مؤتمر 2012 للحزب الشيوعي الصيني: قراءة في أهم النتائج

ترصد الدراسة أهم حيثيات المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني (8-15نوفمبر/تشرين الثاني2012)، وما تمخض عنه من نتائج وقرارات كانتخاب قيادة جديدة للحزب والبلاد، ويلقي الضوء على التركيبة الجديدة للجنة الدائمة للمكتب السياسي، ويحاول استقراء التوجهات المستقبلية والتحديات التي ستواجه الجيل القيادي الجديد.
20131894320235580_20.jpg
تمخض عن المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في 8-15نوفمبر/تشرين الثاني2012 نتائج وقرارات مهمة (رويترز)

تأسس الحزب الشيوعي الصيني في يوليو/تموز عام 1921، وهو الحزب الحاكم والوحيد في الصين منذ تأسيسها، ومرّ بعدة مراحل تعرض فيها وعرّض البلاد لإخفاقات كبيرة مثل "القفزة الكبرى إلى الأمام" في منتصف خمسينيات القرن الماضي و"الثورة الثقافية الكبرى" بين منتصف ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وفي نفس الوقت حقق الحزب أيضًا إنجازات كبيرة خاصة على الصعيد الاقتصادي منذ تبني سياسة الإصلاح والانفتاح بداية الثمانينيات.

يضم الحزب في عضويته نحو ثمانين مليون عضو، ويعقد مؤتمره العام كل خمس سنوات بحضور حوالي 2300 عضو يتم انتخابهم من قواعد الحزب، ينتخبون بدورهم لجنة مركزية مكونة من 200 عضو تنتخب مكتبًا سياسيًا من 25 عضوًا يرأسهم لجنة دائمة، وهي أعلى هيئة قيادية في البلاد، مكونة من 7 أشخاص برئاسة الأمين العام للحزب الذي يتولى أيضًا منصب رئيس الجمهورية ورئاسة اللجنة العسكرية المركزية. وتبلغ نسبة النساء في المؤتمر 20%، ونسبة الأعضاء من الأقليات القومية والعرقية 12%، وبلغت نسبة أعضاء المؤتمر ممن تلقوا تحصيلاً علميًا عاليًا 94%، ونسبة من تقل أعمارهم عن 55 عامًا 70%.

القيادة الجديدة ومراكز القوى

اختتم المؤتمر العام الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني(8-15نوفمبر/تشرين الثاني2012) أعماله بانتقال للسلطة من الجيل القيادي الرابع إلى جيل قيادي جديد مسجلاً بادرة هي الأولى من نوعها في تاريخ الأحزاب الشيوعية الحاكمة، وهي اجتماع ثلاثة أمناء عامّين معًا تحت سقف واحد؛ هم الأمين العام الأسبق جيانغ زي مين والسابق خو جين تاو والحالي شي جين بينغ. ويعقد الحزب مؤتمره العام مرة كل خمس سنوات ويمكن لأمينه العام أن يحتفظ بمنصبه لمدة عشرة أعوام أي لمؤتمرين متتاليين. ويتولى الأمين العام للحزب أيضًا منصب رئيس الجمهورية وكذلك منصب رئيس اللجنة العسكرية المركزية.

نجح الحزب خلال مؤتمرات سابقة في تثبيت آلية سلمية وسلسة لانتقال السلطة تقوم على توازنات وتسويات وتقديم تنازلات متبادلة بين مراكز القوى المختلفة داخل الحزب وكان ذلك يجري بهدوء وبعيدًا عن وسائل الإعلام. لكن من المعروف أيضًا أن الصراع بين تلك القوى كان يقوم على أسس أيديولوجية وعقائدية بين حرس قديم وجديد أو بين محافظين وإصلاحيين، في حين برزت طبيعة جديدة لهذا الصراع خلال المؤتمر الأخير لا تقوم على أسس أيديولوجية بل على أساس المصالح وكذلك على تركيبة مختلفة لمراكز القوى بشكل لم يعهده الحزب من قبل. وتجلّت حدّة الصراع بعدم قدرة المراقبين والمحللين على توقع أسماء أعضاء القيادة الجديدة التي سيفرزها المؤتمر حتى اليوم الأخير، بينما كانت الأسماء خلال المؤتمرات السابقة معروفة حتى بالنسبة لرجل الشارع العادي، وتركز الصراع بين ثلاث جماعات رئيسية، هي:

  1. "مجموعة شنغهاي" بزعامة الأمين العام الأسبق "جيانغ زي مين"، والتي أثبتت أنها لا تزال تتمتع بدرجة كبيرة من القوة والنفوذ.
  2. "مجموعة عصبة الشبيبة الشيوعية" بزعامة الأمين العام المنتهية ولايته "خو جين تاو"، والتي شهد نفوذها تراجعًا واضحًا وأفولاً خلال المؤتمر الأخير. ولم تحظ سوى بانتخاب عضو واحد منها للجنة الدائمة للمكتب السياسي وهو نائب رئيس الوزراء الحالي "لي كه تشيانغ" والذي من المتوقع أن يتسلم منصب رئيس الوزراء للحكومة القادمة في مارس/آذار القادم وذلك نتيجة التقارب والتنسيق بين المجموعتين الأخيرتين. لكنها احتفظت بعدد لا بأس به في المكتب السياسي (9 أعضاء من أصل 25) وكذلك بتمثيل جيد في اللجنة المركزية التي تضم مائتي عضو.
  3. "مجموعة الأمراء"؛ وهم ممن ورثوا السلطة والنفوذ عن آبائهم وذويهم ويتزعمها الأمين العام الجديد "شي جين بينغ"، والتي يبدو أن نجمها في صعود على الرغم من خسارتها لأحد أبرز أقطابها "بو شي لاي" الذي أُطيح به قبيل انعقاد المؤتمرعلى خلفية تورطه بقضايا فساد.

استطاع الأمين العام الجديد شي جين بينغ (59 عامًا) أن يحظى بدعم مختلف مراكز القوى كما لم يحظ به أي أمين عام في تاريخ الحزب وذلك باعتباره قاسمًا مشتركًا بينها جميعًا، فهو مقرب من الأمين العام الأسبق "جيانغ زي مين"، وعمل في مدرسة الحزب معقل مجموعة الشبيبة الشيوعية وترأسها، وهو ينحدر من إحدى أسر مجموعة الأمراء؛ فوالده أحد رفاق الزعيم "ماو زي دونغ" وكان قد حظي بلقب "بطل الشعب"، وشغل منصب نائب رئيس الوزراء، وتعرض خلال الثورة الثقافية (منتصف ستينيات وسبعينيات القرن الماضي) لعمليات إدانة وإهانة وتنكيل على يد "الحرس الأحمر" الذي تجاوز كافة الخطوط الحمر في ذلك الحين، وبعد أن وضعت الثورة وزرها وأوزارها أُعيد الاعتبار له وعُيّن أمينًا للحزب في مدينة غوانجو الساحلية جنوب الصين حيث بدأت البلاد أولى خطواتها على طريق الإصلاح والانفتاح الاقتصادي. كما حظي الأمين العام الجديد أيضًا بدعم واضح من الجيش والمؤسسة العسكرية  خاصة وأنه كان قد عمل لفترة ليست بالقصيرة في مؤسسات الجيش.

تمخض المؤتمر عن انتخاب مائتي عضو للجنة المركزية للحزب انتخبوا بدورهم خمسة وعشرين عضوًا للمكتب السياسي وسبعة أعضاء للجنة الدائمة للمكتب السياسي (وهي أعلى هيئة قيادية في الحزب) بدلاً من تسعة أعضاء كما كان عليه الوضع سابقًا بذريعة تسهيل وتسريع عملية اتخاذ القرار. ولم يسجّل المؤتمر الحالي اختراقًا للمرأة ولم يشكّل استثناء عما سبقه من مؤتمرات طوال تسعين عامًا من عمر الحزب فلم تنجح المرأة الصينية في الدخول إلى اللجنة الدائمة للمكتب السياسي على الرغم من أنها نجحت في غزو الفضاء وظلت اللجنة الدائمة ناديًا للذكور فقط.

وتعتبر اللجنة الدائمة الحالية الأرفع من حيث التحصيل العلمي لأعضائها في تاريخ الحزب حيث كان الأعضاء يتم اختيارهم بناء على تاريخهم النضالي في الحزب بغضّ النظر عن تحصيلهم العلمي. هذا ويُعتبر الجيل القيادي الجديد هو الجيل الأول الذي وُلد بعد تأسيس الجمهورية ولم يعاصر أو ينخرط في مراحل الحزب النضالية.

ومن الملاحظ أن خمسة أعضاء من أصل السبعة لن يتمكنوا من الاحتفاظ بمناصبهم في اللجنة الدائمة لمؤتمرين متتاليين كما جرت العادة وذلك لتقدمهم في السن (بلغ متوسط عمر أعضاء اللجنة الدائمة 62 عامًا وأكبر أعضائها سنًا 67 عامًا)، وشكّل ذلك خروجًا على قرارات سابقة للحزب بضخ دماء شابة في الهيئات القيادية العليا، وهذا دليل على حجم التسويات والمساومات التي جرت داخل أروقة ودهاليز المؤتمر للخروج بهذه التركيبة، لكن هذا سيسهّل على الأمين العام الجديد أموره، ويحرره خلال فترته الثانية بعد خمس سنوات من الكثير من القيود، ويمكّنه من تعزيز سلطاته عندما يتم استبعاد خمسة من أعضاء اللجنة في المؤتمر القادم نتيجة تقدمهم في السن.

بدا الأمين العام الجديد "شي جين بينغ" واثقًا من نفسه في أول ظهور إعلامي له بعد انتهاء أعمال المؤتمر؛ حيث استطاع أن ينتزع كافة السلطات والصلاحيات من سلفه "خو جين تاو" بما في ذلك رئاسة "اللجنة العسكرية المركزية" صاحبة النفوذ القوي في صناعة القرار بخلاف ما كان معمولاً به سابقًا وذلك عندما احتفظ الأمين العام الأسبق "جيانغ زي مين" برئاسة اللجنة لمدة سنتين قبل أن يسلمها لخلفه الرئيس السابق "خو جين تاو". ومما لوحظ أيضًا خلال الخطاب الأول هو اللغة الصينية الصحيحة التي تحدث بها الأمين العام الجديد الخالية من أية لهجة أو لكنة محلية كما كان يحدث مع جميع من سبقوه من القيادات الصينية؛ فهو أول أمين عام من مواليد العاصمة بكين، وكان قد بدأ خطابه باعتذار للصحفيين عن التأخير والانتظار لمدة نصف ساعة وتلك لفتة غير معهودة من المسؤولين الصينيين.

كما لوحظ أيضًا أن خطابه المقتضب كرّر فيه كلمة "الشعب" 19 مرة بينما ورد ذكر كلمة "الحزب" في نفس الخطاب 17 مرة وهذه أيضًا ظاهرة جديدة وغير معهودة في خطابات المسؤولين الحزبيين الصينيين. لكن الجدير بالملاحظة هو خلوّ الخطاب من أي ذكر للقيادة السابقة أو للرئيس خو جين تاو، والذي يمكن تفسيره باعتباره طلاقًا بائنًا مع المرحلة السابقة وفتح صفحة جديدة لعهد جديد.

كانت أولى قرارات الأمين العام للحزب هي الإصرار على ضرورة مكافحة الفساد المستشري في أجهزة الحزب والدولة دون هوادة، بل واعتبار "الحرب على الفساد" بمثابة معركة حياة أو موت بالنسبة للحزب والدولة معًا. وكذلك الطلب من مسؤولي الحزب الكف عن إلقاء الخطابات المكتوبة واستخدام المصطلحات الديماغوجية والأيديولوجية والتحدث بلغة الجماهير، وضرورة التزام المسؤولين بقوانين المرور وعدم التسبب في اختناقات مرورية خلال تحركات مواكبهم، وكثير من مثل هذه القرارات والتي وإن بدت بسيطة لكنها أكسبت الأمين العام الجديد شعبية والتفافًا جماهيريًا سريعًا في وقت ازدادت فيه الفجوة بين الحزب وجماهيره، بعد أن ناهز الحزب التسعين من عمره وأصاب مؤسساته الكثير من الترهل، واستشرى الفساد بين أعضائه وقيادته مما أفقده ثقة جماهيرية واضحة. وكانت قضية "بو شي لاي" عضو المكتب السياسي -والمرشح القوي السابق لعضوية اللجنة الدائمة- حول تورطه بقضايا رشوة وفساد، وتورط زوجته "غو كاي لاي" بمقتل المواطن ورجل الأعمال البريطاني "نيل هيوود"، ولجوء أحد مساعديه "وانغ لي جون" -وهو قائد الشرطة- إلى القنصلية الأميركية في مدينة تشونغ تشين قد أثّرت على سمعة الحزب وأثارت الرأي العام، وألقت بظلالها على المؤتمر على الرغم من قرار الحزب بفصله وتجريده من كافة مناصبه والحرص على إجراء محاكمة علنية له ولزوجته وإصدار حكم بالإعدام مع وقف التنفيذ على زوجته وبالسجن لسبع سنوات على مساعده وذلك قبيل انعقاد المؤتمر.

التحديات المحلية والإقليمية

جاء انعقاد المؤتمر في وقت تمر فيه الصين بأوضاع غاية في الدقة والتعقيد على كافة الصعد داخليًا وإقليميًا ودوليًا. على الصعيد الداخلي أحدثت التجربة الاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال العقود الثلاثة الماضية تغيرات اقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة في المجتمع الصيني وأفرزت نتائج سلبية كثيرة كتنامي الفجوة بين الفقراء والأغنياء، واتساع دور الطبقة الوسطى، وازدياد نفوذ رجال الأعمال، فيما ازدادت معاناة الطبقة العاملة والفلاحين، وتنامت معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة بشكل غير مسبوق في تاريخ الصين، وأدت الإصلاحات الاقتصادية إلى تسريح ملايين العمال والموظفين من وظائفهم، وإلى تفشي البطالة في ظل نظام ضرائبي قاسٍ في وقت لم تستكمل فيه الدولة بعدُ بناء شبكة تأمينات اجتماعية متينة؛ ما أدى إلى اتساع رقعة الاحتجاجات والاضرابات الاجتماعية في طول البلاد وعرضها.

وتشهد هذه التجربة بعد عقود من الإنجازات وبعد أن استنفدت أدواتها وحققت أهدافها انسدادًا في الآفاق بات يحتاج إلى اكتشاف آفاق جديدة لضمان استمراريتها، وبدأ ذلك يظهر على شكل ركود واضح زاد من حدته الأزمة المالية الدولية؛ ما بات يفرض على الصين إعادة هيكلة اقتصادها على أسس جديدة، وتقديم حلول حقيقية لارتفاع الأسعار والغلاء ولتفاقم أزمة البطالة والفساد المستشري (كشفت هيئة مكافحة الفساد عن تورط أكثر من 660 ألف من مسؤولي الحزب والدولة في قضايا فساد ورشوة، وخضوع 24 ألفًا منهم لمحاكمات وإجراءات عقابية وتأديبية)، وكذلك إصلاح النظام التعليمي والصحي والبنكي، وانعكس ذلك على الاستقرار الاجتماعي وتنامي الاحتجاجات والتظاهرات الجماهيرية ذات المطالب الفئوية حيث سجل العام 2012 أكثر من مائة ألف حالة تظاهر واحتجاج في مختلف أنحاء البلاد. كما ظلت النزعات القومية والنزعات الانفصالية في التيبت وشينجيانغ (تركستان الشرقية) والعلاقة مع تايوان تحديات قائمة أمام القيادة الصينية الجديدة.

وعلى الصعيد الإقليمي، إضافة إلى القضايا الجيوستراتيجية والتنافسية المزمنة مع دول مثل الهند وروسيا واليابان، فإن علاقة الصين مع معظم دول الجوار الإقليمي شهدت تدهورًا وتوترًا كما لم تشهده من قبل على خلفية نزاعات حدودية خاصة البحرية منها التي عادت لتطل من جديد ولكن بشكل أكثر حدة ووصل بعضها إلى درجة من التوتر تنذر بمواجهات مسلحة كما حصل مع  فيتنام والفلبين.

كما ألقى الخلاف على جزر متنازع عليها مع اليابان في بحر الصين الشرقي بظلال من التوتر على المنطقة بأسرها، ولتأتي عودة اليمين الياباني إلى سدة الحكم من جديد لتنذر بتوترات جديدة قد تشهدها العلاقات بين الجانبين خلال الفترة القادمة؛ الأمر الذي وضع الصين أمام ضرورة الإسراع ببناء قدراتها العسكرية: البحرية والجوية، والإعلان قبيل انعقاد المؤتمر عن ادخال أول حاملة طائرات صينية قيد الخدمة الرسمية، وكذلك اختيار قائد القوة الجوية "شو تشي ليانغ" كي يكون نائبًا لرئيس "اللجنة العسكرية المركزية" بخلاف ما جرت العادة عليه تاريخيًا بأن يناط هذا المنصب بقائد القوة البرية ما يعني تغيرًا دراماتيكيًا في الرؤية العسكرية الإستراتيجية للصين، وتحول مهمة الجيش من حماية الحدود بالقوة البرية إلى حماية المصالح بما هو أبعد من الحدود، وضرورة إشراك القوات البحرية والجوية واضطلاعها بالقيادة.

وفي نفس السياق يأتي قرار انسحاب القوات الأميركية من العراق وانتقال مركز الثقل العسكري والإستراتيجي لواشنطن من الشرق الأوسط إلى منطقة آسيا/المحيط الهادئ ليعزز هذه الرؤية الإستراتيجية، فضلاً عما تشهده المنطقة العربية من تحولات جذرية فيما يُعرف بالربيع العربي وما يعنيه ذلك من انعكاسات على أمن الطاقة الصيني. كل ذلك يلقى بظلاله على الصين ويفرض على صانع القرار إعادة ترتيب أولوياته على ضوء التغيرات المتسارعة داخليًا وخارجيًا.

التوجهات وفق البيان الختامي

ولقراءة التوجهات المستقبلية للقيادة الصينية الجديدة فإن البيان الختامي الصادر عن المؤتمر في ختام أعماله لابد أن يشكّل الوثيقة الأهم المتاحة لتقديم رؤية عملية لأولويات الحزب وقيادته؛ حيث حدد البرنامج الخطوط العامة والأولويات للسنوات الخمس القادمة، وقد ترأس الأمين العام الجديد "شي جين بينغ" لجنة صياغته، كما أن اللجنة المركزية للحزب كانت قد شكّلت 46 لجنة ووحدة عمل لتقديم المقترحات والدراسات المتعلقة ببنود ومواد البرنامج قبل اعتماده:

  • أكّد البرنامج أن التغيرات العميقة التي طرأت على الحزب وعلى المجتمع الصيني وعلى المشهد الدولي برمته فرضت تحديات ومخاطر جديدة وغير مسبوقة على عملية التنمية؛ مما يتطلب مزيدًا من العمل والجد للنهوض بالحزب للاستمرار في مهمته وتحقيق أهدافه في ما أسماه "بناء الاشتراكية ذات الخصائص الصينية".
  • أكد البرنامج على ضرورة تعزيز وحدة الحزب، وتطوير العملية الديمقراطية الداخلية في الحزب، وتعزيز الوحدة الوطنية بين مختلف القوميات التي تشكّل النسيج الاجتماعي الصيني. كما أكد على ضرورة الإسراع باستكمال وتحسين "نظام اقتصاد السوق الاشتراكي"، وإجراء إصلاحات هيكلية على الاقتصاد الصيني، وتوفير الظروف الملائمة لبناء اقتصاد متوازن وتنمية مستدامة. واعتبر أن التنمية الاقتصادية هي الأولوية القصوى في الصين المعاصرة، وأن الاقتصاد هو المفتاح أو كلمة السر لحل معظم القضايا والتحديات التي تواجهها الصين. كما طالب بوضع أسس لنموذج تنموي جديد يعتمد الإبداع والكفاءة والتقنية الحديثة ويستفيد من الثورة المعلوماتية، ويركز على توسيع دائرة الاستهلاك المحلي، وتعزيز قطاع الخدمات، وإصلاح النظام المالي والضريبي، والإسراع بتحسين أداء القطاع العام والمؤسسات المملوكة للدولة، وخلق التوازن بين تنمية الريف والمدن.
  • سياسيًا، أكد البرنامج على ضرورة إجراء إصلاحات سياسية تتعلق بتحسين الأداء وتعزيز القدرات القيادية وكفاءة مسؤولي الحزب وموظفي الدولة، والحد من الترهل الإداري والبيروقراطية، وتفعيل العمل المؤسساتي، والابتعاد عن المحسوبية، وتوحيد الإجراءات وسرعة اتخاذ القرار. كما ركز على ضرورة مكافحة ما أسماه "الخطر الداهم" الذي يشكّله الفساد على سمعة الحزب ومشروعيته معتبرًا أن أي فشل في هذا الإطار قد يؤدي إلى انهيار الحزب وفَناء الدولة -وفق وصف البيان-. وقد أوكل الأمين العام الجديد رئاسة لجنة الرقابة والانضباط الحزبي ومكافحة الفساد لأحد أكثر المقربين له وهو "وانغ تشي شان" العضو المنتخب الجديد والقوي في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب.

    هذا ومن المتوقع أن يُقدِم الأمين العام الجديد "شي جين بينغ" بعد تسلمه منصب رئيس الجمهورية في مارس/آذار القادم على تقليص عدد الوزارات من 40 وزارة إلى 26 وزارة وهي خطوة شبيهة بالقرار الذي اتخذه المؤتمر العام الخامس عشر للحزب عام 1997 عندما قلّص عدد الوزارات من 70 إلى 40 وزارة.

  • اجتماعيًا، أكد البرنامج على ضرورة استمرار اللجنة المركزية للحزب بمواصلة السيطرة والرقابة الحازمة على مضمون شبكة الإنترنت لضمان الحفاظ على ما أسماه الأخلاقيات الثقافية للمجتمع الصيني. كما أكد على ضرورة وضع الخطط والبرامج لإيجاد حلول جذرية وعلاج كافة القضايا التي قد تؤثر على الاستقرار الاجتماعي للبلاد. وكذلك على الإسراع في إصلاح النظامين الصحي والتعليمي وبناء شبكة قوية للتأمين والضمان الاجتماعي.
  • وعلى صعيد العلاقات مع تايوان، ركز البرنامج على ضرورة التمسك بنظرية "دولة واحدة بنظامي حكم"، وبمبدأ "صين واحدة"، وتكثيف الجهود وخلق الأجواء المناسبة لتحقيق هدف إعادة التوحيد السلمي للبلاد، ومعارضة أية محاولات أو نزعات انفصالية تهدف إلى "استقلال تايوان".
  • عسكريًا، طالب البرنامج بالإسراع في بناء وتحديث الدفاع الوطني والجيش لمواكبة الثورة العسكرية الجديدة في العالم؛ وبما يتلائم مع المكانة الدولية المتنامية للصين ومع مصالحها وأمنها القومي في وقت تتشابك فيه التهديدات الأمنية التقليدية وغير التقليدية التي تواجه الصين -وفق وصف البيان-. 
  • وعلى الصعيد الدولي طالب البرنامج الحكومة الصينية بتعزيز دور الصين على الصعيد الدولي وإبراز موروثها الثقافي والحضاري باعتباره أحد أهم أدوات الدبلوماسية المرنة، وكذلك بذل الجهود ولعب دور فعّال في تشكيل نظام دولي جديد يقوم على التعددية القطبية والثقة المتبادلة والمنفعة والمساواة ويكون أكثر عدلاً وإنصافًا وتنوعًا. كما عارض البيان اللجوء إلى القوة أو التهديد بها في حل النزاعات الإقليمية والدولية، ورفض سياسة الهيمنة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول.

 قراءة في احتمالات المستقبل

  • جاء المؤتمر تتويجًا لإنجازات الحزب كحاكم وحيد للبلاد طوال ستة عقود منذ تأسيس الجمهورية ليقدم دليلاً جديدًا على أنه لا يزال قادرًا على الإمساك بزمام الأمور وتقديم الحلول للعقبات والتحديات الجديدة التي تواجه الصين. لكنه في نفس الوقت مطالّب بتبني سياسات جديدة وإصلاحات جذرية للكثير من سياساته وسلوكيات مسؤوليه لمواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة وغير التقليدية التي تشهدها الصين والعالم.
  • أظهر الحزب نضجًا في التفكير السياسي والتأقلم مع التحولات المتسارعة الجارية، وبراعة في نقل السلطة بسلاسة من جيل إلى جيل وتجنيب البلاد هزات سياسية أو اضطرابات اجتماعية على الرغم من زيادة حدة التنافس بين مراكز القوى المختلفة داخل الحزب. لكن هذا لا يعني أن اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب ستشهد صراعات داخلية جادة تؤثر على صناعة القرار أو أن الأمين العام الجديد سيكون قادرًا على الانفراد باتخاذ القرارات بل إن نهج القيادة الجماعية الذي اعتمده الحزب منذ عدة سنوات هو الذي سيستمر، حيث إن "نموذج بوتين" الروسي لا يزال مستبعدًا في الصين.
  • من غير المتوقع أن تُقدِم القيادة الجديدة على إجراء إصلاحات سياسية جذرية على نمطها الفكري أو سلوكها السياسي التقليدي لكنها بالتأكيد ستحاول قصارى جهدها أن تقوم بإصلاحات اقتصادية هيكلية جادة، وأن تكون أكثر قربًا من الجماهير، وأكثر شفافية في إدارة الأزمات وذلك بهدف استعادة ثقة الجماهير المهزوزة بالحزب.
  • من غير المتوقع أن تحافظ القيادة الجديدة على استمرار التنمية الاقتصادية بنفس الوتيرة التي شهدتها الصين خلال السنوات السابقة، لكنها مطالبة ببذل أقصى ما تستطيع لتجنب انتكاسات كبرى قد تنشأ عن تغيرات اقتصادية ومالية دولية مفاجئة.
  • إن الحفاظ على الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية والعلاقة مع الأقليات ستبقى على رأس أولويات القيادة الجديدة، وسيبقى ذلك مرهونًا بقدرتها على إدارة الأزمات الناشئة وحل المشاكل التي أشرنا إليها سابقًا أو على الأقل احتوائها وإبقائها تحت السيطرة.
  • إن قضايا الريف والفلاحين والزراعة ستبقى القضايا التي تؤرّق القيادة الجديدة وتفرض عليها ابتكار حلول جادة لتبني سياسات تنموية متوازنة بين الريف والمدن، وبين الزراعة والصناعة، وبين الأقاليم الساحلية الغنية والداخلية الفقيرة.
  • العلاقة مع واشنطن وما يشوبها من تشابكات وتقاطعات وما يعتريها من تعقيد ستبقى العلاقة الأهم التي ستوليها القيادة الصينية الجديدة جُلّ اهتمامها، ومع عدم استبعاد حدوث توترات سياسية أو تجارية بين الحين والآخر لكنها ستبقى في إطار دائرة الاحتواء.
  • ستبقى علاقة الصين مع جوارها الإقليمي مشوبة بالحذر والشك وقد تنجح القيادة الجديدة في احتواء بعض القضايا ذات الطبيعة المرحلية أو الأقل أهمية من الناحية الجيوستراتيجية مثل علاقاتها التنافسية مع روسيا والهند، وستحاول التقارب مع عدد محدود من جيرانها مثل جمهوريات آسيا الوسطى، لكن من المتوقع أن تشهد علاقات الصين مع دول وقوى آسيوية مزيدًا من التوتر خاصة مع الفلبين وفيتنام وبشكل أكبر مع اليابان التي قد تتوتر العلاقة معها إلى درجة قد تلامس حافة الهاوية. وقد تلجأ القيادة الصينية الجديدة نفسها إلى رفع وتيرة التوتر مع طوكيو وإلى افتعال أزمة تثبت من خلالها قدرتها على إدارة الأزمات وكسب التفاف جماهيري حولها.
  • ستواصل القيادة الجديدة تعزيز قدرات الصين العسكرية خاصة البحرية منها، فالصين أدركت أن البحر ظلّ دائمًا يشكّل الخاصرة الرخوة للبلاد الذي جاءت عبره جميع الويلات وأدت إلى خضوع الصين لما عُرِف بـ"فترة الإذلال الوطني"، وباتت الصين على قناعة أكيدة بأن جميع الدول والقوى الكبرى عبر الزمن لم تتمكن من توسيع رقعة مصالحها وحمايتها إلا بعد أن تمكنت من بناء قوة بحرية ضاربة. لكن القيادة الصينية ستحتاج إلى بذل جهود إضافية لطمأنة جيرانها بأن نموها العسكري ليس بهدف الهيمنة وإنما لصيانة الأمن والاستقرار في المنطقة. وهي بالتأكيد لن تنجح كثيرًا في هذه المهمة ولن تتمكن من تخفيف هواجسهم بل قد يؤدي ذلك إلى تقارب أكثر بين دول الجوار -خاصة كوريا الجنوبية- وواشنطن.
  • ستحاول القيادة الصينية الجديدة تفعيل حضورها على المسرح الدولي من خلال ما يُسمى بالدبلوماسية متعددة الأطراف خاصة في إطار منظمة تعاون شنغهاي، وكذلك مع القوى الاقتصادية الصاعدة كمجموعة بريكس (الهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا). لكن في نفس الوقت ستستمر الصين بسياسة الانكفاء والابتعاد عن الانخراط في لعب دور فعال في القضايا والنزاعات الإقليمية والدولية باستثناء تفعيل دورها في قوات حفظ السلام، وكذلك في القضايا التي قد تمسها بشكل مباشر كالملف النووي لكوريا الشمالية، أو قد تضطر في ظل ظروف دولية -ولمرحلة مؤقتة- تصليب وتشديد مواقفها تجاه بعض القضايا الدولية كالملف النووي الإيراني بشرط ضمان وقوف موسكو إلى جانبها بمواقف مماثلة.

ستكون القيادة الجديدة منهمكة بسلسلة طويلة من التحديات الجديدة والناشئة التي لا تقل أهمية بل وخطورة عن تلك التحديات القديمة والمزمنة. خاصة أن الأمين العام السابق "خو جين تاو" ركّز في تقريره للمؤتمر على الإنجازات التي حققها الحزب والحكومة في ظل قيادته التي استمرت عقدًا كاملاً، وهي في الواقع إنجازات كبيرة ومهمة، وفضّل على ما يبدو أن يترك لخلفه اختيار الحلول المناسبة لما ورثه من تحديات وعقبات.

وستبقى القيادة الصينية الجديدة تحت مجهر الرأي العام الصيني الذي يطالبها بالكثير، وسيبقى العالم بأسره أيضًا يراقب سلوك هذه القيادة، وإلى أين وكيف ستقود الصين خلال العقد القادم.

لكن الحكم على أداء القيادة الصينية سيبقى مختلفًا بين الداخل والخارج فلكل منهما مقاييسه وأدواته المختلفة؛ فالرأي العام الصيني يؤمن تمامًا بضرورة التواصل بين المراحل وعدم القدرة على القطيعة مع الماضي، وأن أية حركة للصين كدولة أو كمجتمع أو كحزب عادة ما تحمل على كاهله إرثًا ثقافيًا واجتماعيًا طويلاً يمتد لآلاف السنين. كما أنه يعي تمامًا أن القرارات عادة ما تكون جماعية ونتيجة توازنات ومساومات وتنازلات وتسويات معقدة بين مراكز القوى المختلفة. وسيخضع زمن وضع تلك القرارات قيد التنفيذ حتمًا لقيود ثقافية واجتماعية وسلوكية ونفسية قبل أن تصل إلى مختلف القواعد والأطر الحزبية في مختلف أرجاء البلاد.

وهذا ما يفسر تواضع طلبات الإصلاح لدى شرائح الناشطين والأكاديميين الصينيين مقارنة بنظرائهم في أماكن أخرى من العالم؛ فرؤية الصينيين ونظرتهم إلى التغيير باعتباره عملية تراكمية تجري ببطء وتحتاج إلى الوقت الكافي لإنضاجها وتطبيقها بخلاف نظرة الآخرين للتغيير باعتباره عملية انقلابية سريعة.
_______________________________
عزت شحرور - مدير مكتب الجزيرة، بكين

نبذة عن الكاتب