إن المشهد الاقتصادي العربي يتميز في بداية عام 2012 بوجود متغيرات عديدة يصعب التكهن باتجاهاتها خلال السنة الجديدة ومدى تأثيرها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ويمكن تقسيم المتغيرات إلى متغيرات داخلية وخارجية تحتوي كل منهما على معطيات مختلفة: اقتصادية ومالية وسياسية، يصعب أيضًا التنبوء بتطورها خلال السنة الجديدة؛ لذا نرى أن معظم الدراسات الاستشرافية حول المنطقة كما حول التطورات الاقتصادية والدولية المحتملة تبقى حذرة ولا تُظهر إجمالاً تفاؤلاً نظرًا لضبابية الأوضاع في المنطقة وفي العالم، كما يظهر جيدًا من قراءة جزء من دراسة البنك الدولي المخصص لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في دوريته حول "التوقعات الاقتصادية الإجمالية" (1)، وكذلك الجزء الخاص بالمنطقة في آخر تقرير لصندوق النقد الدولي حول المشهد الاقتصادي العالمي المستقبلي والمعنون: "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: الاتجاه الجمودي في خضمّ أوضاع غير معروفة النتائج" (2).
لكل هذه الأسباب يصعب طرح سيناريوهات مستقبلية محتملة في المنطقة العربية، خاصة بعد موجة الانتفاضات الشعبية الواسعة التي امتدت من الخليج إلى المحيط خلال عام 2011، وهي ما تزال تتفاعل في بعض الدول دون أن نتمكن من التنبوء بما ستؤول إليه. كما أن تفاعلات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية ما تزال قائمة خاصة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي ترتبط بها المنطقة العربية بعلاقات مالية واقتصادية مكثّفة، لها تأثير كبير على الاقتصادات العربية كما سنرى فيما يلي. هذا مع الإشارة إلى ضرورة قيام الاستشراف المستقبلي على أساس تقسيم المنطقة العربية إلى مجموعة دول المشرق العربي من جهة، ودول المغرب العربي من جهة أخرى، لما لهاتين المجموعتين من الدول من موقع مختلف في الاقتصاد الدولي والإقليمي وممّيزات خاصة بكل واحدة منهما.
المعطيات العامة للمشهد الاستشرافي
هناك عاملان أساسيان لرسم أية نظرة مستقبلية للمنطقة العربية:
-
أولاً: تطور أسعار النفط، كونها مؤثرة للغاية في إيقاع معدلات نمو المنطقة العربية، وهذا التطور مرتبط بدوره بحالة الاقتصاد العالمي وبشكل خاص اقتصادات الدول الغربية.
-
ثانيًا: التطورات السياسية في المنطقة على إثر الانتفاضات المختلفة التي حصلت في أقطار عربية عدة والتي ما تزال تتفاعل، بل تنفجر إلى أحداث دموية كما كان الحال بالنسبة إلى ليبيا، وكما هو الحال في سوريا واليمن إلى الآن. أضفْ إلى ذلك الحالة المتوترة بشكل متزايد في العراق حيث تلوح في الأفق مشاكل سياسية ودستورية ما تزال تأخذ الطابع المذهبي. هذه المتغيرات الخارجية المتعلقة بأسعار الطاقة والوضع الاقتصادي في الدول الغربية والمتغيرات العربية الداخلية السياسية يمكن أن تؤثر سلبًا على الأوضاع الاقتصادية العربية، خاصة وأن هذه الأوضاع لم تستتب بعدُ في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين والأردن.
ويمكن هنا لتكملة المشهد الاستشرافي الأوّلي أن نذكر زيادة التوتر المتواصل بين الولايات المتحدة وإيران، وتهديدات هذه الأخيرة بإقفال مضيق هرمز في حال الهجوم العسكري أو تضييق الخناق عليها بالعقوبات الاقتصادية والمالية.
وعلى هذه الخلفية يصعب أن تكون التقديرات المستقبلية لهذا العام متفائلة، خاصة بعد أن كان عام 2011 سنة تباطؤ اقتصادي عام على الصعيد العالمي كما على صعيد المنطقة العربية، سواء بسبب الثبات النسبي لأسعار النفط المتأثرة بتباطؤ الاقتصاد العالمي، أم بالنسبة إلى ما أصاب العديد من الاقتصادات العربية من جرَّاء الانتفاضات والأوضاع السياسية المضطربة التي أخذت منحى دمويًا في بعض الأقطار. وكما ذكرنا سابقًا، يجب في هذا المسعى الاستشرافي أن نفرّق بين الأوضاع الاقتصادية في المشرق العربي وتلك السائدة في المغرب العربي.
دول الخليج قاطرة النموّ الاقتصادي في المشرق العربي
بالنسبة إلى المشرق العربي فإن قاطرة النمو الاقتصادي أصبحت معتمدة إلى حد بعيد على معدلات النمو في دول مجلس التعاون الخليجي حيث تستقبل هذه الدول أعدادًا كبيرة من اليد العاملة والمهنيين والمقاولين العرب لتأمين مقتضيات تسيير مرافقها الاقتصادية والمالية، العامة والخاصة. وهذه القوى العاملة هي التي بدورها تغذّي اقتصادات بلدان منشئها بتحويلاتها المالية سواء لمساعدة الأهل في الوطن أو للاستثمار فيه، خاصة في القطاعات المالية والعقارية والسياحية. والجدير بالذكر هنا أن حجم تحويلات المغتربين إلى كلّ من مصر ولبنان والأردن واليمن وسوريا قد ارتفع من 7.8 مليار دولار عام 2000 إلى 19.4 مليار دولار عام 2010 (3)؛ مما يدلّ على أهمية هذا التدفق المالي الذي يغذي مستوى الاستهلاك والاستثمار وارتفاع حجم الودائع المصرفية، وقد أصبح بالتالي عاملاً أساسيًا في آلية تكوين معدلات النمو في الدول المعنية.
وفي هذا الخصوص لابدّ من التذكير بأن اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي، وإن كان أداؤها في خضّم الأزمة المالية والاقتصادية الدولية متميزًا بالنجاح في تجنّب التراجع الحاد في معدلات النمو وتفادي تعثر عام في القطاع المصرفي والمالي (4)، إلا أنها عانت من تراجع في قطاع العقارات والإنشاءات الذي يلعب دورًا مهمًا ويستقطب القوى العاملة العربية. هذا مع الإشارة إلى أن الحكومات في عام 2011 قد اضطرت إلى زيادة الإنفاق الجاري في المالية العامة على حساب الإنفاق الاستثماري لأنها صرفت مبالغ كبيرة في منح زيادات أجور وحمايات اجتماعية إضافية لمواطنيها، بالإضافة إلى الخسارة التي مُنيت بها الصناديق السيادية لدول مجلس التعاون المستثمرة أموالها في البورصات الغربية، إلى جانب الخسارة التي حصلت في البورصات المحلية منذ عام 2006.
هذا ولابد من الإشارة إلى أن وكالات التصنيف الائتماني(Rating Agencies) قد تُقدِم في عام 2012 على تخفيض علامات بعض دول المنطقة مجددًا سواء بالنسبة إلى العلامة السيادية أو علامة متانة الأنظمة المصرفية، كما حصل في عام 2011، مع العلم أن مثل هذا التخفيض قد يؤثر بشكل هامشي بالأرجح، نظرًا لقلة اندراج دول المنطقة في حركة العولمة المالية والإمكانيات الذاتية التي ما تزال كبيرة في العديد من الدول العربية المصدِّرة للنفط والتي بإمكانها دعم أنظمتها المصرفية وكذلك مساعدة الدول العربية المحتاجة إلى السيولة بالعملات الأجنبية.
غير أن احتمالات ارتفاع أسعار النفط في عام 2012، في حال تحّسن الأوضاع الاقتصادية في الدول الغربية، وضرورة تحفيز النمو في دول مجلس التعاون سيؤدي في الأرجح إلى زيادة الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية مما سيساهم في تنشيط القطاع الخاص وربما في طلب المزيد من القوى العاملة من دول المشرق العربي، كما المزيد من السلع الاستهلاكية المنتَجة في تلك الدول. وهذا ما سيساعد على الحؤول دون المزيد من التدهور الاقتصادي في دول المشرق العربي خارج منطقة مجلس التعاون -أي في مصر ولبنان والأردن وسوريا- حيث تراجعت الحركة السياحية بشكل كبير وهي تكوّن مصدر نموّ واستخدام مكثّف لليد العاملة ومصدر تدفق عملات أجنبية.
وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى أنّ تطبيق عقوبات اقتصادية على سوريا لابدّ من أن يزيد من الاتجاهات الانكماشية في الدول المجاورة، وبشكل خاص الأردن ولبنان نظرًا لاعتماد هذين البلدين إلى حدٍّ بعيد على التصدير إلى السوق السوري أو إلى الأسواق العراقية والخليجية عبر الأراضي السورية. هذا مع الإشارة إلى أن احتمال انضمام الأردن إلى مجلس التعاون الخليجي قد يكون عاملاً إيجابيًا بالنسبة إلى الاقتصاد الأردني الذي سيستفيد من السوق الاقتصادي الموحَّد لدول المجلس.
أما من ناحية العوامل السلبية الأخرى التي يمكن أن تؤثر على اقتصادات المشرق العربي (خارج دول مجلس التعاون)، فلابدّ من ذكر الأوضاع المالية والنقدية والمصرفية وذلك تحت تأثير عوامل عدة، نذكر منها هنا استنزاف احتياطات بعض المصارف المركزية من العملات الأجنبية بسبب الاضطرابات السياسية، وعدم ثقة كبار رجال الأعمال في المستقبل الاقتصادي لبلدهم، وتحويل أموالهم للخارج، هذا بالإضافة إلى الضغوطات الأميركية التي مورست أيضًا على الجهاز المصرفي اللبناني حتى لا يتلقى إيداعات المواطنين السوريين، أو الاتهام الأميركي أيضًا لأحد المصارف اللبنانية بتبييض الأموال مما أدىّ إلى تصفيته ودمج أصوله بمصرف آخر.
كل تلك العوامل بدأت تؤثر سلبًا على أداء البورصات في لبنان والأردن ومصر خلال عام 2011، خاصة فيما يتعلق بتدني حجم المتاجرة بالأسهم والقيمة السوقية للأسهم. وهناك احتمال بألا تشهد سنة 2012 تحسنًا يُذكَر بل قد تستمر البورصات في كل من هذه الدول الثلاثة في حالة تراجع في القيمة السوقية للأسهم المدرجة كما في قيمة التداول. زِد على ذلك استمرار، بل توسع، رقعة البطالة خاصة عند العنصر الشاب (ما بين 15 و35 سنة) وبشكل خاص متخرجي الجامعات نتيجة التباطؤ العام في معدلات النمو، واستنكاف القطاع الخاص عن القيام باستثمارات جديدة، بالإضافة إلى عدم تغيير البنية الاقتصادية التي ما تزال متميزة بقلة الاستثمار في ميادين إنتاج السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية والتي تتطلب الإنفاق الكبير من قبل القطاع الخاص على الأبحاث والتطوير ضمن منظومة متكاملة لتشجيع العلم والتكنولوجيا والابتكار الإنتاجي لكي يتم القضاء على الجوانب الريعية في الاقتصادات العربية المعنية؛ مما يفتح المجال أمام تنوع النشاطات الاقتصادية خارج القطاعات التقليدية التي تستأثر بـ 80% من استثمارات القطاع الخاص وهي القطاع العقاري والمالي والسياحي وقطاع المقاولات المرتبط بها.
التطورات المحتملة في المغرب العربي
أما في المغرب العربي، وضمن الرؤية سابقة الذكر، فإن الأوضاع الاقتصادية المستقبلية يمكن أن تتطور على اتجاهين مختلفين، وذلك حسب ما ستؤول إليه الأوضاع في كلٍّ من أوروبا وليبيا، وهما الاقتصادان الأكثر تأثيرًا على اقتصاد تونس والمملكة المغربية التي يُستبعد أن تنضم إلى مجلس التعاون الخليجي. والجدير بالذكر هنا أن الاقتصاد الليبي كان يتكل على الأيدي العاملة الأجنبية إلى درجة كبيرة وبشكل خاص على القوى العاملة التونسية (والمصرية كذلك)، كما أن ليبيا كانت تستورد العديد من السلع والخدمات من جارتها تونس؛ لذلك فإن عودة الأوضاع السياسية في ليبيا إلى الهدوء والاستقرار من شأنه أن يدعم الاقتصاد التونسي إلى حد بعيد، خاصة وأن تونس كانت تصدّر القوى العاملة إلى ليبيا، وكانت تستفيد من التحويلات الغزيرة لمهاجريها من هذا البلد كما من الدول الأوروبية حيث تراجع النشاط الاقتصادي مما أثّر سلبًا على حجم التحويلات من قبل المغتربين التونسيين.
ومن جهة أخرى، لابدّ من ذكر أن أهم سوق للسلع التونسية والمغربية هي في دول الاتحاد الأوروبي التي تمر بأصعب فترة تراجع اقتصادي منذ انفجار الأزمة المالية والاقتصادية الدولية عام 2008، بالإضافة إلى أزمتها المصرفية والمالية الناتجة عن قضية الديون السيادية لبعض الدول الأعضاء فيها؛ لذلك لا يمكن لدول المغرب العربي أن تعقد الآمال على معدلات نموّ عالية في الاقتصاد الأوروبي. وتجدر الإشارة، إلى الصعوبات المالية التي قد تعاني منها تونس، والمغرب بدرجة أقل لأن الأمور السياسية أكثر استتبابًا فيها. أما الجزائر، وإنْ لم تمر بانتفاضات شعبية واسعة النطاق، فإن سياستها الاقتصادية والمالية لم تؤد إلى أي تحسن في أوضاعها الاجتماعية أو إلى التنوع في النشاطات الاقتصادية؛ بل إن قطاع النفط ما يزال مهيمنًا على التطور الاقتصادي فيها دون حصول أي تغيير نوعي في آليات النمو الاقتصادي وتراجع حدة البطالة لدى العنصر الشاب فيها.
لكل هذه الأسباب فإن العودة إلى إحياء اتحاد المغرب العربي قد تكون أحد الاتجاهات المرجوة لتفادي المزيد من التدهور الاقتصادي والاجتماعي في تلك الدول؛ مع العلم أن قضية الصحراء الإسبانية –سابقًا- ما تزال تعكّر العلاقات السياسية والاقتصادية بين الجزائر والمغرب حيث الحدود البرّية بين البلدين ما تزال مقفولة.
يبقى أن دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ستقدم مزيدًا من المساعدات المالية إلى دول المغرب العربي (وبشكل خاص تونس) وإلى مصر تأييدًا للمسار الديمقراطي في هذه الدول حسب وعود قمة "دوفيل" المنعقدة في فرنسا في مايو/أيار 2011 دعمًا للثورات الديمقراطية العربية (5)، كما ستقدم المشورة الفنية على جميع المستويات إلى ليبيا. غير أن تلك المساعدات -كما هو معلوم- تكون مشروطة بالوصفات النيوليبرالية التقليدية أو بشروط سياسية (مرئية وغير مرئية)، وهي مساعدات يتمّ تقديمها ببطء شديد في كثير من الأحيان.
وفي الحقيقة إنه لمن المستغرب هذا الاتكال على المساعدات المالية الغربية والمشورة التقنية في حين تضمّ هذه المجموعة الإقليمية المغربية دولتين نفطيتين مهمتين، هما: ليبيا والجزائر، لهما قدرات مالية كبيرة يمكن أن تُستَثمر في تعبئة الموارد البشرية تعبئة كاملة ضمن خطط للتكامل الاقتصادي فيما بينها، وضمن منظومة تشجيع الإنتاجية والتنويع الاقتصادي. وتتمتع أيضًا دول المغرب العربي كما دول المشرق العربي بكفاءات بشرية مهمة ذات قدرات علمية وتقنية عالية، ويهاجر الجزء الأكبر من هذه النخبة إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا في ظل فقدان فرص العمل التي تليق بكفاءتها وتؤمِّن لها ظروف الحياة الكريمة في المجتمعات العربية.
نحو تغيير بنية النظام الاقتصادي العربي وآليات النموذج التنموي
يمكن القول: إن النجاح السلمي للثورات العربية مرتبط إلى حدّ بعيد بتغيير النظام الاقتصادي العربي ككل وهو بدوره مرتبط بالقاطرة الخليجية التي يحدد سرعتها وقدرتها تطوّر مستوى أسعار النفط والبتروكيماويات عالميًا، واستتباعًا لديمومة هذه الظاهرة قد يتعمّق في المنطقة العربية، مشرقًا ومغربًا، نموذج اقتصادي ريعي يحول دون دعم إنتاجية الاقتصاد وتنويعه عبر إقامة أنظمة محلية وإقليمية عربية تهدف إلى إنشاء منظومة متكاملة للابتكار (National Innovation System). وفي غياب مثل هذه المنظومة يستحيل استنفار الرأس المال البشري العربي في نموذج اقتصادي بديل عن النموذج الريعي السائد يستلهم قواعده من التجربة الناجحة لدول شرق آسيا (كوريا الجنوبية- تايوان- سنغافورة- تايلاند- ماليزيا)، بدلاً من الخضوع إلى وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وسائر مؤسسات التمويل الدولية، وهي وصفات مسؤولة إلى حدٍّ ما عمّا آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العديد من الدول العربية، لتجاهلها مشاكل الاقتصاد الحقيقي والتركيز خاصة على خفض دور الدولة، ووضع عبء تحرير الاقتصاد على الفئات محدودة الدخل حصرًا.
والحقيقة أن التغيير المطلوب بالنظام الاقتصادي العربي يقتضي من اقتصادات المشرق والمغرب العربي، كما في دول مجلس التعاون الخليجي كإحدى القاطرات الرئيسية للاقتصادات العربية وبشكل خاص اقتصادات المشرق العربي، أن تدخل في عهد جديد من الوعي الاقتصادي لمعالجة أهم نقاط الضعف التي تعوق إرساء دعائم تنمية مستدامة تشمل جميع القطاعات الاقتصادية، بما فيها القطاع الزراعي المهمَل إلى حدّ بعيد رغم إمكانياته، وتشمل أيضًا الاعتناء بالعنصر الشاب، ذكورًا وإناثًا، الذي بدلاً من أن يكون قاطرة النموّ الرئيسية وحافزًا للنموّ والاستهلاك كما هو الحال عادةً في مسار التطّور الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، قد أصبح عبئًا على الاقتصادات العربية. ومردّ ذلك إلى أن الآليات الاقتصادية العربية أسيرة نموذج اقتصادي يتكل على مصادر ريع وليس على تجهيز الموارد البشرية من أجل الإنتاج الابتكاري في السلع والخدمات ذات القيمة المضافة العالية.
إن هذا النموذج لا يلبي مقتضيات أسواق العمل لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الشباب العرب الذين يدخلون هذه الأسواق سنويًا (6). وكما هو معلوم فإن أهم أسباب الانتفاضات الشعبية العربية صرخة العنصر الشاب الذي تُترك قدراته وإمكانياته دون الاستفادة منها في خدمة تنمية بلده. وفي كثير من الاقتصادات العربية تظهر أوضاع شاذة حيث تُستورد القوى العاملة الأجنبية من الخارج في بعض الدول أو، على العكس، تُصدَّر القوى العاملة المحلية بما فيها الكفاءات العالية إلى دول أخرى. وهذه الآلية بدورها تصبح جزءًا من النظام الريعي العام عبر تدفق التحويلات مع ما يترتب على هذه الظاهرة من مشاكل اجتماعية كبيرة سواء في الدول المصدِّرة للعمالة أو الدول المستوردة لها.
ومما يزيد الطين بلّة، ما يشوب توزيع إيرادات مصادر الريع من عدم عدالة وتركز ثروات هائلة في أياد قليلة، وعلاقات الفساد والإفساد بين القطاع العام والقطاع الخاص؛ مما يؤدي إلى غياب القدرة التنافسية للاقتصادات العربية نظرًا لتركز الاستثمارات في القطاعات الريعية المذكورة سابقًا وتجنبّ الاستثمار الخاص، المحلي أو الخارجي، القطاعات ذات القيمة المضافة العالية. ومن أجل تغيير هذا النمط المشوِّه للتنمية الاقتصادية العربية، لابدّ من العمل على إقامة المنظومة الابتكارية التي أشرنا إليها سابقًا ضمن أهداف قُطرية، في إطار تكامل اقتصادي عربي، للدخول في عالم الإنتاج الذي وحده يمكن أن يؤمِّن فرص العمل المطلوبة في المنطقة العربية.
وفي هذا المجال، فإن العامل الأساسي هو تحويل نوعية العلاقة بين القطاع العام والخاص من علاقة مبنية على تقاسم الريع النفطي والعقاري والمالي إلى توليد الريع الذي يمكن أن يتأتى من ابتكار سلع وخدمات ذات قيمة مضافة عالية وبالتالي محتوى تكنولوجي ابتكاري.
إن قضية تدنّي الإنتاجية في الاقتصادات العربية، وغياب القدرة التنافسية في الأسواق العالمية أصبحت شائعة ومعروفة ومدار اهتمام الأوساط الاقتصادية الدولية (7). غير أن وطأة المنظومة الاقتصادية العربية السائدة والجامدة -كما وصفناها هنا باقتضاب- تُفشل المبادرات من أجل معالجة غياب هذه القدرة التنافسية أو تُبقي نتائجها وفعاليتها محدودة نظرًا لتجزئها وشرذمتها (8).
إن هذه العملية ليست بالسهلة بسبب طغيان الريع النفطي والعقاري والمالي وريع تحويلات المغتربين الغزيرة في المنطقة، بالإضافة إلى الاستفادة من حركة سياحية كبيرة ومتزايدة (قبل الانتفاضات العربية) تُوفر بعض فرص العمل، إنما قيمتها المضافة قليلة ومحتواها التقني محدود للغاية. أما التوسع في البتروكيماويات والأسمدة فهو جزء من توسيع طغيان القطاع النفطي أو المنجمي على الاقتصاد، وليس تنويعًا للنشاطات الاقتصادية، خاصة وأنه قطاع متكل على تكنولوجيات الشركات متعددة الجنسيات، كما أنه مرتبط بأسواق التصدير المتقّلبة باستمرار. وإذا كان يتزايد شيئًا فشيئًا الوعي بأن النموذج التنموي العربي الحالي لا يلبي حاجيات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العربية ويجب تغييره، فإن الجهود ما تزال مجزَّأة ومشتَّتة وغير مرتبطة فيما بينها داخل القُطر الواحد كما بين الأقطار.
_________________________
جورج قرم-باحث لبناني ووزير مالية سابق
المراجع
1- انظر Global Economic Prospects, The World Bank, Washington D.C, June 2011, pp. 101-114
2- World Economic Outlook, IMF, Washington D.C, September 2011, pp. 96-99
3- World Development Indicators, The World Bank,(on line) http://databank.worldbank.org
والجدير بالذكر هنا أن تحويلات المغتربين إلى دول المغرب العربي قد زادت من 3.74 مليار دولار عام 2000 إلى 10.43 عام 2010.
4- انظر: جورج قرم، "اتجاهات الأزمة الاقتصادية العالمية وتأثيراتها على اقتصادات دول الخليج"، مركز الجزيرة للدراسات، 10/10/2010 –
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/78FB8010-7EA2-4375-B9E9-6A4BA6FBC25B.htm
5- انظر: جورج قرم، " المساعدات الاقتصادية لمصر وتونس: اصطياد الثورات بشباك التبعية"، مركز الجزيرة للدراسات"، 11/6/2011-
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/E489F5E4-1DF1-468F-9C11-194E34DBF8C8.htm
6- انظر في هذا الخصوص: جورج قرم، التنمية المفقودة. دراسات في الأزمة الحضارية والتنموية العربية، دار الطليعة، بيروت، 1985، وكذلك العرب في القرن الحادي والعشرين من فراغ القوة إلى قوة التغيير، الفصل V-3 "مدخل إلى الاقتصاد الريعي في الوطن العربي"، ص 236-348، دار الطليعة، بيروت، 2011.
7- Arab World Competitiveness Report 2011-2012, World Economic Forum and OECD, www.weforum.com
8- UNESCO Science Report, 2000 and 2010, Paris وأيضًا Arab Knowledge Report 2009, Mohamad bin Rachid Al Maktoum Foundation and UNDP, Dubai 2010