العلاقات التركية الإيرانية في ضوء تفاعلات الربيع العربي

إن الموقف الحالي لحكومتي إيران وسوريا تجاه الثورة السورية سيدفع بالمجتمع الدولي نحو زيادة عزلة النظامين، وربما تدخل العلاقات التركية الإيرانية، التي كانت تلعب دوراً مهما في تخفيف حدة توتر العلاقات الإيرانية-الدولية، مرحلةً جديدة بعد تعرضها لنكسة بسبب اختلاف المواقف تجاه سوريا
1_1084097_1_34.jpg

برهان كورأوغلو

يتناول هذا التقرير تأثير الدور الإيراني، الذي يتماشى مع أهداف المحور الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في ضوء ما تشهده الدول العربية من التحركات الشعبية المستمرة إلى الآن وخاصة في سوريا، وذلك من خلال تحليل يأخذ بعين الاعتبار التأثير الإيراني، في ظل المواقف التركية مع اختلاف الدورين التركي والإيراني حيال مشهد الربيع العربي، وما مدى انعكاس ذلك الاختلاف على العلاقات التركية الإيرانية؟ وكيف سيؤثر ذلك على مستقبل المنطقة؟

إن التحولات الثورية التي تشهدها المنطقة منذ مطلع العام الجاري أثرت وبشكل مباشر على اندلاع الاحتجاجات في البلاد العربية، والذي ما زال يؤثر بدوره وبشكل جاد على علاقات الدول المذكورة مع دول الجوار، وعلى علاقاتها مع الدول غير العربية التي ترتبط بعلاقات إستراتيجية مع تلك الدول العربية الأنفة الذكر، ومثلما أثرت الثورات الشعبية على علاقات تلك الدول العربية بتركيا وإيران فإنها تؤثر على العلاقات الثنائية بين الدولتين.

تركيا تبذل جهوداً كبيرةً من أجل تخفيف حدّة دوامات الخراب الناجمة عن رياح ثورة الربيع العربي التي عصفت بالمنطقة، كما أنها تسعى جاهدة لإحلال الأمن والسلام في المنطقة. لكن كيف ترى إيران التي باتت قوة رئيسية التطورات المتسارعة في المنطقة؟ وما هي الحملات التكتيكية التي ستقوم بها على رقعة الشطرنج؟ وما مدى تأثير تلك الحملات على التطورات في المنطقة؟

وللإجابة على تلك الأسئلة التي تثير قلق واهتمام كل من يهتم بالمنطقة سنقوم بدراسة تحليلية لكل منها تحت العناوين الرئيسية الأربعة التالية:

السياسة الخارجية لإيران
الهلال الشيعي
الربيع العربي والسياسة الإيرانية
سوريا والعلاقات التركية الإيرانية

سياسة إيران الخارجية

إن المستجدات والمتغيرات التي نشهدها اليوم في منطقة الشرق الأوسط والتي أطلق عليها اسم "الربيع العربي" لا توفر لإيران مجالات واسعة للمناورة من الناحية الجيوسياسية، خصوصا في ضوء سياسة إيران الخارجية القائمة على مبدأ تصدير الهوية العرقية والمذهبية (التشيع)
تسعى إيران منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 بقيادة آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية من خلال سياستها الخارجية إلى الانفصال عن التبعية للغرب وإلى الابتعاد عن الولايات المتحدة الأمريكية، وقد اتجهت في إطار سياسة تصدير الثورة نحو الخليج العربي والشرق الأوسط بهدف أن تكون قوة إقليمية في المنطقة. كما سعت في عهدي خاتمي ورفسنجاني إلى إعادة النظر في سياستها مع الغرب ومع الولايات المتحدة الأمريكية بهدف الامتثال للقانون الدولي، ومع ذلك فقد تأزمت علاقات إيران مع الولايات المتحدة الأمريكية ومع الاتحاد الأوروبي مرة أخرى في عهد أحمدي نجاد باتخاذه محور الشرق بدلاً عن محور الغرب باعتباره هدفاً أساسياً لسياسته الخارجية.

رغم الانتكاسات التي عرفتها سياسة إيران الخارجية وما واجهها من عقبات، فإنه يجب القول: إن إيران حافظت على ديمومة عناصر حياديتها، وكان هدف إيران في إستراتيجية سياستها الخارجية خلق هذه الديمومة ورسم خطوط لها طويلة الأمد، ويتضح من سياسة إيران على المدى المتوسط والطويل، إنها معتمدة على محاور الحيادية لتكون هدفها المستقبلي. وقد أظهر الرئيس خاتمي في سياسته الخارجية توافقا وانسجاما مع الغرب من خلال الناقشات الدائرة في إطار حوار الحضارات. ورغم أنه كان يظهر ليبرالية أكثر من أي رئيس إيراني آخر، فانه لم يتوان في صرف مبالغ أكثر من غيره للتسليح العسكري، ونلاحظ أن جميع رؤساء إيران كانوا متناغمين مع رجال الدين لمتابعة البرنامج النووي الممتد من زمن الشاه وكذلك متابعة سياسة الخميني المناوئة لإسرائيل.

ومن عناصر استمرارية سياسة دولة إيران، وربما الأهم من بينها: سعي إيران أن يكون لها "دور إقليمي فاعل". ابتداء من الخميني ورفسنجاني، ومرورا خاتمي حتى أحمدي نجاد فقد ظل الهدف الرئيسي لرؤساء وزعماء الدين هو الرقي بإيران حتى تتربع على عرش الدولة القائدة في جغرافية الشرق الأوسط.

إن المستجدات والمتغيرات التي نشهدها اليوم في منطقة الشرق الأوسط والتي أطلق عليها اسم "الربيع العربي" لا توفر لإيران مجالات واسعة للمناورة من الناحية الجيوسياسية، خصوصا في ضوء سياسة إيران الخارجية القائمة على مبدأ تصدير الهوية العرقية والمذهبية (التشيع).

كما هو معروف فإن إيران تستخدم مؤسسات لخدمة أهدافها الجيوسياسية المذهبية. وتعتبر مدينة قم في إيران إحدى أهم مراكز الوحدة الفكرية والروحية ضمن هذا السياق، وفي الآونة الأخيرة أصبحت مدينة قم تتصدر مكانة بارزة في إيران تضاهي مكانة مدينة النجف في العراق بعد أن أصبحت قبلة ومركزا لتلقي العلوم لأهم رجال الدين الشيعة. ويعتبر الحرس الثوري الإيراني، الذي يقوم بتوفير الحماية لبعض الجماعات في المنطقة، وسيلةً أخرى تستخدمها إيران لخدمة سياستها. إذ يقوم الحرس الثوري الإيراني بتزويد بعض الجماعات الإسلامية التي تربطها بإيران علاقات مصالح مشتركة، وأخرى من الشيعة بالعتاد والأسلحة والتدريبات العسكرية اللازمة، وخصوصا في بعض مناطق الشرق الأوسط التي تتزايد حدة الاشتباكات المسلحة فيها.

الهلال الشيعي.. وموقع سوريا منه

يمكننا القول إنه بعد الغزو الأمريكي للعراق بدأ ظهور هذا الهلال بشكل جاد في ظل التأثير الإيراني، ابتداءً من تولي الشيعة في العراق السلطة مع الأخذ بعين الاعتبار الحالة الشيعية بسوريا وبلبنان وبالبحرين وبإيران حتى باليمن حيث نرى بشكل واضح ظهور الهلال الشيعي
يمكن القول إن مشروع الهلال الشيعي من أهم أركان السياسة الخارجية لإيران تجاه المنطقة. وبعد التدخل الأمريكي في العراق برزت الطائفة الشيعية كأقوى كتلة سياسية مسيطرة على الساحة، وأما في لبنان فقد رفعت حرب حزب الله مع إسرائيل عام 2006 مكانة وسمعة حزب الله الشيعي في البلاد؛ بالإضافة إلى ذلك فقد ساهمت تلك التطورات في تعميق الفصل بين السنة والشيعة في لبنان. وفي هذا الشأن أشار عدد كبير من الدراسات الأكاديمية إلى خطورة الموقف، ومثال على تلك الدراسات ما تناوله الكاتب جامايجاماي حاقاني في كتابه تحت عنوان: “Shia Crescent: Emergence of World War 3”أي "الهلال الشيعي: ظهور الحرب العالمية الثالثة".(1)

وفي تلك الفترة نشر العديد من المقالات وكان موضوعها الرئيسي: الصراع السني الشيعي بقيادة إيران. وفي الآونة الأخيرة كان من بين أهم الاستراتيجيات التي أولتها إيران اهتماما أساسيا إستراتيجية بناء علاقات خاصة ومميزة مع العناصر الشيعية داخل البلاد العربية. ومثلما سعت إيران إلى اتّباع نهج منسق في تعزيز استراتيجياتها تلك، من خلال توظيف علاقاتها المذهبية مع الجماعات الشيعية في المنطقة كوسيلة لخدمة مصالحها الوطنية والدولية سعت تلك الجماعات الشيعية في دول أخرى في منطقة الشرق الأوسط إلى إبراز هويتها الشيعية، سعياً منها لتطوير علاقاتها مع إيران بما يلبي مصالحها.

إن القيام بتحليل مفصل للجماعات الشيعية في كل دولة من دول الشرق الأوسط يتجاوز حدود هذه المقالة. إلا أنه، ومع وجود نسب كبيرة من الشيعة ببعض الدول مثل باكستان والهند والعراق، يمكن القول إن دولا مثل البحرين ولبنان واليمن والمملكة العربية السعودية تتواجد فيها الشيعة بنسب متفاوتة وتختلف من بلد لآخر. بالإضافة إلى ذلك، توجد بعض الطوائف المنشقة عن الطائفة الشيعية الاثنا عشرية (أكبر طوائف الشيعة) ولكنها تبقى مقربة منها لأنها منحدرة من نفس المصدر، مثل المذهب العلوي ومذهب النصيرية. وعلى وجه الخصوص، وبعد عهد الخميني وفرض ولاية الفقيه، بدأت تلك الطوائف بناء علاقات مميزة وخاصة مع شيعة إيران.

وهنا يمكننا القول إن عملية تشكيل الهلال الشيعي في منطقة الشرق الأوسط بدأت في ظل التأثير لإيران، نتيجة لظهور نشاطات مذهبية في بعض الدول العربية. وكذلك يمكننا القول إنه بعد الغزو الأمريكي للعراق بدأ ظهور هذا الهلال بشكل جاد في ظل التأثير الإيراني، ابتداءً من تولي الشيعة في العراق السلطة مع الأخذ بعين الاعتبار الحالة الشيعية بسوريا وبلبنان وبالبحرين وبإيران حتى باليمن حيث نرى بشكل واضح ظهور الهلال الشيعي. و في هذا السياق تعتبر سوريا أحد عناصر الضغط التي استخدمتها إيران بشكل مكثف لفرض سيطرتها على المنطقة.

شيعة سوريا (النصيريون)

يتفرع عن المذهب الشيعي عددٌ من الطوائف والفرق، والمعروف منها اليوم: الإمامية والإسماعيلية والزيدية والأهم من بينها كلها: الطائفة النصيرية. يعرف الشيعة في سوريا بالنصيريين، ويشكلون ثاني أكبر طائفة في سوريا بعد السنة حيث تبلغ نسبتهم اثني عشر بالمائة من السكان. تسكن أغلبية النصيريين في اللاذقية في سوريا ويتولون السلطة منذ وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم مع بداية سبعينيات القرن الماضي، ليكون بذلك أول رئيس في التاريخ السوري ينتمي إلى الطائفة العلوية (النصيرية). قام حافظ الأسد بتسليم المناصب الهامة والحساسة في الدول إلى شخصيات تنتمي إلى الطائفة العلوية، وذلك من أجل إحكام قبضته على الحكم وضمان استمراريته في السلطة؛ ففي عهد الأسد شغل النصيريون أعلى المناصب القيادية في الجيش والقوات العسكرية الخاصة وفي جهاز الاستخبارات، وبذلك أحكم قبضته على قيادة الجيش، لكن السياسة السورية الداخلية والخارجية تخشى الإفصاح عن الهوية النصيرية، معتبرةً ذلك أحد المحرمات المحظور التحدث عنها.

وفي الحقيقة انتهج حافظ الأسد سياسة براغماتية على الرغم من كثرة تكرار الخطابات المنادية بالقومية العربية. واستمر بشار الأسد في الحفاظ على هذا التقليد باتباعه سياسة والده، وفي هذا السياق انتهجت سوريا وعلى مدى ثلاثين عاماً سياسة خارجية مقربة من إيران، وذلك لوجود مصالح مشتركة بين البلدين خصوصا فيما يتعلق بالشأن العراقي والإسرائيلي. قدمت سوريا الدعم لإيران خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات، وذلك بسبب العداء الذي وقع آنذاك بين سوريا وحزب البعث الحاكم في العراق. وعلى الرغم من كون الغرب والعالم العربي ضد إيران في حربها على العراق، فقد ساهم تقديم سوريا الدعم لإيران أثناء تلك الحرب في إظهار سوريا كحليف استراتيجي لإيران في المنطقة.

وبعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية واصلت سوريا علاقاتها الطيبة مع إيران. ومثلما ذكرت مسبقاً فإن السبب الرئيسي وراء ذلك هو أن إيران تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على أنهما عدو واحد، بالإضافة إلى وجود مصالح مشتركة بين البلدين(2).

واتبعت سوريا سياسة موازية للسياسة الإيرانية،خصوصاً فيما يتعلق بالشأن الإسرائيلي، وذلك لوجود مصالح مشتركة بين البلدين سوريا وإيران. وفيما بعد ذلك وقف شيعة لبنان إلى جانب هاتين الدولتين. وكما ذكرنا في السابق، فإن علاقة إيران بالشيعة في المنطقة تحتاج إلى بحث آخر.

الربيع العربي والسياسة الإيرانية

يمكن تفسير موقف إيران تجاه الحركات الشعبية المعارضة لحكومة النخبة النصيرية في سوريا، بحرصها على حماية أهدافها المتعلقة بالمحور الشيعي، وتسعى الحكومة السورية الحالية إلى تطوير علاقاتها مع إيران التي من شأنها أن ترقى إلى مستوى التحالف الاستراتيجي
مع انطلاق الربيع العربي من تونس فمصر فاليمن، وبعد وصول الثورة إلى ليبيا، ظلت إيران تراقب مسيرة هذه الثورات عن قرب، ومما لا شك فيه أنه من الممكن القول إن تسارع تطورات الأوضاع في المنطقة دفع إيران إلى توسيع نطاق تأثيرها الإقليمي ونفوذها في المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار الطموحات الإيرانية بإقامة الهلال الشيعي في المنطقة.

ومع قرار الولايات المتحدة الأمريكية الانسحاب من العراق، شعرت إيران بالسعادة الشديدة لتأثير الأخطاء الأمريكية المرتكبة في العراق في دفع شعوب المنطقة إلى الإطاحة بحكوماتها. إن الإطاحة بحكومة مبارك الموالية لإسرائيل يعتبر تطوراً شديد الأهمية بالنسبة لطهران، خصوصاً أن مصر كانت تتحرك في ظل الإدارة الأمريكية وتعد من أقوى دول المنطقة. كما تقوم إيران بتوفير الدعم اللازم لوصول الحركات الشعبية دول الخليج التي توجد فيها نسبة معتبرة من الشيعة. ولذلك فإن أغلب حكومات الخليج العربي ترى في إيران تهديداً لها، فضلا عن العلاقات الوثيقة التي تربط الولايات المتحدة الأمريكية بدول الخليج العربي والتي تلقي بظلالها على العلاقات الخليجية الإيرانية. تحتضن البحرين القاعدة الأمريكية الخامسة، بالإضافة إلى التواجد العسكري الأمريكي المكثف في دول الخليج. وقد أثار قلق إيران قيام مجلس التعاون الخليجي بتعزيز علاقاته الإقليمية والإستراتيجية مع دول خارج المنطقة، وذلك من أجل خلق نوع من التوازن في منطقة الخليج العربي، خصوصاً بعد تزايد النفوذ الإيراني في السنوات الأخيرة. لهذا السبب انتقدت طهران بشدة قيام كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية بإرسال

نبذة عن الكاتب