الولايات المتحدة وصالح.. حان الوقت للبحث عن بديل

تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم تفاضل بين خيارين متناقضين، إما دعم نظام صالح، الذي يزعم أنه يحارب القاعدة، أو تركه ينهار ومن ثم ترك اليمن ساحة مفتوحة لسيطرة القاعدة. غير أن هذه المفاضلة زائفة في حقيقتها، لأن صالح لم يعد رجل أميركا.
1_1069374_1_34.jpg

 

برنارد هايكل

للولايات المتحدة الأميركية علاقة متقلبة الأطوار مع اليمن، تتوثق حينا وتضعف حينا آخر. ويمكن أن توصف سياسات واشنطن إزاء اليمن بالظرفية في طبيعتها؛ إذ هي لا تعبّر مطلقا عن البعد الكلي لحقيقة الوضع اليمني ومشكلاته، بل تستجيب بشكل ذرائعي للعوارض قصيرة الأمد، على نحو ما حدث مع ما عُرف بـ "الحرب على الإرهاب".

وتجد الولايات المتحدة نفسها اليوم تفاضل بين خيارين متناقضين، إما دعم نظام صالح، الذي يزعم أنه يحارب القاعدة، أو تركه ينهار ومن ثم ترك اليمن ساحة مفتوحة لسيطرة القاعدة. غير أن هذه المفاضلة زائفة في حقيقتها، على نحو ما سيتضح لنا في ثنايا هذا التقرير، لكن دعونا في البداية نعرض خلفية تاريخية للعلاقة التي جمعت الطرفين.

خلفية تاريخية
فقدان الدور والوظيفة

خلفية تاريخية 

يمكن أن توصف سياسات واشنطن إزاء اليمن بالظرفية في طبيعتها؛ إذ هي لا تعبّر مطلقا عن البعد الكلي لحقيقة الوضع اليمني ومشكلاته، بل تستجيب بشكل ذرائعي للعوارض قصيرة الأمد، على نحو ما حدث مع ما عُرف بـ "الحرب على الإرهاب".
إذا ما فحصنا العلاقات الأميركية اليمنية على مدار العقدين الماضيين، من حرب الخليج عام 1990 وإلى اللحظة الراهنة، يمكننا أن نبدأ من لحظة درامية شهدها مقر الأمم المتحدة، حين صوتت اليمن، العضو آنذاك في مجلس الأمن، بالتصويت ضد القرار 678 الذي يخول استخدام القوة لطرد القوات العراقية من الكويت.

في تلك الأثناء قال وزير الخارجية الأميركية جيمس بيكر للمندوب اليمني في الأمم المتحدة: "إنكم بهذا التصويت تدفعون ثمنا غاليا". ومن ثم قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها (المملكة العربية السعودية والكويت) بقطع مئات الملايين من الدولارات التي كانت تمنحها في صورة مساعدات سنوية لهذه الدولة الفقيرة.

من جانبها طردت المملكة العربية السعودية نحو مليون عامل يمني مقيمين على أرضها، وهو إجراء قطع في التو معظم التحويلات المالية الأجنبية التي كان اليمن يعتمد عليها، وتسبب ذلك في هبوط اقتصادي مطّرد، وهو ما أوصل اليمن آنذاك إلى حالة من التدهور الاقتصادي تقترب من حالة شبه الانهيار التي يعانيها اليوم.

ولولا عائدات النفط والغاز والإعانات الدولية في شكل قروض ومنح لما تمكن نظام الرئيس علي عبد الله صالح من البقاء طوال تلك الفترة الممتدة من 1990 وحتى الآن. وقد قارب النفط على النفاد في شمال البلاد (خاصة حقل مأرب) ولم يتبقَّ سوى بعض الحقول الصغيرة في الجنوب، الأمر الذي يجعلها محط نزاع خاصة في ظل شكوى الجنوبيين من استغلال نظام صالح لهم.

كان عام 1990 شاهدا أيضا على حدث بالغ الأهمية في اليمن والذي تمثل في توحيد الشطرين الشمالي والجنوبي. وعلى مدار أربع سنوات تلت ذلك التاريخ تمتعت البلاد بانفتاح سياسي مشهود، تجلّى ذلك في ظهور العديد من الأحزاب حديثة التشكيل، وصحافة متنامية وحرة، وانتخابات عُقدت في عام 1993 وُصفت بأنها نزيهة نسبيا.

وبينما كانت تلك المظاهر آخذة في النمو، كان الرئيس صالح يدبر حملة اغتيالات سرية ضد حلفائه الاشتراكيين في السلطة. وكانت الفترة الممتدة من 1990 إلى 1994 شكلا من أشكال اقتسام السلطة بين حزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة صالح والحزب الاشتراكي بقيادة على سالم البيض. وفي النهاية، تسببت الاغتيالات ومصادر توتر أخرى في انفصام التحالف وهو ما أدى إلى حرب دامية عام 1994 انهزم فيها الاشتراكيون. وكطرف منتصر، استمر صالح في بسط سيطرته على اليمن الموحد بطريقة متزايدة في الاستبداد والفساد.

واستمرت الانتخابات بعد الحرب، وبدت الصورة مدهشة للكثيرين في الغرب ممن أسرهم ذلك المجتمع القابع في شبه الجزيرة العربية المتأخر اقتصاديا والمحافظ دينيا، والقادر رغم ذلك على تبني تلك الممارسات الديمقراطية وفي مقدمتها إقامة انتخابات منتظمة في ظل تعددية حزبية.

ولهذه الأسباب بدأت تتدفق على صنعاء سريعا بعد الحرب الأهلية إعانات اقتصادية، سواء من متبرعين أو من مؤسسات إقراض متعدد الأطراف كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. ولعب صالح اللعبة الديمقراطية بمهارة، وتمكن من الفوز في كافة الانتخابات: البرلمانية (1997، 2003) والرئاسية (1999، 2006)؛ وذلك عبر نظام معقد من الموالاة والإكراه والتزوير.

ورغم الوعود التي قطعها صالح على نفسه، إلا أنه لم ينفذ أي تعديل جوهري أو إصلاحات إدارية، ودوما ما كان يختلق السبل لتفسير عدم وفائه بما كان يُطالَب به. وفي النهاية نفد صبر الداعمين والمقرضين وقطعوا الإعانات المالية بحلول نهاية التسعينيات.

كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وما تبعها من الحرب على الإرهاب بمثابة طوق النجاة الذي أُلقي على الرئيس صالح فقدم نفسه كحليف مخلص في تلك الجهود، ومن أجل تلك الخدمات بدأ صالح يتلقى المساعدات والدعم، خاصة في مجال التدريب والتجهيز العسكري، فضلا عن دعم الولايات المتحدة.

لم يكن تعاون الرئيس صالح مع الولايات المتحدة في الصراع ضد القاعدة تعاونا صريحا أو مكشوفا، بل اتبع نهجا مغامرا ومراوغا في التطبيق والتنفيذ؛ ففي بعض الأحيان كان صالح منخرطا في التعاون لدرجة كاملة، على نحو ما سمح للولايات المتحدة في عام 2002 باستهداف وقتل (أبو علي الحارثي)، أحد المنفذين البارزين لعمليات القاعدة.

لكن في أحيان أخرى، لم يكن صالح متعاونا بالشكل المطلوب، وهو ما تسبب في فرار أعضاء من القاعدة من سجن بالغ التحصين في صنعاء عام 2003. وبحسب العديد من المسؤولين الأميركيين، لم يكن اليمن يتعاون بالشكل الكافي في تقديم المعلومات المطلوبة عن العمليات التنفيذية للقاعدة، كما لم يسمح بالشكل الكامل للخبراء الأميركيين بمقابلة المعتقلين في السجون اليمنية.

لم يكن تعاون الرئيس صالح مع الولايات المتحدة في الصراع ضد القاعدة تعاونا صريحا أو مكشوفا، بل اتبع نهجا مغامرا ومراوغا في التطبيق والتنفيذ.
وبداية من عام 2004، دخل صالح في حرب ضروس مع الحوثيين في صعدة ولكنه فشل في تحقيق انتصار عسكري عليهم؛ ولهذا لجأ بشكل متزامن إلى ذريعتين متناقضتين رغبة في استدعاء دعم المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة على التوالي؛ فعلى الجانب السعودي زعم صالح أن إيران تمول التمرد الحوثي كي تخلق لنفسها موطئ قدم على البوابة الجنوبية لحدود المملكة العربية السعودية. ولم يكن هناك جزم قاطع بتورط إيراني في دعم الحوثيين، خاصة أن الزيديين (شيعة اليمن) والشيعة الإمامية (شيعة إيران) على خصومة تاريخية من الناحية العقائدية؛ ومن ثم فإن وجود أي نوع من التعاون بناء على مرجعية المشترك الشيعي بين الطرفين هو في الواقع احتمال بعيد عن القبول. ومع هذا، وأخذا في الاعتبار طبيعة الموقف السعودي المتشكك دوما في أية خطوة إيرانية؛ فإن الرياض قد صدقت المزاعم التي ساقها صالح وانزلقت في النهاية إلى معارك ضد الحوثيين في عام 2009.

ثم مضى صالح مستغلا جهل الولايات المتحدة بحقيقة الواقع المحلي في اليمن فزعم أن القاعدة تدعم التمرد الحوثي. ومرة أخرى، كان هذا الزعم منافيًا للعقائد الدينية، أخذا في الاعتبار أن كلا الطرفين (القاعدة والحوثيين) يرى في الطرف الآخر عدوا لدودا وكافرا مارقا. بل الأدهى من ذلك فإن ناصر البحري (المعروف بـ "أبو جندل") اليمني الأصل والذي عمل حارسا شخصيا لزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن، ذهب إلى القول بأن صالح سعى في 2005 إلى طلب عون من مقاتلي القاعدة لمساعدته في قتال الحوثيين.

ويؤكد البحري -الذي كان مطلعا على هذه المحادثات بين صالح والقاعدة- أن القاعدة اشترطت أن يكون لها وحدة قتالية مستقلة لا أن تُدمج ضمن القوات اليمنية، وهو ما رفضه صالح وأدى إلى إنهاء المحادثات دون اتفاق. وبقي التمرد الحوثي دون حل رغم الوساطة المتكررة التي قامت بها قطر، وكان السبب الرئيس في ذلك هو عدم وفاء صالح في غير مرة بما تم الاتفاق عليه من شروط الهدنة، وفي مقدمتها الوعد بإطلاق سراح المعتقلين الحوثيين.

وفي مطلع عام 2009 حصل صالح على فرصة جديدة ليثبت من خلالها فائدته ونفعه للولايات المتحدة حين تم الإعلان رسميا عن تشكيل "القاعدة في شبه الجزيرة العربية". وتألّف هذا التنظيم من دمج فلول نشطاء القاعدة السعوديين والمنتسبين إليها في اليمن. وكان أحد الأعضاء المهمين في هذا التشكيل الجديد هو المنظر الفكري والمواطن الأميركي-اليمني أنور العولقي.

وبإتقانه اللغتين الإنجليزية والعربية تمكن العولقي من تجنيد العديد من الأعضاء للقاعدة، وتكليفهم بشن هجمات ضد الولايات المتحدة. ومن بين هؤلاء المجندين الجدد كان "نضال حسن" الضابط برتبة رائد في الجيش الأميركي الذي هاجم وقتل عددا من الجنود في قاعدة "فورت هوود" (بولاية تكساس) في نوفمبر/تشرين الثاني 2009، وكذلك النيجيري عمر عبد المطلب والذي عُرف باسم رجل "عيد الميلاد" أو "مفجر الملابس الداخلية" والذي حاول تفجير نفسه في طائرة ركاب فوق مدينة ديترويت في 25 ديسمبر/كانون الأول 2009. وأخيرا وليس آخرا المحاولة الفاشلة التي قام بها "تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية" في أكتوبر/تشرين الأول 2010 لإرسال شحنتين ملغومتين على طائرتي شحن متجهتين إلى الولايات المتحدة.
وعلى هذا النحو، كان التهديد المتكرر القادم من اليمن يعني للولايات المتحدة أن ثمة ضرورة لعلي عبد الله صالح بأكثر من أي وقت مضى في صراع واشنطن ضد ذلك التنظيم.

وللقاعدة في اليمن بضع مئات من الأعضاء، ويُنظر إليها اليوم كأخطر تهديد للولايات المتحدة، وحلت في ذلك محل المكانة التي كان يتبوأها التنظيم الأم على الحدود الباكستانية الأفغانية. وقامت الولايات المتحدة بتدريب وحدة من الجيش اليمني على تكتيكات مواجهة الإرهاب، وكان يحيى ابن شقيق الرئيس صالح هو قائد تلك الوحدة.

وبعبارة أخرى، فإن الولايات المتحدة، قد استثمرت الكثير في دعم نظام صالح على أمل أن يتمكن من احتواء تهديد القاعدة. ومن جانبه كرر صالح مرارا أنه جاهز للقيام بهذه المهمة ويحتاج لدعم إضافي لإنجاز مراحلها.

فقدان الدور والوظيفة 

وفي خضم ربيع الثوارت العربية التي يشهدها العام الجاري، لم تكن اليمن محصنة ضد عدوى الثورة؛ فعلى مدى أربعة أشهر تظاهر مئات الآلاف من الشباب اليمني بشكل دائم وسلمي في العاصمة صنعاء وغيرها من المدن اليمنية، مطالبين بتنحي الرئيس صالح وتخليه عن مقاليد حكم البلاد هو وأفراد عائلته المتحكمين في كثير من المؤسسات المركزية والمناصب القيادية في الدولة.

الولايات المتحدة، قد استثمرت الكثير في دعم نظام صالح على أمل أن يتمكن من احتواء تهديد القاعدة. ومن جانبه كرر صالح مرارا أنه جاهز للقيام بهذه المهمة ويحتاج لدعم إضافي لإنجاز مراحلها.
وكانت استجابة صالح لتلك المطالب لا تخرج عن تكتيكات المراوغة كعادته، ورفض في ثلاث مناسبات منفصلة التوقيع على مبادرة قدمها مجلس التعاون الخليجي لانتقال سلمي للسلطة، مع حصانة كاملة تضمن له عدم الملاحقة القضائية. وفي هذا الصدد لجأ صالح مرة أخرى إلى مزاعمه الدائمة القائلة بأن رحيله عن اليمن سيعرض البلاد للانهيار ويجعل منها صومالا جديدا، ودولة فاشلة. بل إن صالح ذهب إلى أن رحيله سيعطي للقاعدة الفرصة لاستغلال هذا الوضع وتُعظِّم قوتها في البلاد، وتخلق تهديدا قاتلا للأمن العالمي.

وكان اللعب بعنصر الاستقرار في اليمن يعني مشاغلة الرياض وواشنطن على السواء، غير أن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بقوة هو ما إذا كان صالح بوسعه تقديم هذا النوع من الاستقرار، وما إذا كان هو، في حقيقة الأمر، العامل المتسبب في بقاء اليمن يعاني من عدم الاستقرار.

فالسجل التاريخي للرئيس صالح لا يشفع له في تحقيق الهدف المنشود، وحان الوقت فعليا للتفكير في بديل لحكمه في تلك الدولة. وهذا هو ما يناقشه السعوديون والأميركيون وقادة دول الخليج المعنية بالقضية، في وقت يتلقى فيه صالح علاجا من جراحه في مستشفي بالرياض.

ولكي يتحقق الاستقرار في اليمن فلابد من منهج خلاّق واسع الرؤى لا يقصر نظرته لمشكلات الدولة على تهديد القاعدة فقط. فاليمن اليوم على شفا انهيار سياسي واقتصادي نتيجة سوء الإدارة التي عانتها الدولة في عهد حكومة صالح التي استمرت 33 سنة. والمتهم الأول في ذلك ليس القاعدة بل عجز الحكومة المركزية وقصورها عن توفير العلاج الشافي لمرض عضال يعانيه المجتمع اليمني أبعده عن الاستقرار، وما عدم الاستقرار سوى أحد أعراض ذلك المرض.

والأمل الوحيد للوصول إلى حل طويل الأمد للأزمة اليمنية يكمن في حكومة ممثلة للشعب ومسؤولة أمامه. وهذا الأمل هو ما يسعى إليه المتظاهرون في شوارع البلاد، ولن يقبلوا بزعيم مستبد آخر يعيش على "صدقات" الولايات المتحدة ودول الخليج، في وقت يقوم فيه ذلك المستبد بسرقة ثروة البلاد وتدمير كافة أشكال الحوكمة المؤسسية. ولعل السجل السلبي الذي يحتفظ به صالح ويؤلف تراثه الطويل في الحكم هو المسؤول الآن عن توقف الولايات المتحدة ودول الخليج عن الاستمرار في التعاون معه بعدما تفاقمت إدارته السيئة للبلاد وحكمه المختل للدولة.
___________________
أستاذ بجامعة برينستون، قسم بحوث الشرق الأدنى، ترجم النص من الإنجليزية إلى العربية عاطف معتمد عبدالحميد.