تغير العقيدة العسكرية الباكستانية: التداعيات الداخلية والخارجية

لم تعلن العقيدة العسكرية الباكستانية الجديدة على الملأ، لكن بحسب المسرّب منها فإنها تضع التهديد الداخلي ممثلاً بالإرهاب أو الجماعات المسلحة كعدو أول وتهديد أولي للبلد، وهذا التغير إن صح فإنه سيترك تداعيات كبيرة على الحياة السياسية الداخلية لباكستان وعلاقاتها مع الخارج.
201322161644784734_20.jpg
العقيدة العسكرية الباكستانية الجديدة بحسب المسرّب تضع التهديد الداخلي كعدو أول وتهديد أولي للبلد (الأوروبية)

أثارت المراجعة السنوية للعقيدة العسكرية الباكستانية ردود أفعال متباينة خصوصًا وأن الكتاب الأخضر الذي يتضمن العقيدة العسكرية وأسبقياتها لهذا العام لم يُطرح للعامة بعد، وإنما تم تداول بعض اقتباساته وتسريباته في الصحف، التي رُؤي فيها تغير وتبدل في العقيدة العسكرية من كون الهند العدو الأول لباكستان إلى وضع الإرهاب بصفته التهديد الداخلي العدو الأول لباكستان، فقد اعتقد العسكر على ما يبدو في البداية أن بإمكانهم احتواء هذا التهديد دون وضعه في عقيدتهم العسكرية، لكن مع استمراره لعشر سنوات الآن وعجزهم عن احتوائه فقد لجؤوا إلى وضعه ضمن العقيدة الجديدة، وبنظر جنرالات متقاعدين وخبراء عسكريين فإنه لا يوجد عقيدة عسكرية واحدة في باكستان وفي معظم الدول, فباكستان منحت فرضية التهديد الداخلي الأولوية على فرضية الهند كعدو أول لباكستان، خصوصًا وأن العقيدة العسكرية الباكستانية عادة ما تشتمل على ثلاث فرضيات أو أكثر أو أقل يتقدم بعضها على بعض، أو يتأخر بحسب الاحتياجات الأمنية والتحديات العسكرية التي تُقدم واحدة وتُرجئ أخرى.

يعود الاهتمام اللافت بالعقيدة العسكرية الجديدة وأسبقياتها وأولوياتها لجملة استحقاقات داخلية وخارجية تنتظر باكستان خلال الأشهر القليلة المقبلة، منها الانتخابات وطبيعة الحكومة التي ستفرزها وهو ما سيكون له انعكاساته السلبية أو الإيجابية على الاستحقاق الخارجي المتمثل بانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان عام 2014، وفيما إذا كانت الحكومة الجديدة منسجمة مع إستراتيجية العسكر، أم أنها ستصطدم بها كما حصل عام 1987 بين حكومة محمد خان جونيجو والرئيس الراحل الجنرال محمد ضياء الحق في 17أغسطس/آب 1988، وهو ما يُفسر تحرك زعيم جماعة منهاج القرآن الشيخ طاهر القادري باعتصاماته بإسلام أباد واتفاقه مع الحكومة بعيدًا عن المعارضة الإسلامية ممثلة بالجماعة الإسلامية وجمعية علماء الإسلام، وحزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف، كون هذا الاتفاق يستهدف المعارضة بالأصل، فسيشتت أصواتها في إقليم البنجاب معقل شريف والذي ينحدر منه القادري وأتباعه وهو ما يمنح فرصًا أقوى لنجاح حكومة حزب الشعب المتناغمة أكثر مع المؤسسة العسكرية بما يتعلق بأميركا واستحقاق انسحابها من أفغانستان.

هذا الأمر قد يشرحه أكثر طرح حركة طالبان باكستان لحوار مباشر مع الحكومة والجيش شريطة رعايته من شخصيات ثلاث تمثل الجانب الآخر في المشهد السياسي الباكستاني، وهم: رئيس حزب الرابطة الإسلامية نواز شريف، ورئيس جمعية علماء الإسلام مولانا فضل الرحمن، وزعيم الجماعة الإسلامية منور حسن، لكنه قوبل بفتور من قبل الطرفين: العسكر والحكومة، وهما الداعيان وبقوة إلى حوار بين كارزاي والأميركيين من جهة وطالبان أفغانستان من جهة أخرى، ويعملان على تسهيل هذا الحوار من خلال الإفراج عن قيادات طالبانية أفغانية معتقلة في باكستان، يُنظر إليها على أنها تميل للحوار والتفاوض.

التغيرات في العقيدة العسكرية

الكتاب الأخضر الذي قدّم العقيدة الجديدة لم يُطرح للعامة حتى الآن ولا يزال حبيس المؤسسة العسكرية نفسها، لكن بحسب المسرّب منه فإن العقيدة الجديدة تضع التهديد الداخلي ممثلاً بالإرهاب أو الجماعات المسلحة كعدو أول وتهديد أولي للبلد الذي خسر خلال العقد الماضي 45 ألف مدني، و4855 عسكريًا بحربه مع هذه الجماعات، لاسيما مع تجرؤ المسلحين على مهاجمة المقر الرئيسي للجيش الباكستاني في راولبندي، وقواعده العسكرية في كمرا وكراتشي وبيشاور وغيرها، لكن يجادل البعض بأن هذا حدث كنتيجة لعامل خارجي وهو تحالف باكستان مع أميركا في الحرب على ما يوصف بالإرهاب في أفغانستان، والدليل هو المكانة العالية التي كان الجيش يحظى بها وسط كل الباكستانيين قبل هذا التحالف. هذا الأمر ربما أدركه كثير من النخبة العسكرية، وهو ما أشار إليه بشكل واضح الجنرال المتقاعد "شاهد عزيز" الشاهد على عصر مشرف متهمًا الأخير بأنه عقد اتفاقًا سريًا بعيدًا عن كل الجنرالات مع أميركا لغزو أفغانستان، وهو ما جرّ الويلات بنظره على النسيج الاجتماعي الباكستاني وتضرره من خلع طالبان عن السلطة في أفغانستان، بينما كان مشرف يعدنا -بحسب عزيز- في الاجتماعات الخاصة بأنه سيظل على الحياد في صراع واشنطن مع طالبان.

ويمكن رصد ثلاثة تفسيرات للعقيدة العسكرية الجديدة المطروحة:

التفسير الأول
قد يُنظر إلى هذه العقيدة على أنها ليست بجديدة وإنما عادة ما تضع الدول والجيوش تهديداتها ضمن فرضيات أولى وثانية وثالثة ورابعة، وقد تتقدم فرضيات على أخرى بحسب الاحتياجات الداخلية، فبعد أن كانت الهند العدو الأول لباكستان فإن واقع السنوات الماضية يطفح بالأدلة والشواهد على أن التهديد الأولي هو الداخلي، وهو ما تحدث عنه الرئيس السابق برفيز مشرف أكثر من مرة وأكد عليه قائد الجيش الحالي إشفاق كياني.

وكان حديث هذا الأخير في أغسطس/آب الماضي واضحًا في أن الإرهاب هو التهديد الأولي لباكستان ووصفه بأنه مسبب للحروب الأهلية، وأتى التصعيد العسكري ضد المسلحين في مناطق القبائل ليؤكد قناعة باكستان بتقدم هذه الفرضية على غيرها. لكن بالمقابل هذا لا يعني أن الهند ليست عدوًا بنظر هذا الفريق، وإنما فقط مجرد تراجعها كتهديد أولي إلى المرتبة الثانية، ويدلل أنصار هذا الفريق على ذلك بأن مرحلة السبعينيات شهدت الحالة نفسها حين ركزت باكستان على مقاومة الانفصاليين البلوش بدلاً من التركيز على الهند.

فالعقيدة العسكرية بنظر هذا الفريق ليست شيئًا أصمّا لا يمكن تغييره، وإنما بالمقدور التركيز على أمر ما وتراجع أهمية الآخر دون أن يعني إغماض العين تمامًا عن الأخير. ويشدد أصحاب هذا الفريق على أن العقيدة العسكرية لا يمكن تغييرها كلية، وإلا سيكون السلاح النووي الباكستاني في العقيدة الجديدة بلا فائدة ولا داعي له، ولا مبرر للمنشآت النووية الباكستانية، وهو ما لم يحصل.

التفسير الثاني
يعتقد فريق آخر أن الجيش الباكستاني لا يزال يضع الهند كعدو أول ولا يمكن له أن يتخلى عن هذا، بسبب تراكمات ثقافية وتعليمية وتاريخية وحضارية؛ ومن ثم فتغيير العقيدة العسكرية لا يمكن أن يشق طريقه بسهولة، وأن ما يتردد هُراء، وربما للتغرير بالأميركيين وغيرهم من أجل قطف ثماره لاحقًا سياسيًا بدور باكستاني أكبر وأضخم في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، لاسيما وأن العالم الغربي ليس مقتنعا بجدية باكستان في حربها على ما يُسمى بالإرهاب.

ويدلل هؤلاء على ذلك بأن باكستان كعقيدة عسكرية تعتقد أن المسلحين لا يمكن التخلي عنهم فهم إحدى أدوات سياستها الخارجية؛ تأكد ذلك في استخدامهم أثناء تحرير كشمير الباكستانية الحالية في الأربعينيات، ثم باستخدام ميليشيات الشمس والبدر وغيرهما في مقاومة انفصال بنغلاديش بالسبعينيات، وتكرر ذلك باستخدامهم بحرب أفغانستان ضد السوفيت في الثمانينيات، ثم باستخدامهم في حربها ضد الهند بكشمير بالتسعينيات وحتى الآن، وتلك جدلية تاريخية وواقعية لا يمكن القفز عليها أو التخلي عنها.

ويعتقد أصحاب هذه التفسير أيضا أن بقاء الجيش الهندي بصواريخه ومدافعه ودباباته وتمركزاته بوضعيه الهجوم على باكستان، يُضاف إليه التحرشات الهندية الأخيرة على الحدود، كلها أدلة جديدة على صعوبة تغيير العقيدة العسكرية التي قامت باكستان على أساسها.

التفسير الثالث
يعتقد فريق ثالث بضرورة وضع التهديد الداخلي على سلّم التهديدات ويدفع إلى ذلك القوى العلمانية والليبرالية، ويتجلى ذلك برفض الجيش والحكومة الحوار مع حركة طالبان باكستان التي عرضت الحوار بضمانة قوى إسلامية ومحافظة، ولكن هذا سيرفع من أسهم هذه القوى في الانتخابات المتوقعة في مايو/أيار المقبل على حساب القوى العلمانية ممثلة بحزب الشعب والمتحالفين معه من حركة المهاجرين القومية وحزب العوام القومي.

تداعيات العقيدة الجديدة على المشهد الداخلي

تبنّي العقيدة العسكرية الجديدة يجعل العدو الأول لباكستان الجماعات المسلحة دون تحديد هويتها بشكل واضح فيما إذا كانت طالبان باكستان، أم أن ذلك يشمل  الجماعات المسلحة في كشمير أيضًا، فإن كانت الأولى فقط فسينعكس سلبًا على علاقات المؤسسة العسكرية مع الجماعات الإسلامية السياسية وتحديدًا جمعية علماء الإسلام بشقيها جناح مولانا فضل الرحمن، وجناح مولانا سميع الحق، وكذلك الجماعة الإسلامية الباكستانية بزعامة منور حسن، وهناك انعكاسها السلبي أيضًا لكن ربما بدرجة أقل على حزب الرابطة الإسلامية بزعامة نواز شريف الذي يملك قاعدة شعبية محافظة، وهو ما سيؤثر سلبًا أو إيجابًا على إقبال جمهوره على التصويت لصالحه، كما سيعني في حال حصوله انقلابًا في طبيعة علاقة المؤسسة العسكرية التاريخية المقرّبة من الخط المحافظ على حساب الخط العلماني السياسي ممثلاً بحزب الشعب الباكستاني.

ترجمة هذه العقيدة العسكرية على الواقع والأرض يبدو أنها قد بدأت بالفعل، أُعلن عنها أم لم يُعلن؛ وذلك بتكثيف الحرب على مقاتلي طالبان مما سيؤثر بشكل كبير على طبيعة الحكومة المقبلة التي ستفرزها انتخابات متوقعة في مايو/أيار المقبل؛ فاشتداد الحملة العسكرية على المسلحين ورفض الحوار معهم سيُغضب القوى الإسلامية المتعاطفة ومعها نواز شريف، كون الحملة ستؤثر على ناخبيها عبر مقاطعة التصويت لها أو ضعف الإقبال عليها، وهو ما سيصب في مصلحة حزب الشعب الباكستاني وحلفائه، وهو ما يُعتقد أنه يخدم قوى علمانية معادية لطالبان.

على الصعيد العسكري وتحديدًا فيما يتعلق بالمؤسسة العسكرية الباكستانية فمن الصعب تخيل أو رسم صورة مقربة لتداعيات العقيدة العسكرية الجديدة فيما إذا طُبقت لاسيما وأن العسكر لا يزالون ينظرون إلى الهند كعدو أولي، معزَّزين بثقافة وتعليم باكستانييْن ارتبطوا بهما منذ الاستقلال، وهو ما قد يخلخل صفوف المؤسسة العسكرية فيما إذا اعتمدت العقيدة العسكرية بشكل واضح خصوصًا وأن المؤسسة العسكرية ليست متحدة ضد الجماعات الإسلامية المسلحة، ولعل كتاب الجنرال المتقاعد "شاهد عزيز" الأخير يكشف الكثير من أسرار المؤسسة العسكرية وتحديدًا فيما يتعلق بالمقاومة والصد اللذين تعرض لهما مشرف خلال فترة حكمه بتحالفه مع أميركا لخلع طالبان أفغانستان عن السلطة، وهو ما عارضه معظم الجنرالات.

العقيدة العسكرية وتداعياتها الخارجية

في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها باكستان يدرك العسكر أن عليهم تقليص موازنتهم أو على الأقل عدم زيادتها مع تركيزهم على تهديد أهم وهو خطر المسلحين؛ لذا فقد وافقت الحكومة الباكستانية على منح الهند صفة الدولة الأكثر تفضيلاً بالتجارة وإن كان ذلك لم يُطبّق رسميًا، غير أن التبادل التجاري المنحاز إلى الهند تصاعد في السنوات الأخيرة، وتصاعدت معه الاتصالات الباكستانية-الهندية بدعم العسكر، مع تراجع طرح القضية الكشميرية كلُبّ للصراع بينهما.

الصين حليفة باكستان التقليدية والتي تتطلع إلى الاستثمار في معادن أفغانية بقيمة تريليون دولار ترغب بأن تقوم بملء فراغ سيخلِّفه انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان العام المقبل 2014، وعليه فإن باكستان لا تقوى على معارضة الصين في رغبتها هذه، خصوصًا وأن بكين حريصة على أفغانستان لمشاطرتها إياها لحدود قد لا تتعدى عشرات الكيلومترات، إلا أنها قد تصيب عصبها الأمني بضرر لأن طالبان أفغانستان تحتضن مئات الإسلاميين الصينيين المطالبين بالانفصال. مع التذكير بأن باكستان التي تعيش الآن في جو إقليمي معاد أو غير مريح لها لا تقوى على إزعاج الصين أو تسبيب أية مشاكل لها، وهي الحليف التاريخي التقليدي المجمع عليه بين كافة شرائح الباكستانيين.

ترغب أميركا بلا شك -في ظل تغير العقيدة العسكرية الباكستانية الجديدة- في دفع إسلام أباد إلى التركيز على قتال المسلحين عوضًا عن الهند، أما وأنها لا تثق كثيرًا بالوعود والتعهدات الباكستانية، فإنها تفضل التقارب والعمل أكثر مع دول الهند وإيران وربما الصين لرسم مستقبل أفغانستان، على أن تتعامل مع باكستان. فالفارق في سياسة باكستان ما بعد الانسحاب السوفيتي من أفغانستان وما بعد الانسحاب الأميركي منها: أنها في الأولى كانت الرائدة مع ثقة أميركية بها، أما اليوم فتريدها أميركا تابعة وليست رائدة في صوغ المشهد الأفغاني المقبل.

الدور الباكستاني مرتبط أيضًا بحركة طالبان أفغانستان ودورها فيما بعد الانسحاب الأميركي؛ وفي حال وصول الحركة إلى السلطة في كابول أو كان لها اليد العليا في الحكم فإن الدور الباكستاني سيتعاظم وسيتعاظم قبله دور طالبان باكستان والقوى الإسلامية السياسية الأخرى بحسب إرث الجيوبوليتيك في المنطقة، فعادة ما يلعب شكل ولون الحكومة الأفغانية على مدى عقود ماضية دورًا في لون وشكل الحكومة بإسلام أباد.

وما دمنا في الدائرة الأفغانية فإن الجيش الباكستاني ومعه الحكومة المنتخبة المقبلة ستحدد طبيعة علاقاتها مع المسلحين إنْ تفاوضًا أو حربًا بطبيعة اللون الأفغاني إن كان طالبانيًا أو غيره، وعليه فإن الجيش الباكستاني والحكومة الحالية التي هي على أبواب انتخابات، أشبه ما يكونان بالبطة العرجاء في العجز عن اتخاذ أي قرار حاسم بهذا الأمر تحديدًا، لكن مع هذا فقد أرسلت باكستان عدة رسائل إلى أفغانستان وأميركا تعرب عن جديتها في دعم الحوار بين أفغانستان وأميركا من جهة، وطالبان من جهة أخرى. وظهر ذلك باستقبال رئيس لجنة المصالحة صلاح الدين رباني، والإفراج عن قادة طالبانيين معتقلين في باكستان يُنظر إليهم على أنهم من مشجعي التصالح مع كارزاي، وطار رئيس باكستان آصف زرداري إلى لندن للتوقيع على اتفاق مع نظيره الأفغاني ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون، يقضي بالتوصل لاتفاق سلام في غضون ستة أشهر من خلال دعم الحوار مع طالبان وهو ما سيكون مبررًا كافيًا أخلاقيًا للرأي العام الغربي بانسحاب قواتهم من أفغانستان.

وتحسبًا لكل الخيارات فقد تردد أن الجيش الباكستاني التقى أخيرًا مع قادة طاجيك وتُوج ذلك بزيارة وزير الدفاع بسم الله خان الطاجيكي إلى باكستان حتى لا تظهر باكستان كأنها تدعم فقط البشتون وتحديدًا طالبان، ولإبقاء جميع خياراتها مفتوحة لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي 2014.

هل تقوى العقيدة الجديدة على الصمود؟

العقيدة العسكرية ليست مجردة من أبعادها التاريخية والحضارية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، كما لا يمكن أن توضع بمعزل عن البيئات الأخرى الحاضنة لها، وبالتالي فإن باكستان التي قامت منذ بدايتها على المدرسة الحنفية الديوبندية وأفرزت لاحقًا مجموعات مسلحة في بنغلاديش وأفغانستان وكشمير بدعم العسكر، الذين دعموا في التسعينيات -ولا يزالون- بشكل خفي مجموعات مسلحة سلفية جهادية مثل عسكر طيبة وغيرها، ليس من السهل أن تتخلى عن هذا الإرث وتقبل بالعقيدة الجديدة، خصوصًا أنه قد يُنظر إلى تحرك القادري الأخير، كونه من الطائفة البريلوية الصوفية بالإضافة إلى تحرك طائفة الشيعة بشكل خفي لدعمه ودعم العقيدة العسكرية الجديدة في مقاتلة المسلحين المنحدرين من المدرسة الحنفية، ينظر إليه على أنه تحرك لتصفية حسابات تاريخية، ودعم لسياسة وتحركات إيران في المنطقة، وهو ما يعني بروز عقيدة مذهبية جديدة لدعم العقيدة العسكرية الجديدة وهو أمر ليس بالسهل تغييره وتحويله في ظل ارتباطه بالفكر والتاريخ وقبل هذا الدين.

الحلف الذي يُنظر إليه على أنه حلف بريلوي صوفي، شيعي، وعلماني ممثلاً بحزب الشعب وحركة المهاجرين القومية لدعم العقيدة الجديدة في محاربة المسلحين، يقابله حلف ديوبندي حنفي، سلفي قديم تجلّى أخيرًا في تفعيل مجلس الدفاع عن باكستان وضم هذه الجماعات والحركات لدعم مقترح حوار طالبان باكستان مع الجيش والحكومة برعاية جماعات إسلامية ونواز شريف. لذا فبعض الجنرالات والضباط الليبراليين المقربين أميركيًا يؤيدون أمثال القادري وتوجهاته كونها ستلعب دورًا في تحجيم ما يصفونه بظاهرة الأصولية والتشدد لاسيما مع فتواه التي تتكون من 600 صفحة ضد العمليات الانتحارية أو الاستشهادية والتي لقيت ثناء ونشرًا كبيرين في الغرب.

متغير جديد مهم ينبغي أخذه بعين الاعتبار وهو الفضاء القضائي والإعلامي الباكستاني؛ حيث تصاعد دور القضاء بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وبالتالي فليس من السهل الانتقال من خطة (أ) إلى خطة (ب) بسهولة ويسر دون إقناع الكثير من المتضررين وذوي العلاقة، ومنهم القضاء والإعلام صاحب السطوة والتأثير والفاعلية، بالإضافة إلى الإقطاع السياسي التي تقوم عليه سياسة باكستان؛ فالعقيدة العسكرية الجديدة قد تُميد الأرض من تحت أقدام الإقطاع السياسي الذي يقاوم أي تجديد أو تغيير في البنى السياسية السابقة.

العقيدة الجديدة والصورة المستقبلية

تطبيق العقيدة الجديدة مرهون بطبيعة وشكل الحكومة المقبلة في باكستان، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي، وقدرته على تحمل أو عدم تحمل عقيدة عسكرية جديدة بمقاتلة مسلحين وكلفة ذلك القتال إلى جانب عقيدة عسكرية أخرى بإبقاء الجاهزية ضد الهند، يُضاف إليه عامل مهم وهو طبيعة الحكومة الأفغانية المقبلة فإن كانت حكومة طالبانية أفغانية فهذا يعني أن العقيدة الجديدة لن تجد طريقها للتطبيق من حيث قتال هذه الجماعات المسلحة، وإنما سيعني الحوار معها خصوصًا إن وصل للسلطة في إسلام أباد قوى سياسية إسلامية ومعها نواز شريف على توافق مع حركة طالبان أفغانستان.

بالمقابل إن لم تصل القوى المحافظة "نواز شريف" والإسلامية المؤيدة له، ولم تكن طالبان أفغانستان الأقوى في المشهد السياسي الأفغاني، وسلك الجيش الباكستاني حينها مدعومًا من الحكومة المدنية المنتخبة -ولتكن من حزب الشعب، ومعه حركة المهاجرين القومية وحزب العوام القومي البشتوني- طريقًا آخر فحينها قد تجد العقيدة العسكرية طريقها للتطبيق بدعم الحكومة المدنية الراغبة في تحجيم المسلحين والمتعاطفين معهم سياسيًا، والتي قد تكون مصلحتها في التحجيم أكبر من مصلحة أميركا والغرب، وثمة سيناريو آخر وهو تأجيل عقد الانتخابات لأسباب مختلفة، منها تحركات القادري أو الوضع المضطرب في بلوشستان أو كراتشي، وهو ما يعني بقاء حزب الشعب وحلفائه في السلطة.
__________________________________
د. أحمد موفق زيدان - مدير مكتب الجزيرة في باكستان

نبذة عن الكاتب