التداعيات الإقليمية لانسحاب أميركا من أفغانستان

ستسعى إيران وروسيا، وإلى حد كبير باكستان، للحد من التأثير العسكري الأميركي في أفغانستان على المدى البعيد؛ وستشكل الفترة الانتقالية في أفغانستان تحديا كبيرا للسياسة الأميركية. وتريد واشنطن أن تظهر لحلفائها وخصومها أنها لن تخلي المنطقة بعد تأمينها لمصالحها فيها.
1_1072420_1_34.jpg

 

كينيث كاتزمان

يبدو أن حسابات باكستان -وهي غالبا صحيحة- تشير إلى أن انسحاب الولايات المتحدة سيعجّل بالجهود الأفغانية-الأميركية للتوصل إلى تسوية سياسية مع فصائل المعارضة المسلحة كطالبان وغيرها.
من المتوقع أن يكون لإعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما (في 22 يونيو/حزيران الفائت) عن بدء سحب القوات الأميركية انعكاسات وتحولات إستراتيجية كبيرة في أفغانستان والمنطقة، وذلك كما حدث في ديسمبر/كانون الأول 2009 عندما أعلن أوباما لأول مرة عن "زيادة القوات" بالتزامن مع خطط لبدء الانسحاب في يوليو/تموز 2011. وهناك احتمال كبير أن تسيء دول المنطقة تفسير نوايا الولايات المتحدة فتقوم بردود فعل خاطئة.

إن إعلان 2009 المشار إليه آنفا أثار تكهنات في المنطقة بأن الولايات المتحدة كانت تخطط -كما فعلت بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان عام 1989- للانسحاب من المنطقة دون الاكتراث بخروج الأحداث عن نطاق السيطرة. فأخذت باكستان على وجه الخصوص، تتلمس لنفسها موقعا يعزز دورها في أفغانستان في مرحلة ما بعد الولايات المتحدة، من خلال محاولة التأكد من أن حلفاء باكستان يتبوءون موقعا جيدا في محادثات التسوية لإنهاء النزاع في أفغانستان. أما الهند فقد بادرت إلى تعزيز علاقاتها مع الأقليات الشمالية والغربية التي كانت تحذر من الرحيل الأميركي المرتقب.

هاتان الدولتان -مع ربائبهما من الأفغان- سرعان ما أدركتا لاحقا أن واشنطن لن تخلي المنطقة، بل على العكس استطاعت -من خلال الجمع ما بين الإستراتيجية والتكتيكات الفعالة- وضع المعارضة الأفغانية في موقف دفاعي خلال عام 2010 والنصف الأول من عام 2011، وأثبتت الغارة الأميركية على مجمع بن لادن في 2 مايو/أيار 2011 أن الولايات المتحدة قادرة على الوصول إلى أي مكان في المنطقة والعمل بفعالية كبيرة.

وستكون دول المنطقة مخطئة أيضا إذا ما اعتبرت الإعلان عن انسحاب الولايات المتحدة في 2011 مؤشرا على انسحاب الولايات المتحدة من قضايا المنطقة، فحتى مع خفض القوات الأميركية لوجودها في أفغانستان بمعدل 33000 جندي بحلول سبتمبر/أيلول 2012، فإنها ستبقى محتفظة هناك بقوة يصل تعدادها إلى68000 جندي، وأي إجراء يهدف لمزيد من التخفيضات سيكون تدريجيا حتى استكمال المخطط الرامي لنقل السيطرة للأفغان بحلول نهاية عام 2014. والجدير بالذكر أن وتيرة هذا الانسحاب ستتقرر في اجتماع قمة حلف شمال الأطلسي في مايو/أيار 2012 في شيكاغو.

وبعيدا عن التخلي عن أفغانستان، فقد ذكرت الولايات المتحدة بالفعل علنا أنها لا تزال ملتزمة تجاه أمن واستقرار أفغانستان حتى بعد عام 2014، وهي تتفاوض مع أفغانستان، بالتزامن مع المرحلة الانتقالية، على اتفاق إستراتيجي طويل الأمد من شأنه أن يسمح لها باستخدام المرافق العسكرية الأفغانية المتعددة، من ضمنها على الأرجح مطار باغرام الذي تستطيع الولايات المتحدة منه بسط قوتها الجوية في جميع أنحاء المنطقة. وسوف تكون هناك مرافق واسعة في أفغانستان تمكِّن الولايات المتحدة من شن ضربات على أهداف ذات قيمة عالية بطائرات بدون طيار داخل باكستان، أو حتى غارات بمروحيات على شاكلة تلك التي أسفرت عن مقتل أسامة بن لادن.

ولكن على الرغم من أن الولايات المتحدة سوف تظل في المنطقة عسكريا لعقود أو أكثر، فإن الدول المجاورة ستسعى على الأرجح للتدخل في السياسة الأفغانية لضمان أمنها.

أولا وقبل كل شيء يبدو أن حسابات باكستان -وهي غالبا صحيحة- تشير إلى أن انسحاب الولايات المتحدة سيعجّل بالجهود الأفغانية-الأميركية للتوصل إلى تسوية سياسية مع فصائل المعارضة المسلحة كطالبان وغيرها.

وهذا الأمر بحسب تقدير المخططين الباكستانيين، سيعطي باكستان دفعة كي تصر على أن تحجز لحلفائها الأفغان، مثل جماعة جلال الدين حقاني، مقعدا على الطاولة في مفاوضات التسوية. وسوف تصر أيضا على أن تحصل الفصائل الموالية لها على نفوذ كبير في مرحلة ما بعد التسوية في أفغانستان –أي أن تحصل على مواقع مرموقة لضمان عدم التقارب اللصيق لأفغانستان مع الهند. ولضمان أخذ موقفها في الاعتبار يمكن لباكستان أن تطلق العنان للفصائل المسلحة العاملة عبر الحدود بين أفغانستان وباكستان، ويمكن لها في نفس الوقت أن تكبح جماح هذه الفصائل.

من المؤكد أن إيران لن تألو جهدا في حث الحكومة الأفغانية، مهما كانت تشكيلتها بعد الفترة الانتقالية، على منع واشنطن من استخدام القواعد والتسهيلات العسكرية في الغرب الأفغاني على مقربة من الحدود الإيرانية.
أما نوايا الهند فهي معاكسة تماما لنوايا باكستان، فهي تسعى للاطمئنان على أن أفغانستان ما بعد المرحلة الانتقالية لن تصبح ربيبة لباكستان، ولن تكون ملاذا آمنا للمتشددين الباكستانيين الذين قد يرغبون في تنفيذ "هجمات إرهابية جديدة" في الهند أو تسخين جبهة كشمير. وستعمل من خلال حلفائها الأفغان -ولاسيما مع الأقليات في الشمال والغرب- على منع طالبان من تحقيق أية مكاسب على صعيد التسوية السلمية. وخلافا لباكستان فإن الهند لديها ما يلزم من القدرات المالية لاستثمارها في تقديم المساعدات الاقتصادية ومشاريع البناء لنسج علاقات طيبة داخل أفغانستان.

في حين أن دول آسيا الوسطى قد تستمر في تبني إستراتيجيات سلبية نسبيا مقارنة بباكستان والهند، وستعمل لصالح أية فصائل تهيمن في أفغانستان في أي وقت، وستسعى لضمان استمرار أفغانستان في التطور كمنطقة تجارية مع جنوب آسيا.

أما الدولة المجاورة التي يصعب التكهن بردود أفعالها وبسياساتها فهي إيران؛ حيث كادت سياستها في أفغانستان قبل عام 2001 أن تكون نسخة من سياسة نظيرتها الهند القائمة على دعم الأقليات الشمالية والغربية إضافة إلى الطائفة الشيعية في وسط أفغانستان ضد طالبان، إلا أن التدخل الأميركي في أفغانستان عام 2001 دفعها إلى حرف سياستها عن مسارها السابق إلى حدّ ما، فعمدت -بالنظر إلى خوفها المزمن من أميركا- إلى إقامة علاقات مع جماعات مسلحة من طالبان بغية بناء قوة مضادة لأميركا في أفغانستان.

وبالنسبة لأفغانستان ما بعد المرحلة الانتقالية، ستكون أولوية طهران تعزيز حظوظ حلفائها التقليديين من الجماعات الناطقة بالفارسية في الشمال والغرب، وستحثهم في الوقت نفسه على محاولة الحد من الموقف الأميركي العسكري في أفغانستان على المدى البعيد. ومن المرجح أيضا أن تتعاون إيران مع بعض الحلفاء الموالين لحركة طالبان الأفغانية في باكستان الذين يميلون للحد من نفوذ الولايات المتحدة في أفغانستان على المدى البعيد. ومن المؤكد أن إيران لن تألو جهدا في حث الحكومة الأفغانية، مهما كانت تشكيلتها بعد الفترة الانتقالية، على منع واشنطن من استخدام القواعد والتسهيلات العسكرية في الغرب الأفغاني على مقربة من الحدود الإيرانية.

الحليف الآخر لإيران والهند في أفغانستان لفترة ما قبل 11 سبتمبر/أيلول 2001 هو روسيا، التي تخشى من المتشددين الإسلاميين داخل الاتحاد الروسي وآسيا الوسطى. فقد دعمت روسيا الأقليات المناهضة لطالبان في شمال أفغانستان خلال التسعينيات، وكان هذا الموقف يتسم بالغرابة إلى حد ما؛، لأن هذه الأقليات الشمالية هي التي وضعت القوات السوفيتية في أحرج المواقف خلال فترة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان.

غير أن روسيا مثل ايران، قد تتشارك مع الهند، فيما بعد المرحلة الانتقالية في أفغانستان، في إطار توافق المصالح للحد من قوة الولايات المتحدة الإستراتيجية في المنطقة. لقد ساعدت روسيا الولايات المتحدة خلال السنوات التالية للصراع مع طالبان؛ ففتحت طرق الإمداد لقوات حلف شمال الأطلسي كبديل عن تلك التي تمر عبر باكستان.

ومن المرجح أن تصبح روسيا فيما بعد الفترة الانتقالية أقل فائدة للولايات المتحدة، وستضغط على الفصائل الأفغانية لمنع أميركا من استخدام القواعد العسكرية في أفغانستان بصورة واسعة ومطلقة، تماما كما ضغطت على دول آسيا الوسطى للحد من استخدام الولايات المتحدة لقواعد هناك، لاسيما خلال فترات الركود في العلاقات الروسية الأميركية.

قد يستمر نفوذ الولايات المتحدة الاقتصادي والسياسي في أفغانستان لتحتفظ بالقدرة على ضرب تنظيم القاعدة في أي مكان في المنطقة عند الحاجة انطلاقا من أفغانستان.
ونظرا لأن كلا من إيران  وروسيا، وإلى حد كبير باكستان، يسعى للحد من التأثير العسكري الأميركي في أفغانستان على المدى البعيد؛ فإن الفترة الانتقالية في أفغانستان ستشكل تحديات كبيرة للسياسة والدبلوماسية الأميركية. ويبدو أن الولايات المتحدة تريد أن تظهر لحلفائها وخصومها على حد سواء في المنطقة، أنها لن تخلي المنطقة كما فعلت في الماضي بمجرد أن أمّنت معظم مصالحها.

وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تزال مصرة على الاستمرار في إضعاف تنظيم القاعدة، وقد يستمر نفوذها الاقتصادي والسياسي في أفغانستان لتحتفظ بالقدرة على ضرب تنظيم القاعدة في أي مكان في المنطقة عند الحاجة انطلاقا من أفغانستان.
_____________________
كتب الدكتور كاتزمان هذه المقالة بصفته الشخصية وليس بصفته خبيرا لمكتبة الكونغرس الأميركية.

ملاحظة: التقرير في الأصل أعده الكاتب لمركز الجزيرة للدراسات باللغة الإنكليزية.