يبدو أن طالبان تتجه لاعتماد أكبر على تكتيك الهجمات الداخلية الذي يزيد الخسائر في قوات الناتو ويقلل من خسائر قواتها (الجزيرة) |
أصابت سلسلة الهجمات الداخلية الأخيرة التي يقوم بها جنود أو شرطة أفغان ضد زملائهم من قوات الناتو، صميم الإستراتيجية العسكرية الدولية في أفغانستان، وكان من شأن انعدام الثقة الناجم عن هذه الحوادث أن أدى بالناتو إلى إعادة التفكير في بعض الإجراءات المعمول بها في هذا الشأن، ولكن عملية نقل السلطة من هذه الأخيرة إلى القوات الحكومية الأفغانية لن تتأثر كثيرًا، لقلة عدد الإصابات نسبيًا.
حجم الهجمات وتأثيراتها
تعرضت قواعد قوات إيساف للهجمات الداخلية من قبل القوات الأفغانية أو الأفراد العاملين معها بأعداد كبيرة نسبيًا منذ 2011. وكانت هذه الهجمات تحدث في السنوات السابقة، لكن بأعداد أقل بكثير؛ فعلى سبيل المثال، شهد كلٌّ من عامي 2009 و2010 خمس هجمات من هذا النوع، في حين شهد عام 2011 خمسة عشر هجومًا، وشهد 2012 ثلاثة وثلاثين هجومًا حتى تاريخ 29 سبتمبر/أيلول. وقد أدت هذه الهجمات إلى مقتل 116 من قوات ايساف وإصابة 94 منذ 1 يناير/كانون الثاني 2008.
وكان انتشار هذه الهجمات كبيرًا جدًّا، على الرغم من أن الجزء الأكبر من الهجمات وقع في جنوبي أفغانستان. فمن بين كل الهجمات التي وقعت بين 2008-2012، حدث أكثر من نصفها (31 من 60) في قندهار وفرح وهلمند وأوروزغان وزابول. كما أن امتداد هذه الحوادث في أماكن مثل فارياب وهرات وبلخ يدحض المزاعم الأخيرة بأن الحقّانيين يقفون وراء هذه الحملة (إن كانت هناك "حملة")؛ فلو كان هناك تورط حقّاني كبير، لتوقعنا نسبةً أكبر بكثير من هذه الهجمات في جنوب شرقي أفغانستان، وهذا ما لا تعكسه الوقائع.
وبالقياس إلى الكل، لا تمثل الهجمات الداخلية على قوات الناتو السبب الأكبر للإصابات؛ ففي أغسطس/آب 2012، على سبيل المثال، كانت هناك 53 حالة قتل بين قوات إيساف، غير أن الهجمات الداخلية على قوات الناتو لم تكن مسؤولة إلا عن 15 حالة (حوالي 28?). في حين تظل العبوات الناسفة التكتيك الأهم المستخدَم ضد قوات إيساف، فحتى 31 أغسطس/آب 2012، كانت هناك 110 حالة وفاة بسبب العبوات الناسفة، أي أقل من 45? من إجمالي عدد الوفيات في ذلك العام.
لا تزال الآليات الدقيقة والدوافع وراء الهجمات الداخلية على قوات الناتو غير واضحة، سواء بالنسبة إلى المراقبين الخارجيين أو لإيساف. وقد صرّح الجنرال جون ألَن، قائد قوات إيساف، أنه يعتقد أن ما يقرب من 25? من هذه الهجمات (التي يعود تاريخها إلى 2007) يمكن نِسبتُها إلى طالبان، ولكن هذه النسبة انخفضت إلى 10? فقط لعام 2012. من الصعب أن نحكم على هذا التقويم الداخلي لإيساف من دون رؤية البيانات الدقيقة ومنهجية التقويم، ولكن هذه الأرقام تبدو منخفضة. والقفزة الكبيرة من سنة إلى أخرى بحد ذاتها تشير (على أقل تقدير) إلى تشجيعٍ من مستوى رفيع في قوات المعارضة المسلحة على هذا النوع من الهجمات. علاوة على ذلك، ذكرت حركة طالبان هذا النوع من الهجمات عدة مرات في بياناتها الإعلامية الخاصة (سواءً المرئية أو المكتوبة)، وهذا تأييدٌ واضح، بغض النظر عن دورها الحقيقي في هذه الهجمات.
إذا صحَّ تحليلُ إيساف القائل بأن غالبية الهجمات لا تتم بتحريضٍ من طالبان، فإن هذا مدعاةٌ لقلقٍ أكبر، لأنه يعني أن الخلافات التي تؤدي إلى مقتل جنود إيساف أو جرحهم قد زادت زيادةً كبيرةً بمعزلٍ عن أي تدخل من طالبان أو خطة للتغلغل بين أفراد القوات المسلحة الأفغانية أو تجنيدهم. وهذا، بدوره، يعني قصورًا هيكليًا أوسع في محاولات إيساف للعمل جنبًا إلى جنب مع الأفغان، رغم أنه من المهم أن نتذكر، مرة أخرى، أن عدد هذه الهجمات منخفضٌ نسبيًا. فبينما قُتِل 35 جنديًا من جنود إيساف في هجمات داخلية عام 2011 (من إجمالي 566)، كان هناك ما يُقدَّر بـ 1950 حالة وفاة بين أفراد الجيش الوطني الأفغاني والشرطة الوطنية الأفغانية خلال هذه الفترة ذاتها.
لقد سعت حركة طالبان لتشجيع الاعتقاد بأنها وراء هذه الهجمات. وقد شمل هذا بيانات الناطقين الرسميين، والبيانات الرسمية على موقع الحركة، وحتى منتجات الفيديو الأخيرة. وبغضِّ النظر عما إذا كانت طالبان فعلًا وراء تزايد الهجمات مؤخرًا أم لا، فإن كثيرا من الأفغان يعتقد بذلك إلى حد كبير. أما بالنسبة إلى طالبان، إن الهجمات تُبرز الإحباط الذي يشعر به الأفغان العاملون مع القوات الدولية.
على المدى القصير، ستشعر قوات إيساف بالآثار المترتبة بشكل وثيق من حيث قدرتها على التفاعل مع الأفغان الذين تقدم لهم المشورة أو تتعامل معهم. وكان الأمر الأولي للحد من أعداد العمليات المشتركة في سبتمبر/أيلول عام 2012 مدفوعًا في جزء منه بالرغبة في إعادة النظر في إجراءات التدقيق في الأفغان المنتسبين إلى الجيش الوطني الأفغاني أو الشرطة الوطنية الأفغانية. فليس من الحصافة (ولا من اللياقة) بالنسبة إلى إيساف أن تخفض عدد عملياتها المشتركة بشكل دائم، ولاسيما أن الأفراد المتورطين في هذه الهجمات قليلو العدد.
ستكثف طالبان من جهودها لزيادة عدد هذه الهجمات، وذلك بعد أن شهدت آثارها الخطرة على حملة إيساف. والراجح أن الزيادة الكبيرة في عدد الهجمات في 2010-2011 لم تكن عفوية أو طبيعية؛ ويؤكد هذا أن طالبان من خلال تأييدها لهذه الهجمات عبر المنابر الإعلامية المحلية والدولية، تتجه نحو زيادة استخدام هذا التكتيك في حملتها العسكرية المتواصلة؛ وهي إلى حد كبير حملة عسكرية غير متكافئة، تستخدم فيها العبوات الناسفة والهجمات الداخلية لاستهداف القوات العسكرية الدولية والأفغانية، دون أن تتكبد خسائر كبيرة في قواتها.
الآثار المترتبة على الانتقال
بدءًا من مايو/أيار 2012، أطلقت قوات إيساف العملية الانتقالية في ثلاث "مناطق" منفصلة من التراب الوطني الأفغاني، ويبلغ عدد السكان في هذه المناطق 75? من مجموع سكان البلاد، بحسب إيساف. ومن غير الواضح متى سيتم تسليم المنطقتين الرابعة والخامسة، ولكن إعلان قمة شيكاغو ينص على أنه بحلول منتصف عام 2013 "سيكون جميع أنحاء أفغانستان قد بدأ المرحلة الانتقالية، وستتولى القوات الأفغانية قيادة الأمن على مستوى البلاد".
وقد سارت عمليات التسليم لقوات الأمن الوطنية الأفغانية بصعوبات أقل مما توقع العديد من المحللين؛ إذ لم تكن هناك أية خسائر صارخة في الأراضي في المراكز الحضرية الكبرى. كما أن القوات الأفغانية استلمت في بعض المناطق - مثل كابُل- زمام العمليات اليومية وما يُسمّى "الهجمات المعقدة".
ويبدو أن القدرة اللوجستية للجيش الوطني الأفغاني والشرطة الأفغانية قد عجزت عن مواكبة العمليات اليومية، وهذا أمر مفهوم إلى حد ما، لأن الأمور اللوجستية ظلت لسنوات عديدة بلا أولوية، إلا أن هذا الأمر يشكك في استمرار التمويل لقوات الأمن الوطنية الأفغانية بعد عام 2014، حيث سيتم تقليص القدرات اللوجستية الأميركية بشكل كبير نتيجة تدني الوجود العسكري الأميركي. وبالتالي، حتى لو استمر تدفق المال، سيصعب على قوات الأمن الأفغانية أن تضمن استمرار تدفق الإمدادات في جميع أنحاء البلاد من دون القدرات الجوية (على سبيل المثال) التي توفرها القوات الدولية بمستوياتها الحالية. علاوة على ذلك، لا توحي مناطق الاستقرار التي ظهرت في جميع أنحاء البلاد بتراجع عام في قدرة المعارضة المسلحة على تنفيذ الهجمات.
وما يثير القلق حول فعالية الإستراتيجية الحالية من عدمها هو أن الإستراتيجيات العسكرية والسياسية غالبًا ما تتناقض مع بعضها بعضًا، أو أنها لا تعمل بشكل متزامن؛ فمثلاً، كان من شأن جهود استهداف المستويات القيادية الوسطى في المعارضة المسلحة أن تفاقَمَ التشرذم في صفوفها، وهذا يزيد من مصاعب المشاركة السياسية.
في النهاية، إن رحيل معظم القوات العسكرية الدولية قبل نهاية عام 2014 أمر لا مفر منه؛ فمن الصعب أن نتصور بقاء أكثر من 20 أو 30 ألف جندي دولي في أفغانستان بعد ذلك التاريخ. إذن، فالخطة تسير على الطريق الصحيح. لقد غادرت الآن جميع القوات الإضافية البالغ عددها 33 ألفًا والتي تم إرسالها إلى أفغانستان كجزء من "الزيادة"، وليس هناك ما يدعو للاعتقاد بأن معظم البقية لن تغادر أيضًا (كما هو مقرر حاليًا).
من المستحيل التنبؤ بالمعالم الدقيقة لأفغانستان في مرحلة ما بعد عام 2015، إلا أنه يبدو أن قوات الأمن الأفغانية (بالاشتراك مع باقي المدربين العسكريين الدوليين) ستتمكن من المحافظة على الجمود الفعلي الحالي. وهذا يعني استخدام قوات الميليشيا في جميع أنحاء البلاد التي من المرجح أنها ستظل، طالما دُفِعت رواتبها، فعالةً في منع خسائر كبيرة من الأراضي أو المراكز الحضرية التي لم تُترَك عمليًا للمعارضة المسلحة من قبل.
ويبقى الأصعب هو تصور عملية الانتقال السياسي، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن الكثير يعتمد على ما سيحدث خلال الانتخابات الرئاسية عام 2014 (وقبلها وبعدها). فمن الممكن أن تخف الاضطرابات إذا تمكن كرزاي، وهو أمرٌ وارد، من تنصيب مرشح مفضل بموافقة غير البشتون والمجموعات الشمالية (وإن كان على مضض).
يرى تصوران وُضِعا مؤخرًا لمستقبل أفغانستان بعد عام 2015 إمكانية قيام "حرب أهلية". لا شك أن هذا أمرٌ واردٌ، لكن الأرجح، إذا استمر التمويل الدولي للمؤسسات الأمنية الأفغانية، أن مستقبل أفغانستان في المديين القصير والمتوسط يكمن أكثر في البيئة الحالية ومجريات الأمور حاليًا. سيستمر عدم الاستقرار السياسي، والجمود العسكري القلق ستتخلله هجمات في المراكز الحضرية تتصدر عناوين الصحف. ولكن هذا سيحدث حتى لو كان التصوران العسكري والسياسي أكثر تقدمًا مما هما عليه في الوقت الحاضر. هذا لا يعني أن مستقبل الأفغان الذين يعيشون في الأقاليم سيكون سهلاً، أو أن الكثيرين (وخاصةً الشباب) قد لا يفضلون المغادرة إلى دول الجوار أو أبعد من ذلك. ولكن تقليص الوجود الدولي إلى حدٍّ كبير قد يسمح للأفغان بتحمل المزيد من المسؤولية عن مستقبلهم السياسي، وقد يبشر انخفاض كمية الأموال التي تُنفق داخل البلاد على مبادرات مكافحة الفساد بالخير.
خلاصة
تسير المرحلة الانتقالية وفقًا للخطة تقريبًا، ذلك لأن الواقع السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا يقضي بذلك، اقتداءً بالخطة التي وضعها الاتحاد السوفيتي لإخراج قواته من البلاد -بإحلال مجموعة من الميليشيات والقوات النظامية محلها- في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، وعلى الأرجح أن الجهد العسكري الدولي سينخفض وفقًا للجدول الزمني المحدد مسبقًا. وهكذا، فإن الموجة المستمرة من الهجمات الداخلية على قوات الناتو لن تمنع ذلك، رغم أن التركيز الإعلامي على مثل هذه الحوادث يجعل من الصعب على إيساف أن تمضي قدمًا بلا منغصات. لن تشهد أفغانستان بعد عام 2015 أزمة أمنية مباشرة أو انهيارًا، رغم أن بذور هذا الاحتمال في المدى المتوسط قد زُرعت، ولاسيما إذا تورطت القوى الإقليمية، أو إذا قلصت الولايات المتحدة وأوروبا مشاركتها السياسية في تلك المرحلة.
__________________________________
أليكس ستريك فان لينشوتن - باحث متخصص بالشأن الأفغاني
أعدت المادة في الأصل باللغة الإنكليزية لمركز الجزيرة للدراسات، وترجمها إلى العربية: موسى الحالول.