حياد مصر إزاء الثورة الليبية: هل يضر بأمنها القومي؟

صحيح أن مصر منشغلة بإعادة بناء نظامها السياسي بعد سقوط نظام مبارك، إلا أن هذا لا يبرر غيابها عما يحدث في ليبيا؛ ذلك لأن متطلبات الأمن القومي المصري لا تسمح للقائمين على اتخاذ القرار بترف الحياد أو الاستمرار في موقف المراقبة والحذر.
1_1071498_1_34.jpg

 

محمد مجاهد الزيات

إن التطورات التي تشهدها ليبيا تعد عنصرًا أساسيًا من عناصر الأمن القومي المصري، فما يحدث داخل هذا البلد من مواجهات بين الثوار الليبيين ونظام القذافي، والتدخل الخارجي، وتحركات العديد من القوي الإقليمية لترتيب الأوضاع، وتحديد مستقبل وطبيعة وتوجهات الدولة الليبية القادمة، يمثل شأنًا مصريًا بالدرجة الأولي؛ فمصر لها حدود طويلة مع ليبيا، وهي الطرف الأول المعني بما يجري خلف هذه الحدود خاصة أن هناك امتدادا لتجمعات شعبية تترابط اجتماعيا وتنتشر على جانبي الحدود، ولا شك أن كل هذه التحركات والمواقف تحمل معها الكثير من المخاطر التي يجب علي مصر الانتباه لها والانشغال بها؛ ذلك لأن متطلبات الأمن القومي المصري لا تسمح للقائمين على اتخاذ القرار في مصر بترف الحياد أو الاستمرار في موقف المراقبة والحذر.

مصر مطالبة باتخاذ مواقف أكثر تحديدًا وإيجابية من الثورة الليبية، ولا يصح أن يكون الحديث عن حماية الجالية أو العمالة المصرية التي لا يزال بعضها في ليبيا العامل الحاكم في الموقف المصري.
لقد رضيت مصر خلال السنوات الأخيرة بالانسحاب من ممارسة دورها الإقليمي الذي كان  متاحا لها وكان يضيف لها ويضعها ضمن الفاعلين والمؤثرين في التطورات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، وقد ارتبط ذلك بتصور النخبة السياسية الحاكمة خلال الفترة الماضية أن مصالح مصر تقتضي الانشغال بالداخل؛ فتركت مصر الساحة لقوى إقليمية أخرى لها مشاريعها السياسية، والإستراتيجية فتنامى دورها داخل المنطقة علي حساب المساحة المتاحة للدور المصري، وبدت مصر متوافقة مع سياسات دولية، خاصة الأميركية، والتي حددت إطار الحركة السياسية المصرية في المنطقة بما يتوافق مع إستراتيجيتها هي، وانتهى الأمر بغياب الدور الفاعل والقائد لمصر حين كان العرب في حاجة إليه؛ مما أدى إلى إضعاف الموقف العربي وقدرته على الفعل في العديد من البلدان كالعراق، والصومال، والسودان.

صحيح أن مصر منشغلة بإعادة بناء نظامها السياسي بعد سقوط نظام حسني مبارك، إلا أن هذا لا يبرر غيابها عما يحدث في ليبيا؛ وذلك للأسباب التالية:

  • لأن التداخل القبلي والسكاني علي جانبي الحدود المصرية الليبية سواء في الشمال أو المنطقة الوسطي يعني أن ما يجري في ليبيا وبصفة خاصة في المنطقة الشرقية يؤثر بصورة مباشرة ويمس الأمن القومي والمصالح المصرية بصورة كبيرة، ولعل ما ورد من تصريحات خلال المؤتمر الذي أقامته قبائل أولاد علي في مدينة مطروح في الأسبوع الأخير من شهر مايو/أيار الماضي، والتي تضمنت مطالبات بضرورة رحيل القذافي يؤكد أن التطورات التي تجري في ليبيا ليست شأنًا رسميًا مصريًا فحسب، ولكنها شأن شعبي مصري أيضا.

  • إن ليبيا بعد نجاح الثورة الليبية، وهو الأمر المرجح، سوف تسعي لتحقيق تنمية اقتصادية تتوافق مع قدراتها الاقتصادية التي كانت مهدرة، وهو ما يعني الاتجاه لبناء دولة تتوافق مع معايير الدول الحديثة الغنية في القرن الحادي والعشرين؛ وذلك من خلال التوجه لإنشاء مشروعات بنية أساسية ضخمة، وبالتالي فإن مجالات وفرص العمل التي يمكن أن تتاح للمصريين هناك ستكون واعدة وتتجاوز ما كان متاحًا خلال حكم القذافي، وهي الفرص التي كانت تتأرجح سلبًا وإيجابًا طبقًا لتوجهاته السياسية المتناقضة.

  • إن الاستغلال الأمثل للثروات في ليبيا (الجديدة) سوف يؤثر إيجابيا علي زيادة فرص الاستثمار في السوق المصرية على اعتبار أنها أقرب الأسواق لليبيا، وتتوافر في مصر الثورة فرص استثمارية كبيرة ضمن قواعد وضوابط أكثر شفافية، وهو هدف اقتصادي تسعى إليه مصر حاليا وتحتاجه. كما يمكن أن تحظى منطقة الحدود المشتركة بنهضة تنموية تنعكس في مشروعات تعمير وانصهار شعبي كبيرين، وإنشاء طرق برية وسكك حديدية تربط البلدين.

  • إنه من الطبيعي عندما تتصدر القوى الثورية الجديدة دوائر صنع القرار في كل من مصر وليبيا أن يتوافر مناخ من الثقة، وأرضية أكثر ملائمة للتنسيق والتعاون السياسي والاقتصادي، من المرجح أن يرسي هذا المناخ قواعد أكثر إيجابية وفاعلية واستقرارا مما شهدته العلاقات الثنائية في السنوات الماضية، ويمكن أن تؤسس هذه الأجواء لنوع من التكامل الذي يمثل نموذجا للتعاون بين الدول العربية التي شهدت تغييرا ديموقراطيا يفتح الباب أمام التكامل العربي الجماعي مستقبلا.

  • إن زيادة الحضور المصري في التطورات الليبية سوف يتيح لمصر تأثيرًا خارجيًا وإقليميًا، ويوفر لها امتلاك أوراق مساومة في تعاملها مع القوى الدولية والإقليمية ذات الاهتمام بليبيا، وهو ما ينعكس بالضرورة علي علاقات ومواقف تلك الدول مع مصر، ويؤكد في النهاية على أن الدور الإقليمي لمصر يجب أن يكون محوريا، وأن تكون مصر طرفا فاعلا في القضايا المهمة بالمنطقة.

  • إن مصر مطالبة باتخاذ مواقف أكثر تحديدًا وإيجابية من الثورة الليبية، ولا يصح أن يكون الحديث عن حماية الجالية أو العمالة المصرية التي لا يزال بعضها في ليبيا العامل الحاكم في الموقف المصري. فإن من الطبيعي أن يكون موقف مصر الثورة أكثر تفهما لتطلعات ومطالب الثورة الليبية.

زيادة الحضور المصري في التطورات الليبية سوف يتيح لمصر تأثيرًا خارجيًا وإقليميًا، ويوفر لها امتلاك أوراق مساومة في تعاملها مع القوى الدولية والإقليمية ذات الاهتمام بليبيا.
ولعل من المفيد لمصر القيام بمبادرات وتصورات لوقف الحرب الجارية في ليبيا، وأن تسعى من عبر الجامعة العربية لتوفير غطاء عربي من خلال مبادرة يتم خلالها تحديد فترة زمنية لرحيل القذافي، وإذا لم يلتزم بها تتخذ الجامعة قرارًا بالاعتراف بالمجلس الانتقالي للثورة الليبية، ويكون الموقف المصري هنا ضمن إطار جماعي عربي، كما أنه من الضروري -كما تفعل كل دول العالم في مثل هذه الظروف- تكثيف الوجود العسكري المصري علي الحدود المشتركة، وهو حق شرعي لمصر لضبط هذه الحدود، كما أن هذه الخطوة يمكن أن تفسَّر على أنها نوع من الدعم المعنوي للثوار الليبيين هم في حاجة إليه الآن.

وإذا كان من الطبيعي أن يؤدي الانشغال المصري بالظروف الداخلية إلى الحد بصورة كبيرة من قيام القاهرة بمبادرات منفردة علي هذا المستوي، فإنه من المتاح -في ظل هذه الظروف- أن تدعم مصر المواقف المؤيدة للثورة الليبية، وأن يكون لها اتصالات مكثفة بكافة فصائلها، وينبغي أن تسمع مصر من الثوار ولا تسمع عنهم؛ فنظام القذافي راحل إن عاجلا أو آجلا وليبيا وثورتها هي الباقية، وأن تدخل في حوارات مع القوى الدولية المعنية بالشأن الليبي لامتلاك التأثير المستقبلي في التطورات الليبية، فلا تملك مصر مهما كانت ظروفها -كما سبق القول- ترف الغياب عن تحديد مستقبل الأوضاع في ليبيا، وليس من مصلحتها أو من مقتضيات الأمن القومي المصري بمعناه الشامل الوقوف علي الحياد وانتظار المجهول.

إن الموقف في ليبيا يزداد خطورة ولا شك أن التدخل الدولي -وإن كان قد ساهم في تحجيم نفوذ وسلطة وقدرات نظام القذافي- يرتب في نفس الوقت لوضع جديد يؤثر في المنطقة كلها، وليس في ليبيا فقط، فمن المتوقع أن يزداد حضور واختراق أجهزة الأمن الأجنبية المعنية بليبيا والمنطقة تحسبًا لتطورات المستقبل، واستكشافا للتوجهات المستقبلية للنظام الثوري في ليبيا وكيفية استيعابها بما يحقق مصالحها، كما أن محاولات القذافي إثارة النعرات القبلية في ليبيا والتلويح المتكرر بها سوف يكون له انعكاساته المباشرة على مصر في النهاية؛ مما يفرض عليها التحسب له، وجميعها أمور تطرح تحديات مستجدة على الأمن القومي المصري، وتفرض ضرورة بلورة موقف مصري أكثر وضوحًا وانحيازًا لقوى الثورة الليبية.
وباختصار فإن على مصر أن تستفيد من اللحظة الإستراتيجية حتى لا تغيب عن التفاعلات الجارية في ليبيا مستقبلا.
__________________
خبير في شؤون الأمن القومي



نبذة عن الكاتب