ميت رومني مرشح الحزب الجمهوري (يسار)، وباراك أوباما (الجزيرة) |
أكثر ما يلفت الانتباه في المشهد الانتخابي الأميركي الراهن هو برودته مقارنة بمثيليه في 2004 و 2008؛ حيث تميزت الانتخابات الرئاسية في هذين العامين بدرجة استقطاب حادة واهتمام شديد بقضايا السياسة الخارجية كان مصدرهما في 2004 الغزو الأميركي للعراق وما سبقه من حملات إعلامية لتبرير هذا الغزو لدى الرأي الأميركي، أما انتخابات 2008 فجاءت في خضم أزمة مالية عصفت بالنظام المصرفي الأميركي وبعد أن بات واضحًا أن المغامرتين العسكريتين في أفغانستان والعراق قد وصلتا إلى أفق مسدود. لذا كان من الطبيعي أن تُلهب وعود أوباما -بإحداث قطيعة مع توجهات المحافظين الجدد في السياسة الخارجية والاقتصاد- مخيلة الأميركيين خاصة الشباب، وأن يستبسل الجمهوريون في الدفاع عن صحة توجهاتهم. أما اليوم وبعد ما يزيد على ثلاث سنوات في المكتب البيضاوي فقد أخفق أوباما في تنفيذ العديد من وعوده وتحويل الكثير من شعاراته إلى سياسات وهو ما كان يمكن أن يستثمره الجمهوريون للعودة إلى البيت الأبيض من جديد لولا عجزهم عن الخروج من عباءة السياسات الريجانية وهو ما قد يضعف حظوظهم في إلحاق الهزيمة بأوباما في نوفمبر/تشرين الثاني القادم؛ بحيث يمكن القول بأن الناخب الأميركي يجد نفسه مجبرًا على الاختيار بين رئيس فقد الكثير من شعبيته ومرشح جمهوري يسعى لإعادة إنتاج سياسات لم يتعافَ بعد المجتمعان الأميركي والدولي من نتائجها الكارثية.
وتنقسم القراءة للمشهد الانتخابي الأميركي المقدمة في هذه الورقة إلى ثلاثة أجزاء: يقيم الجزء الأول مدى التزام أوباما بتنفيذ وعوده الانتخابية، ويتناول الجزء الثاني الأزمة الفكرية التي يعاني منها الحزب الجمهوري، ويعقبه عرض لتوجهات الناخبين الأميركيين كما عكستها مجموعة من استطلاعات الرأي مؤخرًا.
أوباما.. المسافة بين الأقوال والأفعال
كان يوم 20 يناير/كانون الثاني 2009 يومًا تاريخيًا في الحياة السياسية الأميركية؛ حيث شهد دخول أول رئيس أسود إلى البيت الأبيض، ويمكن القول: إن هذا الحدث ما كان ليتم، أو على الأقل كان سيتأخر عدة سنوات أخرى، لولا الأزمات الحادة الداخلية والخارجية التي نتجت عن السياسات التي اتبعها جورج بوش الابن على مدى ثماني سنوات، والتي أدت نتائجها الكارثية إلى عودة السياسة مرة أخرى إلى الحياة العامة الأميركية. والمقصود بعودة السياسة هنا عودة النقاش حول عدالة النظام الاقتصادي القائم و ما أفرزه من اختلال حاد في توزيع الثروة في المجتمع، بالإضافة إلى عودة الجدل حول مدى أخلاقية السياسة الخارجية الأميركية، وهو نقاش وجدل كانا قد غابا عن الحياة العامة منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي الذي اعتبره البعض بمثابة الانتصار النهائي للرأسمالية على غيرها من الأيديولوجيات. وفي ظل هيمنة مقولة نهاية التاريخ سادت الأصولية الرأسمالية والمغامرات العسكرية الخارجية سواء في عهد الديمقراطي بيل كلينتون تحت ستار التدخل الإنساني أو الجمهوري جورج بوش باسم الحرب ضد الإرهاب. ولعبت الكاريزما التي يتمتع بها كلينتون دورًا كبيرًا في التغطية على الارتباط الوثيق بين عدد من أعضاء طاقمه الاقتصادي والمصالح المالية بوول ستريت، وعلى الإجراءات التي اتخذها لتقيلص الدور الرقابي للدولة وإطلاق يد المؤسسات المالية العملاقة؛ مثل الموافقة على إلغاء الضوابط التي وضعها قانون جلاس-ستيجال(*) على عمل البنوك التجارية منذ عام 1933. كما أدى استخدام خطاب حقوقي للترويج للتدخل العسكري في يوغسلافيا السابقة دورًا مماثلاً في التغطية على ما مثّله هذا العدوان من تلاعب بالقانون والأعراف الدولية القائمة.
وإذا كان هذان العاملان ساعدا في خلق انطباع إيجابي عن سنوات حكم كلينتون على الرغم من ظهور أولى إرهاصات الأزمة الاقتصادية في أواخر عهده؛ ففي المقابل ساهمت عدة عوامل في استفحال هذه الأزمة في عهد خلَفه إلى أن انفجرت في آخر سنة من ولاية بوش الثانية، ومن هذه العوامل سعي إدارة بوش الحثيث لإزالة ما تبقى من إجراءات رقابية حكومية على المؤسسات الاقتصادية خاصة المالية منها، وتفكيك شبكة الضمانات الاجتماعية التي تكونت كجزء من العقد الجديد الذي دشنه فرانكلين روزفلت في ثلاثينيات القرن الماضي، وفي الوقت ذاته تخفيض الضرائب على الشركات الكبيرة، ويُعد هذا التوجه من إدارة بوش أمرًا مفهومًا في ضوء الانحيازات الاجتماعية لأعضائها الذين سبق للكثير منهم شغل مناصب قيادية في العديد من كبرى مؤسسات وول ستريت. وتواكب مع هذه السياسات الاقتصادية-الاجتماعية تبني سياسة خارجية عدوانية غير مكترثة بضوابط القانون الدولي، ومرة أخرى يُعد هذا أمرًا مفهومًا في ضوء سيطرة عتاة المحافظين الجدد على ملفَّي السياسة الخارجية والأمن. وهنا تجدر الإشارة إلى أن نائب الرئيس تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد ونائبه ولفوويتز ومسؤول الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي إليوت إبرامز، وأول سفير أميركي في أفغانستان في ظل الاحتلال زلماى خليل زادة وغيرهم من كبار منظري ومسؤولي إدارة بوش كانوا من ضمن الموقعين على البيان التأسيسي لمشروع "القرن الأميركي الجديد" إبان ولاية كلينتون الثانية. وقد شنَّ الموقعون على هذا البيان هجومًا حادًا على ما اعتبروه تخاذلاً من كلينتون في وضع أسس ما وصفوه بقرن أميركي جديد، وطالبوا بتبني سياسة خارجية ريجانية تقوم على زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري لمواجهة الأنظمة المعادية للمصالح والقيم الأميركية، ولنشر الحرية السياسية والاقتصادية خارج الولايات المتحدة وإنشاء نظام دولي متوافق مع مبادئ الولايات المتحدة وأمنها. وقد وفّر هجوم القاعدة على مركز التجارة العالمي بنيويورك المناخ الذي كان يحتاجه المحافظون الجدد لتعبئة الرأي العام الأميركي خلف هذا المشروع تحت مسمى الحرب ضد الإرهاب.
وأدى تراكم آثار "الاشتراكية للأغنياء" -وهو الوصف الذي أطلقه عالم الاقتصاد البارز جوزيف ستيجليتز على السياسات الاقتصادية والاجتماعية المنحازة للأغنياء- بالإضافة إلى التكلفة الباهظة لحروب بوش والتي بلغت في حالة الحرب على العراق وحدها ثلاثة تريليونات دولار(1) إلى إفقار قطاعات عديدة من الطبقة الوسطى، وزيادة الأعباء على الفقراء، وتركيز الثروة في يد فئة صغيرة للغاية حيث وصل نصيب ال 1% وال 10% الأغنى من المواطنين من مجمل الدخل (باستثناء الارباح الرأسمالية) في عام 2005 إلى ما يزيد على 17% و44% على التوالي(2). وهو اختلال ما كان يمكن لأى إعلام مها بلغت براعته أن يخفيه أو يضفي عليه شرعية، وجاء رد فعل القطاعات المتضررة في شكل حركات احتجاجية واسعة سواء على الحرب أو على الانحيازات الطبقية التي عبّرت عنها هذه السياسات.
وكان من الطبيعي أن تحتشد هذه القطاعات وراء أوباما الذى بدا في 2008 نقيض المؤسسة السياسية الأميركية بجناحيها الجمهوري والديمقراطي ليس فقط في لون البشرة ولكن أيضًا في الموقف من الحرب على العراق والانحيازات الطبقية، ولكن بعد ما يزيد على ثلاث سنوات من وجوده في البيت الأبيض بات واضحًا أن وعود أوباما بالتغيير لم يتحقق منها الكثير على أرض الواقع؛ فصحيح أن أوباما سحب الوحدات القتالية من العراق إلا أن ذلك تم وفقًا للاتفاقية التي كان بوش وقّعها. كذلك فعلى الرغم من أن مصطلح الحرب على الارهاب ومشتقاته لا يظهر كثيرًا في خطاب أوباما السياسي إلا أن أوباما لم يوقف رحاها بل ازدادت ضراوتها في دول لم تكن من الجبهات الرئيسية في عهد بوش، مثل اليمن وباكستان والتي سقط المئات إن لم يكن الآلاف من مواطنيها الأبرياء ضحايا الهجمات الأميركية، كما أظهرت الغارة الأميركية التي قُتِل فيها زعيم تنظيم القاعدة السابق أن أوباما الحائز على جائزة نوبل للسلام يتساوى مع سلفه -الذي يطالب الكثيرون بمحاكمته كمجرم حرب- في عدم احترام قواعد القانون الدولي وسيادة الدول، بل إن أوباما ذهب إلى حد التصريح بقتل مواطن أميركي خارج إطار القانون بدعوى عضويته في تنظيم إرهابي كما حدث في حالة أنور العولقي. ولكن يظل عدم إغلاق معتقل جوانتانامو -على الرغم من أن ذلك كان أحد أهم وعوده الانتخابية- الدليل الأبرز على أن أوباما لم يُحدِث قطيعة مع سياسات بوش غير الأخلاقية المنافية للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان والقانون.
ولا يملك أوباما رصيدًا أفضل في الملف الاقتصادي؛ فما زالت معدلات البطالة وفقًا للأرقام الرسمية أعلى من 8%، ويُرجِع بول كروجمان وجوزيف ستيجلز الحائزان على جائزة نوبل في الاقتصاد ذلك إلى رضوخ أوباما لضغوط وول ستريت والجمهوريين لعدم زيادة الإنفاق الحكومي ولاتباع سياسات تقشفية، وفي الوقت ذاته دعم البنوك الكبيرة المتعثرة وعدم إعادة هيكلتها؛ وهو ما ترتب عليه إضعاف فاعلية الإجراءات التي اتخذها أوباما لاعادة تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة، كما أدت إلى حرمان المواطنين أصحاب الدخول المتوسطة والمنخفضة من العديد من الخدمات الاجتماعية مما زاد من وطأة الأزمة الاقتصادية عليهم، وفي المقابل استفادت الفئة الأكثر ثراءً من تلك السياسات. ويُعد قانون التأمين الصحي نموذجًا واضحًا على حرص أوباما على مسك العصا من المنتصف؛ وهو ما يتعارض بشدة مع الصورة التي حرص على رسمها لنفسه أثناء حملته الانتخابية، وترجع أهمية قضية التأمين الصحي في الولايات المتحدة إلى أنها الدولة الصناعية الوحيدة التي لا تكفل تأمينًا صحيًا لمواطينيها مما جعله أحد أكثر المطالب الاجتماعية شعبية عند الكثير من الحركات والقطاعات المجتمعية التي دعمت أوباما في سعيه ليكون أول رئيس أسود للبلاد، إلا أن القانون الذي صدر في نهاية الأمر، وإن كان البعض قد اعتبره خطوة في الاتجاه الصحيح إلا أنه، جاء مخيبًا لآمال الكثيرين؛ حيث يقل نوع الرعاية التي يقدمها كثيرًا عما يقدمه نظراؤه في الدول الصناعية الأخرى، كما أنه لا يكفل التأمين الطبي لجميع المواطنين حيث ظل الملايين من الأميركيين خارج مظلته، كما لم يكسر هذا القانون سيطرة شركات التأمين الكبرى على هذا المجال؛ فملايين الأميركيين ما زالوا مضطرين للحصول على خدمة التأمين الصحي من خلال هذه الشركات مقابل أقساط مالية باهظة؛ حيث لا يوفر لهم القانون بديلاً حكوميًا أقل تكلفة. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى حركة (احتلوا وول ستريت) ليس فقط على أنها حركة احتجاج ضد المصالح المالية الكبرى وإنما أيضًا تعبير عن الإحباط الناتج عن النهج الذي تبناه أوباما.
الجمهوريون والأصولية الريجانية
مثّل انتخاب رونالد ريجان رئيسًا للولايات المتحدة في عام 1980 نقطة تحول في تاريخ الحزب الجمهوري والحياة السياسية الأميركية بشكل عام، فريجان كان يعبِّر عن تيار محافظ جديد معادٍ لأي دور للدولة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، ومؤمن بضرورة اتباع سياسة خارجية صدامية ومتشددة؛ وهو بذلك يختلف عن المحافظين التقليديين، أمثال أيزنهاور ونيكسون الذين كانوا قد تقبلوا مبادئ وأفكار العقد الجديد واتبعوا سياسات وفاقية مع الاتحاد السوفيتي. ونجح المحافظون الجدد في إقناع القواعد الجمهورية بأن سياسات ريجان نجحت ليس فقط في وقف تدهور مكانة الولايات المتحدة العالمية وإنما أيضًا في هزيمة وتفكيك الاتحاد السوفيتي مما مكنهم من السيطرة على الحزب. ولكن هذا النجاح كان سلاحًا ذا حدين حيث أصبح الجمهوريون أسرى هذه التوليفة من السياسات الاقتصادية والخارجية والتي تعاملوا معها على أنها مقدس ديني واعتبروا الخروج عليها نوعًا من الهرطقة، وهو ما أنتج حالة من الجمود والسلفية الفكرية داخل الحزب، وأضعف قدرته على التطور بحيث أصبحت برامج مرشحيه تنحصر في الدعوة إلى إعادة إنتاج السياسات التي اتبعها ريجان وهو ما أشرنا إليه في الجزء السابق عند الحديث عن مشروع القرن الأميركي الجديد وسياسات جورج والكر بوش. وقد أظهرت الانتخابات التمهيدية للفوز بترشيح الحزب الجمهوري في الانتخابات القادمة مدى استحكام هذه الأزمة؛ فباستثناء رون بول الذى دعا إلى اتباع سياسة خارجية انعزالية تبارى جميع المرشحين الآخرين في إعادة إنتاج سياسات ريجان على الرغم من فشلها الذريع أثناء رئاسة بوش.
ولا يتطلب الأمر قراءة متعمقة لبرنامج ميت رومني المرشح الأوفر حظًا للفوز بترشيح الحزب الجمهوري ليدرك المرء أن استئناف سياسات بوش أو بالأحرى سياسات ريجان في صورتها الأكثر جموحًا يمثل جوهر هذا البرنامج سواء في شقه الاقتصادي أو في الشق الخاص بقضايا السياسات الخارجية والأمنية؛ ففيما يتعلق بالجانب الاقتصادي يقوم برنامج رومني على أفكار وشعارات الأصولية الرأسمالية المؤمنة بفاعلية السوق وقدرته على تصحيح أدائه بنفسه دون الحاجة إلى تدخل حكومي، بل إن رومني يُحمّل أوباما لا بوش مسؤولية الأزمة الاقتصادية الراهنة بسبب ما يصوره على أنه تدخل من إدارة أوباما في النشاط الاقتصادي وزيادة الانفاق الحكومي؛ وهي رؤية أيديولوجية تتعارض مع تقييم كل من كروجمان وستيجليز لسياسات أوباما الذي أشرنا إليه في الجزء السابق. ويرى رومني أن الخروج من الأزمة يتطلب تقليل الإنفاق الحكومي، والمزيد من تخفيف الإجراءات الرقابية والتنظيمية الحكومية، وتخفيض الضرائب على الشركات لزيادة قدراتها التنافسية وتحفيزها لخلق وظائف جديدة؛ وهى نفس السياسات التي اتبعها بوش والتي يعدُّها العديد من الخبراء الاقتصاديين السبب الرئيسي للأزمة الحالية.
وعلى الرغم من أن تقليل الإنفاق الحكومي على الخدمات يُعد إحدى أولويات برنامج رومني الاقتصادي فإن الدعوة لزيادة الإنفاق العسكري يعد أحد أهم ركائز برنامجه الخاص بالسياسات الخارجية والأمنية والمعنون (قرن أميركي)، وهو ما قد يرى فيه الكثيرون تناقضًا واضحًا إلا أن المحافظين الجدد منذ رئاسة ريجان يرون فيه موقفًا منطقيًا بل يعتبرونه أحد الأسس الرئيسية لأيديولوجيتهم. ولا يتوقف التشابه بين برنامج رومني ومشروع القرن الأميركي الجديد الذي أشرنا إليه في الجزء الأول عند حدود العنوان؛ ففي الواقع يمكن القول: إن حملة رومني قامت بإعادة تدوير السياسات التي طرحها معدو مشروع القرن الأميركي الجديد، ويُعد هذا أمرًا مفهومًا خاصة وأن طاقم مستشاري رومني يضم ثلاثة من مديري مبادرة السياسة الخارجية التي تُعد الطبعة الجديدة من هذا المشروع. وإجمالاً يحمل برنامج رومني جميع الملامح المميزة للسياسات الخارجية والأمنية للمحافظين الجدد منذ انتصار ريجان على كارتر؛ فالبرنامج يتهم أوباما بالتسبب في تراجع مكانة الولايات المتحدة الدولية والسماح لدول كالصين وروسيا بتهديد مصالحها الإستراتيجية وقيادتها للنظام الدولي، كما يرى البرنامج أن أوباما تخاذل في الدفاع عن قيم الديمقراطية والحرية على المستوى الدولي وأنه تساهل مع طموحات إيران النووية مما يشكّل من وجهة نظر رومني وفريقه تهديدًا لأمن إسرائيل. ويتعهد البرنامج بصياغة نظام عالمي يقوم على القيم الأميركية ويحمي مصالح الولايات المتحدة، ويرى واضعو برنامج رومني أن تحقيق ذلك الهدف يتطلب تطوير القوة العسكرية الأميركية، ووضع منافسي الولايات المتحدة في وضع دفاعي، والقضاء على خصومها من خلال زيادة القدرات الانتاجية للصناعات العسكرية، ومحاصرة الصين وروسيا بسلسلة من التحالفات الإقليمية والضغط عليهما من خلال ملف حقوق الإنسان في البلدين، والتواجد الدائم لحاملات الطائرات الأميركية في الخليج العربي.
استغل الجمهوريون في الماضي هذا النوع من الخطاب الانتخابي الذي يعتمد على إثارة المخاوف من أخطار وتهديدات خارجية مزعومة للحصول على أصوات الناخبين غير الحزبيين استنادًا على الاعتقاد السائد لدى العديد من الأميركيين بتفوق الجمهوريين على منافسيهم الديمقراطيين في المجالين الخارجي والأمني، وإن كان من المستبعد أن يكون هذا الخطاب ورقة رابحة في الانتخابات القادمة؛ فالمجتمع الأميركي ما زال يعاني من تبعات حروب بوش، كذلك فإن أوباما يستطيع أن يفاخر بسجله في المجالين الخارجي والأمني خاصة فيما يتعلق بمنع حدوث أية هجمات على الأراضي الأميركية، والقضاء على زعيم القاعدة السابق، والمساهمة في إسقاط النظام الليبي السابق، وفرض العديد من العقوبات على إيران دون تحميل الولايات المتحدة أية أعباء سياسية أو اقتصادية كبيرة، وهي كلها أمور فشل سلفه الجمهوري في تحقيقها من خلال نفس السياسات التي يدعو إليها رومني، أضف إلى ذلك أن توجهات الرأى العام الأميركي كما سنرى في الجزء التالي تبدو غير مهيأة للاحتشاد خلف هذا الخطاب في اللحظة الراهنة.
التوجهات الحالية للناخب الأميركي
من الصعب توقع هوية الفائز في انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة في هذه المرحلة المبكرة من السباق الانتخابي والذي لن يبدأ رسميًا إلا بعد أن يعلن كل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري عن مرشحه، ولكن ما يمكن تحديده هو القضايا التي ستحتل الحيز الأكبر من اهتمام المرشحين في المراحل المقبلة من السباق، ونقاط قوة وضعف كل منهما في ضوء التوجهات الحالية للناخبين الأميركيين كما عبّرت عنها مجموعة من استطلاعات الرأي التي أُجريت مؤخرًا. فقد أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للبحوث في الشهر الماضي (إبريل/نيسان) أن الاقتصاد والبطالة يأتيان في مقدمة اهتمامات الناخبين؛ حيث اعتبر 86% و84% على التوالي من أفراد العينة أن الأمرين سيلعبان دورًا كبيرًا في تحديد المرشح الذي سوف يصوتون له. وجاء العجز في الموازنة والتأمين الصحي في المرتبة الثالثة والرابعة؛ حيث رأى 74% من العينة أن القضيتين سيكون لهما تأثير كبير على اتجاههم التصويتي. وفي المقابل يبدو أن القضايا الأمنية والخارجية لن يكون لها دور كبير في تحديد اتجاه التصويت إلا لما يقرب من نصف الناخبين حيث أشار فقط 59% و52% و47% و46% من أفراد العينة على التوالي إلى أن قضايا الإرهاب والسياسة الخارجية وإيران والحرب في أفغانستان ستلعب دورًا كبيرًا في تحديد قرارهم بالتصويت لمرشح دون الآخر. بينما جاءت قضايا اجتماعية كالإجهاض وزواج المثليين في مرتبة متأخرة حيث لم ير إلا 39% و28% من أفراد العينة على التوالي أن هذين الموضوعين سيلعبان دورًا مهمًا في قرارهم التصويتي(3).
وتتفق هذه النتائج مع نتائج استطلاعات أجرتها مؤسسات أخرى في فترات سابقة حيث أظهر استطلاع أجرته سي إن إن في منتصف العام الماضي أن 92% من أفراد العينة رأوا أن الاقتصاد سيكون أمرًا مهمًا أو مهمًا للغاية في الانتخابات القادمة، بينما أعرب 87% من أفراد العينة عن اعتقادهم أن البطالة ستكون موضوعا مهمًا أو مهمًا للغاية في السباق الرئاسي(4). وتفوق أوباما بست نقاط على رومني في استطلاع أجرته سي إن إن في مارس/آذار الماضي؛ حيث حصل أوباما على تأييد 46% من أفراد العينة بينما حصل رومني على تأييد 40% فقط(5)، وهي نتيجة قريبة مما أظهره استطلاع مركز بيو والذي لم يتفوق فيه أوباما على رومني إلا بفارق ضئيل لم يتجاوز الأربع نقاط. ومن الجدير بالملاحظة أن أيًا من المرشحين لم يتجاوز حاجز ال50% في الاستطلاعين وهو ما يبرز المأزق الذي يعاني منه المرشحان ومعهما الناخب الأميركي؛ فرومني لم يستطع الاستفادة من عدم رضاء غالبية المواطنين الأميركيين عن أداء أوباما الاقتصادي لإقناعهم بالتصويت له، وفي المقابل لم يتمكن أوباما من تحويل استياء الغالبية من الناخبين من نخبوية رومني لتحقيق تفوق واضح على منافسه، أي أن التقارب بين الاثنين يرجع بدرجة أكبر إلى ضعف شعبيتهما لا إلى قوتها، وترتب على ذلك أن الناخب الأميركي يجد نفسه مجبرًا على اختيار المرشح الذي يراه أقل سوءًا من منافسه؛ وذلك بفضل نظام انتخابي منحاز إلى الحزبين الكبيرين ويحصر تداول السلطة بينهما؛ لذلك فليس من الغريب أن يتمسكا به على الرغم من أن غالبية الأميركيين وفقًا لأحد استطلاعات الرأي التي أُجريت في العام الماضي ترى أنه يُخضع العملية الانتخابية والفائزين بها للمصالح المالية الكبيرة(6).
________________________
باسم حسن - باحث في العلاقات الدولية مقيم بالولايات المتحدة الأميركية.
الهوامش
(*) قانون جلاس ستيجال Glass-Steagall نسبة إلى كارتر جلاس وهنري ستيجال عضوي الكونجرس اللذين تبنَّيا أول مسودة لمشروع قانون في عام 1933 في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت بهدف إعادة العمل بالنظام المصرفي الأميركي الأصلي وهو نظام ألكسندر هاملتون (Alexander Hamilton) المبني على أساس تحمل الدولة مسؤولية السيطرة على العملة والائتمانات وتوجيهها نحو تطوير الاقتصاد الحقيقي وليس جني اللأرباح لصالح مجموعة من المصرفيين والتجار والمضاربين الذين تسببوا في الكساد العظيم الذي شمل الولايات المتحدة والعالم آنذاك. (المحرر)
(1) Stiglitz, Joseph and Linda Bilmes (2008) The Three Trillion Dollar War: The True Cost of the Iraq Conflict, London: Penguin Books
(2) Krugman, Paul (2007) The Conscience Of A Liberal: Reclaiming America From The Right, London: Allen Lane, p.16
(3) http://www.people-press.org/2012/04/17/with-voters-focused-on-economy-obama-lead-narrows/?src=prc-headline
(4) http://www.cnn.com/POLITICS/pollingcenter/issues/index.html
(5) http://www.cnn.com/POLITICS/pollingcenter/national/index.html#RACE_PRESIDENT_2012
(6) http://www.cnn.com/POLITICS/pollingcenter/issues/index.html