إيران.. نجاد بين الإقالة والاستقالة

تسعى هذه الورقة إلى رصد حالة الصراع والمواجهة في النسيج السياسي الإيراني، وبيان أسبابها. وتحاول رسم خارطة تفصيلية لأطراف المواجهة الأساسيين، وخيارات الرئيس الإيراني، ومآلات هذه المواجهة في الأيام القادمة.
1_1037490_1_34.jpg

توتر يسود العلاقة بين مرشد الثورة آية الله علي خامنئي ورئيس الجمهورية محمود أحمدي نجاد (الجزيرة-أرشيف)

فاطمة الصمادي

بات من المؤكد أن العلاقة بين المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد قد أصيبت بشكل بالغ، بعد أن كان نجاد يباهي بعلاقة الابن بأبيه، وبعد أن أكد خامنئي مرارا دعمه لأداء نجاد السياسي، وقال: إنه الأقرب له من بين المسؤولين الإيرانيين.

الحقيقة أن خامنئي يمكنه أن يقصي نجادا إذا ما رأى مصلحة في ذلك، خاصة مع تصاعد الانتقادات الموجهة إليه من بعض آيات الله في قم، ويعزز من هذا الخيار علاقة نجاد المتوترة مع السلطتين التشريعية والقضائية.
مرات ثلاث سعى فيها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد ليخلق لنفسه مسار قرار مستقلا عن المرشد الأعلى. وجاءت المرات الثلاث في قضايا حساسة، أولها: عندما عين نجاد صهره وصديقه رحيم مشائي نائبا له، رغم النقد الشديد لهذه الخطوة ولم يتراجع عنها إلا بعد أمره خامنئي صراحة بتنحيته.

وتكررت محاولة خلق المسار المستقل عندما أقال نجاد بصورة "مهينة" وزير خارجيته منوشهر متكي، بعد خلافات بشأن السياسة الخارجية، وبعد أن أدخل نجاد مسارا دبلوماسيا موازيا إلى جانب وزارة الخارجية رغم معارضة خامنئي لذلك. ثم جاءت المحاولة الثالثة لتدفع الأمور إلى المواجهة حينما أقدم نجاد على إقالة وزير الاستخبارات الإيرانية حجة الإسلام حيدر مصلحي، رغم معارضة المرشد، الذي لم يعجبه ذهاب نجاد بعيدا فخاطب الوزير بصورة مباشرة برسالة تجاوزت نجاد واعتُبرت سابقة في السياسة الإيرانية، أشاد فيها بإنجازاته وأمره بالبقاء في منصبه.

والحقيقة أن خامنئي يمكنه أن يقصي نجادا إذا ما رأى مصلحة في ذلك، خاصة مع تصاعد الانتقادات الموجهة إليه من بعض آيات الله في قم، ويعزز من هذا الخيار علاقة نجاد المتوترة مع السلطتين التشريعية والقضائية.

ورغم أن خامنئي أرسل إشارات تكشف عن رغبته بأن يستمر نجاد حتى نهاية فترته الرئاسية، إلا أن أداء الرئيس الإيراني ولهجته التصعيدية تشير إلى نذر مواجهة لا تقف حدودها عند مرشد الثورة، وإن كانت تأتمر بأمره، بل تتعدد جهاتها لتضم رجال الدين وخطباء المساجد ومجلس الشورى، والأهم من ذلك كله الحرس الثوري، الذي ظلّ إلى وقت قريب حليفا وداعما لنجاد.

تسعى هذه الورقة إلى رصد حالة الصراع والمواجهة في النسيج السياسي الإيراني، وبيان أسبابها. وتحاول رسم خارطة تفصيلية لأطراف المواجهة الأساسيين، وخيارات الرئيس الإيراني، ومآلات هذه المواجهة في الأيام القادمة.

النظام الخيمة
المهدوية.. انتظار أم نهاية للجمهورية؟
سلطة البازار
الصدام الأصعب مع الحرس
خيارات نجاد

النظام الخيمة 

تتعدد الآراء وتتعارض بشأن هيكل النظام السياسي في إيران؛ فمن رأي يقول: إن بناء النظام يشبه الخيمة ويقوم على مبدأ الحماية والمنفعة، إلى رأي آخر يقول: إن نظام الجمهورية الإسلامية ما هو إلا نظام سلطنة(1). ويرى أصحاب "نظرية الخيمة" أن نظام ولاية الفقيه ليس له شكل هرمي، وإنما يمتلك شكل الخيمة؛ فوجود النظام لا يقوم في محوره على الفرد السلطان أو الولي الفقيه، لكنه يقوم على أعمدة قوة عديدة ومتوازية. ورغم توازيها وتعددها ورغم التنافس والتضاد فيما بينها فإنها تتعاون للحفاظ على مصالحها، وتتعاون كذلك لإقصاء كل ما من شأنه أن يصيب أركان هذه الخيمة بالضرر. وتتقاسم هذه الأعمدة الموارد بشكل مباشر وغير مباشر، ومن ذلك عوائد النفط التي لا تقف بعيدة عن أزمة نجاد اليوم؛ لذا تبدي هذه الأطراف حرصا على حفظ النظام، ويكون دور الولي الفقيه هو تقسيم مصادر القوة بين الأجنحة المختلفة(2).

تعود جذور الصراع في حقيقتها إلى الدستور الإيراني، فمنذ يومه الأول كان يحمل وجهين متناقضين: الأول: يقبل الجمهورية والبرلمان والمجتمع المدني. والثاني: يحمل صفة دينية وفقهية، ويعطي سلطة واسعة للولي الفقيه ورجال الدين، وهذان الوجهان هما المسؤولان في مرحلة من المراحل عن إيجاد التوتر والتجاذب المزمن داخل النظام السياسي الإيراني، والدستور ذاته هو الذي أثار النقاش منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة وتمخض في النهاية عن تيار "إصلاحي" وآخر "أصولي".

ومع إقصاء الإصلاحيين من اللعبة السياسية يبقى التقسيم قائما؛ ولكنه ينتقل إلى داخل التيار الأصولي، أو بين التيار نفسه والتيار المحسوب عليه وهو "التيار النجادي". والتضاد والتناقض الموجود في الدستور يتركز في ناحية البناء القانوني؛ لذلك ليس من الغريب أن يوصف من كانوا رؤساء للوزارة ومجلس الشورى في السابق بأنهم "رؤوس الفتنة" عندما نشبت أزمة الانتخابات الرئاسية العاشرة عام 2009(3)، كما لا يبدو مفاجئا وصف تيار نجاد بأنه "تيار الانحراف".

المهدوية.. انتظار أم نهاية للجمهورية؟ 

تتعدد الآراء وتتعارض بشأن هيكل النظام السياسي في إيران؛ فمن رأي يقول: إن بناء النظام يشبه الخيمة ويقوم على مبدأ الحماية والمنفعة، إلى رأي آخر يقول: إن نظام الجمهورية الإسلامية ما هو إلا نظام سلطنة.
حضر إمام الزمان الغائب(4) بقوة في أزمة نجاد السياسية، وشكل محورا مهما في موضوع الخلاف والهجوم الذي يتعرض له من قبل جهات عدة في مقدمتها الحرس الثوري، وشارك في الهجوم مجلس الشورى ورجال الدين في قم. ولا تنفصل قضية "المهدوية" عن مجمل التنافس والتجاذب السياسي في إيران، وتتجاوز في حقيقتها الجوانب العقائدية لتصل إلى صراع النفوذ والقوة، فأية مناقشة حول الظهور الوشيك للمهدي تعد تقويضا لشرعية الحكومة الإيرانية وإنهاءً لها(5).

لأنه مع مجيء المنجي، لا يعود هناك حاجة إلى المرشد الأعلى للثورة بوصفه ممثلا للإمام. وينص الدستور الإيراني صراحة على أن السلطة التنفيذية العليا تبقى معتبرة فقط "في غياب ولي العصر"(6)، وبعد ظهور الإمام الغائب، تنتقل السلطة التنفيذية والروحية في المجتمع الإيراني والعالم إلى المنجي؛ مما يرتب عليه استبعاد القائد الحالي.

جاء الهجوم بصورة واضحة من قبل قيادات في الحرس الثوري ومرجعيات دينية تحذر مما تسميه بـ"تيار الانحراف" داخل حكومة نجاد. وضغطت هذه القيادات بشدة ليعلن الرئيس براءته من مقربين منه يتزعمون "تيار الفتنة هذا". وتم تداول مصطلح "تيار الانحراف"، وجُعل منه مفردة سياسية جديدة في القاموس السياسي الإيراني، بعد تراجع مصطلح «تيار الفتنة»(7). أما المقصود بـ"تيار الانحراف" فلا يعدو أن يكون فريق نجاد، وعلى رأس هذا الفريق مدير مكتبه إسفنديار رحيم مشائي.

لم يبد نجاد أية إشارة للتخلي عن دعم مشائي أو أحد من المقربين منه، ويرى أن استهدافه لا يعدو أن يكون "منافسة غير شريفة، أو أنها نابعة من عدم معرفة حقيقة نياته"(8). ووصف الاتهامات التي طالت فريقه بأنها كذب لا أساس له(9).

تتم عملية "شيطنة مشائي" بصورة ممنهجة، في وقت يسبق انتخابات مجلس الشورى التاسعة التي قيل: إن نجادا يسعى إلى كسبها لصالح تياره، فمشائي وفقا للرواية الأصولية "ساحر له علاقات بأناس يمارسون الشعوذة ويدّعون الارتباط بالجن"، ونجاد واقع تحت تأثير "سحر" مشائي، وهو ما سخر منه الأخير مطالبا من قال بذلك أن يقوم بإبطال هذا السحر وإنقاذ الرئيس من براثنه(10).

ويأتي ذلك ردا على تصريحات لآية الله مصباح يزدي -رجل الدين الذي طالما دعم نجادا- قال فيها: إن "نجاد وقع تحت تأثير السحر، فهذا الوضع غير طبيعي مطلقا" وأرسل يزدي إشارات عديدة بأن هذا الساحر ليس سوى رحيم مشائي(11).

مر خطاب نجاد المهدوي في مراحل ارتبطت بأهداف سياسية مختلفة، فمن إشارات كلية إلى موضوع إمام الزمان وقرب عودته إلى ربط ذلك بكرامات ومعجزات(12)، وتبع ذلك نوع من محاولة المطابقة الأيديولوجية بين الجمهورية الإسلامية ومجريات السياسة الدولية ووقائعها، وحكومة إمام الزمان(13).

لم يكن لفيلم وثائقي حمل عنوان" الظهور وشيك جدا" (14) أن يمر دون إثارة جدل سياسي وديني واسع في إيران؛ فالفيلم الذي يتحدث عن عودة الإمام المهدي وعلامات ظهوره، جرى توزيعه بشكل كبير في مدن وقرى إيران، واتُّهم نجاد وفريقه السياسي، بأنهم يقفون حقيقة وراء صناعة وترويج هذا الفيلم لتحقيق مآرب سياسية. يسعى الفيلم للتأكيد على دور المرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي والرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد في ظهور الإمام الغائب، ويؤكد أنهما من أبرز الشخصيات التي تمهد لعودته، ويروي الفيلم الذي جرى اعتقال مخرجه روايات تاريخية لظهور الإمام الثاني عشر للشيعة الاثني عشرية، أي الإمام المهدي. وبعد استعراض لعدد من الوقائع السياسية والأحداث التي شهدتها وتشهدها المنطقة خاصة في العراق ومصر واليمن والسعودية وكذلك إيران، يصل الفيلم إلى نتيجة تقول: إن خامنئي ونجادا، هما نصيرا المهدي اللذان سيسلمان له الراية. ويكاد الفيلم يجزم بأن موعد الظهور بات قريبا جدا. ويسقط الفيلم روايات شيعية على شخصية خامنئي، ويرى أنه هو السيد الخراساني صاحب الجيش القوي الذي سيسلم الراية للمنجي الموعود، وأن نجادا هو شعيب بن صالح، الذي يقود حربا ضد الفساد، وينتصر على جيش السفياني، ويمهد الأرض لظهور إمام الزمان وولي العصر(15).

وقد واجه الفيلم ردود فعل دينية، فقد شكَّك العديد من الباحثين ورجال الدين بصحة الأسانيد والروايات التي بُني عليها الفيلم. وألقى المرجع الديني البارز آية الله مكارم الشيرازي بظلال الشك على الفيلم، لكن نقطة انتقاد الشيرازي تقوم بصورة أساسية على وقت تعيين ظهور إمام الزمان؛ فالحديث عن وقت محدد لذلك من شأنه أن "يوجه لطمة لمعتقدات الناس وإيمانهم بالمهدوية"، وهو كما يصفه "كذب محض"، ورأى الشيرازي الذي كان يتحدث للناس المحتشدين في مسجد جمكران أن "الأعداء هم من يقف وراء توزيع هذا الفيلم بصورة مجانية"، وطالب بملاحقة المسؤولين عن الفيلم قضائيا(16)؛ لكن آخرين وصفوا الفيلم بأنه "حدث ثقافي كبير"(17). وإن كان البعض يحمِّل نجادا مسؤولية إنتاج هذا الفيلم وتسميته بـ"شعيب بن صالح" وهو ما نفاه بشدة إلا أن شعيب هذا ظهر في إيران أكثر من مرة(18)، ويرصد حجة الإسلام محمد صابر جعفري المتخصص في أبحاث المهدوية، ورئيس تحرير نشرة أمان الإيرانية، حالات عدة منذ الثورة الإسلامية وإلى اليوم جرى فيها تسمية شعيب بن صالح، ومن هذه الحالات تسمية آية الله رفسنجاني (شعيب بن صالح) وقت أن كان رئيسا لإيران، وبعد ذلك كان البعض يعطي التسمية لقائد الحرس الثوري السابق رحيم صفوي، وطالت القائمة أيضا علي شمخاني وزير الدفاع الإيراني في حكومة خاتمي، وغذَّى ذلك أصله العربي واسم والده (صالح)، وأن أهل الحي الذي يسكن فيه ينادونه شعيبا(19).

حضر إمام الزمان الغائب بقوة في أزمة نجاد السياسية، وشكل محورا مهما في موضوع الخلاف والهجوم الذي يتعرض له من قبل جهات عدة في مقدمتها الحرس الثوري، وشارك في الهجوم مجلس الشورى ورجال الدين في قم.
يضع نجاد لحكومته مهمة يرى أنها مهمة الثورة، وهي "تهيئة الظرف للظهور الموعود". لكن توصيف نجاد بأنه المولع بفكرة الظهور دون سواه من القيادات السياسية في إيران توصيف يجانب الصواب، وينقضه الواقع السياسي الإيراني؛ فالفكرة المهدوية عميقة في الطرح السياسي والديني الإيراني، والقول: إن فكرة المهدوية تجد صداها لدى الكثير من السياسيين في إيران له ما يصدقه؛ فالدولة الحقيقية كما يراها رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني تعني الدولة المتصلة بثورة الإمام المهدي(20).

وإن كان بعض آيات الله انتقد حديث نجاد عن قرب الظهور إلا أن أيًّا منهم لا ينكره، ولا يجرِّم الانتظار، ونجد بعضهم يشارك الرئيس الإيراني فكرته بضرورة الإعداد لاستقبال المهدي(21). ويفرد محمد عبد اللاوي مساحة واسعة في بحث طويل للحديث عن الدولة الممهدة للظهور(22): "فالدولة الممهدة لم تنتج الاستعمار والحروب والفتن على غرار دولة هيجل، بل أنتجت الجهاد أي التحرر من الاستبداد".

تشكل المهدوية عنوانا في المواجهة بين نجاد ورجال الدين(23) ويُتهم نجاد، بأنه يستخدم المهدوية كأداة لتهميش هذه الفئة ذات النفوذ الواسع في إيران، من خلال الكشف عن الفساد الاقتصادي والأخلاقي لبعض رجال الدين، بهدف إضعاف قاعدة السلطة الدينية الأساسية، وبوعي أو دون وعي سيقود ذلك إلى إضعاف مكانة رجال الدين ودورهم في هيكل السلطة في الجمهورية الإسلامية(24).

ويُرجِع نجاد العداء مع عدد من رجال الدين الذين يصفهم بأنهم "أعداء الله"، إلى مسألة لا علاقة للمهدوية بها، ويُعيدها إلى "فسادهم الأخلاقي والمالي". وقد شكّلت قضية ما عُرف بـ "تسريبات باليزدار" علامة فارقة في العلاقة بين نجاد والمرجعيات؛ فقد تحدث باليزدار الرئيس السابق لمكتب دراسات البنية التحتية في مركز أبحاث مجلس الشورى الإسلامي، في محاضرة ألقاها في جامعة همدان(25)، عن أكثر من 123 ملفا لشخصيات اتهمها بقضايا فساد من بينها أربع وأربعون شخصية معروفة في إيران منهم تسعة من أكبر الشخصيات الدينية.

سلطة البازار 

لا يمكن عند مناقشة أزمة السلطة في إيران اليوم والمواجهة بين نجاد ومجلس الشورى الذي يسيطر عليه التيار الأصولي، إسقاط السياسة الاقتصاد