يبدو العراق من جديد، في أزمة عميقة، متشابكة، متعددة الأبعاد، يقف في المركز منها رئيس الوزراء، السيد نوري المالكي، وكتلته (دولة القانون) التي يقودها حزب الدعوة، بينما تقف سائر القوى الأخرى على وجه التقريب، في تضاد معه ابتداءً من القائمة العراقية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، مرورًا برئيس إقليم كردستان، مسعود البارزاني، وانتهاء بمقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، وأبرز قادة القائمة الوطنية التي تضم الدكتور إبراهيم الجعفري، وأحمد الجلبي، وعمار الحكيم.
الاشتباك، على هذا، يبدو شاملاً ضد ثلاث كتل سياسية كبرى، هي الكتل التي فتحت الطريق لانتخاب المالكي في البرلمان رئيسًا للوزراء، وهي كتل تمثل السنة والشيعة العلمانيين (العراقية)، والكرد (التحالف الكردستاني)، وثاني كتلة في التحالف الوطني (التيار الصدري الذي بفضله أمكن تسمية المالكي مرشحًا لرئاسة الوزراء).
هذا التصادم الكبير يبدو، من الوجهة السياسية، لا عقلانيًا؛ فالسياسة تقوم على توسيع رقعة الأصدقاء، وتحييد الخصوم، والتركيز على نقطة احتدام واحدة وأساسية، لكنه من وجهة نظر المصلحة الحزبية يبدو بمثابة ضرورة، في نظر أصحابه.
المسار العام يبدو سائرًا على سكتين:
-
نزعة مركزية شديدة تتعارض (دستوريًّا على الأقل) مع الطابع الفيدرالي واللامركزي للدولة، كما تتعارض مع الطابع الائتلافي للحكومة.
-
نزعة انفراد حزب (الدعوة) تحت قيادة المالكي تتعارض ليس مع الخصوم بل مع الحلفاء الأقربين في التحالف الشيعي لأنه يهدد بمحقهم أو تهميشهم.
دعونا نعاين خلفيات الأمر في سياقها الزمني:
المالكي الأول: قوة الضعف
معروف أن اختيار المالكي رئيسًا للوزراء عام 2006، كان حلاً وسطًا، هدفه الأساس استبعاد إبراهيم الجعفري، الذي أثار السخط الكردي والأميركي، ولم يحظ برضى واضح لدى الكتل الأخرى. وقد اختير المالكي بتوافق شيعي داخلي، بعد أن دخلت الأحزاب الإسلامية الشيعية الانتخابات في جبهة واحدة (الائتلاف العراقي الموحد)، وتقاسمت المقاعد فيما بينها بقرار من القادة (حسب القانون القديم للانتخابات)، وكان في واقع الأمر تقاسم للنفوذ بين الكتلة الصدرية، والمجلس الإسلامي-كتلة الحكيم. هذان الزعيمان كانا يهيمنان على التحالف، ولم يكن لحزب الدعوة سوى دزينة مقاعد من مجموع 148 مقعدًا لهذا المعسكر. كان حزب الدعوة، والمالكي نفسه، الشريك الأصغر والأضعف، وقد اختير كحل وسط بين عملاقين (الصدر والحكيم) لا يرغبان في أن يتفوق أحدهما على حساب الآخر. المنطق نفسه كان سائدًا لدى الجبهة الكردستانية: رئيس وزراء ضعيف خير ألف مرة من آخر قوي.
لكن ضعف أو قوة السياسي لا تتعلق بشخصه، بل بالموارد التي يتحكم بها، وهي، في حالة العراق المعتمد على النفط، والوجود العسكري الأميركي، موارد لا تقع تحت سيطرة زعماء الكتل، بل تحت سيطرة الماسكين بالسلطة التنفيذية.
نما المالكي "الضعيف" وسط صراع الجبابرة، ليصبح متجاوزًا الاثنين معًا (الصدر والحكيم) معتمدًا على جهاز دولة يشتد، وعلى عوائد نفطية متزايدة، وعلى دعم أميركي عسكري-سياسي-مالي، يريد إنهاء التمردات بأي ثمن.
جرت محاولات لإسقاط وزارة المالكي الأولى عامي 2006-2007 بانسحاب وزراء من ثلاث كتل، لكن المحاولة فشلت، ليعقبها بعد ذلك أكبر حملة سياسية عسكرية لضرب الجماعات المسلحة، السنية والشيعية على حد سواء.
آلت الحملة إلى ظهور الصحوات على الجانب السني، فتغير ميزان القوى بعيدًا عن العنف السياسي المسلح باتجاه الانخراط في العملية السياسية، ونحو إطلاق حملة فرض القانون من أجل تفكيك ميليشيات جيش المهدي وإنشاء مجالس الإسناد، على الجبهة الشيعية. في تلك اللحظة بالذات، حظي المالكي بإسناد شعبي وسياسي واسع (العراقية، الصحوات، مجالس الإسناد، الأميركيون)، وبسخط داخل الحركة الصدرية (وراعيتها إيران)، ومخاوف المجلس الإسلامي (الحكيم) من النمو المفرط لنفوذ المالكي.
وفي تلك اللحظة بالذات، توسعت صفوف حزب الدعوة، وحظي المالكي شخصيًا برأسمال سياسي كبير، بوصفه الزعيم القوي، القادر على لجم الميليشيات، على جانبي خط الانقسام الطائفي. وما زاد في رصيده السياسي، المفاوضات المحتدمة التي خاضها مع الولايات المتحدة، والتي أظهرته بمظهر الشخص المستقل، لا التابع المرؤوس "للأميركيين". فضلاً عن ذلك، فإن التوترات التي نشأت بينه وبين الأكراد (في منطقة خانقين) لقيت هوى في أوساط العرب في كركوك والموصل، كما حظيت برضى الأوساط العربية المتشددة.
هكذا بدأ المالكي رحلته عام 2006 كزعيم ضعيف لحزب ضعيف، وانتهى عام 2008 بحملة فرض القانون والاتفاق الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وتحدي إيران، فبرز في صورة زعيم قوي نافذ، وبرزت ثقته وثقة حزب الدعوة في تنامي القدرة الذاتية، حدًّا دفع رئيس الوزراء إلى الإعلان جهارًا أنه لن يقبل بالصيغة التوافقية لتشكيل الحكومة. وكان هذا الهجوم على "الفكرة التوافقية"، تعبيرًا مضمرًا عن النزعة المركزية التي ستظهر لاحقًا، في الفترة الثانية من رئاسة المالكي لمجلس الوزراء.
الانتخابات: الأول في القوى الشيعية
لم يخرج المالكي من حملة فرض القانون في عام 2008 برأسمال كبير فحسب، بل إن رأس المال هذا وجد ترجمته في انتخابات مجالس المحافظات؛ حيث حققت كتلة "دولة القانون" فوزًا كاسحًا في محافظات الوسط والجنوب، المختلطة والشيعية، بدعم جلي من الطبقات الوسطى، الطامحة إلى الاستقرار وحكم القانون. ولم تكن تسمية كتلة المالكي باسم "دولة القانون" محض مصادفة، بل كانت تعبيرًا عن الحاجة إلى احتكار الدولة لوسائل العنف كشرط أساس للمدنية والاستقرار. كما أن تجاوب قطاعات اجتماعية واسعة مع هذه الفكرة، كشف عن مدى عمق الحاجة إلى دولة "قوية"، وبالطبع "زعيم قوي" أيضًا. واستمر هذا الميل في الانتخابات البرلمانية لعام 2010.
ولكن لنلاحظ ما يلي: أولاً: أن الأحزاب الإسلامية الشيعية لم تدخل الانتخابات في قائمة واحدة (كما حصل مرتين عام 2005)؛ حيث توزعت فيها حصص المقاعد على الأحزاب بمساومات بين القادة، بل دخلت في قائمتين منفصلتين، فكتلة دولة القانون (المالكي) من جهة، والائتلاف الوطني (تحالف الصدر، الحكيم، الجعفري) من جهة أخرى. كما أن المرجعية العليا في النجف ممثلة بالسيد السيستاني اتخذت موقفًا حياديًا من سائر الأحزاب تاركة للناخبين حرية الاختيار، هذا فضلاً عن منع أو تحريم استخدام الرموز الدينية وبخاصة صور السيستاني في حملات الدعاية الانتخابية. هذه العوامل مجتمعة تركت الأحزاب أمام رعب حرية الناخب.
أسفرت الانتخابات عن فوز كاسح لحزب الدعوة (كتلة دولة القانون) في الإطار الشيعي (87 مقعدًا مقابل 70 مقعدًا للائتلاف الوطني)، غير أن هذا الفوز لم يكن حاسمًا في الإطار العراقي العام لأن القائمة العراقية كانت كتلة أكبر، وكذلك وجود الكتلة الكردستانية، وأيضًا لأن مقاعد البرلمان ارتفعت إلى 325 مقعدًا، فارتفع سقف النصاب المطلوب لأي قانون دستوري أو أي تشكيل حكومي (50%+1).
بدا تشكيل الحكومة (الرئاسيات الثلاث: الجمهورية، مجلس الوزراء، والبرلمان) مستعصيًا بسبب المواجهة بين الكتلة العراقية-إياد علاوي، ودولة القانون-المالكي. وعلى مدى عشرة أشهر من المساومات والمناورات (كاقتراح تقاسم رئاسة الوزراء لمدة عامين لكل من علاوي والمالكي، أو إنشاء مجلس السياسات)، ومن الضغوط الإقليمية المعلنة وغير المعلنة، ظل التوافق مستعصيا.
اضطر المالكي، من أجل البقاء، إلى التحالف مع الكتلة الصدرية (من داخل الائتلاف الوطني-40 مقعدًا) متراجعًا عن بنود حملة فرض القانون، أي مضحيًا بأساس رصيده السياسي، وإلى القبول باتفاقية أربيل التي تمنح القائمة العراقية موقعًا قويًّا في السلطة التنفيذية، وإلى التراجع عن مطالب اجتثاث عدد من السياسيين، أبرزهم صالح المطلك، وإلى إرضاء الكتلة الكردستانية فيما يتعلق بكركوك.
المالكي الثاني: قوة من اضعاف الآخرين
نجاح المالكي في بناء تحالف عريض، شيعي أولاً (لضمان ترشحه)، وعراقي ثانيًا (لضمان انتخابه فعليًا رئيس وزراء)، لم يتحقق بمعزل عن دعم أميركي لشريك مضمون (في حملة فرض القانون عام 2008). ودعم إيراني (لم يكن المالكي المرشح الأول بادئ الأمر).
لكن المالكي عام 2008، لم يكن مالكي عام 2010. المالكي الجديد أكثر خبرة، وأقوى نفوذًا، مع أجهزة عسكرية-مخابراتية ذات قدرات نامية، مالكي جديد ميال بقوة إلى الحكم المركزي، فكرة وتطبيقًا.
وتضرب هذه الموضوعة جذورها في فكرة أخرى أقدم عهدًا لدى الزعماء الشيعة، وإن كانت غير معلنة هي فكرة الحكم الأغلبي، كقاعدة للديمقراطية، فيرى الزعماء الإسلاميون أنهم الممثلون الحقيقيون للشيعة، وأن الشيعة هم الأغلبية الديموغرافية، وبالتالي فإن الأغلبيات الديموغرافية هي، بالضرورة، أغلبيات ديمقراطية. وباختصار: الديموغرافيات = الديمقراطية. فضلاً عن ذلك، يرى الزعماء الشيعة، أنهم اعتادوا على "الحكم السني" على مدى تاريخ الدولة العراقية الحديثة (منذ 1921) رغم أنهم هم الأغلبية، وأن بوسع غيرهم كأقلية أن يعتاد على "الحكم الشيعي". وهناك أبنية تدعم مثل هذه الرؤى والتصورات والمفاهيم التي تدور في الكواليس، وتؤلِّف حافزًا مهمًّا للميل إلى الحكم المركزي.
هناك أبنية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تساعد هذا الميل وتعضده، مثلما أن هناك أبنية أخرى معاكسة، تحبط هذا الميل المركزي الشديد. والمالكي في الواقع إنما يتأرجح وسط هذين الميلين المتعاكسين، راغبًا في المضي قُدمًا نحو المركزية المفرطة، ومحققًا خطوات في هذا الاتجاه، وفي الوقت نفسه، تراه يتراجع هنا وهناك عن مركزيته المرتجاة، بإزاء قوة الاعتراض المناوئ.
نزعة المركزة تعتمد، أول ما تعتمد، على الطابع الريعي النفطي، فهو ثروة مستقلة عن المجتمع، وأحزابه، وهي محتكَرة من جانب السلطة التنفيذية، وتحديدًا مجلس الوزراء، ورئيسه. ويُلاحَظ أن عوائد النفط العرافي (المصدر الوحيد للميزانية) ارتفعت من 43,2 مليار دولار عام 2006 إلى أكثر من 100 مليار. وتُتَرجم هذه العوائد في قدرة كبرى على توزيع المنافع وشراء الرضى وبناء الأجهزة الحامية.
المصدر الآخر للنزعة المركزية هو النمو الكبير في الأجهزة العسكرية-الأمنية، والسيطرة عليها مباشرة. ولذلك تم إبقاء وزارتي الداخلية والدفاع شاغرتين لمدة عامين تقريبًا، واحتكرهما رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة، من دون اعتبار لتسلسل المراجع، أي خضوع القوات المسلحة لرئيس أركان، وخضوع هذا لوزير دفاع، وخضوع الأخير لمجلس الوزراء.
وعدا عن استقلال الموارد وضخامتها، وضخامة الجهاز العسكري-الإداري (نحو خمسة ملايين موظف ومتقاعد)، ينبغي أن نضيف ضعف المؤسسات، وبخاصة مجلس الرئاسة، خصوصًا بعد إلغاء حق الفيتو الرئاسي الذي ظل سائدا للسنوات الخمس الماضية (2005-2010)، وضعف البرلمان الممزق، وأخيرًا ضعف مجلس القضاء والمحكمة الدستورية.
وينبغي أن نضيف بالطبع عامل الانقسام الاجتماعي-الثقافي على أساس مذهبي-إثني؛ فالعامل المذهبي ما يزال فاعلاً في التعبئة السياسية، وإبقاؤه فعّالاً رهن بإدامة وتضخيم فكرة الخطر الداخلي (من مذاهب أخرى) والخطر الخارجي (من دول المنطقة)، من هنا تأتي الحملات الرسمية لتصوير الكتلة العراقية "كتلة سنية" بالكامل، أو التلويح بخطر انقلاب بعثي (=سني بالتعريف الضمني في سياق نظام المحاصصة)، وأيضا زج الاستقطاب الإقليمي (دعم سوريا، دعم البحرين، إذكاء المواجهة مع تركيا وقطر والسعودية). بل إن العامل المذهبي يُستخدم لمنافسة قوى شعبية أخرى على قاعدة: من الأكثر دفاعًا عن الشيعة؟
وبالطبع فإن ديناميكيات الوحدة الشيعية (تسييس الثقافة الدينية، فكرة الخطر الداخلي من الآخر، والخطر الخارجي من الآخر الإقليمي)، مرهونة بمدى جدية هذا الخطر، خصوصًا الداخلي منه (فكرة انقلاب بعثي-سُني بالتعريف الضمني) ومدى اندماجه في تصورات عامة المجتمع؛ فالتصورات في الفعل السياسي أهم من الحقائق.
مقابل ديناميكيات الوحدة المذهبية، ثمة ديناميكيات الانقسام والتنافس، والسعي للزعامة وتهميش المنافسين، أو الخوف من التهميش، داخل سائر الكتل؛ فديناميكيات الانقسام/الوحدة لا تقتصر على الشيعة، بل تشمل السنة، والأكراد، وسائر الجماعات.
من هنا فإن حملة المالكي لإرساء النزعة المركزية، راحت تنفرد بالعراقية أولاً، وتلعب على انقساماتها ثانيًا، ثم تتوجه ثالثًا إلى إزاحة قياداتها الرئيسية (علاوي، الهاشمي، فالمطلك برغم عودة هذا الأخير)، أو التصادم مع من تبقّى منهم (رئيس البرلمان).
انتقال المالكي إلى مواجهة الأكراد، خلق وضعًا مزدوجًا: من جهة استثمار التمايز بين الطالباني-بارزاني (لربما حتى كتلة التغيير-كوران- بزعامة نوشيروان مصطفى). وهناك فعلاً خلاف حاد بين الزعيمين الكرديين حول سبل معالجة الأزمة. ولكن ثمة من جهة أخرى نشوء أرضية تحالف عربي-كردي (علاوي-بارزاني) في وجه مركزية المالكي المفرطة. ورغم أن الاثنين يواجهان معارضة من قواعدهما أو حلفائهما: علاوي مثلاً مهدد بخسارة عرب كركوك الكارهين لأي تقارب مع الأكراد، مثلما أن البارزاني مهدد بوقوف الطالباني (خفية) مع المالكي، لكن التحالف المعلن بين بارزاني-علاوي شكل نقطة جذب للتيار الصدري الذي هو الأشد انتقادًا للمالكي من سائر الكتل الشيعية.
اتساع دائرة تصادم المالكي مع العراقية والأكراد، شمل استثمار انشقاق الصدريين (جماعة عصائب الحق)، وشق تيار المجلس الأعلى بقيادة الحكيم (كتعيين زعيم منظمة بدر التابعة للمجلس، وزيرًا للمواصلات). هذا الوضع، ولَّد فعلاً معاكسًا داخل الكتلة الشيعية، أو على الأقل وسط التيار الصدري، الذي قاد تحركًا معاكسًا، يفتح الطريق لتحالف عريض، قادر (نظريًا) على إزاحة رئيس الوزراء المالكي. من هنا سارع المالكي إلى فتح باب عودة المطلك نائبًا لرئيس الوزراء، بعد أن طُرد منه بشكل مهين.
ونصل إلى العامل الأخير في قوة المالكي، هو انقسام خصومه السياسيين وهشاشة تنظيماتهم: كتلة العراقية فيها أربع كتل، والانقسام الداخلي الكردي: أربع كتل (فضلاً عن ميل الطالباني للتعاون مع المالكي لا مواجهته)، وتردد الائتلاف الوطني الشيعي (الصدر-الحكيم) بإزاء مسألة إسقاط المالكي، خشية أن يظهروا أمام قواعدهم كمن يُسهم في تقويض حكم الشيعة، وليس إزاحة رئيس وزراء ميّال للمركزية الشديدة، الاحتكارية.
حدود المالكي
لقد نجح المالكي في بسط نفوذه على المؤسسة العسكرية (ربط القوات المسلحة بمكتبه مباشرة)، وقوض استقلالية الهيئات المستقلة، وعزز من هيمنته على حكومات المحافظات (بالضغط، والمال، والتنازلات المتبادلة)، وتمكن من تفتيت وحدة بعض القوى المناوئة، فبات تشكيل أغلبية نيابية تزيحه عن رئاسة الوزراء متعذرًا أو بالغ الصعوبة. لعل ذلك يتيح له الاستمرار في موقعه حتى نهاية مدته المقررة دستوريًّا، لكن ليس بوسعه تكرار ذلك في فترة قادمة.
لقد أفاد المالكي من فكرة المؤامرة والخطر (الأمني)، لكن الاعتماد على هذا العامل وحده طوال الوقت محال. مصير المالكي، حزبًا وحكومة، يتوقف الآن على بناء الاستقرار لا نقيضه وعلى حسن الأداء الاقتصادي، وتوفير الخدمات وفرص العمل، لكن فرص نجاحه ضئيلة للأسباب التالية:
-
ليس لدى حكومة المالكي أية استراتيجية اقتصادية.
-
الحكومة في العراق تعتمد اعتمادًا مطلقًا على سوق النفط التي يمكن أن تنقلب في الأعوام القادمة.
-
سياسة التوظيف الحالية لا مستقبل لها (المالكي وعد بتوفير 250 ألف وظيفة لكنه لم يقدم سوى 57 ألفًا- كلها توظيف حكومي لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية)؛ فالحكومة تعول الآن 5 ملايين (موظف+متقاعد)، وهذا ثلث قوة العمل الوطنية (كانت النسبة أقل من الربع زمن صدام)، ولا يمكن لهذه الإعالة أن تستمر اعتمادًا على عائدات الحكومة (وهي مفلسة وتضع عينها على الاحتياطي النقدي -الغطاء الذهبي- في البنك المركزي). وإذا تصرف المالكي بهذا الغطاء فإن العملة ستنهار وينهار معها ما بقي من الاقتصاد العراقي.
كما لا يسع المالكي أو غيره، تجاوز حقيقة أن النظام السياسي ثلاثي الأبعاد: فيدرالي، لا مركزي (محافظات)، وائتلافي (حكومة توافقية بين أحزاب). بوسعه تجاوز ذلك كله مرة، ولكن لا يمكن تكرار ذلك. -
أخيرًا فإن الجو العام في المنطقة جو احتجاج عاصف انتقل إلى العراق رغم الهدوء الظاهر.
____________________________
فالح عبد الجبار - مدير معهد دراسات عراقية