الاستثمارات الخليجية في دولة جنوب السودان بين الحضور والغياب

ثمة مؤشرات تؤكد بأن الاهتمام الخليجي بالاستثمار في جنوب السودان -وهي الدولة التي نالت استقلالها في 9 يوليو /تموز 2011- في تنامٍ لكن بشكل خجول.
1_1078443_1_34.jpg

جاسم حسين

ثمة مؤشرات تؤكد بأن الاهتمام الخليجي بالاستثمار في جنوب السودان -وهي الدولة التي نالت استقلالها في 9 يوليو /تموز 2011- في تنامٍ مستمر لكن بشكل خجول. وتتركز التوجهات الاستثمارية الخليجية في مجالات الزراعة والبنية التحتية ولأسباب مفهومة بالنظر لحاجة هذه البلاد لتطوير مرافقها بعد سنوات من النزاع مع الجار الشمالي.

مجالات استثمارية واعدة
جنوب السودان واحتياجات الخليج الزراعية
جنوب السودان.. سباق خليجي/دولي
نظرة مستقبلية

مجالات استثمارية واعدة

فضلا عن كل ذلك، يوفر شكل نظام الحكم في البلاد نوعاً من الطمأنينة للمستثمرين، فجنوب السودان جمهورية فدرالية ونظام الحكم فيها ديمقراطي فدراليي ما يعني أن أية تغييرات في القوانين إنما تأتى عبر المؤسسات الديمقراطية الأمر الذي يتطلب إخضاعها للتمحيص قبل استصدارها
حقيقة القول إن دولة جنوب السودان تتمتع بالكثير من المزايا والتي تجعلها محط أنظار المستثمرين بشكل عام. بادئ ذي بدأ، تعتبر جنوب السودان دولة كبيرة نسبيا حيث تعد الدولة رقم 42 عالميا من حيث المساحة، إذ تبلغ مساحتها 644 ألف كيلومتر مربع. كما تتميز أراضي البلاد بالتنوع، إذ تشكل المراعي 40% والأراضي الزراعية 30% والغابات الطبيعية 23% والسطوح المائية 7% من مجموع مساحة الدولة.(1)

إضافة إلى ذلك، لا يتجاوز عدد سكان جنوب السودان حاجز العشرة ملايين نسمة ما يعني غياب ظاهرة الكثافة السكانية الأمر الذي يفسح المجال للاستفادة من مساحات شاسعة من البلاد المترامية الأطراف لقطاعات الزراعة والصناعة والخدمات. ولدى جنوب السودان حدود مشتركة مع عدد من البلدان تمتد لنحو 2200 كيلومتر مع السودان و990 كيلومتر مع جمهورية أفريقيا الوسطى و439 كيلومتر مع جمهورية الكونغو الديمقراطية.

أيضا، يمكن أن يشكل الوضع الديمغرافي وتحديدا كون 44% من السكان هم دون السن الرابعة عشرة ميزة تنافسية، إذ بالمقدور غرز القيم العصرية وثقافة العمل والمثابرة لدى الشباب المتحمس لخدمة دولتهم الناشئة. كذلك يميل السكان للعيش في مناطقهم حيث يعيش 22% فقط من السكان في المناطق الحضرية ما يمنع الضغط على الخدمات العامة في المدن الرئيسية مثل العاصمة جوبا. كما تعني هذه الصفة تمسك نسبة كبير من المواطنين بمناطقهم وبالتالي وجود عمالة وطنية مستعدة للعمل في المناطق النائية نسبيا.

فضلا عن كل ذلك، يوفر شكل نظام الحكم في البلاد نوعاً من الطمأنينة للمستثمرين، فجنوب السودان جمهورية فدرالية ونظام الحكم فيها ديمقراطي فدراليي ما يعني أن أية تغييرات في القوانين إنما تأتى عبر المؤسسات الديمقراطية الأمر الذي يتطلب إخضاعها للتمحيص قبل استصدارها. فهناك سلطة تنفيذية يرأسها شخص يتم انتخابه بشكل مباشر (تم انتخاب سيلفاكير رئيسا في أبريل /نيسان 2010). أيضا، توجد سلطة تشريعية مكونة من غرفتين (مجلس نيابي من 170 عضوا ينتمون لمختلف الأحزاب وفي مقدمتهم الحركة الشعبية لتحرير السودان) ومجلس للولايات العشر (48 عضوا) تم انتخابهم في أبريل /نيسان 2010. ومن المنتظر إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة في العام 2015.(2)

أخيرا وليس آخرا، لا تحد قيود دولية من حربة القرارات الاقتصادية لجمهورية جنوب السودان بسبب شبه انعدام الديون الخارجية، إذ كانت البلاد قبل استقلالها على مساعدات دولية وخصوصا من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والنرويج وهولندا.

جنوب السودان وتأمين احتياجات الخليج الزراعية

تفتقر دول مجلس التعاون لأفضلية تنافسية في مجال الإنتاج الزراعي وعليه لا مناص من اللجوء للاستيراد أو على الأقل تبني خيار الحلول الإبداعية أينما كان ممكناً مما يعني ترحيبا بخيار الاستثمار في المناطق الزراعية في جنوب السودان
ويمكن الزعم بأن جمهورية جنوب السودان توفر مجالا رحبا لتأمين جانب من الاحتياجات الزراعية والحيوانية لدول مجلس التعاون الخليجي في ظل تبني الدول الست خيار الاستثمار في مختلف بقاع العالم. وتشتهر الأراضي الزراعية في جنوب السودان في إنتاج مجموعة محاصيل تشمل الذرة، والأرز، وقصب السكر، والمانجو، والموز، والقطن، والفاصوليا، والفول السوداني. كما تعتبر تلك الدولة الوليدة غنية بالأبقار والأغنام.(3)

واستنادا إلى تقارير صحافية، فقد أجرى مسئولون من جنوب السودان مفاوضات مع مستثمرين من السعودية والإمارات وسلطنة عمان بشأن الاستثمار في زراعة الأرز، والسكر، وبناء خطوط سكك الحديد، والمطارات، ومحطات الكهرباء والعقارات من بين خيارات أخرى. ويعود الاستثمار في مجال الزراعة لتمتع جنوب السودان بمزايا نوعية مثل الأراضي القابلة للزراعة، ووفرة المياه والأيدي العاملة غير المكلفة. لكن الاستثمار في البنية التحتية مرده حاجة البلاد ضمان توافر أمور حيوية مثل الكهرباء ووجود مطار عصري.(4)

يندرج خيار الاستثمار الزراعي في جنوب السودان مع السياسة الواقعية المطبقة في دول المجلس وتحديدا البحث عن مصادر من شأنها أن تضمن الأمن الغذائي لدول المجلس عبر الاستثمار الخارجي.

فمن بين المساحات الشاسعة لدول مجلس التعاون الخليجي لا يوجد سوى نحو 10% فقط من الأراضي قابلة للزراعة تقع غالبتيها في السعودية. وحسب تقرير لمركز الخليج للأبحاث، يتطلب ضخ 1212 متر مكعب أو 42800 قدم مكعب من المياه الجوفية لإنتاج طن من الشعير ما يعني عمليا عدم الاستخدام الأمثل للثروة المحدودة. بل إن الأمر أكثر سوءا في دول خليجية أخرى تعاني من نقص المياه الجوفية.

في المقابل، يتطلب ضمان استمرارية الإنتاج المحلي تقديم دعم مالي مرهق للموازنة العامة وربما على حساب مشاريع تنموية ومعيشية أخرى. بمعنى آخر، خلافا لما عليه الحال بالنسبة للقطاع النفطي بشقيه النفط والغاز، تفتقر دول مجلس التعاون لأفضلية تنافسية في مجال الإنتاج الزراعي وعليه لا مناص من اللجوء للاستيراد أو على الأقل تبني خيار الحلول الإبداعية أينما كان ممكناً مما يعني ترحيبا بخيار الاستثمار في المناطق الزراعية في جنوب السودان.

يشار إلى أن لدى الإمارات مشروع لتطوير مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية تصل لحد سبعين ألف فدان في السودان قبل الانقسام بقصد تنفيذ مشروعات زراعية عبر الاستفادة من التقنية الحديثة.

جنوب السودان.. سباق خليجي/دولي نحو تفعيل الاستثمار

كانت دول مجلس التعاون قد اعترفت بدولة جنوب السودان وذلك في خضم توجه المجتمع الدولي بالاعتراف بهذه الدولة الناشئة، حيث حظيت في فترة زمنية قصيرة على اعتراف الولايات المتحدة وروسيا ومصر والأردن إضافة إلى إسرائيل
السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن تفعيل الاستثمار الخليجي في جنوب السودان؟ من جملة الأمور، المطلوب من مسؤولي الجنوب السوداني تنفيذها البدء بحملات ترويجية منتظمة إلى مدن دول مجلس التعاون وخصوصا في السعودية والإمارات صاحبتي أكبر اقتصاديين خليجيين. ولا بد لهذه الحملات من أن تكون في إطار خطة مدروسة إذ ليس من السهل إقناع المستثمر الخليجي بالاستثمار في جنوب السودان عبر زيارة واحدة أو زيارات غير منتظمة.

ومرد هذا الكلام وجود تقدير عالمي للاستثمارات الأجنبية المباشرة ودورها في تطوير البنية التحتية وتعزيز المنافسة في الأسواق المحلية وإيجاد وظائف للداخلين الجدد لسوق العمل كما تجلى بشكل واضح في تقرير الاستثمار العالمي للعام 2011، والذي أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) نهاية شهر يوليو /تموز الماضي.

ربما يتطلب الأمر اكتساب جمهورية جنوب السودان العضوية في منظمة السوق المشتركة لشرق وجنوب أفريقيا والمعروفة اختصارا باسم (الكوميسا). يشار إلى أن مجلس التعاون الخليجي ومنظمة الكوميسا وقعا مذكرة تفاهم في أبريل /نيسان 2010 بهدف تعزيز مستويات الشراكة التجارية بين الجانبين.

وقبل الاستقلال كان الجنوب السوداني ضمنيا عضوا في الكوميسا والتي تضم في عضويتها السودان إلى جانب 18 دولة أخرى من بينها: كينيا وزامبيا، وزيمبابوي. في المحصلة، تنصب الاتفاقية في مصلحة أعضاء الكوميسا حيث تأمل الدول الأفريقية استقطاب استثمارات خليجية بقصد تطوير البنية التحتية وخصوصا في قطاعي الاتصالات والزراعة، وعليه هناك مصلحة لجنوب السودان في الانضمام لهذه المنظمة الإقليمية.

وفي هذا الإطار، نرى صواب توجه جنوب السودان بفتح بعثة لها في دبي بقصد تعزيز التعاون التجاري مع دول مجلس التعاون. وكانت دول مجلس التعاون قد اعترفت بدولة جنوب السودان وذلك في خضم توجه المجتمع الدولي بالاعتراف بهذه الدولة الناشئة، حيث حظيت في فترة زمنية قصيرة على اعتراف الولايات المتحدة وروسيا ومصر والأردن إضافة إلى إسرائيل.(5)

في المقابل، يمكن أن نرصد اهتماماً متزايداً للاستثمار في جنوب السودان من قبل مستثمرين إقليميين ودوليين على حد سواء. على سبيل المثال لا الحصر يلعب مستثمرون من غينيا وكينيا ورواندا وإثيوبيا ولبنان دورا ملموسا في تطوير القطاع السياحي في البلاد. بل ويسيطر مستثمرون من إثيوبيا على وجه الخصوص على الأنشطة الترفيهية على ضفاف النهر في العاصمة جوبا. كما تتولي فرق إثيوبية وإريترية تقديم الفنون الشعبية في ظل شبه غياب للفرق المحلية.(6)

ويمكن تفهم مدى اهتمام واستفادة أثيوبيا من الجنوب السوداني بالنظر لامتداد حدود البلدين لمسافة 934 كيلومتر. بل يلاحظ أن الاهتمام العالمي للاستثمار في جنوب السودان يركز على الأمور التي تقدم خدمات حيوية للسكان. وفي هذا الصدد قامت شركة "غلينكور" العاملة في مجال تجارة الخامات والسلع، ومقرها سويسرا، بتأسيس مؤسسة مشتركة مع شركة النفط الوطنية لجنوب السودان. وتقوم الشركة الجديدة بتسويق النفط المحلي وتوزيع المشتقات النفطية في البلاد.(7)

وربما كان بمقدور الكويت الدخول في مجال الاستثمار في بيع المشتقات النفطية بالنظر لخبرتها الطويلة في توزيع المشتقات النفطية خصوصا في أوروبا. بيد أنه يمكن تسجيل نماذج من الشراكة بين كبريات الشركات الدولية والخليجية لتقديم عروض مشتركة في مضمار التنافس على الاستثمار النفطي في جنوب السودان. فمنذ العام 2010 دخلت شركة "توتال" الفرنسية في مفاوضات مع شركة قطر للبترول الدولية حول إمكانية دخول الأخيرة في مشروع مشترك في مجال الاستكشاف عن النفط وإنتاجه في منطقة امتياز تصل مساحتها إلى 118 ألف متر مربع بجنوب السودان، حسبما أوردت نشرة "ميد" نقلا عن مصادر قريبة من المشروع.(8)

طبعا يضاف لذلك تولي الشركات الصينية عمليات إنتاج النفط في البلاد في إطار ترتيبات سبقت انفصال الجنوب، لكن الصين أيضاً لها رغبتها في العمل في دولة جنوب السودان. ومن جملة الأمور الأخرى والتي تؤكد مدى الاهتمام العالمي بتطوير اقتصاد البلاد إرسال صندوق النقد الدولي لمستشار دائم إلى جنوب السودان بقصد تقديم المساعدة على إقامة المؤسسات الاقتصادية في البلاد.

نظرة مستقبلية

ربما تتمكن جمهورية جنوب السودان بأن تصبح سنغافورة قارة أفريقيا الأمر الذي يتطلب من المستثمرين الخليجيين عدم تفويت الفرص في هذه الدولة الوليدة والواعدة
يشكل الاستثمار الأجنبي مقياسا على مدى وجود ثقة من قبل المستثمرين الأجانب في اقتصاديات الدول الأخرى. وتعتبر الاستثمارات الأجنبية المباشرة دليلا ناجحا على مدى قناعة المستثمرين الدوليين بأهمية الاستثمار في مختلف الدول وذلك بالنظر للآفاق المستقبلية لتلك الاقتصاديات. الشيء المؤكد هو أن هناك تقديرا عالميا لأهمية الاستثمارات الأجنبية المباشرة وقدرتها بالمساهمة في حل التحديات الاقتصادية المحلية مثل تطوير البنية التحتية وتعزيز المنافسة في السوق المحلية وإيجاد وظائف جديدة للمواطنين.

وحسب الأدبيات المتوافرة، ليس كافيا إزالة القيود عن الاستثمارات الأجنبية المباشرة حتى يتم جلبها لبلد ما نظرا لأن غالبية الدول تقوم بنفس الخطوات المشابهة. بل تؤكد الدراسات بأن المستثمرين الدوليين يرون أن هناك عوامل رئيسية تجذبهم للاستثمار في منطقة ما وتحديدا وجود البيئة التجارية وحجم السوق ونوعية البنية التحتية المتوفرة وإنتاجية العمالة.

وفي إطار تعزيز السمعة الاقتصادية للبلاد، المطلوب من الجهات الرسمية العمل على حل ما تبقى من الخلافات الحدودية مع الجار الشمالي وخصوصاً مسألة المفاوضات غير المحسومة حول منطقة (أبيي) الغنية بالنفط ومسألة تقاسم العوائد النفطية مع الجار الشمالي. كما لا مناص من حل الإشكالية التي ظهرت غداة الاستقلال وتحديداً إصرار السودان على فرض رسوم عبور النفط من جنوب السودان تصل لحد 23 دولار للبرميل قبل الوصول إلى ميناء التصدير في بور سودان على البحر الأحمر. وهو إجراء من شأنه أن من حجم الإيرادات الداخلة لخزانة الدولة في جنوب السودان.

يبقى البديل بطبي