائي
شهدت السنوات القليلة الماضية اهتمامًا متناميًا بقضايا المياه على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، في ضوء المؤشرات الخطيرة التي باتت تؤكدها التقارير والمؤتمرات الدولية بشأن احتمالات حدوث أزمة مياه عالمية خلال السنوات المقبلة، وما يرتبط بها من أزمات أخرى تهدد مستقبل شعوب العالم؛ حيث باتت قضايا المياه إحدى أهم القضايا المرتبطة بالأمن الوطني للدول، لما لها من انعكاسات على مختلف جوانب النمو الاقتصادي والاجتماعي.
وبالتالي، لم تعد المياه متغيرًا اقتصاديًا أو تنمويًا فحسب، بل أصبحت أيضا وبالدرجة الأولى مسألة أمن وطني وضرورة إستراتيجية ملحة، ومتغيرًا حاكمًا في العلاقات الدولية بتفاعلاتها الصراعية والتعاونية على السواء.
لقد بات الأمن المائي جزءا لا يتجزأ من الأمن العالمي والأمن الإقليمي، وأصبح متغير المياه أحد أهم ركائز الأمن الوطني للدول، وبخاصة تلك التي تعاني أصلاً من محدودية أو ندرة الموارد المائية.
وبناء على ذلك، اكتسبت المياه أهمية استثنائية ليس فقط في أدبيات الاقتصاد السياسي، والجغرافيا، بل إنها حجزت مكانة متقدمة في الأدبيات والدراسات الإستراتيجية؛ حيث تبلور ما يشبه الإجماع بين خبراء الاقتصاد والسياسة والجغرافيا على أن حروب المستقبل سوف تكون بسبب الصراع حول الموارد المائية أو إن جاز أن نطلق عليها مسمى "النفط الأبيض"؛ فقد شهدت السنوات الأخيرة تحذير العديد من الهيئات والمنظمات الدولية والمتخصصة من مخاطر اندلاع ما اصطُلح على تسميته بـ "حروب المياه" لاسيما في مناطق الندرة المائية.
وتشير بعض التقديرات إلى احتمالات نشوب حوالي 200 نزاع محتمل في شتى أنحاء المعمورة حول المياه في العقد المقبل، قد تتطور إلى صراعات مسلحة.
وتعد غالبية دول منطقة الشرق الأوسط أكثر دول العالم من حيث الإجهاد المائي؛ حيث يتدنى المتوسط السنوي لنصيب الفرد من المياه في هذه المنطقة إلى حوالي 1200 متر مكعب، وذلك باستثناء كل من العراق وإيران وتركيا ولبنان التي تأتي فوق هذا الحد(1).
وبالنسبة للوضع المائي في العالم العربي، نجد أن جميع الدول العربية تقع تحت خط الفقر المائي اللهم إلا ثلاث دول فقط تمثل استثناء من ذلك، وهي: العراق، ولبنان، والسودان، وتأتي 13 دولة عربية ضمن قائمة أكثر 20 دولة من حيث ندرة المياه في العالم.
وبوجه عام، فإن نصيب سكان العالم العربي -الذين يشكلون نحو 5% من سكان العالم- من المياه النقية المتجددة لا يتجاوز الـ 1%؛ وبالتالي يعاني في الوقت الراهن أكثر من 50 مليون عربي من مشكلة نقص المياه الصالحة للشرب.
الواقع الراهن للأمن المائي الخليجي
يعتبر مؤشر الفقر المائي التابع للأمم المتحدة أن كل دولة تقل فيها حصة الفرد من الموارد المائية المتجددة عن 1000 متر مكعب في السنة، فإنها تصنف بين الدول التي تعاني نقصا في المياه.
وعلي هذا الأساس، يمكن اعتبار أكثر من نصف الدول العربية، وبخاصة دول الخليج، من الدول التي تعاني ندرة مائية؛ حيث تتراوح حصة الفرد فيها من الموارد المتجددة بين 35 : 550 متر مكعب سنويًا(2).
وكغيرها من البلدان العربية، تعاني دول مجلس التعاون الخليجي الست من معضلة كبيرة فيما يتعلق بتأمين احتياجاتها من المياه العذبة، غير أن معضلة الأمن المائي في دول الخليج تكتسب خصوصية تميزها عن بقية الدول العربية؛ ذلك أنه إذا كانت المنطقة العربية من المناطق الأفقر في العالم من حيث الموارد المائية المتاحة، فإن الوضع بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي يبدو أكثر تعقيدًا وأشد خطورة؛ حيث تواجه دول المجلس مشكلة حقيقية في شح موارد المياه.
تتمثل معضلة الأمن المائي لغالبية الدول العربية في كونها تعتمد في تلبية احتياجاتها المائية على أنهار تنبع من خارج حدودها الإقليمية؛ حيث تساهم الأنهار التي تنبع من خارج المنطقة العربية بأكثر من 60% من إجمالي الموارد المائية المتاحة عربيًا، بكل ما يمثله ذلك من تحديات وربما تهديدات للأمن الوطني لتلك الدول العربية لاسيما في ظل غياب اتفاقيات قانونية واضحة وملزمة تنظم العلاقة بين دول المنبع ودول المصب "العربية"، وتحظى في ذات الوقت بالإجماع والتوافق عليها من قبل الأطراف المعنية كافة.
لقد بات الأمن المائي جزءا لا يتجزأ من الأمن العالمي والأمن الإقليمي، وأصبح متغير المياه أحد أهم ركائز الأمن الوطني للدول، وبخاصة تلك التي تعاني أصلاً من محدودية أو ندرة الموارد المائية. |
وعلى الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة ومحددة عن واقع المياه في دول مجلس التعاون الخليجي، إلا أن جميع التقديرات تُجمع على وجود أزمة شح حقيقية في مواردها المائية؛ حيث يتراوح إجمالي الموارد المائية المتجددة لدول المجلس بين 4 مليار م3 سنويًا وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة الصادرة في مايو 2002 ونحو 10 مليار م3 سنويًا(4) حسب بعض التقديرات الرسمية، وهي موارد على هيئة أمطار وسيول ومياه جوفية ومياه مختزنة خلف السدود في المناطق الجنوبية من شبه الجزيرة العربية وبعض مناطق سلطنة عمان, إلا أنها في جميع الأحوال لا تمثل نسبة أكثر من 3% من مجموع الموارد المائية العربية المتجددة. وتعتمد دول المجلس بصورة شبه كاملة على المياه الجوفية في ظل امتلاكها لمخزون إستراتيجي من الموارد المائية الجوفية يقدر بنحو 361.5 مليار م3 سنويًا -حسب الإحصاءات الصادرة عن المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة، وتمثل هذه الكمية نحو 4.6% من إجمالي مخزون المياه الجوفية في البلدان العربية.
وليس أدل على الوضع الحرج للأمن المائي في دول مجلس التعاون الخليجي مما ورد في تقرير صادر عن البنك الدولي، مايو 2011، والذي وصف الوضع المائي في دول التعاون الخليجي بأنه "أكثر تعقيدا وخطورة؛ إذ تواجه دول المجلس مشكلة حقيقية في شح موارد المياه؛ حيث إنها في جميع الأحوال لا تمثل نسبة أكثر من 3 % من مجموع الموارد المائية العربية المتجددة" (5).
ووفقًا للتقرير ذاته فإن إجمالي الموارد المائية المتجددة لدول المجلس تتراوح بين أربعة مليارات متر مكعب سنويا، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة الصادرة في عام 2010 ونحو عشرة مليارات متر مكعب سنويا، حسب بعض التقديرات الرسمية، وهي موارد على هيئة أمطار وسيول ومياه جوفية ومياه مختزنة.
تنقسم الموارد المائية في دول مجلس التعاون في الوقت الحالي إلى نوعين من الموارد، هما: موارد تقليدية، وأخرى غير تقليدية.
فأما الموارد التقليدية فهي تتمثل فيما اصطُلح على تسميتها في أدبيات المياه، بـ" المياه الزرقاء "، وتشمل: المياه السطحية، والمياه الجوفية وغالبيتها غير متجددة، والمياه الضحلة.
وتشير الإحصاءات إلى أن معدل الأمطار السنوي في منطقة الخليج العربي يتراوح بين 70: 130 ملم سنويًا، باستثناء السلاسل الجبلية في الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية وجنوب سلطنة عمان التي قد يصل معدل الأمطار فيها إلى أكثر من 500 ملم(6). ووفقًا لبعض التقديرات الحديثة المتخصصة يصل معدل المياه السطحية في المنطقة إلى 3.33 مليون متر مكعب فقط سنويًا(7).
وأما الموارد غير التقليدية فتشمل المياه المحلاة، ومياه الصرف الصحي المعالجة.
وبالنظر إلى نوعية ومقدار الموارد المائية المتاحة، نجد أن معضلة الأمن المائي الخليجي آخذة في الازدياد والتفاقم بالنظر إلى أنه بالإضافة إلى محدودية وندرة وتناقص موارد المياه العذبة، وتذبذب سقوط الأمطار أن تلك الندرة توفر ظروفا جغرافية وبيئية تعظم من هذه المعضلة، بالإضافة إلى زيادة الطلب على المياه العذبة كنتيجة مباشرة للزيادة السكانية، وتنامي احتياجات القطاعين الصناعي والزراعي إلى كميات هائلة من المياه.
لذلك، اتجهت دول مجلس الخليج إلى بدائل أخرى للحد من الندرة المائية فيها،حيث اعتمدت في هذا الخصوص- وبصورة كبيرة- على تحلية مياه البحر، حيث نجد أن أربعا من دول مجلس التعاون الخليجي الست يأتي نصف مواردها المائية تقريبًا من عمليات تحلية المياه، وهي: الكويت التي تشكل نسبة تحلية المياه فيها ( 62% ) من إجمالي مواردها المائية، والإمارات( 55.4%)، والبحرين ( 54.5%)، وقطر ( 48.7%) (8). بل إن كلا من السعودية والكويت والإمارات تحتل ثلاثة مراكز بين المراكز الخمسة الأولى في تحلية المياه عالميًا، بالإض