يشير تطور الأوضاع، بعد مرور عام وبضعة أيام على قيام ثورة 25 يناير/كانون الثاني، إلى أن مصر قد سارت في طريق وعر وهي تسعى للانتقال من نظام مبارك إلى نظام جديد يلبي أهداف هذه الثورة: عيش- حرية – عدالة اجتماعية – كرامة إنسانية. فعلى هذا الطريق، اختلطت الإنجازات بغير قليل من الإخفاقات.
ومن أبرز الإنجازات سقوط مبارك وعدد من كبار أعوانه، وانتقالهم من سكنى القصور إلى سكنى السجون، وخضوعهم للمحاكمات الجنائية عن بعض ما ارتكبوه من جرائم في حق مصر وشعبها. ومنها اختفاء برلمان مبارك المزور، والإجهاز على عدد من الأدوات التي كان يعتمد عليها في بسط نفوذه، لاسيما الحزب الوطني والمجالس المحلية. ولا يقل في الأهمية عن تلك الأمور تلاشي الخوف من نفوس المصريين، وانتزاعهم لعدد من الحريات المهمة، وممارستهم لألوان شتى من الاحتجاجات والضغوط على حكام المرحلة الانتقالية. وهو ما أسفر عن استجابات جزئية -وإن جاءت متأخرة في كثير من الأحيان- لبعض المطالب الاقتصادية والاجتماعية، نذكر منها وضع حد أدنى وحد أقصى للأجور في الجهاز الحكومي، وتثبيت بعض فئات العمالة المؤقتة، وزيادة أجور ومزايا بعض فئات العمال والموظفين، ورفع المعاشات. ويضاف إلى هذه الإنجازات مشاركة المصريين في أول انتخابات برلمانية تتسم بدرجة عالية نسبيًا من الحرية والنزاهة. ولم يكن تحقيق هذه الإنجازات بالأمر اليسير. فقد جاءت في معظم الأحوال نتيجة الكثير من المبادرات الشعبية والتظاهرات الحاشدة والاعتصامات والإضرابات للضغط على المجلس العسكري الحاكم. وقد شهد عدد غير قليل من هذه التحركات الشعبية صدامات عنيفة مع الشرطة المدنية والعسكرية، قُتل وجُرح خلالها آلاف المواطنين.
أما الإخفاقات فهي كثيرة؛ منها استطالة أمد المرحلة الانتقالية، واتسامها بقدر متزايد من التوتر والاحتقان بسبب الفقدان المتزايد لثقة الشعب في المجلس العسكري الذي تولى إدارة شؤون البلاد بعد إزاحة مبارك. ومنها العجز عن شق مسار سلس لتسليم الحكم من العسكريين إلى سلطات مدنية منتخبة، وتنكُّب الطريق نحو هذا الهدف بإصرار السلطة العسكرية الحاكمة على إجراء الانتخابات البرلمانية (بما في ذلك انتخاب مجلس شورى لا قيمة له) والانتخابات الرئاسية قبل وضع دستور جديد للبلاد. ومنها العجز عن تطهير أجهزة الدولة من أعوان النظام السابق وأذنابه، وبخاصة أجهزة الأمن والإعلام والقضاء. ومنها غياب المحاكمات السياسية لرأس النظام السابق وبطانته وأعوانه الذين أفسدوا الحياة السياسية وأهدروا الكثير من ثروات البلاد، وساعدوا على انتشار الفساد في كل مناحي الحياة. ومنها غياب المحاكمات الجنائية عما ارتكبته أجهزة مبارك الأمنية من انتهاكات لحقوق الإنسان، والعزوف عن تبني مفهوم العدالة الانتقالية وتفعيله. ومنها العجز عن إحداث تغيرات أساسية في السياسات الاقتصادية والاجتماعية؛ وهو ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت متأزمة أصلاً في عهد مبارك.
وليس من الصعب التعرف على أسباب وعورة المسار الذي سلكته مصر منذ قيام ثورتها؛ فبعض هذه الأسباب يتعلق بالطبيعة الخاصة لهذه الثورة، كونها ثورة شعبية بلا قيادة مركزية ذات برنامج محدد وموحد؛ فبالرغم من عبقرية الشعارات التي رفعها الثوار ("عيش –حرية – كرامة إنسانية"- "تغيير – حرية – عدالة اجتماعية"- " الشعب يريد إسقاط النظام")، إلا أن ثمة اختلافات في رؤية القوى السياسية المختلفة للترجمة المناسبة لهذه الشعارات، وثمة تباينات بشأن المدى الذي يمكن الذهاب إليه في تغيير النظام، وبشأن السياسات المناسبة لإنجاز التغيرات المنشودة. ومما زاد الأمور تعقيدًا أن المجلس العسكري الذي كان من المفترض أن يقوم بدور الوكيل عن الثوار، سرعان ما تحول إلى "طرف" له رؤيته الخاصة التي يسعى لفرضها بشأن التغيير؛ وهي رؤية محافظة بالضرورة بحكم أن هذا المجلس كان ركنًا أساسيًا من أركان نظام مبارك، وأنه لم يزل يشكِّل امتدادًا طبيعيًا لذلك النظام. ومن هنا كان تكرُّر الصدام بين القوى الثورية والمجلس العسكري، وتكرر اتهامه من جانب هذه القوى بأنه جزء من الثورة المضادة، إن لم يكن هو قائدها الفعلي.
ومن الأسباب الأخرى لوعورة مسار الثورة، تفجر المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت خلال عهد مبارك، وتطلع كثير من فئات الشعب التي حُرِمت طويلاً من حقها في العيش الكريم إلى تحسين سريع لأوضاعها، لاسيما أن مناخ الحرية الذي أتت به الثورة قد شجع على تزايد وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية وجعل البلاد تشهد مرحلة جديدة من الصراع الطبقي. وفي سياق هذا الصراع، صار مطلب العدالة الاجتماعية يفرض نفسه على أجندة العمل الوطني بقوة متزايدة.
وثمة سبب آخر لوعورة طريق الثورة، ألا وهو تلك التغيرات في تضاريس الحياة السياسية والاجتماعية المصرية التي تبلورت في عهد مبارك كرد فعل على سوءات نظامه. ونخص بالذكر هنا تجريف المجال السياسي بهيمنة الحزب الوطني على المشهد السياسي وتهميش قوى المعارضة. وهو ما جعل الكثيرين يلوذون بالدين كبديل للسياسة. ومن هنا جاء البروز المتزايد للقوى الإسلامية ممثلة في جماعة الإخوان، وبدرجة أقل الجماعات السلفية. وقد أدى بروز هذه القوى إلى تعقيد إضافي في المشهد السياسي الجديد، متمثلاً في اختلاط الاستقطاب السياسي باستقطاب آخر ديني-علماني/مدني. وهو ما تجلَّى في الجدل الذي احتدم حول هوية الدولة ومرجعيتها في الدستور المرتقب، والذي استنزف الكثير من الوقت والطاقة.
الميزان الجديد للقوى السياسية
وإذا كانت الثورة قد فتحت المجال السياسي بفضل ما انتزعه الشعب من حريات، فإنها فتحته على هذا المشهد الذي حظيت فيه القوى الإسلامية بمساحة ضخمة من الساحة السياسية، والذي علا فيه صوت الداعية على صوت السياسي بدعوى صيانة الهوية الإسلامية وتعزيزها، وبرز فيه الخطاب الديني المحافظ الذي يوظَّف في التنفير من القوى الليبرالية والقوى اليسارية والتقدمية. وهو ما ضاعف من العوامل المناوئة لهذه القوى، سواء في الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس/آذار 2011، أم في الانتخابات البرلمانية في أواخر 2011 وأوائل 2012. ولم تسمح الظروف التي نشأت بعد الثورة لتلك القطاعات من القوى الليبرالية والقوى اليسارية، التي شاركت في الثورة والتي سعت إلى الاحتشاد والتجمع في أحزاب جديدة، باحتلال مساحة واسعة في الساحة السياسية، ولم تسمح لها بالتالي بالفوز بنسبة كبيرة من مقاعد مجلس الشعب؛ فقد طالت الفترة اللازمة لتأسيس هذه الأحزاب بالنظر إلى الشروط المتشددة التي أتى بها قانون الأحزاب الجديد، وتشتَّتَت جهود الأحزاب الناشئة بين الاشتراك في النضال السياسي من أجل استكمال تحقيق أهداف الثورة وبين المهام اللازمة للبناء الحزبي والتواصل مع القواعد الشعبية في أرجاء البلاد. كما لم تسمح الإمكانيات المالية الضعيفة للأحزاب اليسارية الجديدة بالقيام بما تستلزمه الحملات الانتخابية من دعاية ومؤتمرات جماهيرية وما إلى ذلك.
ولذا، لم يكن مفاجئًا أن تفوز القوى الإسلامية بنسبة كبيرة من مقاعد مجلس الشعب، ولكن الأمر المفاجئ حقًا هو وصول هذه النسبة إلى أكثر من 70%، وعدم فوز عدد غير قليل من الشخصيات المعروفة من شباب الثوار وشيوخهم الذين ترشحوا في الانتخابات سواء كأفراد أو ضمن القوائم الانتخابية، بمن في ذلك من كانت لهم أدوار مرموقة في النضال أثناء حكم مبارك. وهو ما يكشف عن وجود فجوة يلزم ردمها بين قيادات الثورة من التيارين الليبرالي واليساري من جهة وبين المجتمع من جهة أخرى.
بالنظر إلى الظروف التاريخية التي سبق إيضاحها، وفي إطار المستجدات التي ظهرت بعد قيام الثورة، وما صاحبها من منافسة غير متكافئة بين القوى الإسلامية والقوى المدنية، لم يكن غريبًا إذن أن تكون الغلبة في الانتخابات للقوى الإسلامية. وعلى ذلك فإن مسار الثورة سوف يتحدد على المدى القصير وربما المدى المتوسط أيضًا، بميزان القوى الجديد والذي يتجلى في التركيبة السياسية لبرلمان ما بعد الثورة؛ حيث تستأثر فيه القوى الإسلامية –لاسيما حزب الحرية والعدالة الإخواني وحزب النور السلفي- بأغلبية مريحة توفر لهما فرصة جيدة للتأثير في صياغة دستور ما بعد الثورة، وفي التشريعات والسياسات التي ستُتخذ خلال فترة يتوقف طولها على أمرين:
-
أولهما: طبيعة الدستور الذي ستعمل القوى الإسلامية على إنتاجه، وطبيعة ما تتبناه هذه القوى من تشريعات -خاصة في مجال الحريات الشخصية- ومن سياسات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
-
ثانيهما: مواقف القوى المدنية -أي الأقلية الليبرالية واليسارية- في البرلمان، وقدرتها على التصدي للاتجاهات المحافظة للقوى الإسلامية.
ولتبين هذين الأمرين، فإن علينا قراءة برامج الأحزاب الرئيسية الممثلة في البرلمان الجديد قراءة دقيقة. وفضلاً على ذلك، فإن استكشاف المواقف المحتملة للقوى الإسلامية يستوجب أيضًا متابعة تصريحات أبرز قياداتها والممارسات العملية الظاهرة لأتباعهم. كما أن علينا ألا نغفل في استشراف المستقبل طبيعة البيئة الإقليمية والبيئة الدولية المحيطة بمصر، وما تفرزه من ضغوط على صنَّاع السياسات في مصر، وما تقدمه من دعم لهذا الطرف أو ذاك من أطراف العملية السياسية.
وعلينا كذلك، أن نأخذ في الحسبان أن طبيعة الثورة المصرية والظروف المحيطة بها تجعل من الصعب أن تحقق أهدافها بضربة واحدة قاضية في جولة واحدة، بل من المرجح أن هذه الأهداف ستتحقق عبر جولات متعددة، قد تنهزم فيها قوى الثورة تارة، وتنتصر تارة أخرى. وقد كان هذا هو حال ثورات أخرى كثيرة في التاريخ القديم والتاريخ الحديث؛ فبالرغم من أن قادة الشيوعيين كانوا أصحاب عقيدة واضحة المعالم للثورة الروسية، إلا أنه انقضت سنوات طُبِّقت فيها سياسات اعتبرها البعض سياسات محافظة وبعيدة عن التوجه الاشتراكي، مثل السياسة التي طبقها لينين وأطلق عليها "السياسة الاقتصادية الجديدة"، وذلك قبل أن تشق الثورة مسارها الاشتراكي. وفي مصر، وبالرغم من وجود قيادة موحدة لثورة يوليو وبالرغم من امتلاك الثورة للمبادئ الستة، إلا أنه قد انقضت سنوات، بعد قيام الثورة، تدرجت فيها السياسات حتى وصلت إلى ما أُطلق عليه مرحلة التحول الاشتراكي.
ملامح النظام السياسي المتوقع
من المرجَّح على المدى القريب، وربما على المدى المتوسط أيضًا، أن يكون النظام السياسي الذي سينتجه البرلمان الجديد نظامًا سياسيًا ينحو إلى الديمقراطية، ولكن ديمقراطيته ستكون مقيدة بقيود يُدَّعى أنها مستمدة من الشريعة الإسلامية. ولا تعود هذه القيود إلى الإقرار المتوقع من جانب غالبية القوى السياسية الممثلة في البرلمان للنص الدستوري بأن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". وإنما يرجح ذلك ما نلاحظه من محاولات من جانب القوى الإسلامية لتقديم تفسيرات متشددة لهذا المبدأ، أو للالتفاف حوله بصورة أو بأخرى.
فالجماعات السلفية لا تكف عن إعلان نيتها في إقامة الدولة الإسلامية، ولا عن تأكيدها أنها جاءت لتطبيق"شرع الله". ومن الملاحظ أن برنامج حزب النور يتحدث بوضوح عن "ضرورة تحقيق الديمقراطية في إطار الشريعة الإسلامية". وهكذا فإن البرنامج يساوي بين "مبادئ الشريعة الإسلامية" و"الشريعة الإسلامية" ذاتها، على ما بينهما من فرق شاسع؛ فالمبادئ تدور حول قيم إنسانية تشترك فيها جميع الأديان السماوية والعقائد غير السماوية والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان كقيم الصدق والأمانة والعدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية. أما الشريعة فهي تتضمن جملة من الأحكام التفصيلية التي تراكمت على مدى السنين، والتي تباينت فيها المذاهب والاجتهادات على نحو قسم المسلمين إلى جماعات شتى، ذات مذاهب مختلفة.
ومع ذلك فإن السلفيين يفترضون أن "حكم الشرع" واضح ولا لبس فيه. وهو كلام مردود عليه بأن الإسلام لم يأت بنظام للحكم محدد القسمات واضح الملامح، وإنما ترك هذا النظام للبشر يجتهدون في بنائه وفق الظروف في كل زمان ومكان. وهذا الكلام ينطبق أيضًا على أحكام وثيقة الصلة بطبيعة النظام الاقتصادي-الاجتماعي، وهي أحكام المعاملات التي لا يمكن إضفاء أية قداسة أو ديمومة عليها في رأي المستنيرين من علماء الدين الإسلامي. ولدار الإفتاء فتوى حديثة بأن "الشريعة الإسلامية لم تأمر بنظام سياسي محدد"، و"أن الشرع ترك الباب مفتوحًا أمام الاجتهادات التي تتناسب والعصور والأماكن المختلفة"(جريدة الشروق المصرية في 13/12/2011). ولزعماء السلفيين تصريحات تثير الكثير من المخاوف لدى الليبراليين واليساريين، بل ولدى كل مؤمن بالديمقراطية وقيمها الأصيلة؛ فقد صرَّح أحد قيادات حزب النور بأنهم يرفضون "الفكرة الفلسفية للديمقراطية في أن الشعب هو مصدر السلطة التشريعية"، وأنهم عندما يقبلون بآليات الديمقراطية، فإنهم يقبلونها "منضبطة بضوابط الشريعة"، بمعنى أنهم لا يقبلون "أن يكون الحكم لغير الله"(ياسر البرهامي- جريدة الشروق المصرية في 14/12/2011).
ولدى الإخوان المسلمين ما يثير الارتياب في تعاملهم مع المبدأ القائل بأن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، وما يثير شبهة الالتفاف حول مبدأ "الشعب مصدر السلطات". فهم عندما يوافقون على "مدنية الدولة" يسارعون إلى القول بأنها "مدنية ذات مرجعية إسلامية"، ويتحدث برنامج حزب الحرية والعدالة في بعض المواضع عن "مرجعية الشريعة"، وفي مواضع أخرى عن "مبادئ الشريعة"، مما يشي بشيء من المراوغة في هذا الشأن. ومما يسترعي الانتباه أن هذا البرنامج يسعى لفرض مرجعية الشريعة بجعل المحكمة الدستورية العليا رقيبًا على التزام التشريعات بهذه المرجعية. وأغلب الظن أن هذه ليست إلا صيغة بديلة لصيغة كان الإخوان قد تقدموا بها في نسخة سابقة من برنامجهم وأثارت مخاوف شديدة، وهي وصاية علماء الدين على سلطة التشريع على نحو قريب من صيغة ولاية الفقيه المطبقة في إيران؛ إذ عندما تكون الغلبة للقوى الدينية في البرلمان والحكومة، فسوف يكون في مقدور هذه القوى التأثير في تشكيل المحكمة الدستورية العليا وفرض ممثليهم فيها للقيام بمهمة تقييد سلطة الشعب في التشريع استنادًا إلى "مرجعية الشريعة".
وتشير تصريحات وممارسات عدة -لاسيما من جانب القوى السلفية- إلى أن تقييد الديمقراطية خطر قوي الاحتمال، لاسيما فيما يتعلق بالقيود على الحريات الشخصية، وعلى حرية الفكر والفن والأدب، وعلى ممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية؛ فقد تحدث برنامج حزب النور عن "إطلاق الحريات المشروعة"، كما تشير الممارسات التي شاعت بين السلفيين حتى من قبل دخولهم المجال السياسي، وكذلك بين بعض الجماعات الإسلامية الأخرى، إلى توجهات سلبية تجاه المرأة (فهي عورة يجب إخفاء ملامحها من الرأس إلى القدمين، كما يجب منع الاختلاط بين الجنسين، وقصر عمل النساء على مجالات بعينها)، وتجاه المسيحيين (فالبعض يحرم السلام عليهم أو تهنئتهم بأعيادهم، ناهيك عن اعتبارهم كفارًا)، وتجاه الفنون والآداب (الهجوم على أدب نجيب محفوظ بدعوى أنه يحض على الرذيلة والفجور، وتحريم التصوير وتعليق صور الأشخاص، وتحريم مشاهدة التليفزيون اللهم إلا القنوات الدينية وربما المباريات الرياضية للرجال)، وتجاه النشاط السياحي (يقول أحد مشايخ السلفية: إنهم ملتزمون بمنع "السياحة الشاطئية"، ويقول متحدث رسمي لحزب النور: إن حزبه سيمنع الخمور تمامًا في الفنادق المصرية، وأن الخمر لن تقدم للأجانب وسيسمح للسائح بحملها وشربها داخل غرفته فقط. ودعا زعيم سلفي مشهور إلى تغطية التماثيل الفرعونية بالشمع لأنها كالأصنام التي كانت تحيط بالكعبة في الجاهلية-جريدة الشروق المصرية 13/12/2011).
وعمومًا فإن الخوف من انقلاب الإسلاميين على الديمقراطية، أو تكبيلها بقيود شديدة، وارد في ضوء تجارب الحكم الإسلامي في بلاد كالسودان وإيران. وليس بمستبعد أن يعود الإسلاميون بعدما يقبضون على زمام الحكم إلى إحياء مقولات من نوع تحريم الخروج على الحاكم الإسلامي، حتى إذا ظلم وجار على حقوق العباد.
ملامح النظام الاقتصادي-الاجتماعي المتوقع
يحبذ الإسلاميون مبدأ الحرية الاقتصادية ونظام اقتصاد السوق الرأسمالي، مع السعي لإلباس هذه التوجهات لباسًا إسلاميًا؛ فوفقًا لبرنامج حزب الحرية والعدالة "يتم النشاط الاقتصادي... من خلال السوق الإسلامية.. التي تعتمد على المنافسة العادلة وحرية اقتصادية مقيدة.. وعلى صيغ التمويل الإسلامي". ويؤكد البرنامج على "ضرورة إعادة النظر في المنظومة المصرفية" بما يسمح أن تؤدي دورًا متزايدًا في الحياة الاقتصادية". ولا يستبعد البرنامج دور الدولة، ويحدده في "العمل المستمر على قيام بيئة صحية ومناخ استثمار مناسب محيط بالعملية الإنتاجية"، و"تنمية الهياكل الأساسية والمرافق العامة، والمشروعات الإستراتيجية، خاصة تلك التي يُحجم القطاع الخاص عن الدخول فيها". ولكن الأساس في التنمية والعمل الاقتصادي هو القطاع الخاص؛ إذ يقول البرنامج: "أما الدور الرئيسي في الاستخدام الكفء للموارد ولإحداث التنمية المستدامة... فهو مسؤولية القطاع الخاص"، وأن "الحرية الاقتصادية والمنافسة الشريفة هي أساس التقدم والرقي؛ ومن ثمّ فإن للقطاع الخاص دورًا محوريًا في الحياة الاقتصادية". كما يدعو البرنامج إلى "ترويج ثقافة العمل الحر والتوظيف الذاتي".
وفيما يتعلق بتوزيع الدخل، فإن برنامج حزب الحرية والعدالة يتحدث بعبارات عامة عن وجوب أن يتم التوزيع وفق معايير توزيع "عادلة" تتناسب مع الجهد المبذول أو وفق التكافل الاجتماعي المنشود. ويقرر البرنامج أن رعاية غير القادرين هي مسؤولية الدولة وبقية أفراد المجتمع القادرين من خلال الصدقات المفروضة، وعلى رأسها الزكاة، والتطوعية وغيرها من النفقات...، ومن خلال... الضرائب". وثمة تركيز على دور "مؤسسة الزكاة والوقف وكافة أعمال البر". ويؤيد البرنامج وضع حد أدنى وحد أقصى للأجر، ولكنه لا يقدم توجهًا محددًا بشأن الضرائب، ولا يذكر الضرائب التصاعدية أو الضرائب على الأرباح الرأسمالية، كما أنه لا يذكر شيئًا عن إعادة توزيع الثروة.
ويتصف البرنامج الاقتصادي لحزب النور بعمومية شديدة وغموض ملحوظ؛ إذ يكتفي بذكر أهداف عامة مثل رفع مستوى المعيشة ومكافحة البطالة وتقديم الدعم وتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك دون الإفصاح عن مضمون هذه الأهداف وسبل تحقيقها. وبالرغم من أن الحزب لم يصرح عن موقفه بشأن دور كل من القطاع الخاص والدولة، فإن بعض الفقرات التي جاءت في برنامجه الاقتصادي وكذلك في برنامجه السياسي تشير إلى ميله للقطاع الخاص ولاقتصاد السوق الحر؛ فهو يشدد مثلاً على "حق المجتمع في صون الملكية الفردية والمنافسة الاقتصادية الشريفة والحرة"، كما أنه يحبذ "تحرير التجارة في السلع الزراعية في حالة رواج النشاط الاقتصادي وإتباع سياسة تعزيز الأسعار في حالة الركود الاقتصادي". ويدعو الحزب في برنامجه للرعاية الصحية إلى "دعم مستشفيات القطاع الخاص ومراكزه الطبية".
وكما هو الشأن في برنامج حزب الحرية والعدالة، يركز حزب النور على تبني صيغ التمويل الإسلامي وتفعيل الزكاة والوقف؛ فثمة دعوة إلى "التوسع في صيغ التمويل الإسلامي المبنية على المشاركة في الأرباح وفي الإنتاج، بدلاً من النظام الربوي القائم على الفائدة". وإذ يخشى الحزب من أن تؤدي هذه الدعوة إلى اضطراب الأوضاع الاقتصادية، فإنه يتحفظ في دعوته باشتراط "أن يتم ذلك بصورة متدرجة وعلى سنوات عديدة حتى لا تحدث آثار سلبية على الاقتصاد". أما في مجال العدالة الاجتماعية، فإن حزب النور يشدِّد على "ضرورة تفعيل مؤسسات الزكاة والوقف والمشاركة من قبل الدولة، وأيضًا من قبل أبناء الوطن الأغنياء والقادرين لإنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية تساعد على تحقيق التكافل الاجتماعي في المجتمع".
الظاهر إذن هو أن القوى الإسلامية سوف تتبنى نظامًا رأسماليًا بالأساس يقوم على محورية دور القطاع الخاص واقتصاد السوق الحر؛ ولذا فمن المرجح أن النظام الاقتصادي-الاجتماعي في ظل غلبة الإسلاميين على البرلمان والحكومة لن يختلف بصورة جوهرية عن النظام السائد في عهد مبارك، خاصةً أن هذا النظام هو أيضًا النظام المحبَّذ من جانب القوى الليبرالية. وقد يتمثل الاختلاف عما كان قائمًا في نظام مبارك في اقتران النظام الاقتصادي-الاجتماعي بدرجة أقل من الفساد وببعض التحسينات المحدودة في توزيع الدخل. ولا يُتوقع أن تثير مسألة التطبيق المتدرج والمتمهل لصيغ التمويل الإسلامي خلافًا حادًا بين الإسلاميين والليبراليين؛ إذ إن هذه الصيغ كان معمولاً بها منذ سنوات في عهد مبارك، وأنها قد انطوت على مجرد تنويع في الخدمات المصرفية، ولم يتحقق من ورائها انقلاب في النظام المصرفي.
احتمالات تحرك الثورة نحو مراحل أكثر تطورًا
ثمة سؤال لابد من طرحه في النهاية، وهو: هل هذا الوضع المتوقع في المجالين السياسي والاقتصادي-الاجتماعي هو نهاية الطريق الذي فتحته ثورة يناير أمام المجتمع المصري؟
بالقطع لا؛ فما توقعناه لن يكون إلا مجرد مرحلة من مراحل متعددة للثورة ستفضي بعد وقت طال أم قصر إلى وضع جديد نتيجة للتطورات التي أتت بها الثورة ولم يعد هناك مجال لوقفها؛ فالصراع الطبقي لن يتوقف، بل إنه سيستمر بوتيرة أشد، وذلك بعد خروجه من حالة الكمون النسبي إلى حالة السفور. لقد خرج المارد من القمقم، ولم يعد من اليسير إعادته إلى القمقم مرة أخرى. وقد عرف المصريون طريقهم لانتزاع حقوقهم التي حُرموا منها زمنًا طويلاً، ولم يعد من الوارد أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام أية سلطة تقيد حرياتهم المدنية والسياسية، أو أمام التداعيات السلبية لنظام اقتصاد السوق الرأسمالي التي كانت سببًا من أسباب قيام الثورة؛ إذ يُتوقع استمرار هذه التداعيات السلبية -وإن بدرجة أقل- مع الاستمرار في تطبيق هذا النظام وسياساته في ظل غلبة القوى الإسلامية ودعم القوى الليبرالية لها في هذا الشأن، وذلك بحكم التناقضات الكامنة في هذا النظام والتي لا يتغير مضمونها سواء حَكَم الإسلاميون أم العلمانيون. كما أن المعارضة البرلمانية، وبخاصة المعارضة اليسارية، لن يمنعها تواضع حجمها النسبي في البرلمان من خوض المعارك داخل البرلمان وخارجه للدفاع عن حقوق الطبقات الشعبية، ولصد محاولات تقييد الحريات.
ولا شك في أن مصر ستشهد جولات جديدة للثورة تمضي بها قدمًا نحو مستويات أعلى من تحقيق أهدافها في التنمية الجادة والحرية والعدالة الاجتماعية. ومما يرجح هذا الاعتقاد إصرار القوى الثورية على أن "البرلمان ليس بديلاً للميدان"، وأن النشاط الجماهيري في ميدان التحرير وفي الميادين المناظرة في جميع محافظات مصر لن يتوقف بعد انتخاب البرلمان الجديد الذي تنظر إليه القوى الثورية على أنه "برلمان ما بعد الثورة"، لا "برلمان الثورة". بل إن هذا النشاط سيستمر كقوة ضاغطة على البرلمان وعلى الحكومة من أجل استكمال عملية تصفية النظام القديم وبناء النظام الجديد على نحو يجعله أكثر قدرة على الوفاء بتطلعات الطبقات الشعبية نحو مجتمع يحقق التنمية الشاملة والعادلة ويصون حرية وكرامة الوطن والمواطنين. والنجاح في هذا المسعى مرهون بتنامي قدرة القوى المدنية بوجه عام والقوى اليسارية بالمعنى الواسع بوجه خاص على الصمود في المنافسة التي لن تتوقف بينها وبين القوى الإسلامية فيما بعد الانتخابات. وهذا الأمر مرهون بدوره بما يتعين على هذه القوى أن تبذله من جهود ضخمة لتقوية هياكلها التنظيمية وانتشار قواعدها الحزبية على نحو يؤمِّن لها تثبيت أقدامها في الشارع السياسي والتواصل الفعال مع الجماهير.
وفيما يخص القوى اليسارية تحديدًا، فإن عليها أن تبدل الصورة الذهنية السلبية عنها لدى المجتمع كقوى مفتتة وغير متصالحة مع نفسها، وذلك بأن تجمع جهودها وتوحد صفوفها، وتنخرط في نضالات مشتركة مع الجماهير التي نذرت نفسها للدفاع عن مصالحها. وعلى التيار اليساري داخل البرلمان أن يُعد العدة جيدًا لخوض المعارك المتصلة باستكمال تحقيق أهداف الثورة. ويقتضي ذلك أمرين: أولهما: أن يتسلح هذا التيار بذخيرة قوية من مشروعات القوانين المدروسة دراسة دقيقة، الساعية للدفاع عن حقوق الطبقات الشعبية، وبمجموعة من الحجج القوية اللازمة لمواجهة محاولات الافتئات على هذه الحقوق. وثانيهما: أن يدير علاقاته مع القوى الليبرالية ويبني تحالفاته السياسية معها داخل البرلمان وخارجه في ضوء إدراكه لتأييد هذه القوى للمنهج الاقتصادي المحافظ للقوى الإسلامية من ناحية، ومعارضتها إياها فيما يتعلق بتديين السياسة وتقييد الحقوق والحريات المدنية للمواطنين والتمييز بينهم حسب الجنس أو الديانة أو العِرق أو محل الإقامة من ناحية أخرى. كما أن على التيار اليساري أن يدرك أن دفاعه عن حقوق الطبقات الشعبية سوف يوسِّع من قواعده الجماهيرية ويكسب له أنصارًا كثيرين في أرجاء البلاد. وهو ما سوف يساعد بالتالي في تقوية تنظيماته وتحالفاته الشعبية مع النقابات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. كما أن عمل التنظيمات اليسارية وسط الناس سيدفع هذه التنظيمات إلى التنسيق فيما بينها، إن لم يكن إلى التوحد. وانطلاقًا من هذه الأرضية يصبح خلق تكتل سياسي قوي يخوض به اليسار المصري معارك النضال الاجتماعي والسياسي هدفًا ممكن التحقيق، وتصبح الفرصة سانحة لفوز اليسار بنسبة محترمة من المقاعد في البرلمان في الانتخابات اللاحقة. وبذلك تزداد احتمالات وضع الثورة على المسار الصحيح نحو إنجاز أهدافها.
__________________________
إبراهيم العيسوي-سياسي واقتصادي مصري