لن يؤدي تصعيد المعارضة الموريتانية لنتيجة نظرا لخطورته على النسيج الاجتماعي الهش بل سيكون مكلفا للنظام والمعارضة معا (الجزيرة نت) |
تزامنت فكرة قيام "الثورة الموريتانية" على نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز مع الانتفاضات التي عرفها الشارع العربي بعد ما حدث في تونس. ومن المفارقات أن الرئيس الموريتاني كان آخر رئيس استقبله الرئيس التونسي زين العابدين بن علي قبل هروبه في 11 فبراير/ شباط 2011. فالشباب الموريتاني تخطى المرحلة السرية المتمثلة في التخطيط للزمان والمكان والطريقة التي ستخرج بها من صفحة "طرد العسكر" على الشبكة الاجتماعية في الفيسبوك إلى "ميدان تحرير" نواكشوط الذي قرر الشباب الناشط في "حركة 25 فبراير" أن يكون في ساحة "ابلوكات" وسط العاصمة نواكشوط.(1)
رد مساندو النظام في نواكشوط على خروج الشباب الموريتاني للشارع بالسخرية والتسفيه مجادلين أن موريتانيا ليست تونس، وأن "ولد عبد العزيز" ليس "بن علي"، حتى وإن كان آخر من التقى به، وأن موريتانيا قامت بثورتها السلمية عام 2005 عندما قرر قادة المؤسسة العسكرية وعلى رأسهم قائد الحرس الرئاسي آنذاك -الرئيس الحالي- عزل الرئيس السابق معاوية ولد سيد أحمد الطايع في انقلاب أبيض.
كان يمكن لهذا الادعاء أن يكون ذا مصداقية لو أن الانقلاب، الذي يعتبر استثناء من بين كل الانقلابات التي تعد هي القاعدة للتغيير في موريتانيا، قد سعى إلى تغيير بنى الفساد والاستبداد التي خلف ولد الطايع بعد رحيله؛ فالبلاد لا تزال تصنف حسب منظمة الشفافية الدولية من أكثر الدول فسادا، فبينما كانت في 2009 في المرتبة 130 من 178 دولة، تراجعت في 2010 إلى المرتبة 143، أي أن الفساد ازداد ولم يتناقص كما وعدت القيادة العسكرية غداة الانقلاب.
واليوم وبعد مرور عام ونصف على الذكرى الأولى لخروج الشباب الموريتاني في حركة 25 فبراير للشارع، أعطت مستجدات إقليمية عربية وإفريقية وداخلية يتشابك فيها السياسي الاقتصادي والاجتماعي دفعا جديدا لقيام تغيير سياسي. وتنقسم هذه العوامل إلى داخلية وخارجية(2):
العوامل الخارجية
تتمثل العوامل الخارجية المحفزة على قيام تغيير محتمل في موريتانيا في ارتدادات الربيع العربي والتغييرات التي فرضها بشكل متفاوت على الدول العربية والإفريقية. وفي السياق المغاربي بشكل خاص نجد أن المملكة المغربية وهي الجار الشمالي لموريتانيا، استطاع الحراك الشعبي بها، ممثلا في "حركة 20 فبراير" إحراج النظام المغربي ودفعه لتبني إصلاحات هيكلية في اتجاه قيام ملكية دستورية تحد من النفوذ الواسع للملك في الشأن العام، وكانت بداية تلك الاستجابة في المصادقة على دستور جديد للبلد وتنظيم انتخابات تشريعية مبكرة أفرزت فوز حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي.
في الجزائر أدى تخوف النظام الجزائري، الذي يشترك مع نظيره الموريتاني في سيطرة جنرالات المؤسسة العسكرية على مفاصل الشأن السياسي والاقتصادي، من احتمالية قيام ثورة إلى رفع حالة الطوارئ التي استمرت لفترة دامت عشرين عاما، إضافة للصعوبة التي تواجه ترشح الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة لفترة رئاسية رابعة في ظل الحديث شبه المؤكد عن نية البرلمان الجزائري إقرار تعديل دستوري، نهاية 2012 أو بداية 2013، يعيد العمل بنظام الفترة الرئاسية الواحدة القابلة للتجديد مرة واحدة بغض النظر عن التركيبة الحالية للبرلمان الجزائري التي أسفرت عنها انتخابات مايو/ أيار الماضية.
أما الوضع الإقليمي الإفريقي، فإنه يشكل بنموذجيه المالي والسنغالي مصدر إحراج ثان للنظام القائم في موريتانيا. في السنغال مثلا، انتهى النزال الانتخابي في الدور الثاني في مارس /آذار 2012 بين الرئيس السنغالي السابق عبد الله واد ورئيس وزرائه الأسبق الشاب مكي صال بفوز الثاني بفارق كبير بعد كسبه تأييد كل المرشحين في الدور الأول، واعتراف الرئيس السابق عبد الله واد بهزيمته وتهنئته الرئيس الجديد. وتشكل هذه التجربة الديمقراطية السنغالية، والتي تابعها الموريتانيون بارتياح كبير، درسا لكيفية التغيير الديمقراطي المسئول الناتج عن احترام إرادة الشعب. في المقابل يأتي وأد التجربة الديمقراطية في الجار الشرقي لموريتانيا في مالي ليذكر الموريتانيين بما يمكن اعتباره أقسى تجربة سياسية في التاريخ السياسي الحديث لموريتانيا وهي الانقلاب الذي قاده الرئيس الحالي والقائد السابق للحرس الرئاسي سابقا الجنرال محمد ولد عبد العزيز ضد أول رئيس مدني منتخب في أغسطس/آب 2008.
العوامل الداخلية
إضافة للظروف الإقليمية العربية والإفريقية، تعتبر العوامل الداخلية هي الأكثر أهمية وحسما في احتمال قيام تغيير يطيح بالجنرال ولد عبد العزيز ونظامه وتتنوع هذه العوامل ما بين عوامل سياسية واقتصادية.
الأسباب السياسية: تكمن الأسباب السياسية التي تشكل عوامل محفزة على حدوث تغيير في موريتانيا في مشكلة الانسداد السياسي المتمثل في غياب آليات التبادل السلمي والمستديم على السلطة في البلد. ويعود هذا العامل إلى البنية السياسية القائمة على التغيير من خلال الانقلابات التي تقوم بها المؤسسة العسكرية بسبب وبدون سبب.
وفي الحقيقة، يعتبر التاريخ الطويل لموريتانيا في الانقلابات ومحاولات الانقلابات مصدر تهديد دائم لنشوء ثقافة سياسية حديثة، تلعب فيها الأحزاب السياسية والقوى المدنية الأخرى في المجتمع الدور المنوط بها في توفير بدائل للتغيير غير العسكري، مما يساعد في صنع وعي وتراكم سياسيين يحولان دون أطماع العسكر المتجددة في السيطرة على مفاصل السلطة في البلد.
تقوم المؤسسة العسكرية حاليا، فيما يشبه توزيع أدوار بين رموزها المؤثرين من جنرالات وقادة أركان وقادة مناطق عسكرية، بالتدخل في كثير من القرارات السياسية والاقتصادية للبلد إضافة لاستئثارهم بالقرار العسكري والأمني والاستراتيجي للبلد دون مشورة الأطراف المدنية الأخرى التشريعية والقضائية وخصوصا فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب (تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي وما يتعلق به من ملفات داخلية وخارجية). إضافة لذلك، لا تزال ممارسات القمع والتعذيب والإفلات من العقاب القاعدة التي تتم بها معاملة الاحتجاجات، المسيرات والوقفات السلمية التي تخرج في كل أنحاء البلاد رافعة مطالب سياسية، اجتماعية وحقوقية متنوعة.
الأسباب الاقتصادية: تتمحور المحفزات الاقتصادية لقيام تغيير في موريتانيا في عاملين أساسين: هما عامل الفقر وانعدام فرص التنمية والفساد الذي يشكل بدوره مشكلا اقتصاديا بنيويا، وكان سببا بارزا للتغيير في كل الدول العربية التي قامت فيها ثورات.
أولا: يعتبر الانتشار المريع للفقر، والارتفاع الكبير لأسعار المواد الأساسية والبنزين، وكذلك أزمة البطالة الحادة بين حملة الشهادات، الوقود المحتمل لأي تغيير للنظام الحالي. في هذا الصدد، شهدت موريتانيا ولأول مرة إحراق شابين موريتانيين لنفسيهما أمام القصر الرئاسي احتجاجا على الوضع الاقتصادي والسياسي القائمين دون أن يحرك ذلك أية ردة فعل سواء من السلطة أو الشارع؛ حيث اقتصرت الردود على سجالات في الشبكات الاجتماعية حول ظاهرة إحراق النفس والموقف منها. وأصبح التظاهر لأسباب متعلقة بالظلم والفقر والبطالة مشاهد يومية معتادة أمام "القصر الرمادي" دون أن يشعر النظام بأدنى تهديد عدا المقالات الغاضبة لكتاب الأعمدة في الصحف والمواقع الموريتانية. وفي بعض الأحيان يستخدم النظام هذه المظاهرات بمطالبها الفئوية المحدودة لخلق دعاية معاكسة له سواء من خلال الاستجابة لها، أو تركها لشأنها، والمجادلة بأنها تعتبر دليلا على قوة النظام وديمقراطيته واحترامه لحرية التعبير.
ثانيا: العامل الاقتصادي الثاني المشجع على قيام تغيير في موريتانيا يكمن في الانتشار الكبير للفساد والاحتيال على موارد البلاد بطرق متنوعة تعتبر البيروقراطية أحد أبرز وسائلها. فالرئيس الحالي كان من مقربي الرئيس السابق معاوية الذي عرفت فترة حكمه خلال عشرين عاما نهبا ممنهجا لثروات البلاد. وبعد وصول ولد عبد العزيز للسلطة في الانقلاب الاخير سنة 2008 الذي وضعه في واجهة القرار السياسي والاقتصادي للبلد؛ لم يتغير أي شيء تقريبا رغم رفع الجنرال شعار "محاربة الفساد والمفسدين" أثناء حملته الرئاسية لعلمه بجاذبية هذا الشعار عند الموريتانيين الذين أملوا أن تكون معرفة الجنرال بخفايا هذه الملفات مشجعا له للقضاء أو التخفيف من وتيرة هذ الهدر للثروات. على العكس من ذلك استخدم الرئيس عبد العزيز ونظامه هذا الشعار للنكاية وتصفية الحسابات السياسية والقبلية مع بعض خصومه في مجال الأعمال والسياسية. حيث أصبحت الصفقات العمومية توزع بالتراضي على مجموعات المصالح القريبة من النظام وعلى مقربي الشخصيات المؤثرة في المؤسسة العسكرية(3). ووجهت له تهم من طرف المعارضة تتعلق بالفساد والضرر بمصالح البلد في قطاعات متعددة أبرزها قطاع الصيد والمعادن والعقارات.
قوى التغيير
تعطي هذه الأسباب السياسية والاقتصادية مبررات قوية للأطراف السياسية والمدنية الموريتانية -التقليدية والناشئة- من أجل العمل على الإطاحة بالنظام القائم الذي تتحكم فيه جنرالات المؤسسة العسكرية. تتوزع هذه القوى الساعية لإزاحة النظام الحالي ما بين قوى معارضة تقليدية تتكتل الآن تحت ما يسمى "منسقية المعارضة الديمقراطية"، وقوى شبابية ظهرت في الساحة قبل عام ونصف تمثلها "حركة 25 فبراير"، إضافة لمنظمات حقوقية تحمل لواء الدفاع عن فئات مجتمعية تعاني التهميش. والعامل المشترك بين هذه القوى المختلفة هو عداؤها للنظام القائم دون أن توحدها رؤية مشتركة لكيفية الخلاص منه، أو أن تكون لديها بدائل سياسية جاهزة في حالة نجاح المساعي التي بدأت بمسيرات واحتجاجات تخرج الآن بشكل شبه دوري.
منسقية المعارضة الديمقراطية: هي تكتل من تسعة أحزاب معارضة تأسس نهاية 2009 ويضم أحزاب المعارضة التاريخية الكبرى: تكتل القوى الديمقراطية، التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (ذو توجه إسلامي) اتحاد قوى التقدم (ذو توجه يساري)، فضلا عن أحزاب أخرى صغيرة. تتكتل هذه الأحزاب للمرة الثانية بعد انفراط تنسيق سابق جمعها لمواجهة الوضع الناتج عن انقلاب 6 أغسطس/أب 2008 وكانت حينها تسمى "الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية" إلا أن نجاح الجنرال ولد عبد العزيز وفي الدور الأول في انتخابات يوليو/تموز 2009 نجح في تشتيتها بعد أن فشلت في الخروج بموقف موحد بخصوص الاعتراف أو عدمه بنجاح ولد عبد العزيز؛ مما حدا ببعض أعضائها البارزين إلى الخروج منها والاعتراف بنجاحه في الانتخابات الرئاسية.
وتشكل الأحزاب المنضوية تحت المنسقية الآن حجر الزاوية في الحراك الساعي للإطاحة بنظام الجنرال ولد عبد العزيز إلا أن التكتيكات التي تتخذ في سبيل ذلك تجعل الكثيرين يشككون في جدوائية المسيرات والمظاهرات المرخصة من طرف وزارة الداخلية -إما عن طريق التصريح أو الإشعار- في تغيير نظام كان لبعض أحزابها الفضل في إعطائه الشرعية الداخلية والخارجية التي تشكل حتى الآن حصانته الأقوى. إضافة لذلك تشكل التناقضات الكامنة بين مكونات هذه المنسقية، وغلبة المواقف الحزبية الضيقة على المواقف الشاملة التي تراعي المصلحة العليا للبلد، حجر عثرة دون تشكيل رؤية استراتيجية للتغيير الشامل في البلد تتعدى التحالفات التكتيكية ضد نظام معين ولفترة محددة. يتضح ذلك من خلال الشرخ الذي استطاع النظام تحقيقه داخل هذه المنسقية بعد نجاحه في استقطاب حزب التحالف الشعبي التقدمي الذي يتزعمه عدو تاريخي للجنرال، رئيس البرلمان الحالي، مسعود ولد بلخير، وهو ما يشكل ضربة كبيرة لأي جهد تقوم به المنسقية مستقبلا تجاه إسقاط نظام الجنرال. ويتهم زعيم هذا الحزب المعارضة المقاطعة للحوار مع النظام بالتيه السياسي وعدم معرفة ما تريد لأنها كانت تصر على الحوار دون شروط وعندما قبل الجنرال ذلك تعذرت بأسباب أخرى.
من بين أحزاب المنسقية تعد أحزاب التكتل وحزب تواصل الأكثر شعبية فحزب اتحاد قوى التقدم ولفيف الأحزاب المشكلة لها.
أما حزب التكتل يرأسه زعيم المعارضة الديمقراطية أحمد ولد داداه ويشكل مصدر إزعاج كبير للحكومة داخل البرلمان بما تبقى من نوابه الذين هاجر بعضهم من حزب التكتل لينضم إلى الأغلبية الداعمة للجنرال. ويشكك البعض في مصداقية ثوريته على النظام بعد موقفه السابق بدعم انقلاب غير شرعي على رئيس منتخب ديمقراطيا كان رئيس الحزب أحمد ولد داداه منافسه الأبرز في دور ثان دون أن يسبب ذلك أدنى مستوى من المحاسبة الداخلية عن هذا الموقف الذي يستخدمه الجنرال ومساندوه كلما سنحت الفرصة للسخرية من توجهات الحزب الثورية، "الثوار العجائز الجدد"، كما صرح ولد عبد العزيز في مهرجان شعبي له في مدينة نواذيبو شمال البلاد، ردا على تحركات المعارضة من أجل الإطاحة به.
أما حزب اتحاد قوى التقدم فيعتبر من بين أقدم أعداء الجنرال ولد عبد العزيز، فقد عارضه بعد الانقلاب على الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله واستمر على ذلك من داخل البرلمان حيث يعتبر نوابه على قلتهم مصدر إزعاج دائم للحكومة فيما تتقدم به من مشاريع قرارات داخل قبة البرلمان؛ لكن محدودية شعبيته في الشارع يجعل البعض يشكك في قدرته على تحريك شارع يملك القليل من المؤيدين فيه. أما التيار الإسلامي، ممثلا في حزب تواصل، فيعد من أبرز المناوئين للنظام وأكثرهم نشاطا في السعي للإطاحة به حيث يقوم الحزب على مختلف هيئاته الشعبية والنخبوية (الشباب، المرأة، الطلاب، العلماء المؤثرين والإعلام المحسوب عليه) بتحركات جماهيرية تهدف للإطاحة بالنظام الذي كانوا أول من اعترف بشرعيته قبل الرجوع عن ذلك والانضمام لمنسقية المعارضة الديمقراطية فقط قبل أشهر.
حركة 25 فبراير: تعد هذه الحركة أول تحرك شبابي ظهر على الساحة الموريتانية للمطالبة برحيل النظام الحالي قبل تبلور فكرة "الرحيل" عند منسقية المعارضة الديمقراطية. نشأت الحركة في بداية الربيع العربي في 25 فبراير/ شباط 2011، أسبوعين فقط بعد هروب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. وشهدت الحركة مشاركة شعبية وشبابية واسعة عند انطلاقتها إلا أن ذلك لم يدم طويلا، فبعد أن قرر الأمن إغلاق "ميدان تحرير" الحركة: ساحة "ابلوكات" وسط العاصمة وطرد المعتصمين فيها، خفت نشاطات وزخم الحركة لتتحول إلى مجموعة صغيرة تخرج في احتجاجات دورية في مناسبات متعددة ضد الفساد والقمع والغلاء. ورغم محدودية شعبيتها، شكلت الحركة مصدر خوف وإزعاج للنظام القائم وسعى لتفكيكها من خلال وسائل تعود على استخدامها ضد مناوئيه وهي تعيينات بعض الشباب من أعضائها، والعزف على وتيرة الانتمائات القبلية لبعض الأعضاء مما سبب انشقاقات داخل الحراك الشبابي ونتج عنه تكوين حزب سياسي يحمل نفس الاسم "الحراك الشبابي" بإشراف من النظام نفسه حيث اجتمع الرئيس ولد عبد العزيز مرارا مع قادة هذا الحزب وهو يعول عليهم في تجديد الطبقة السياسية "الشائخة" كما قال في أخر لقاء له معهم.
رغم جدية وإصرار من تبقى في "حركة 25 فبراير" من شباب على مواصلة النضال حتى إسقاط نظام الجنرال ولد عبد العزيز إلا أنه توجد أسباب بنيوية، بعضها كان يمكن للحركة التغلب عليه وبعضها خارج عن إرادتها؛ وهي أسباب تضعف الحركة وتحد من تأثيرها. من بين الأسباب البنيوية التي أدت لضعف الحركة نقص الوعي السياسي الوطني عند غالبية الشعب الموريتاني وانتشار العصبيات التقليدية المتمثلة في القبيلة والعرقية. إضافة لذلك يعتبر غياب الحركات الإيديولوجية التي كانت المحرك الرئيسي للاحتجاجات في الدول التي شهدت ثورات ضد أنظمتها عن الساحة الموريتانية أحد أبرز الأسباب التي أدت لخفوت حدة الاحتجاجات لغياب المحفز الفكري عند النشطاء المفترضين في هكذا حركات.
في موريتانيا يشكل غياب المرجعيات الفكرية الكلاسيكية للنضال مشكلا كبيرا في تجييش الشارع وخصوصا فكر اليسار الذي انحسر في البلاد بشكل كبير، ويقتصر وجوده على شتات تيار "الكادحين" أو اليسار التاريخي في موريتانيا الذين لعبت بهم الأنظمة السابقة واستوعبتهم بشكل تام.
يضاف إلى ذلك مقاطعة التيار الإسلامي الذي يعد أكثر التيارات السياسية تنظيما وحضورا لنشاطات الحركة منذ بدايتها؛ لأن حزب تواصل الإسلامي وقتها لم يحسم بعد مسالة "رحيل الجنرال" كما هو الحال الآن؛ لهذا بدأ شباب الحزب تشكيل حركاتهم الخاصة، ويظهر ذلك جليا في نشاطهم المضني على الشبكات الاجتماعية مؤخرا.
كما تشكل مركزة التحرك في العاصمة، بل في مناطق محدودة منها، وعدم استطاعة نشطاء الحركة تكوين فروع لهم في المدن الداخلية أو حتى ضم حركات التذمر الواسعة داخل العاصمة من عاطلين وأصحاب مظالم سببا أخر في محدودية تأثير الحركة.
المنظمات الحقوقية: تعتبر المنظمات الحقوقية الناشطة في مجال مكافحة الرق والعنصرية رافدا آخر وقوة من قوى التغيير التي تسعى -على الأقل نظريا- للإطاحة بنظام الجنرال محمد ولد عبد العزيز وهنا يتركز الضوء على منظمة مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية "إيرا" الناشطة في مجال مكافحة الرق والتي يقودها الناشط الحقوقي بيرام ولد عبيدي المعتقل الآن بتهمة حرق كتب دينية. تركز هذه الحركة على قضايا شريحة معينة من المجتمع الموريتاني "الحراطين" التي تعاني الاسترقاق والتهميش منذ نشأة الدولة الموريتانية لكنها تصل في خطابها إلى المطالبة بإسقاط ما تسميه الحركة "النظام الإقطاعي" الذي يقوده ولد عبد العزيز لكونه يحمي ويتستر على ملاك العبيد بنفي وجود هذه الممارسة وعدم مساءلة من تثبت عليه تهمة ممارستها.
وقد وصل رئيس المبادرة بالتنسيق مع أطراف أخرى لمرحلة متقدمة في هذا المجال عندما فاجأ الساحة الوطنية بإعلان فكرة مجلس وطني انتقالي يخرج البلاد من التأزم وأعطى النظام مهلة ثلاثة أشهر قبل الإعلان عنه. إلا أن هذه الفكرة قوبلت بالتجاهل من قبل الأطراف التي من المفترض أنها معنية قبل غيرها بهكذا خطوة. من جهة أخرى تعتبر حركة "لا تلمس جنسيتي" الزنجية التي تدافع عن حق الزنوج الموريتانيين في الإحصاء الإداري الذي تقوم به الحكومة الموريتانية الآن من بين الفاعلين الحاليين على الساحة الموريتانية في تغيير النظام الحالي حتى وإن كانت مطالبها الأساسية تتعلق بقضية الإحصاء والعنصرية كما يظهر في خرجاتها المتكررة.
أطراف جديدة: هناك طرف ثالث ظهر على الساحة مؤخرا يتمثل في عسكريين ورجال أمن سابقون على رأسهم الرئيس الأسبق اعلي ولد محمد فال وابن عم الرئيس الحلي ولد عبد العزيز الذي بدأ يشارك بشكل منتظم في مهرجانات منسقية المعارضة، وهو على خلاف متأصل مع ابن عمه الذي تنازل له عن رئاسة المجلس الأعلى للدولة الذي أدار الفترة الانتقالية التي عقبت الإطاحة بالرئيس السابق معاوية ولد سيد احمد الطايع. وقد احتفت به منسقية المعارضة رغم سمعته السيئة محليا بسبب تسييره لنهاية المرحلة الانتقالية التي أدارها ورغم كونه كان اليد التي يبطش بها الرئيس السابق ولد الطايع حين كان المدير العام للأمن الوطني لمدة عقدين من الزمن. والشخصية العسكرية الثانية هو العقيد المتقاعد عبد الرحمن ولد ببكر القائد السابق لأركان الجيش والذي انضم إلى المنسقية في إحدى جولاتها الداخلية وأصبح يشارك معها بشكل دوري في تحركاتها الساعية لإسقاط نظام صنعه ويتمسك به الكثير من زملائه العسكريين.
قوى المحافَظة
في مقابل قوى التغيير التي استعرضنا بالتفصيل آنفا، تقف في المقابل قوى أخرى معاكسة يمكننا تسميتها بقوى المحافَظَة سواء التي تشتبك مع النظام القائم في مجموعة مصالح سياسية أو مالية أو التي تعتبر مكونا عضويا من مكوناته. وتنقسم هذه القوى إلى مدنية وعسكرية.
المؤسسة العسكرية: تعتبر المؤسسة العسكرية من أبرز المتضررين من أي تغيير قد يطال النظام القائم الذي تعتبر عموده الأساس-ولو بلبوس مدني-. يتحكم الجنرالات الذين استفادوا من ترقيات وصفتها بعض الجهات السياسية والإعلامية بأنها غير مستحقة وأنها ربما خرقت قوانين التراتبية العسكرية في بداية عهد الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في مفاصل الشأن العسكري والأمني للبلد. ويمسك الجنرالات بكل المناصب التي قد تشكل مصدرا محتملا لتغيير النظام عن طريق انقلاب من داخل المؤسسة العسكرية وهو احتمال لا تستبعده القوى المعارضة للنظام بل وطالب بعضها به. وتتوزع هذه المناصب من قيادات الأركان العسكرية بجميع فروعها وكذلك قيادات المناطق العسكرية في مدن الداخل التي أعيدت هيكلتها بشكل جذري لتضمن تولي قيادات عسكرية مقربة من الجنرالات قيادة كل الكتائب العسكرية التي تشكل مصدر تهديد محتمل للنظام.
أحزاب الأغلبية: بعد المؤسسة العسكرية تعد أحزاب الأغلبية الحاكمة على رأسها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الذي يعتبر الحزب الحاكم للدولة، ويترأسه وزير وإداري سابق محسوب على الجنرال محمد ولد الغزواني الذي يعد الشخصية العسكرية الأبرز بعد الجنرال محمد ولد عبد العزيز، إضافة لأحزاب أخرى داعمة لبرنامج الرئيس -كما تقول- وأبرزها حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية والتقدم الذي تتزعمه وزيرة الخارجية السابقة الناهة بنت مكناس، وأحزاب صغيرة أخرى. نظرا للارتباط الكبير بين المصالح السياسية والبيروقراطية لهذه الأحزاب ونظام الجنرال محمد ولد عبد العزيز، سيشكل أي تغيير يشمله ضررا بهذه المصالح رغم أن هذه الأحزاب غير متجانسة على الإطلاق سواء في مصالحها أو طرحها السياسي.
القوى المالية والبيروقراطية: وتتكون من المجموعة القبلية للرئيس ومن رجال أعمال ومجموعات مصالح أخرى ظهرت للعيان وقويت شوكها بعد وصول الجنرال محمد ولد عبد العزيز للسلطة وتعد أبرز المستفيدين الماليين من النظام وذلك من خلال ما يشاع حول الصفقات التي تمنح بالتراضي وما يشاع حول منح وبيع العقارات المملوكة للدولة. مما لا شك فيه أن هذه القوى ستقف حجر عثرة دون أي تغيير قد يطال النظام الذي يضمن لهم مصالحهم المالية والسياسية. من ناحيتها تعتبر القوى البيروقراطية جناحا إداريا ضاربا للنظام إذ يستخدمه في التجييش السياسي ومحاصرة القوى المناوئة له داخل الحكومة والإدارات المركزية والإقليمية.
في النهاية تشكل الأوضاع السياسية، الاجتماعية والاقتصادية المترهلة التي يعشيها الشعب الموريتاني أسبابا موضوعية لقيام الشعب الموريتاني بقواه الفاعلة بتغيير ما على شاكلة ما حدث في بقية الدول العربية التي استطاعت شعوبها إزاحة أنظمة ديكتاتورية فاسدة جلست على أنفاسها لفترات طويلة. لكن الظروف المحلية والوضع الخاص لنظام ولد عبد العزيز يبدو أنهما ما زالا يؤجلان احتمال التغيير رغم حضور إرادته عند غالبية القوى الراغبة في ذلك. إضافة لحداثة النظام الحالي، تمثل الشرعية الديمقراطية التي استطاع الحصول عليها من خلال جر المعارضة إلى انتخابات كانت تعول على سقوطه فيها مصدر أمان له حتى الآن، رغم أن الشرعية الديمقراطية وحدها لا تكفي خصوصا إذا كانت ديمقراطية مقنعة تقف خلفها البزات العسكرية. إضافة لذلك يشكل الهامش الكبير الذي تتمتع به موريتانيا من حرية تعبير وصحافة وعدم وجود مساجين رأي مصدر تنفيس يمنع انفجارا ثوريا قد يطيح بالنظام وأركانه.
عدا عن ذلك تأتي ضبابية الرؤية وتشتت الجهود عند قوى التغيير التي تطالب برحيل النظام وعدم انسجامها الداخلي فيما بينها مصدر أمان للنظام القائم رغم ارتفاع نبرة هذه القوى ضد النظام. وإذا ما استمر هذا الارتفاع في النبرة ضد النظام القائم وتطور إلى ما هو أكبر من المسيرات والمهرجانات المرخصة فإنه قد يفتح البلاد على سيناريوهات تغيير مستقبلية؛ إما من خلال التصعيد والعنف وهو أمر مستبعد نظرا لخطورته على النسيج الاجتماعي غير المنسجم للبلد خصوصا أنه سيكون مكلفا للطرفين والمعارضة تحديدا التي من المستبعد أن تتفق على هكذا خطوة. أما السيناريو الثاني فسيكون خيار التهدئة والبحث عن حلول وسط تحفظ للمعارضة "الثائرة" ماء وجهها أمام جماهيرها المتذمرة وفي نفس الوقت تضمن خروجا مشرفا للجنرال وزملائه من الحياة السياسية وتوفر نتائج الحوار الذي توصلت إليه بعض أحزاب المعارضة الرافضة "للثورة" أرضية خصبة لتسهيل هكذا سيناريو. ومع قرب تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة وشروع الحكومة في تنصيب الهيئات التي ستشرف عليها، من المرجح أن يكون التصعيد الخطابي لأحزاب المعارضة حاليا مجرد تكتيك لتحسين شروط المشاركة في هذه الاستحقاقات.
______________________________
الحاج ولد إبراهيم - صحفي وباحث موريتاني
الإحالات
1- ساحة تقع وسط العاصمة تم انتزاعها من أصحابها الأصليين بتعويضات زهيدة وبيعت في صفقة مثيرة للجدل لمقربين من النظام الحالي.
2- بسب اعتمادي التعريف الشامل أو الجذري لمفهوم "الثورة" سأحرص على تفادي التعبير عن ما يمكن أن يسفر عنه الحراك الماضي أو الحالي في الساحة الموريتانية بثورة وسأستخدم مصطلح "التغيير" نتيجة لعدة عوامل سياسية واجتماعية تجعل من إمكانية قيام ثورة بالمعنى الحقيقي أمرا بعيد الاحتمال على الأقل في المنظور القريب.
3- وصل عدد الصفقات بالتراضي 62 صفقة، 60 منها تمت في فترة حكم الجنرال محمد ولد عبد العزيز وتصل قيمتها حدود 25 مليار أوقية (حوالي 90 مليون دولار) حسب تقرير رسمي صادر في مارس/ آذار 2012 عن لجنة الصفقات العمومية.