"الربيع العربي" والخيارات الإستراتيجية الأورو-أطلسية

بما أن المشهد الديمقراطي في الدول العربية الذي كان مستبعدا أصبح واقعا مع "الربيع العربي"، فمن المهم أن ندرك انعكاساته على الحوارات الأمنية في المتوسط. كيف سيؤثر "الربيع العربي" على الخيارات الإستراتيجية الأورو-أطلسية في شقها السياسي والعسكري والأمني؟
201222112741291734_2.jpg
أثر ”الربيع العربي" على الخيارات الإستراتيجية الأورو-أطلسية في شقها السياسي والعسكري والأمني (الجزيرة)

بعد أن ألقت بكل ثقلها في أوروبا الشرقية على حساب الجوار الجنوبي المتوسطي الذي ارتقى في مدركات التهديد الغربية إلى مصدر تهديد عقب انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي، شرعت الدول الأورو-أطلسية في حوارات أمنية مع جيرانها العرب المتوسطيين لتبديد مدركات التهديد ولإرساء قواعد جديدة للتعاون على أساس الشراكة. وهكذا توالت المبادرات الإقليمية في المتوسط (حوار اتحاد أوروبا الغربية، الحوار المتوسطي للحلف الأطلسي، الحوار في إطار مسار برشلونة الأورو-متوسطي، الحوار حول سياسة الدفاع والأمن الأوروبية، حوار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مع الشركاء المتوسطيين). نجحت هذه المبادرات في تبديد مدركات التهديد المتبادل على الضفتين. بيد أنها فشلت في التأثير على مسار الصراعات القائمة في المنطقة كما فشلت في تغيير المشهد التسلطي للجوار العربي رغم بعدها الديمقراطي المعلن، وذلك لعدة أسباب، أهمها غلبة الاعتبارات الإستراتيجية على الأخلاقية والتي أوجدت عمليا تفضيلات أورو-أطلسية تقوم على تفضيل الاستقرار والأمن على حساب الديمقراطية. وبما أن المشهد الديمقراطي في الدول العربية الذي كان مستبعدا أصبح واقعا مع "الربيع العربي"، فمن المهم أن ندرك انعكاساته على الحوارات الأمنية في المتوسط؟

يمكن تلخيص انعكاسات الانتفاضات الديمقراطية العربية –التي تفترض هذه الورقة أنها ستقود إلى انتقال ديمقراطي في المنطقة- على هذه المبادرات الإقليمية في ثلاثة عناصر أساسية:

  1. مراجعة التفضيلات الإستراتيجية الغربية.
  2. تحرير الحوارات وتجاوز العقبة الديمقراطية.
  3. تعقيد هذه الحوارات.

يخص الأول فرض إعادة النظر في التفضيلات الإستراتيجية الأورو-أطلسية بفعل ضغط العامل القيمي وضرورة التعامل مع الواقع كما هو لا كما يجب أن يكون. فيما يخص الثاني تحريرها من المأزق والتقييد اللذين لازماها بسبب غياب القيم المتقاسمة فعلا. أما الثالث (التعقيد)، فيتعلق بإعادة صياغة مبادئ هذه الحوارات وفق قواعد جديدة تفرضها حركة الدمقرطة العربية، ولا يأخذ التعقيد هنا معنى سلبيا، أي عرقلة هذه المبادرات، وإنما إعادة صياغة مبادئها المؤسِّسة والموجِّهة. ويتفرع هذا العنصر الأخير إلى ثلاثة عوامل رئيسة ستحدث نقلة نوعية في المبادرات الإقليمية المتوسطية بفعل الانتفاضات الديمقراطية العربية وهي: مسألة الشفافية التي تخص تحديدا الدول العربية؛ القضايا الخلافية (انتشار أسلحة الدمار الشامل والصراع العربي-الإسرائيلي) في الحوارات الأمنية بين الفواعل الغربية والعربية؛ وأخيرا بعض قضايا "التوافق" (المناولة الأمنية في مجال محاربة الهجرة)، إضافة إلى واقع الجالية العربية الإسلامية في أوروبا بفعل المستلزم الأخلاقي الجنوبي.

مراجعة التفضيلات الإستراتيجية الأورو-أطلسية

دأبت الفواعل الأورو-أطلسية (الدول الأوروبية والولايات المتحدة) في حواراتها الأمنية مع الدول المتوسطية وهي عربية كلها باستثناء إسرائيل على تغليب الاعتبارات الإستراتيجية (الاستقرار، الأمن، والمصالح الاقتصادية) على الاعتبارات الأخلاقية (احترام حقوق الإنسان والديمقراطية). فكان أن قامت بتثبيت وإدامة وضع من المفترض أن تعمل على تبديله، أو تدفع نحو تغييره. وعليه، فبعد مرور عقدين تقريبا على إطلاق أول المبادرات الإقليمية الأورو-أطلسية باتجاه الجنوب المتوسطي العربي لم يتغير شيئا، لتبقى البنية التسلطية العربية على حالها. وأصبح غياب الديمقراطية نقطة الضعف الكبرى في علاقات الدول العربية مع القوى الأورو-أطلسية. وبما أن شرعيتها مستمدة في جلها من مصادر خارجية، فإن الأنظمة العربية تجنح للقيام بما سترفضه لو كانت ديمقراطية. بل إن بقاء بعضها مرتبط أساسا بالدعم الغربي. وهكذا بدا المشهد العربي ساكنا فيما استفحلت، في بعض الأوساط، أطروحة "الاستثناء العربي" بسبب غياب الديمقراطية في البلدان العربية.

ولكن تجري الرياح الديمقراطية الشعبية العربية بما لا تشتهي السفن التسلطية للأنظمة العربية والحسابات الإستراتيجية للقوى الغربية، حيث انطلقت انتفاضة تونس وأسقطت بن علي، لتندلع أخرى في مصر وتسقط مبارك، وشيئا مشابها حصل في اليمن، فيما تعيش سوريا انتفاضة مماثلة، أما ليبيا فحسم فيها الأمر عسكريا بالتدخل الغربي بغطاء عربي. إنها نقلة نوعية في تاريخ العرب المعاصر. وأمام هذا المشهد العربي المتغير لم يعد ممكنا التمسك بالتفضيلات نفسها والقائمة على تغليب الاعتبارات الإستراتيجية على القيمية، لأن ذلك يعني صراحة إجهاض (خارجي) لعملية التحول الديمقراطي. وهذه مسؤولية لا تبدو الفواعل الأورو-أطلسية مستعدة لتحملها حتى وإن كان من الممكن التشكيك في نواياها السياسية، ذلك أن الديمقراطية العربية تأتي أيضا بقوى غير مرغوب فيها غربيا، وبالتالي فربما القاعدة الذهبية الغربية في الحال هي: أنظمة عربية ديمقراطية تسمح بتهدئة المطالب الشعبية أو تلبية جزء منها، ومحدودة حتى لا تكون مستقلة تماما في قرارها الإستراتيجي ولا تهدد استقرار دول أخرى موالية للغرب لم تأخذ حظها من الديمقراطية بعد. (وجود دولة عربية ديمقراطية في بيئة عربية تسلطية هو بحد ذاته تهديد). ولا ننسى أن الأنظمة التسلطية العربية، بمختلف نماذجها التسلطية، لازالت تشكل الأغلبية الساحقة.

من هنا، فإن سلوك دول الانتقال العربي (تونس ومصر) حيال هذه المبادرات سيكون أيضا مقياسا لمدى استقلالية القرار الإستراتيجي للديمقراطيات العربية الناشئة، كما يمكن القول إنه في الأجل المتوسط ستتميز التفضيلات الغربية بتغليب الاعتبارات الإستراتيجية أحيانا، والمزج بين الإستراتيجية والأخلاقية أحيانا أخرى، لكنها سُتجبر بعدها على مراجعتها والإقرار بالديمقراطية كسبيل أنسب إن لم نقل أمثل للأمن والاستقرار والتنمية (كما فعلت اتجاه أوروبا الشرقية). هكذا تتغير المعطيات بعد أن ظل اليقين بشأن مآل عمليات التحول الديمقراطي يخيف الفواعل الأورو-أطلسية. وسيحل اعتقاد أورو-أطلسي جديد – بحكم الواقع العربي المتحرك – مفاده أن الديمقراطية هي السبيل للأمن والاستقرار حتى في المنطقة العربية محل الاعتقاد الأورو-الأطلسي (السائد) بأن الديمقراطية في الجوار العربي المتوسطي إنما هي مطية للتطرف والتدين وبالتالي خطر على الأمن والاستقرار. إنها قطيعة ليس فقط على مستوى المدركات (مدركات التهديد) وإنما السلوكيات أيضا. بيد أن هذا التحول مرهون في جزئه بمآل عمليات الانتقال الديمقراطي في دول التغيير العربية، وإن كان تغير الاعتقاد الأورو-أطلسي ضروري لمسايرة التحول الديمقراطي عربيا حتى لا يُجهض.

تحرير الحوارات وتجاوز العقبة الديمقراطية

ستقود هذه الانتفاضات إلى انفتاح على المسائل الديمقراطية التي بقيت مهمشة حتى الآن وتمت معالجتها على الهوامش فقط (ركزت الأطراف الأوروبية على إصلاح العدالة في الدول العربية المتوسطية، رغم أنه من الصعب إصلاح عدالة راضخة لأوامر نظام تسلطي). فمثلا يمكن تفعيل البعد البرلماني للمبادرات الإقليمية تفعيلا حقيقيا. وبهذا يكون معنى للحوار بين الجمعية البرلمانية للحلف الأطلسي والبرلمانات الوطنية للدول المنخرطة في الحوار. البعد البرلماني الذي صُمم في سبيل ترسيخ البعد الديمقراطي لهذا الحوار، لم يكن بمقدوره أن يأتي بنتائج تذكر في ظل غياب الديمقراطية في الدول العربية المتوسطية. وعليه فإن أبعادا أساسية من الحوار، مثل التحكم الديمقراطي في القوات المسلحة وإصلاح الدفاع التي هي في قلب برامج التعاون الأطلسية-المتوسطية، ستشهد انطلاقة فعلية. وسيسمح تجاوز العقبة الديمقراطية عربيا للدول العربية الانتقالية بالاستفادة من خبرة الحلف الأطلسي في هذين المجالين.

كما أن دمقرطة العالم العربي ستجعل المشروطية الديمقراطية الأوروبية (التي بقيت نظرية) لا معنى لها، لأن المطلب الديمقراطي محلي المنشأ والأداء، ومعبر عنه بشكل مستقل عن الإرادة الخارجية. وللتذكير، فإن المشروطية مبدأ أساس في سياسات الاتحاد الأوروبي الذي يقدم نفسه كمروج ومحفز للديمقراطية، وكـ "قوة معيارية"، لكن الواقع غير ذلك، لأن الاتحاد فضل الاعتبارات الإستراتيجية على حساب المقاييس المعيارية. وعليه فإن الانتفاضات العربية ستجعل التفضيلات الغربية السائدة لا معنى لها، مما يقتضي مراجعة كل آليات التعاون الأوروبية مع الجوار الجنوبي، خاصة وأنه لا يمكن لأوروبا أن تستمر في سياستها التقليدية القائمة على تغليب الأمن/الاستقرار على الديمقراطية. هكذا سيحرر/يُفرج الوضع الإقليمي الجديد، المترتب عن "الربيع العربي"، عن الحوارات الأمنية التي ظلت لوقت طويل حبيسة غياب الديمقراطية. وستخلق الانتفاضات العربية وضعا جديدا تكون فيه الديمقراطية والاستقرار متلازمين، لا تفريق ولا تفضيل بينهما. ومن هنا، يمكن القول إن أحد التداعيات الأساسية للانتفاضات العربية يكمن في إنهاء هذا التفضيل البنيوي في السياسات الغربية حيال المنطقة العربية لتنتهي مرحلة التعارض بين الأمن/الاستقرار وبين الديمقراطية وتبدأ مرحلة التلازم بينهم.

تعقيد الحوارات

إن لم يكن للانتفاضيتين التونسية والمصرية، بحكم طبيعتيهما (محليتي المنشأ والأداء)، تأثيرا سلبيا على المبادرات الإقليمية المتوسطية، فإن ما حدث في ليبيا بسبب التدخل الأجنبي يجعل المنطقة تتوجس من مخاطر التدخل الأجنبي الانتقائي مما ينعكس سلبا على الحوارات الأمنية. وعليه، فقد يتكبد الحوار الأطلسي المتوسطي بعض "الخسائر الجانبية" بسبب التدخل في ليبيا، الذي كان مصدر رضا لأطراف عربية، ومصدر ريبة بل وقلق لأطراف عربية أخرى. وتبدو الجزائر ومصر مرتابتين إزاء التدخل الأطلسي على حدودهما. حتى وإذا كان جيران القذافي، الذين عانوا من سياساته، تنفسوا الصعداء برحيله، فإن النظام الجديد في ليبيا ليس محل ثقة في الراهن. ثم إن صورة الحلف لدى الرأي العام العربي تضررت بسبب هذا التدخل، ليس حبا في القذافي ولكن شكا في الحلف الأطلسي. بيد أن المخاوف من التدخل في ليبيا وتبعاته لن تكون العامل الأساس في تعقيد المبادرات الأمنية في المتوسط، لأن التطبيع التدريجي للوضع سيقود إلى تبديد هذه المخاوف.

إن دخول المستلزم الديمقراطي القادم من الجوار الجنوبي العربي، بفعل "الربيع العربي" على الخط هو الذي سيتسبب في تعقيد هذه الحوارات الأمنية في المتوسط لأنه سيفرض إعادة تأسيسها. إنها مراجعة، على أساس قواعد جديدة في قطيعة مع السياسات والمسلمات الأورو-أطلسية فيما يتعلق بالأمن في المتوسط، مسلمات وجدت في الطبيعة التسلطية للأنظمة العربية تربة خصبة لها. ويمكن تحليل التعقيد من خلال بعض القضايا.

1. امتحان الشفافية

سيفرض التحول الديمقراطي عربيا على الحكومات الجديدة الشفافية التامة في انخراطها في المبادرات الإقليمية في المتوسط، وسيكون هذا بمثابة قطيعة مع المقاربة الحالية، حيث إن الأنظمة العربية انخرطت في مبادرات وفي برامج تعاونية بعيدا عن الشفافية في تعاملها مع رأيها العام مما زاد من الريبة والشك حيال الحلف الأطلسي خاصة. والحقيقة أن سيطرة عقلية السرية في التعامل مع بعض المبادرات والبرامج التعاونية الإقليمية أساء كثيرا إلى هذه الأخيرة. ومن هنا، فدمقرطة المنطقة سيضفي عمليا شرعية على المبادرات الإقليمية والانخراط فيها، لأن المشاركة فيها ستكون وفق قواعد الشفافية (مجالات التعاون، طبيعتها، ميزانيتها...) والمساءلة (أمام البرلمان ديمقراطيا). وبالتالي فستخضع المشاركة في بعض برامج التعاون مع القوى الأورو-أطلسية إلى نقاش برلماني لتحديد مصلحة البلد في الانخراط فيها والأهداف المرجوة. طبعا قد تتسبب هذه الممارسة الديمقراطية عربيا في تعقيد الحوارات الأمنية متوسطيا، لكن في نهاية المطاف ستضفي شرعية قوية على المشاركة فيها وبالتالي ستدعمها بحد ذاتها.

2. حرمان الانتشار من الحجة الديمقراطية

يمكن القول إنه في مجال انتشار أسلحة الدمار الشامل فإن الثورات العربية تبشر بثورة في الشؤون العسكرية الإقليمية. فقد دأبت القوى الغربية على حماية الحصرية النووية الإسرائيلية بدعوى الديمقراطية. طبعا هذه الحجة مقبولة في جزء منها -حيازة بلد ديمقراطي لمثل هذا السلاح أهون من حيازة بلد غير ديمقراطي له– بيد أن هذه الحجة في غاية من الخطورة، لأن العمل بها يعني أن أي بلد ديمقراطي يمكنه حيازة السلاح النووي، ولو طبقت هذه القاعدة لتم تعميم الانتشار في العالم. لم يكن يسمح المشهد التسلطي العربي بتفنيد هذه الحجة وتوضيح خطورتها على أمن المنطقة، لكن مع الانتفاضات الديمقراطية الحالية تغيرت المعطيات. وهناك خياران: إما القبول بتعميم انتشار أسلحة الدمار الشامل، بمعنى أن نقبل بأن تمتلك دول صارت ديمقراطية حديثا أسلحة نووية إن أرادت ذلك، وإما أن نجعل المنطقة خالية تماما من هذه الأسلحة. طبعا الخيار الأول لا هو عقلاني ولا هو في صالح الدول العربية ولا في صالح القوى الغربية. لم يبق إلا الخيار الثاني وهو في واقع الحال خيار إستراتيجي بكل المقاييس، لأنه الوحيد الكفيل بضمان أمن غير منقوص لجميع دول المنطقة في مجال الأسلحة غير التقليدية، تضاف إليه اتفاقات للحد من التسلح في مجال الأسلحة التقليدية.

ومن هنا، فالمعادلة الأمنية الإقليمية مرشحة لأن تنقلب رأسا على عقب، لأن الحكومات الديمقراطية العربية القادمة ستكون لها شرعية شعبية فعلية تسمح لها بالتفاوض من موقف قوة، وتتفاوض حول قضايا تخص أمن الدولة – وليس أمن النظام كما جرت العادة – ولن تقبل بالمقاربة التمييزية المعتادة التي تضخم مخاوف وحاجيات القوى الغربية وإسرائيل الأمنية فيما تقزم مخاوف وحاجيات الدول العربية الأمنية.

3. الصراع العربي الإسرائيلي وقانون دويل

اعتادت القوى الغربية التأكيد على أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وهذا صحيح، لكن لا يمكن أن يبرر ذلك احتلال أراضي الغير. إنها الخطيئة الإستراتيجية الغربية الأولى: غض البصر عن الاحتلال الإسرائيلي. أما خطيئتها الثانية فتكمن في دعم قوة محتلة (إسرائيل) والادعاء في نفس الوقت بترويج وتحفيز الديمقراطية. لكن مع الانتفاضات الديمقراطية العربية تنتهي الحصرية الديمقراطية الإسرائيلية، فيما يواجه الادعاء الثاني صعوبات مع ميلاد المستلزم الديمقراطي القادم من الجوار العربي المتوسطي. ومن هذا المنطلق، فمسؤولية القوى الغربية أكبر من أي وقت مضى، فعليها اليوم أن تثبت صحة قانون مايكل دويل - الديمقراطيات لا تدخل في حروب فيما بينها - في منطقة المتوسط أيضا. ويجب التذكير هنا أن كل المبادرات الأمنية الإقليمية في المتوسط، في شقها السياسي والأمني، اصطدمت بالصراع العربي-الإسرائيلي. ومع ظهور المستلزم الأخلاقي على الضفة الجنوبية، فإن الديمقراطيات العربية الناشئة ستكون في موقف قوة وتضع القوى الغربية أمام مسؤوليتها ومبادئها: تسوية الصراع على أساس الحرية والديمقراطية.

4. الهجرة: نهاية المناولة الأمنية وميلاد مستلزم أخلاقي عربي

ستقود الانتفاضات الديمقراطية العربية إلى مراجعة المناولة الأمنية التي تقوم بها دول عربية متوسطية في مجال محاربة الهجرة لحساب الاتحاد الأوروبي. وبما أن الحكومات الديمقراطية مسؤولة أمام شعوبها وفق قاعدة المساءلة، فإن الحكومات العربية القادمة لن تقبل بمحاربة الهجرة لصالح أوروبا أو بدلا منها. وإذا كانت الأنظمة التسلطية ولا زالت تنخرط في المناولة الأمنية في هذا المجال لتحييد الضغوطات الأوروبية في مجال الديمقراطية، فإن الوضع سيتغير مع الدمقرطة وتدعيم الموقف التفاوضي للحكومات العربية. والملاحظ هنا أن الاتحاد الأوروبي نجح في تصدير آلياته القمعية (تجريم وأمننة الهجرة) فيما لم ينجح في تصدير آلياته الديمقراطية (حقوق الإنسان، دولة القانون، الديمقراطية...).

طبعا ليست الهجرة مشكلة أوروبية حصرا، وإنما هي مشكلة مغاربية أيضا بسبب الهجرة الإفريقية. لكن خصوصية الحالة الأوروبية تكمن في طريقة التعامل معها، أي في المناولة التي فرضتها أوروبا على جيرانها المتوسطيين جاعلة منهم حراسا لحدودها عن بعد. إلا أن الدمقرطة سـتأتي على هذه المناولة، وتفرض تسييرا مشتركا متوازنا للهجرة بنوعيها (الشرعية وغير الشرعية)، وفقا لمصالح كل الأطراف.

بيدا أن الانعكاس الأهم –وهو نقلة نوعية– للانتفاضات الديمقراطية العربية على مسألة الهجرة سيكون في قلب أوروبا. فبحكم طبيعتها التسلطية والقمعية لم تدافع الأنظمة العربية عن جالياتها في الدول الأوروبية ضد التمييز العنصري الذي تعانيه، لأن أمن النظام هو الغالب، أما أمن المواطن فلا محل له من انشغالات الأنظمة التسلطية - كيف بأنظمة تقمع مواطنيها في الداخل أن تحمي هؤلاء الذين غادروه- بينما تقيم الدول الغربية الدنيا ولا تقعدها عندما يتعرض أحد رعاياها لأذى. بل المعتاد أن تعبر الدول الأوروبية عن قلقها بسبب وضع حقوق الإنسان والأقليات في الدول العربية. لكن الوضع سيتغير مع الديمقراطية العربية، وسيصبح وضع المهاجرين في أوروبا والمنحدرين من الدول العربية (الديمقراطية) انشغالا وطنيا بالنسبة لحكومات هذه الدول. وعليه، فصعود اليمين المتطرف في دول الاتحاد الأوروبي وتشدد سياسيات اليمين الحاكم في بعضها سيصبحان انشغالا ومصدر قلق بالنسبة للديمقراطيات العربية الناشئة. هكذا ينشغل الأوروبيون بالتطرف في الجنوب المتوسطي، فيما ينشغل العرب الديمقراطيون بالتطرف في الشمال المتوسطي. ويمكن أن نتحدث هنا عن ثورة، حيث المستلزم الأخلاقي قادم من الجنوب المتوسطي؛ الذي ظل لعقود من الزمن موضوعا ومسرحا للمستلزم الأخلاقي (وإن كان قد ضُحي به في سبيل الاعتبارات الإستراتيجية) الآتي من الشمال المتوسطي.
 
وفي الأخير يمكن تلخيص أبرز تداعيات "الربيع العربي" على الشؤون الإقليمية في المتوسط في أربعة عناصر. أولا، ميلاد مستلزم أخلاقي جنوبي المنشأ -في مقابل المستلزم الأخلاقي الشمالي- وما له من تبعات سياسية تمتد حتى إلى قلب الديار الأوروبية. ثانيا، إنهاء التعارض (الأورو-أطلسي المنشأ) بين الأمن والاستقرار من جهة والديمقراطية من جهة ثانية وخلق تلازم بينهما. ثالثا، ضرورة مقاربة الصراع العربي-الإسرائيلي ولأول مرة في التاريخ من خلال قانون دويل. رابعا، تطبيع مزدوج في المنطقة: تطبيع للدول العربية بدمقرطتها، وتطبيع لإسرائيل بجعلها ديمقراطية من بين ديمقراطيات عدة في المنطقة، أي نهاية "الاستثنائية العربية" (غياب الديمقراطية في العام العربي) ونهائية الاستثنائية الإسرائيلية (كدولة ديمقراطية وحيدة في المنطقة).
__________________
عبد النور بن عنتر-أستاذ محاضر، جامعة باريس 8 (فرنسا)

نبذة عن الكاتب