المشهد السياسي العربي 2012: إقليم مضطرب

سيظل الاضطراب السمة الأبرز في المشهد السياسي العربي، وستنشغل معظم دوله بهمومها أو بتحولاتها الداخلية وتهدئ جبهتها الخارجية، وستنتهز إسرائيل ذلك في فرض سياسة الأمر الواقع. وليس من المرجح أن يعرف العام حربا على إيران لأن تكلفتها الاقتصادية لا تحتمل.
15 يناير 2012
201211512535515734_2.jpg

شكَّل الاضطراب السياسي في الوطن العربي خلال عام 2011 سمة مركزية للمشهد العربي، ويبدو أن تداعيات هذا المشهد ستتواصل في العام 2012، غير أن تواصلها لن يكون مُنْبَتًّا عن تداعيات تفاعلاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ أخرى.

وعند محاولة استشراف ظاهرة سياسية معينة، فإن التركيز على الأحداث أو الوقائع (events) لن يكون مجديًا ما لم يتم تركيز التحليل على الاتجاه العام (trend) لمسار الظاهرة، وهذا يعني تجاوز التباينات في إيقاع أو مستوى الحدث بين دولة وأخرى أو قطاع وآخر، والتركيز على "السمة العامة" التي تصطبغ بها الظاهرة، دون إغفال لخصوصية بعض الأحداث التي تشكل نقطة تحول في مسار الظاهرة كالربيع العربي.

استنادًا لما سبق، نطرح التساؤل الرئيسي وهو ما هي الاتجاهات الكبرى للتطور السياسي لعام 2011 والتي ستترك تداعياتها لعام 2012؟

يمكن رصد عددٍ منها:

أولاً: تداعيات الربيع العربي

دون الدخول في تفاصيل المؤشرات التي تقف وراء عدم الاستقرار السياسي في الدول العربية، فإن الأسباب البنيوية لعدم الاستقرار تتباين حدتها من دولة لأخرى، وهو ما يتضح من الجدول التالي لعدم الاستقرار خلال الفترة حتى عام  2011، استنادًا لمؤشرات اقتصادية وسياسية واجتماعية:

عدم استقرار عال جدًّا

80 -100

عدم استقرار عال

60-79

عدم استقرار نسبي

40-59

عدم استقرار بسيط

أقل من 40

اليمن

90،7

ليبيا

78،1

الأردن

59،7

-

-

السودان

87،9

مصر

74،7

تونس

52،3

-

-

 

 

العراق

73،6

لبنان

49،2

-

-

 

 

سوريا

72،9

الإمارات

43،90

-

-

 

 

موريتانيا

71،1

الكويت

42،7

-

-

 

 

الجزائر

69،5

قطر

41

-

-

 

 

عمان

65،8

 

 

-

-

 

 

البحرين

63،3

 

 

-

-

 

 

السعودية

61،2

 

 

-

-

 

 

المغرب

60،9

 

 

-

-

ويشير الجدول أعلاه إلى أن الدول العربية التي وقعت ضمن خانة "عدم الاستقرار العالي جدًّا وعدم الاستقرار العالي" هي التي يتناسب موقعها في التصنيف مع ما حدث من تغيرات سياسية فيها باستثناء تونس التي وقعت ضمن دول عدم الاستقرار النسبي، وتشكِّل دول عدم الاستقرار النسبي ما نسبته حوالي 8% من مجموع سكان الدول العربية؛ ذلك يعني أن عدم الاستقرار العالي جدًّا والعالي يشمل 92% من العرب، الأمر الذي ستفيض آثاره على القطاعات الاقتصادية والاجتماعية في كل الدول العربية، ونقصد بذلك التنوعات الاجتماعية (الأقليات) ومعدلات الدخل.

ومن الضروري أن نحدد سمات الحراك السياسي العربي لنبين أن هناك قواسم مشتركة بين الدول العربية والعالم في جانب عدم الاستقرار، بينما هناك خصوصيات للاضطرابات العربية على النحو التالي:

1- شمل الاضطراب السياسي كلاًّ من تونس وليبيا ومصر واليمن والبحرين وسوريا، كما استمر العنف السياسي في العراق والسودان، وهو ما يعني أن 51,8% من المجتمع العربي عاش اضطرابًا سياسيًا حادًا، وإذا أخذنا مقاييس الاستقرار المتداولة عالميًا (مؤشرات الإيكونوميست وصندوق الديمقراطية ودول في خطر.. إلخ)(1)، فإن مؤشرات عدم الاستقرار(حوالي 23 مؤشرًا) تزايدت في 150 دولة من أصل 165 دولة جرى قياسها، أي أن الاضطراب يتزايد في 91% من دول العالم منذ 2007-2011.

ذلك يعني أن الاضطراب العربي ليس منفصلاً عن سياق عالمي، غير أن شكل عدم الاستقرار يتباين طبقًا للظروف الذاتية لكل دولة، فهناك 39 حربًا أهلية (أو دولية) في عام 2011، منها ست دول عربية تعيش اضطرابًا حادًا.

وعند مقارنة الوطن العربي بغيره من الأقاليم العالمية، نجد أن معدل عدم الاستقرار هو الأعلى مع إفريقيا؛ مما يعني أن عدم الاستقرار سيتواصل في المنطقة العربية بأشكال مختلفة، طبقًا لما سنبينه في الفقرات اللاحقة، وهو ما يوضحه الجدول التالي:

معدل الاستقرار في أقاليم العالم

الإقليم

معدل الاستقرار

أوروبا الغربية

1,54

أميركا الشمالية

1,71

أوروبا الشرقية والوسطى

2

آسيا الباسيفيكية

2,07

أميركا اللاتينية

2,09

الشرق الأوسط

2,23

إفريقيا (جنوب الصحراء الكبرى)

2,25

ولو أردنا استخدام بعض مقاييس المراحل الانتقالية للدول المضطربة طبقًا لبعض الدراسات المستقبلية، فإن عمليات التحول الكبرى في البنية السياسية لدولة معينة تحتاج لمرحلة انتقالية تتراوح بين 10 شهور كحد أدني و100 شهر للحالات الأعلى حدة، ويتم تصنيف درجة الحدة طبقًا لمستوى مؤشرات عدم الاستقرار، وعليه فإن الدول العربية التي تشهد اضطرابًا تحتاج لفترات انتقالية على النحو التالي (مع ملاحظة أن التغير في أشخاص الحكم وتوجهاتهم أسرع إيقاعًا من التغير الاقتصادي، كما أن البنية السياسية تتباين من دولة لأخرى):

المراحل الانتقالية المتوقعة للدول العربية المضطربة

 الدولة

فترة الاستقرار السياسي (بالأشهر)

فترة التعافي الاقتصادي (بالأشهر)

السودان

80

أكثر من 80

العراق

75

80

اليمن

65

80

سوريا

35

45

مصر

50

80

تونس

30

35

ليبيا

45

40

2- التوجهات الخارجية للدول العربية: فمن خلال تحليل 1000 (ألف) لقطة للمظاهرات في الدول العربية، تم اختيارها بطريقة عشوائية من عدة محطات فضائية رئيسية  خلال الفترة من يناير/كانون الثاني إلى أول ديسمبر/كانون الأول 2011، تبين لنا ما يلي(2):

  • 71% من اللافتات مرتبطة بالموضوع الديمقراطي (السياسي والاقتصادي).
  • 14% من اللافتات مرتبطة بموقف عدائي (أو ودي) من القوى الخارجية أو دعوات للتدخل الخارجي (88 لافتة ضد روسيا والصين، 34 ضد الناتو بشكل عام، 18 ضد الولايات المتحدة).
  • 9% من اللافتات تتضمن دعوات تحريض طائفي أو ما له صلة بحقوق أقليات.
  • 6% من اللافتات فيها شعارات لها علاقة بالقضية الفلسطينية.

ذلك يعني أن الهم الداخلي سيبقى طاغيًا على الحوارات الداخلية العربية، بينما ستبقى السياسات الخارجية أقل اهتمامًا، وهو ما يعني أن القضية الفلسطينية قد تضررت على المدى القصير لكنها قد تكون أكثر استفادة على المدى المتوسط والبعيد، أي أن القضية الفلسطينية لن تكون في عام 2012 موضع عناية كبيرة من الدول العربية (باستثناء التطورات الحادة أو المناقشات في الأمم المتحدة والجامعة العربية)، وهو ما قد تستغله إسرائيل إلى الحد الأقصى.

ويشير الحوار الذي أجراه راشد الغنوشي في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 في معهد واشنطن للشرق الأدنى ، وعلمه أنه مركز ذو ميول صهيونية، إلى رغبة الزعيم الإسلامي التونسي في تفادي الموقف الصراعية خارجيا، خاصة مع القوى الكبرى، من أجل التركيز على المشاغل الداخلية.

فإذا أضفنا إلى ذلك تصريحات برهان غليون حول قطع العلاقات الإستراتيجيةع مع حركتي حماس وحزب الله، تأكدت نتائج تحليلنا لشعارات الثورات العربية على الأقل للمدى القصير أو المباشر.

3- أن المؤسسة العسكرية العربية ما تزال العامل الحاسم لنجاح التغيرات السياسية العربية؛ فالدول التي تدخَّل فيها الجيش إيجابيًا مع الشارع تم التغيير فيها بشكل سريع وبأقل قدر من الخسائر، بينما بقي الصراع قائمًا في الدول التي لم يتخل فيها الجيش عن النظام.

ذلك يعني أن الديمقراطيات العربية الجديدة ما تزال "أسيرة" المؤسسة العسكرية بمستوى أو آخر، لكن وزن الشارع أصبح أكثر بشكل ملحوظ في الثورات العربية المعاصرة.

يترتب على هذه الظاهرة أن المؤسسة العسكرية قد تعود إلى المقدمة مرة أخرى في بعض الدول العربية سواء لضبط إيقاع التغير أو اجتثاثه.

ومن المؤكد أن النظرة التفصيلية إلى الدول العربية تكشف بعض تفاصيل الحراك في بعض الدول العربية؛ مما يستدعي تقسيم نماذج الحراك إلى عدة أنماط:

النموذج الأول
ويتمثل في الدول التي سقط النظام السياسي فيها وبدأت مرحلة بناء نظام جديد، وتتفاوت مستويات التوفيق من دولة لأخرى في هذه المجموعة.

ففي تونس تسير عملية التغيير بقدر من اليسر والسلاسة، وتبدو النخبة السياسية على قدر من الإدراك لملابسات عملية التحول، لكن المسافة الأيديولوجية بين القوى الأكثر وزنًا قد تفتح المجال لبعض التباينات عند الانتقال إلى مجال تطبيق السياسات الحكومية من ناحية، وإستراتيجية التعامل مع البيئة الإقليمية والدولية من ناحية أخرى.

غير أن بعض مؤشرات سرعة الانتقال إلى الاستقرار في تونس تتمثل في الآتي:

  • يُسر توزيع المناصب الحكومية وعدم احتكارها من حزب النهضة -رغم فوزه بــ 37% من الأصوات-، فقد تركت وزارة شؤون المرأة والأسرة لحزب علماني (لأن أغلب النقد للنهضة جاء من الجمعيات النسوية)، كما تركت الدفاع والعدل لغيرها، وأبقت السلطة في البنك المركزي لغيرها.
  • يبدو أن المؤسسة العسكرية -وهي الأضعف عربيًا- ستبقى الأقل تدخلاً في التفاعلات السياسية، ما لم يتم استدعاؤها من قبل السلطة الجديدة.

لكن الطبيعة المؤقتة للرئيس الحالي (مدة سنة)، تعني أن الأمر قد ينطوي على ملابسات أخرى عند الانتقال إلى الرئاسة غير المؤقتة، وعند تحديد السياسات الداخلية والخارجية.

ولعل مداخلة راشد الغنوشي المذكورة سابقا توحي بأن التوجه في الحركة الإسلامية يسير نحو وضع قواعد علاقة سلمية مع الغرب والتقارب التدريجي بين الطرفين.

أما في مصر، فيبدو المشهد أكثر تعقيدًا، فعملية التحول تشارك فيها قوى جديدة، فهناك الإسلاميون على اختلاف أطيافهم، وشرائح علمانية تتفق على نمط السلطة دون اتفاق على سياساتها الداخلية والخارجية، ومجلس عسكري ينطوي على العديد من تقاليد النظام القديم وتراوده طموحات المساهمة في بناء النظام الجديد، ويختلط كل هذا بوضع اقتصادي يتسم بالعجز من ناحية وبالتعود على الدعم الخارجي -الأميركي غالبًا- من ناحية ثانية.

وما يزيد الأمر تعقيدًا في مصر، أن تقاليد القيادة الإقليمية ستراود أغلب القيادات المصرية الجديدة من جهة، وستنتظرها القوى الدولية لتوظيفها في إطار إستراتيجياتها في المنطقة من جهة أخرى، وقد تبدي بعض القوى الإقليمية توجسًا منها على الأقل في المدى المتوسط.

ومن المؤكد أن الضغط الأميركي سيتكثف على مصر خلال العام القادم لاسيما في حُمى الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولعل ردة الفعل الأميركية على عمليات تفتيش مقار جمعيات تُتهم بالحصول على مساعدات مالية من الخارج يشير إلى مدى التضييق الأميركي على خيارات السلطة المصرية، ومن الأرجح أن بند المساعدات لمصر لاسيما العسكرية سيكون موضع جدل بين السلطة التنفيذية والتشريعية الأميركية خلال عام 2012.

ولعل الانتخابات الرئاسية المصرية في يوليو/تموز 2012 ستشكل مرحلة مهمة، لكن الأمر سيبقى معلقًا في نتائجه على مضمون الدستور الذي يُفترض أن يتم الانتهاء منه في فترة مبكرة، غير أن ثمة احتمالاً بألا تتمكن اللجنة التأسيسية من إكمال مهمتها في إعداد الدستور قبل الانتخابات الرئاسية.

ومع أن التوجه لبناء دولة مدنية أرجح من غيره من البدائل، غير أن الموضوع الاقتصادي والملف الأمني (بما فيه من التوترات الطائفية) سيبقى هو الأكثر ضغطًا على الحكومة المصرية القادمة، ومن الأرجح أن سلوكها الخارجي سيكون له أثر كبير في القدرة على معالجة ذلك؛ إذ سيكون على الحكومة المصرية أن تحدد المسافة السياسية الفاصلة بينها وبين الحكومة الأميركية، وبينها وبين إيران وإسرائيل، وما ستؤول له الأوضاع في سوريا، وهي موضوعات ستحدد حجم الدعم الأميركي (المساعدات العسكرية والاقتصادية)، والخليجي (ماليًا واستثمارًا وعمالة)، والليبي (بإعادة العمال المصريين الذين فروا خلال القتال).

أما في ليبيا؛ فالقوى السياسية تتراءى للناظر كأشباح وظلال، والأشخاص أكثر حضورًا من التنظيمات في تحديد ملامح الحراك السياسي، وتشققات البنية الاجتماعية وجراح المعارك تَشيْ بأن شاطئ السلامة ما زال بعيدًا، وقد تعرف علاقات ليبيا الإقليمية بعض التوتر لاسيما مع دول الجوار بفعل الثـقوب العـديدة في جدران حدودها السياسية وانتشار السلاح والطبيعة القبلية للمجتمع.

ورغم أن شهر يناير/كانون الثاني من عام 2012 سيكون موعدًا لتحديد النظام الانتخابي ومواعيد تشكيل البنية السياسية للنظام، فإن القوى الدينية على ما يبدو هي الأكثر تأثيرًا، وهو الأمر الذي قد يترك صدى سلبيًا لدى الجزائر تحديدًا.

النموذج الثاني
وتمثله الدول التي اضطربت لكن نظمها لم تسقط بعد، وتتفاوت مستويات آثار الاضطراب بين هذه الدول؛ ففي اليمن شبابٌ ثوار ومعارضة تقليدية ونظام وافق على تغيير الرأس وبقاء الجسد ولو إلى حين، ويبدو أن اليمن يستعد لمرحلتين، الأولى: صراع على محاكمة النظام القديم (وهو ما سيعارضه الجسد الباقي من النظام)، ومرحلة بناء النظام الجديد، والذي لا تسمح البنية الاجتماعية ببنائه بما يشبع رغبات الشباب. غير أن ثمة عاملين يؤججان التوتر في اليمن، أولهما: التزايد السكاني الكبير (24 مليون نسمة عام 2011) من ناحية (فقد تضاعف عدد السكان منذ 1990، ويُقدَّر له أن يتضاعف مرة أخرى حتى عام 2025) وهو ما أدى إلى بلوغ نسبة البطالة حوالي 35%، وثانيهما: التناقص في القدرة الإنتاجية النفطية والتي تغذي الموازنة العامة بحوالي 75% من الدخل، لكن مستوى الإنتاج بدأ بالتراجع إلى 300 ألف برميل يوميًّا، يصدر حوالي نصفها فقط.

وحيث إن هناك جناحًا فاعلاً في الثورة اليمنية له موقف متشكك في النوايا السعودية تجاه اليمن، فإن العلاقة بين الطرفين ستبقى موضع تجاذب قد تزيد من تعقيدات الواقع اليمني، وكل ذلك يرجح استمرار التوتر في اليمن.

وفي البحرين، ثمة نظام سياسي مطمئن للخارج والبيئة الإقليمية الفرعية أكثر من اطمئنانه للبيئة الداخلية، ومعارضة يرى النظام في انتمائها "المذهبي" سببًا كافيًا للتوجس منها بغض النظر عن مدى عدالة مطالبها، ذلك يعني أن مصير النظام مرهون بنمط ارتباطاته الإقليمية، ويبدو أن دعوة الدولة الأكبر في مجلس التعاون الخليجي للانتقال بدول المجلس إلى مرحلة "الوحدة" تنطوي على إشارات "إدماج" بكيفية أو أخرى، وهو ما قد يؤدي إلى نتائج عكسية في داخل مجلس التعاون الخليجي قد تنتهي على المدى البعيد إلى تغيرات في بنية المجلس.

ورغم أن تقرير ما عُرِف بلجنة بسيوني في أحداث البحرين نفى أن يكون لإيران صلة بتلك الأحداث، فإن الإصرار الخليجي على تدخل إيران في الشأن البحريني يدلل على أن العلاقات العربية-الإيرانية ستبقى تراوح في مكانها.

وتمثل سوريا الحالة الأكثر حساسية بين دول هذه المجموعة؛ فالنظام السياسي لم يعرف أية انشقاقات عسكرية ذات شأن، ولا تخليًا من أي دبلوماسي سوري في أية بعثة سياسية عن عمله، وبقيت بنية الإدارة المحلية متماسكة، وأبدت الطبقة الوسطى في معظمها قدرًا من الالتصاق بدواليب النظام السياسي، كما عجزت المعارضة في مستويين، في مستوى التنسيق الفكري والحركي من ناحية، وفي مستوى الحفاظ على سلميتها ولو في حدود معينة. ولعل النقاش حول البيان الذي صدر مع بدايات العام الحالي (بين جناح غليون وجناح مناع) يؤكد ذلك.

فإذا أضفنا لذلك نجاح النظام في امتصاص الاحتقان العربي من حوله عبر قبول المبادرة العربية والسماح للمراقبين العرب بالتواجد في الميدان، وبدبلوماسية تعكس ثقافة تجارية تتقن المساومة، وقدرته على بناء قدر من التوافق الإستراتيجي مع كلٍّ من روسيا بشكل كافٍ ومع الصين بقدر أقل، جعل من ذلك كله عوامل عززت قدراته على تجاوز الأزمة في نطاق "المحتمل" لا "الممكن"، وهو ما انعكست آثاره في قدر من النزق السياسي في تصريحات بعض قادة المعارضة السورية الخارجية تجاه الجامعة العربية.

ويبدو النظام السياسي في سوريا مطمئنًّا إلى أن التدخل الخارجي –بخاصة عسكريًّا- أصبح وراءه، وهو ما يجعله أكثر ثقة بقدرته على معالجة الوضع بأدواته القسرية والناعمة على حد سواء.

لكن كعب أخيل في إستراتيجية النظام السياسي السوري يتمثل في الوضع الاقتصادي؛ فهناك جوانب سلبية في تطور الوقائع من حوله، غير أن ذلك لا ينفي بعض التطورات الإيجابية؛ فالضغوط الأوروبية والمساس بالقطاع النفطي والنقدي والتجارة لاسيما من الناحية التركية ستترك آثارها تدريجيًّا على الاقتصاد السوري، وهو ما قد يفتح المجال لتزايد دائرة "السخط"، ويجعل النظام في حالة ضعف تراكمي.

لكن الموقف العراقي من ناحية والرجاء الأردني بعدم إلزام الجامعة العربية له بالالتزام بالمقاطعة في قطاعي التجارة والطيران، إلى جانب الموقف اللبناني، يجعل سوريا قادرة على الحركة في اتجاهات ثلاثة من أصل أربعة، وهي نسبة تكفي للحصول على الحد الأدنى من مقومات النجاح في إدارة الأزمة إلى حين.

النموذج الثالث
ونعني به الدول التي تعرف حراكًا يطالب بالإصلاح لا بالتغيير، وتتمثل هذه في كل من الأردن والمغرب، ويبدو أن المغرب تمكن من ترويج فكرة الشروع بالإصلاح وامتص قدرًا من الاحتقان في المدى القصير، ورغم أن الملك استشعر موجة الثورات العربية فقام بالدعوة لعقد الانتخابات البرلمانية قبل موعدها بعام إلا أن سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة التشريعية بنسبة 27% (107 مقاعد من 395) تعطي انطباعًا بأن وزن الإسلاميين في المغرب يجعل الملك أكثر اطمئنانًا من غيره من الحكام العرب للعام القادم على أقل تقدير.

بينما ما زال الأردن يتلمس خطاه، لكنه يبدو تائهًا أحيانًا، و"ذكيًّا" في أحيان أخرى، ولا شك أن التعامل مع كل من المعضلة الاقتصادية من ناحية والتوتر الاجتماعي من ناحية أخرى يمثل مؤشرًا على ما ذكرنا.

غير أن المراوغة في تحقيق التقدم في الإصلاح، والتوتر الإقليمي، والأزمة الاقتصادية، وضغوط المسألة الفلسطينية قد تخفي وراءها الكثير مما يثير القلق، غير أن الخريطة السياسية ستتضح أكثر بعد إجراء الانتخابات النيابية عام 2012.

النموذج الرابع
وهي الدول التي  أرهقها العنف في سنوات سابقة، وربما يكون العراق والجزائر والسودان هي الأكثر تمثيلاً لهذه الشريحة من الدول.

ويبدو أن الجزائر هي الأقرب للسيطرة على أزمتها ولو أن احتمالات اختفاء الرئيس طبيعيًا قد يفتح المجال لنوع من التوتر العابر، غير أن التغير قد يحدث في منتصف عام 2012 مع عقد الانتخابات التشريعية ليليها انتخابات رئاسية في عام 2014، وهو ما سيعيد إشكالية التعامل مع جبهة الإنقاذ الإسلامية التي ما زال نائب رئيسها يمثل موضع ضغط على السلطة.

بينما سيشهد العراق تذبذبًا في مستويات العنف الداخلي مع ميل تدريجي للاستقرار النسبي خلال المدى المتوسط، ويبدو أن الخلافات بين القوى السياسية العراقية الكبرى لاسيما بعد انسحاب القوات الأميركية تشير إلى مستويين من الشقاق، الأول: الشقاق التقليدي شيعي-سني-كردي، والثاني: نزاع بدأ يتبلور بعد الانسحابات من داخل كل كتلة من الكتل.

ويبدو لنا أن "الصدريين" يمثلون طرفًا مقبولاً إلى حد ما من معظم الأطراف الكبرى (باستثناء البعثيين بالطبع)، ومع وجود السند الإيراني، فقد يتصاعد دور الصدريين قليلاً خلال عام 2012، لكن الاستقلال الكردي في إقليم كردستان، وتسلل فكرة تشكيل أقاليم أخرى في العراق كما برز في محافظة صلاح الدين مؤخرًا، يشير إلى أن نزعة الفيدرالية تتزايد في العراق بهدف إضعاف سيطرة الحكومة المركزية على غرار علاقاتها مع إقليم كردستان.

أما القوات الأميركية التي غادرت العراق، فيبدو أن الترويج لضربة أميركية أو إسرائيلية لإيران تستهدف تبرير إعادة توزيع هذه القوات في بقية دول الخليج لتبقى قريبة من العراق وإيران وسوريا، وهو ما أشارت له نيويورك تايمز في 29 أكتوبر/تشرين الثاني 2011.

وقد يكون السودان هو الأكثر ترشحًا لاتساع مزيد من عدم الاستقرار داخله بسبب تعقيدات بنيته الداخلية وآثار انشطاره، سواء بسبب تداعيات الانفصال الجنوبي وآثار أزمة دارفور وعدم قدرة السلطة على بناء تحالف قوي بين القوى السياسية أو بسبب الضغوط الاقتصادية واستمرار الضغط الدولي، وهي عوامل ترجح تواصل عدم الاستقرار بشكل واضح.

وعند الانتقال من الكيانات السياسية العربية إلى التنظيمات السياسية العربية، فإن الحركة الإسلامية تستقطب العناية أكثر من غيرها، ويبدو لنا أن هذه الحركة ستواجه عددًا من السيناريوهات؛ إذ يشير التشقق الذي أصاب حركة الإخوان المسلمين في مصر مثلاً (مرشح رئاسي منشق، حزب منشق، إلى جانب الحزب الذي يمثل الحركة الأم)، وبروز الحركة السلفية كمنافس قوي للحركة إلى أن احتمالات توالى الانشقاقات ليست مستبعدة، وقد تعمل مجموعة من العوامل على تأجيجها:

  1. شبكة العلاقات المصرية مع الخارج بخاصة مع الولايات المتحدة واستمرار تلقي الدعم منها، والموقف من حركة حماس بخاصة إذا دخلت إلى منظمة التحرير وعادت للفوز في انتخابات الرئاسة  والتشريعية الفلسطينية في مايو/أيار القادم.

    كما أن استمرار بيع الغاز لإسرائيل والموقف من معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية سيفتح الباب أمام احتمالات التنافر الداخلي، فإذا قبل الإخوان ببقاء العلاقات مع إسرائيل والولايات المتحدة فقدوا مصداقيتهم السياسية، وإن رفضوها تعرضوا لضغط اقتصادي وسياسي من الدول الغربية وبعض الدول العربية قد لا يستطيعون احتماله كنظام سياسي.

  2. طبيعة النظام السياسي والموقف من الحركات الإسلامية الأخرى، ولعل وجود الإخوان المسلمين في كرسي المعارضة كان يعفيها من تحديد موقفها من كل قضية، لكن وجودها في كرسي السلطة سيجعلها مضطرة لاتخاذ مواقف عملية، قد تؤدي للعديد من المواجهات مع القوى الأخرى.

    ويمثل السلفيون في بعض الدول العربية منافسًا للإخوان المسلمين، وهو ما قد يؤدي إلى تكرار مشهد الأحزاب القومية العربية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي (البعثيين والناصريين والقوميين العرب وتشققاتهم المختلفة)؛ إذ تصارع القوميون العرب فيما بينهم بشكل حال دون قدرتهم على تحقيق إنجازات ذات طابع إستراتيجي.

وذلك يعني أن الحركة الإسلامية العربية ستواجه خلال المرحلة القادمة احتمالين:

  • تعدد الأجنحة داخل كل حركة وتنافسها إلى حد الصراع، وحدوث خلافات بين أطياف الحركة الإسلامية في الدول العربية (خلافات الإخوان في مصر وسوريا والأردن وفلسطين وليبيا.. إلخ).
  • الاستفادة من تجربة فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والقدرة على بلورة تحالفات على غرار التجربة التونسية الحالية.

وقد يتحدد السيناريو الأرجح طبقا للبنية الداخلية لكل دولة عربية بخاصة من حيث الوضع الاقتصادي ومستوى الوعي العام ودور المؤسسة العسكرية ناهيك عن تقاليد العمل السياسي والمدني. 

ثانيًا: التطورات الدولية وأثرها على المنطقة العربية في عام 2012

من غير الممكن فصل تداعيات ما يجري في الوطن العربي وسيناريوهاته عن التطورات المحتملة في عام 2012 في المشهد الدولي، وهو ما يمكن رصده على النحو التالي:

1- تغيرات في قيادات بعض الدول الكبرى

أ‌- القوى الدولية الكبرى
سيعرف عام 2012 انتخابات رئاسية في كل من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا واحتمال حدوث تغير في القيادة الصينية.

ويبدو من المؤشرات المتوفرة -وإن تكن غير كافية- أن شعبية أوباما تتأرجح، وقد يؤدي غياب الديمقراطيين عن الرئاسة، وتحسن موقف الجمهوريين في الكونجرس إلى زيادة الاحتقان في المنطقة؛ وذلك يعني أن المنطقة العربية وقضاياها ستكون محور مزايدات المترشحين للرئاسة خلال عام 2012، وقد تكون القضية الفلسطينية وما يسمى الربيع العربي الأكثر حظوة في هذه المزايدات.

أما في فرنسا، فقد أصبح واضحًا أن كلاًّ من ساركوزي وفرانسوا هولاند هما المتنافسان الأكثر بروزًا، ورغم الصلات القديمة بين الاشتراكيين الفرنسيين تحديدًا وإسرائيل (تزويد إسرائيل بالمفاعل النووي عام 1957، والمشاركة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ودعوات فرانسوا ميتران في الثمانينيات بالتخلي عن المقاطعة لإسرائيل..إلخ) فإن هولاند لا يتبنى سياسات تختلف كثيرًا عن ساركوزي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية بل لعله أقل ميلاً منه لنقد السياسات الإسرائيلية.

ومن الأرجح أن يكون الاشتراكيون أقل ميلاً للتدخل في سوريا نظرًا لتباين الأوضاع والظروف الإستراتيجية بين سوريا وليبيا، إلى جانب أن هولاند أقل "شخصنة" للعمل السياسي مما هو لدى ساركوزي.

ولن يحمل التغير المحتمل في القيادة الصينية في العام القادم أي تغير في توجهات دولة جعلت إستراتيجيتها الكبرى منذ عام 2003 تقوم على نظرية الصعود السلمي القائمة على "سلمية التغيرات في بنية النظام الدولي".

أما روسيا فإن التغيرات فيها لن تكون إلا تغيرات شكلية تتمثل في تبادل المواقع بين ميدفيديف وبوتين على غرار ما جرى في عام 2007؛ لذا ستبقى الدولتان، روسيا والصين، على موقفهما في مسألتين، هما تأييد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ورفض التدخل بأي شكل من الأشكال في سوريا، ويبدو أن موقف الدولتين ناتج عن إدراكهما أن الولايات المتحدة وأوربا أكثر عزوفًا عن التدخل من ذي قبل نظرًا للأزمة الاقتصادية واقتراب الانتخابات في كل من الولايات المتحدة وفرنسا، ناهيك عن القلق من نتائج التدخل على استقرار المنطقة.

ب‌- الملف الإيراني
رغم التصريحات المتلاحقة حول احتمال نشوب حرب مع إيران سواء من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، فإننا نعتقد أن هذا الأمر لن يصل إلى هذه النقطة للأسباب التالية:

  1. الأزمة الاقتصادية العالمية بشكل عام والوضع الاقتصادي الأميركي بشكل خاص، وما قد يترتب على الحرب من زيادة الأزمة نظرًا للإنفاق العسكري من ناحية ونظرًا لاحتمال شبه مؤكد أن الحرب ستؤدي لقفز أسعار البترول إلى مستويات غير محتملة من ناحية ثانية، ويبدو أن الضغوط الاقتصادية على إيران بخاصة في قطاع نفطها قد يدفعها بالفعل إلى التضييق على نقل البترول عبر مضيق هرمز، وهو الأمر الذي سينقل اهتمام عالم متأزم اقتصاديًا من ربيع عربي إلى براميل البترول.
  2. أن ثمة نقاشًا في الولايات المتحدة حول ضرورة خفض الإنفاق الدفاعي، تم إقراره في الإستراتيجية الجديدة للدفاع،  بل إن إسرائيل خفضت موازنة دفاعها بمعدل 5%؛ مما يوحي باستبعاد الحرب كخيار في الفترة القليلة القادمة.
  3. أن عام 2012 ستشهد انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة تجعل من الصعب على الرئيس أن يخوض حربًا خلالها، كما أن إيران ستشهد انتخابات نيابية قد تجري المراهنة على نتائجها بأن تؤدي إلى تغير ما في بنية السلطة الإيرانية.
  4. نعتقد أن تواتر التقارير حول احتمالات امتلاك إيران لسلاح نووي في عام 2012، يستهدف الضغط على أوروبا لدفعها نحو المزيد من الضغوط الاقتصادية على إيران، وهو ما ألمحت إليه الدول الأوروبية من خلال الإعلان عن احتمال وقف شراء البترول الإيراني.
  5. يبدو أن رد الفعل الروسي والصيني سيكون أكثر حدة مما يُعتقد على نشوب مثل هذه الحرب، لاسيما وأن المنطقة تؤثر عليهما إلى حد بعيد.

غير أن إيران قد تجد نفسها تسير مكرهة نحو تأزم تدريجي في علاقاتها مع أنقرة بمقدار تأزم العلاقات السورية-التركية، لكن قدرة النظام السياسي السوري على امتصاص الأزمة، قد يدفع إيران لمحاولة لعب دور الوسيط بين البلدين، غير أن ذلك سيحدث في فترة لا نظن حدودها عام 2012، بل بعد ذلك.

ثالثًا: التوجهات الدولية تجاه القضية الفلسطينية

يبدو أن التطور الأكثر دراماتيكية سيتمثل في نتائج الانتخابات الفلسطينية الرئاسية والتشريعية التي يُفترض لها أن تتم في مايو/أيار 2012؛ إذ إن هذه الانتخابات قد تعيد حركة حماس إلى السلطة، لاسيما أن مساعي المصالحة قد شرعت لها الأبواب للدخول إلى منظمة التحرير الفلسطينية أيضًا.

وفي حالة عودة حماس إلى السلطة، فإن المشهد سيعرف عدة احتمالات:

  1. أن يتكثف الضغط الدولي على السلطة الفلسطينية لفك العلاقة مع حماس، وقد يأخذ ذلك شكل الضغط الدبلوماسي والتقتير الاقتصادي مع توالي الضربات العسكرية وعمليات اغتيال القيادات السياسية والعسكرية للحركة، وهو ما قد يؤدي لاضطراب واسع.
  2. أن تُبدي حماس تجاوبًا مع الجهود الدولية من خلال إطالة أمد الهدنة المعلنة، والقبول بفكرة الدولة الفلسطينية، والتعاطي مع الجهود الدبلوماسية بشكل تدريجي، وهو ما قد يعرضها للانقسام الداخلي.
  3. أن تسعى حماس لتوسيع دائرة الاعتراف بها من خلال وجودها في السلطة، دون أن تعترف بشكل قانوني بإسرائيل، بينما تعترف بها بشكل واقعي.

أما موضوع عضوية فلسطين في الأمم المتحدة؛ فالولايات المتحدة ستبقى معترضة على الأقل خلال العام الانتخابي القادم، بينما سيبقى التباين في الموقف الأوربي هو السائد حول هذه القضية، وقد تميل أوربا نحو فكرة إقناع الفلسطينيين في المرحلة الأولى بقبول حل "الدولة غير العضو" أو ما يُسمى بالنموذج الفاتيكاني.

ورغم أن مجلس الأمن عرف تغيرًا في خمس من أعضائه، فإن أغلب الدول الجديدة ستكون مع فكرة قبول العضوية الفلسطينية، ربما باستثناء توغو التي قد تخضع للضغط الأميركي أكثر من غيرها.

أما الجهود الدولية والتي تقودها اللجنة الرباعية (الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا) من أجل التوصل لتسوية في القضية الفلسطينية، فيبدو أنها على حافة الفشل، وقد يكون الإنقاذ لمهمتها من خلال أحد احتمالين:

  1. توسيع دائرة الدول المشاركة في اللجنة كضم بعض الدول، مثل: الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.
  2. القيام بنوع من المفاوضات الموازية من خلال اجتماعات منفصلة تضم أعضاء اللجنة وكلاً من المفاوض الفلسطيني والمفاوض الإسرائيلي كنوع من التحايل على توقف المفاوضات بسبب الإصرار الإسرائيلي على عدم وقف الاستيطان، ويبدو أن اجتماع عمان في الثالث من يناير/كانون الثاني 2012 يقع ضمن هذا السياق.

 الخلاصة

  1. سيبقى الاضطراب خلال العام القادم متواصلاً، لكن وتيرته ستتباين من دولة لأخرى.
  2. سيكون لنجاح أو فشل النموذج المصري آثاره الإستراتيجية العميقة على المنطقة كلها في المدى المتوسط.
  3. رغم تراجع شعبية إسرائيل في أغلب مناطق العالم طبقًا لاستطلاعات الرأي الدولية، فإنها ستعمل على مزيد من التضييق على الخيارات الفلسطينية مستغلة الانشغال العربي بالهموم الداخلية.
  4. يبدو أن مأزق السلطة الفلسطينية في التوفيق بين العودة للمفاوضات (المباشرة أو الموازية) من ناحية، والسير في عملية المصالحة من ناحية ثانية أمر غير ممكن، وقد تصبح الأمور أكثر وضوحًا في حالة إجراء الانتخابات في مايو/أيار 2012.
  5. إن طغيان مطالب الديمقراطية على "الربيع العربي" على حساب تغييب تحديد مواقف إستراتيجية واضحة تجاه الروابط مع القوى الخارجية بخاصة الولايات المتحدة من ناحية، وتوارى الموقف الواضح من إستراتيجية التعامل مع إسرائيل من ناحية ثانية يشير إلى غلبة الدوافع الداخلية القُطرية على الهموم القومية، وهو أمر قد ينبئ في حالة تجذره عن المزيد من التفكك في بنيات الدول والحكومات والمجتمعات.

    ولعل الإشارة من قبل بعض قادة المعارضة السورية لموقف معاد لبعض قوى المقاومة في المنطقة يوحي بأحد احتمالين: إما أنه تعبير عن خطأ في الحسابات في هذه المرحلة أو أنه ثمن يُدفع مسبقًا استرضاء لقوى دولية خارجية، وهو ما يعزز هواجسنا، لأننا نعيش في منطقة تختلف كثيرا عن أوروبا الشرقية؛ إذ ثمة علاقة حتمية بين التحرر الداخلي في المنطقة العربية من ناحية، وبين التحرر من القواعد العسكرية الأجنبية ونفوذ الشركات متعددة الجنسية والتبعية لقوى دولية ومن سياسات التكيف مع المطالب الإسرائيلية من ناحية ثانية، ومن تراوده تصورات بانفصال البعدين عن بعضهما ستدله الأعوام القليلة القادمة على عمق ترابطهما.

  6. قضية الأقليات في الوطن العربي: دون دخول في تفاصيل الخريطة الاجتماعية السياسية العربية، فإن هناك مؤشرًا على حراك للأقليات (العرقية والمذهبية) يشير إلى نزعات انفصالية تمثلت في مستويات ثلاثة:
    1. مستوى تحقيق الانفصال كما وقع في جنوب السودان.
    2. مستوى تحقيق درجة كبيرة من الاستقلال عن سلطة المركز، ومثالها إقليم كردستان العراق.
    3. مستوى البحث عن تحسين مؤشرات المواطنة، ومثالها البحرين والسعودية واليمن ودول المغرب العربي وإلى حد ما في مصر والأردن.

والملاحظ أن النزعة الانفصالية تتعزز بعدد من المؤشرات، مثل تجمع الأقلية وعدم تبعثرها، ووجود مورد اقتصادي في منطقة الأقلية (كالنفط)، ووجود الأقلية في مناطق حدودية وليست في وسط الدولة، ناهيك عن نمط تعامل الأغلبية مع الأقلية ووجود سند دولي أو إقليمي للأقلية.

ويبدو أن العوامل السابقة لا تتوفر بنفس المستوى لكل أقلية في الدول العربية، غير أن نزعة "فدرلة" (federalization) بعض الدول العربية قد تتزايد مع تزايد النزعة الديمقراطية، لاسيما في ظل ثقافة سياسية تغلب الثقافات الفرعية كما هو الحال في الوطن العربي.

من ناحية أخرى، فإن السلوك السياسي لجمهورية جنوب السودان يشير إلى الاحتمالات المستقبلية لسلوك الأقليات العربية؛ إذ إن العلاقات الإسرائيلية مع جنوب السودان تتنامى بشكل واضح، كما أن سلوكها التصويتي في الأمم المتحدة –رغم قصر عمرها في المنظمة الدولية- يشير إلى عدائية واضحة تجاه العرب، وهو ما يشي باحتمال استثمار إسرائيل لمزيد من التسلل إلى الجسد العربي عبر ما يسميه بعض الكتَّاب الإسرائيليون "بحلف الضواحي"، والذي يتسق في مضمونه السياسي مع فكرة "الدولة اليهودية" التي يدعو لها نيتنياهو.
________________________
وليد عبد الحي-خبير في الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية.

هامش
1- http://www.fredsakademiet.dk/tid/2000/2011/maj/globalpeaceindex2011.pdf
http://www.economist.com/node/13349331
2- سيتم  نشر هذه الدراسة قريبًا.

نبذة عن الكاتب