اتجاهات الاقتصاد العالمي لعام 2013 وتأثيراتها على الاقتصادات العربية

لا يزال الاقتصاد العالمي يقف عند المنحدر الخطر، ومن غير المتوقع أن يتعافى هذا العام على الرغم من الانتعاش النسبي لاقتصاديات القوى الصاعدة. ولا يختلف الحال عربيا إذ من المتوقع أن تنخفض معدلات النمو من 5.2 % عام 2012 إلى 3.4% عام 2013.
20131318043704580_20.jpg
يرجح تقرير صندوق النقد الدولي أن تظل معدلات البطالة مرتفعة في الكثير من أنحاء العالم في عام 2013 مع استمرار الأوضاع المالية في حالة هشة (رويترز)

تشير اسقاطات تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر/تشرين أول 2012 (1) إلى احتمال حدوث تحسن تدريجي في النشاط الاقتصادي العالمي مقارنة بالمعدلات المخيبة للآمال نسبيا في أوائل العام نفسه، ويتوقع التقرير ارتفاع معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 3.5% في عام 2013 مقارنة بتوقع بلغ 3.2% لعام 2012. ويتوقع التقرير استمرار تباطؤ الناتج في الاقتصادات المتقدمة مع بقائه قويا نسبيا في العديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. كما يرجح أن تظل معدلات البطالة مرتفعة في الكثير من أنحاء العالم، مع استمرار الأوضاع المالية في حالة هشة.

وتستند تنبؤات تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" إلى افتراضين أساسيين على مستوى السياسات: الأول، هو أن صناع السياسة في أوروبا سيتخذون سياسات من شأنها العمل على تيسير الأوضاع المالية بالتدريج في اقتصادات منطقة اليورو الضعيفة. ومع قيام البنك المركزي الأوروبي مؤخرا بالدور المنوط به، فإن الأمر أصبح حسب رؤية التقرير مرهونا بتحرك صناع السياسة لتفعيل "آلية الاستقرار الأوروبي"، والبدء في إقامة اتحاد مصرفي وزيادة الاندماج المالي. أما الافتراض الثاني فهو أن صناع السياسات في الولايات المتحدة سيحولون دون استمرار الزيادات الضريبية وتخفيضات الإنفاق التلقائية الهائلة (ما يعرف بالمنحدر المالي) التي يتضمنها قانون الموازنة، وأنهم سيرفعون الحد الأقصى للدين الفيدرالي في الوقت المناسب، وأنهم سيحرزون تقدما جيدا نحو وضع خطة شاملة لإعادة أوضاع المالية العامة إلى مسار قابل للاستمرار. والحقيقة أن المشرعين الأميركيين بالاتفاق مع الإدارة الأميركية قد نجحوا في شهر يناير 2013 في تأجيل تجنب المنحدر المالي وقضية سقف مستوى الدين الفيدرالي لفترة من الوقت دون التوصل لاتفاق حاسم على مسار قابل للاستمرار، وهو ما حل الأزمة جزئيا لكنه ما زال يحافظ على القلق والاضطراب الناجم عن عدم التوصل إلى حل قاطع لها.

وعلى أية حال، فإن مراجعة للتقرير الذي صدر في أكتوبر/تشرين الأول 2012 تمت في أوائل يناير/كانون الثاني (2) 2013 أسفرت عن الاحتفاظ بنفس التوقع لنمو الاقتصاد الأميركي في حدود 2% في عام 2013 مقارنة بمعدل نمو يتوقع بلوغه 2.3% في عام 2012 وبشرط اتخاذ السياسات الملائمة كما سبق الذكر، أي يخلص صندوق النقد الدولي إلى أن النمو الاقتصادي الأميركي في العام الحالي سيشهد انخفاضا في معدله مقارنة بالنمو المسجل في العام المنصرم.

كما أسفرت مراجعة الصندوق عن توقعه بانخفاض معدل النمو الاقتصادي في منطقة اليورو، بالرغم من أن التصحيحات الهيكلية التي اتخذت على مستوى بلدان المنطقة والاستجابة القوية للسياسة الأوربية في مواجهة أزمة منطقة اليورو قد خفضت من حدة الأزمة وحسنت الأوضاع المالية فيما يتعلق بالديون السيادية في بلدان الهامش الأوروبي (أي البلدان الضعيفة اقتصاديا التي تعاني من مشكلات في سداد ديونها السيادية وتشمل اليونان وإيرلندا والبرتغال وإيطاليا وأسبانيا). وتخلص تلك المراجعة إلى أن منطقة اليورو سوف تسجل معدلا سالبا للنمو الاقتصادي يبلغ 0.2% في عام 2013 مع توقع أن تكون قد سجلت معدلا سالبا أيضا في عام 2012 بلغ 0.4%.

وتتوقع مراجعة تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" توسع النشاط الاقتصادي في اليابان خلال عام 2013 ليسجل 1.2% وهو ما يقل عن معدل النمو المتوقع في عام 2012 والذي من المتوقع أن يكون قد بلغ 2%.

أما النمو في بلدان الأسواق الصاعدة والدول النامية فسوف يعود لاستجماع قواه ويسجل 5.5% في عام 2013 مقارنة بنحو 5.1% متوقعة في عام 2012، وعلى ذلك فإن النمو لن يعود للمستويات القوية التي سجلها خلال عامي 2010 و2011 حينما كان يزيد على 6%. ويتوقع التقرير أن تسجل الصين معدلا للنمو الاقتصادي يبلغ 8.2% في عام 2013 مقارنة بنحو 7.8% متوقعة في العام الماضي، بينما تسجل الهند معدلا يبلغ 5.9% مقارنة بنحو 4.5% متوقعه للعام الماضي، ويرتفع النمو بشكل ملحوظ في البرازيل ليسجل 3.5% في عام 2013 مقارنة بنحو 1% فقط في العام الماضي. وتسجل المكسيك معدلا يبلغ 3.5% وهو ما يقل عن معدل النمو المسجل في العام الماضي والمقدر أن يكون قد بلغ 3.8% وهو أمر منطقي في ظل الترابط الاقتصادي القائم بين الاقتصادين المكسيكي والأميركي، إذ أن دورة الأعمال والدورة التجارية فيهما تكاد تتطابق.

أما في توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي فقد أشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (3) OECD، وهي المنظمة التي تضم 34 بلدا من البلدان الصناعية أو الصناعية الجديدة، في تقريرها "آفاق الاقتصاد" إلى أن الاقتصاد العالمي ربما يكون بمقدوره التحول لانتعاش متردد وغير متساو بين أجزائه المختلفة خلال العامين 2013 و 2014. وأشارت المنظمة إلى أن هناك قرارات حاسمة بسياسات محددة تعد مطلوبة للتأكد من التغلب على مأزق السياسة المالية في الولايات المتحدة وللتأكد من أن استمرار عدم الاستقرار في منطقة اليورو لن يجر العالم مجددا إلى دائرة الركود.

وأوضح المدير العام  لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن الاقتصاد العالمي لم يخرج من دائرة الخطر بعد، فأزمة المنحدر المالي الأميركية يمكنها في حال تحققها أن تجرف الاقتصاد العالمي الضعيف أساسا نحو الركود، بينما الفشل في حل أزمة منطقة اليورو يمكنه أن يقود إلى صدمة مالية كبرى وانكماش الاقتصاد العالمي. ولهذا يرى مدير عام المنظمة أنه على الحكومات أن تستخدم كافة الأدوات الموضوعة تحت تصرفها من أجل التحول نحو تدعيم الثقة وإعطاء دفعة للنمو والتشغيل، في الولايات المتحدة وأوربا وفي كل مكان آخر في العالم.

وتشير توقعات المنظمة إلى أن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في دولها سوف تبلغ نحو 1.4% في عام 2013. وفي تفصيل ذلك أعرب تقرير المنظمة عن توقعه بأنه إذا ما استطاعت الولايات المتحدة أن تتغلب على أزمة المنحدر المالي فإنها ستسجل معدلا للنمو في الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 2% في عام 2013، بينما يتوقع أن يسجل معدل النمو في اليابان 0.7%. فيما ستظل منطقة اليورو تعاني من الركود وسوف تسجل معدلا معتدلا من التراجع في النشاط الاقتصادي يبلغ 0.1%.

أما في دول الاقتصادات الصاعدة، فإنه بعد مستوى للنشاط الاقتصادي يقل عن التوقعات في عام 2012، فإن النمو الاقتصادي بدأ يستعيد عافيته بتضافر مزيج من السياسات المالية والنقدية في هذه البلدان، وهي السياسات التي حاولت عبرها أن توازن الأثر السلبي لضعف الطلب الخارجي على منتجاتها. وفي هذا المقام، فمن المتوقع أن تسجل الصين معدل نمو يبلغ نحو 8.5% في عام 2013 (مقارنة بنحو 7.8% حسب بيانات صينية أولية في عام 2012)، كما يتوقع أن يستجمع الناتج المحلي الإجمالي قواه الدافعة في العام 2013 في كل من البرازيل والهند وإندونيسيا وورسيا وجنوب أفريقيا.

ووفقا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي فإن أسواق العمل سوف تظل ضعيفة في عام 2013، وسوف يبقى نحو 50 مليون شخص في دول المنظمة يعانون من البطالة، مع توقعها بارتفاع معدلات البطالة مقارنة بالعام المنصرم. 

وأيا كانت الفروق بين التوقعات المسجلة حول معدلات نمو الاقتصاد العالمي وأجزائه المختلفة خلال العام الحالي، فإن التقريرين يشيران إلى عدة نتائج متفق عليها: أولا، إن النمو الاقتصادي في الدول المتقدمة سوف يستمر على ضعفه، فهو بين ركود كما في منطقة اليورو أو يسجل معدلات نمو اقتصادي موجبة ولكنها أقل مما تم تسجيله في العام 2012 خاصة في الولايات المتحدة الأميركية واليابان. أما في دول الأسواق الصاعدة فهناك اتفاق على أن معدلات النمو ستتحسن مقارنة بالمعدلات المسجلة في العام الماضي، إلا أنها لن تعود للمعدلات القوية المسجلة خلال عامي 2010 و2011 في أغلب هذه البلدان.

آفاق نمو الاقتصادات العربية

يشير تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" الصادر عن صندوق النقد الدولي إلى أن معدل النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي تضم الدول العربية من المتوقع بلوغه نحو 3.4% في عام 2013 مقارنة بمعدل متوقع أن يكون قد بلغ 5.2% في عام 2012. وهنا نتعامل مع الدول العربية كما هو معتاد على أساس تقسيمها لمجموعتين مجموعة تضم بلدان المنطقة المصدرة للنفط ومجموعة أخرى تضم تلك البلدان المستوردة له.

ووفقا لهذا التقسيم يتوقع تقرير صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي نحو 4% تقريبا خلال عام 2013 في البلدان المصدرة للنفط في المنطقة (بلدان مجلس التعاون الخليجي الستة بالإضافة إلى العراق وليببا والجزائر واليمن)، بعد أن كان معدل النمو قد سجل حوالي 6.5% في العام الماضي، وهو ما كان يعود بشكل رئيس إلى عودة ليبيا إلى مستويات لإنتاج النفط تقترب من مستويات ما قبل عام 2011. حيث ارتفع إجمالي الناتج المحلي في ليبيا بمستوى قياسي بلغ 122% في عام 2012 بعد انخفاضه بنسبة 60%.

 تقريبا خلال عام 2011، وكغيرها من دول الربيع العربي يقول تقرير صندوق النقد الدولي إنه "على الرغم من أن الوضع الاقتصادي يبقى رهنا بتحسن الأوضاع الأمنية، فمن المتوقع أيضا استمرار نمو النشاط الاقتصادي في ليبيا بمعدلات قوية تصل إلى 17% تقريبا خلال عام 2013". 

وعلى الرغم من استمرار معدل النمو قويا نسبيا في بلدان مجلس التعاون الخليجي فمن المتوقع انخفاضه إلى 3.75% خلال عام 2013 وهو ما يعزى بشكل أساس إلى انكماش إنتاج النفط. ويتوقع صندوق النقد الدولي على جانب معدلات التضخم أن تظل هذه المعدلات عند مستوى يقل عن 4% في دول مجلس التعاون الخليجي.

وبالطبع ما يزال أهم خطر يواجه البلدان المصدرة للنفط هو في كونها عرضة إلى حد كبير للصدمات الخارجية الناجمة عن تقلب أسعار النفط. ولا تزال الصدمة التي يمكن أن تنجم عن الأوضاع الاقتصادية في منطقة اليورو خلال عام 2013 تشكل -كما يقول تقرير صندوق النقد الدولي- مكمن القلق الرئيس، وتشير تحليلات خبراء الصندوق إلى أن أثر الصدمة المترتب على انخفاض إجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو بمقدار 1% سيؤدي إلى انخفاض إجمالي الناتج المحلي لبلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المصدرة للنفط بمقدار 0.3% تقريبا خلال العام الأول. والعكس بالعكس، فكما يعلق التقرير، فإن تحسن آفاق النمو العالمي له آثار مهمة على الطلب على النفط، وبالتالي على الأداء الاقتصادي للبلدان المصدرة للنفط خاصة بلدان مجلس التعاون الخليجي، فأي زيادة في الناتج في دول المجلس تكون ناتجة في الغالب عن ارتفاع أسعار النفط، وتتزامن هذه الزيادة مع زيادة الناتج في الاقتصادات المتقدمة وبلدان آسيا الصاعدة، والتي تنعكس في شكل طفرة في أسعار النفط.

أوضاع سوق النفط العالمي المتوقعة وتأثيرها على الدول العربية المصدرة له

والواقع أن تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" وغيره من التقارير تتناول هذه القضية الشديدة الحساسية بالنسبة لبلدان المنطقة -أي تأثير النشاط الاقتصادي العالمي وخاصة في الدول المتقدمة والصاعدة الأكثر استهلاكا للمواد الهيدروكربونية على مستوى الطلب على النفط وبالتالي على مستوى أسعاره- من منظور ضيق لا يشمل أوضاع سوق النفط العالمي المتوقعة بكافة مكوناتها، أي الإنتاج، والاستهلاك، والصادرات، والواردات، وحركة المخزون... إلخ. ونحاول هنا استكمال هذا النقص بعرض لما هو متوقع من موازين عرض وطلب على النفط خلال العام 2013 وحركة المخزون وآثارها المحتملة على أسعار النفط، وبالتالي على مستوى العائدات في الدول المنتجة والمصدرة في المنطقة.

وهنا يشير التقرير الشهري عن سوق النفط الصادر عن منظمة الأوبك في شهر يناير/كانون الثاني 2013 (4) بعد مراجعته لمعدلات النمو الاقتصادي في العالم والتي تعد بشكل عام في ذات النطاق المعروض في تقريري صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أنه من المتوقع أن يظل نمو الطلب العالمي على النفط في عام 2013 بدون تغيير عن مستوى النمو الذي حدث في عام 2012، أي بزيادة في هذا الطلب تبلغ 800 ألف برميل يوميا. ويتوقع تقرير الأوبك أن يكون أثر التقلبات الاقتصادية في الطلب على النفط خلال العام الراهن معتدلة إلى حد كبير مقارنة بالعام الماضي. ويتوقع أن يستمر تقلص طلب دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD هذا العام بمقدار 200 ألف برميل يوميا، على الرغم من أنه يبلغ نصف مستوى الانخفاض الذي شهده طلب هذه البلدان في العام الماضي. بينما يتوقع أن يرتفع طلب البلدان غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بمقدار مليون برميل يوميا فوق مستوى طلبها بالعام الماضي.

وقدرت منظمة الأوبك أن عرض النفط من البلدان المنتجة خارجها قد ارتفع بمقدار نصف مليون برميل يوميا خلال عام 2012، بينما تتوقع أن يزيد عرض هذه البلدان خلال عام 2013 بمقدار 900 ألف برميل يوميا. وسوف تأتي معظم الزيادة في العرض من الولايات المتحدة الأميركية وكندا وجنوب السودان والسودان والبرازيل وأستراليا، بينما سينخفض العرض الذي ستقدمه كل من النرويج والمكسيك وسوريا والمملكة المتحدة. ويشير التقرير إلى أن إنتاج منظمة الأوبك وفقا لمصادر ثانوية قد بلغ 30.37 مليون برميل يوميا في شهر ديسمبر/كانون الأول 2012، وهو ما يقل بنحو 465 ألف برميل يوميا مقارنة بشهر نوفمبر/تشرين الأول 2012.

ويشير التقرير إلى أن الطلب على نفط  المنظمة خلال عام 2012 قد شهد مراجعة هامشية فقط مقارنة بالتقدير السابق حيث بلغ 30.1 مليون برميل يوميا وهو ما يشير إلى انخفاض يبلغ 200 ألف برميل يوميا مقارنة بعام 2011. ويشير التقرير إلى أن الطلب على نفط المنظمة خلال عام 2013 من المتوقع أن يبلغ 29.6 مليون برميل يوميا، وهو ما يقل بنحو 400 ألف برميل يوميا مقارنة بالعام المنصرم.

والواقع أن تقرير منظمة الأوبك لم يشر بالطبع إلى كيفية الاتفاق على خفض حصة إنتاج المنظمة للحيلولة دون انخفاض الأسعار في العام الحالي، كما أن التقرير لم يتعرض بالطبع لقضية بالغة الخطورة تتمثل في تسارع معدلات الإنتاج والصادرات العراقية حيث يطمح العراق إلى زيادة صادراته بنحو نصف مليون برميل إضافية خلال العام الحالي، وهو ما سوف يشكل ضغطا أيضا على أسعار النفط في اتجاه الانخفاض.

إضافة إلى ذلك كله فمن المهم الإشارة إلى الدور الذي تلعبه المخزونات من النفط الخام والمنتجات لدى الدول المستهلكة الرئيسية في التأثير على حركة الطلب على النفط وعلى مستوى الأسعار. وهنا ينبغي أن نشير بداية إلى ضرورة التمييز عمليا بين نوعين من المخزون (5):

المخزون التجاري، وهو المخزون الذي تحتفظ به كل من الشركات والمصافي بغرض تأمين استخدامها لفترة زمنية قادمة. وهذا المخزون كان عرضة للتذبذب الحاد دائما، وذلك بناء على التطورات المختلفة التي يشهدها السوق سواء من حيث الأساسيات (تطورات العرض والطلب والأسعار)، أو في حالة توقع تطورات غير طبيعية تؤثر على السوق بخلاف الأساسيات (مثل الحروب الأهلية والثورات والاضطرابات السياسية داخل الدول المنتجة وبينها وبين غيرها من الدول المحيطة بها ...إلخ). وعلى الرغم من بعض التذبذب في كميات هذا المخزون التجاري، إلا أنه يعد بشكل عام مرتفعا، حيث ذكر تقرير الأوبك السالف الإشارة إليه أنه على الرغم من أن المخزون التجاري لدى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قد شهد انخفاضا موسميا بمقدار 15.3 مليون برميل فإن المخزن ظل يزيد بمقدار 16 مليون برميل عن المتوسط خلال خمسة أعوام، مع اختلاف فقط في مكونات هذا المخزون حيث ارتفع المخزون من النفط الخام بمقدار 51 مليون برميل بينما تم سحب 29 مليون برميل من مخزون المنتجات. وفيما يتعلق بتغطية هذا المخزون للاستهلاك فإنه يبلغ 58 يوم استهلاك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وهو ما يعني تسجيل زيادة قدرها يومي استهلاك مقارنة بمتوسط خمسة أعوام. والأكثر أهمية في هذا السياق الذي لم يذكره التقرير أن هذا المستوى يعد مرتفعا نسبيا مقارنة بالمعدل المعقول من وجهة نظر الأوبك لمستوى المخزون حيث ترى المنظمة أن مخزون بحد أقصى يبلغ 52 يوما هو معدل المخزون المناسب.

علاوة على هذا فإن تقرير المنظمة كان يقف عند إحصاءات تتعلق بشهري نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول، بينما تشير تقارير أسبوعية تصدرها الولايات المتحدة الأميركية (6) أكبر مستهلك وأكبر مستورد عالمي للنفط إلى أن مستوى مخزون النفط الخام لديها (المخزون التجاري والمخزون الإستراتيجي) قد بلغ 1058.4 مليون برميل في 18 يناير/كانون الثاني الحالي، وهو من أعلى مستويات المخزون تاريخيا، حيث يغطي أكثر من 60 يوم استهلاك وفقا لمستوى الاستهلاك الراهن، أي أنه يزيد بمقدار ثمانية أيام عن المستوى الذي تراه منظمة الأوبك مستوى مناسبا. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنه كلما ارتفع مستوى هذا المخزون يميل الطلب على واردات النفط للانخفاض بتأثير انخفاض الطلب لتكوين المخزون ذاته، ونلاحظ هنا الانخفاض الكبير في الواردات الأميركية بمقدار 1.2 مليون برميل يوميا خلال فترة الأربعة أسابيع الواقعة بين منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول 2012 ومنتصف شهر يناير/كانون الثاني 2013، وذلك مقارنة بنفس الفترة خلال العام السابق.    

أما النوع الثاني من المخزون، فهو المخزون الإستراتيجي الذي بدأت الدول المستهلكة للنفط في تكوينه بناء على قرار من وكالة الطاقة الدولية التي تم تأسيسها في عام 1974 بمبادرة من وزير الخارجية الأميركية آنذاك هنري كيسنجر. وكان قرار الوكالة ينص على تكوين مخزون لدى الدول الأعضاء (من كل من المخزون الإستراتيجي والتجاري من النفط الخام والمنتجات) يكفي لنحو 90 يوم استهلاك، وعلى أن يتم تدوير هذا المخزون بين الأعضاء (التي تضم 24 دولة من كبار الدول المستهلكة للنفط) إذا ما تعرضت الإمدادات النفطية من الدول المنتجة لأي أحداث طارئة وليس عند حدوث التطورات الجارية الطبيعية في الأسواق. ويقصد بالأحداث الطارئة تعرض إحدى أو بعض الدول المنتجة الرئيسية لأي شيء يعرض الإمدادات فيها للخطر مثل الحروب والاضطرابات الداخلية أو الإقليمية عموما.

ونود أن نشير هنا إلى أن مستوى المخزون الإجمالي لدى الولايات المتحدة من النفط الخام والمنتجات (من كل من المخزون التجاري والإستراتيجي) قد بلغ 1796.5 مليون برميل في 18 يناير/كانون الثاني 2013، وهو أعلى مستوى لهذا المخزون في مثل هذا الوقت من السنة على مدى تاريخ تسجيل مستوياته. ويكفي هذا المخزون لاستهلاك ما يزيد على 98 يوما وفقا لمعدل الاستهلاك الراهن وليس 90 يوما فقط كما نص على ذلك قرار وكالة الطاقة الدولية.

أما على صعيد المخزون الإستراتيجي وحده، فقد كان هذا المخزون في الولايات المتحدة قد اتجه للزيادة المستمرة، خاصة خلال فترة بوش الابن (باستثناء حالة طارئة فعلا للسحب بسبب إعصاري كاترينا وريتا) حتى بلغ مستوى قياسيا لم يبلغه منذ بدأ تكوين هذا المخزون في أواسط السبعينيات من القرن الماضي بوصوله لمستوى 702 مليون برميل في عام 2008، ثم واصل الرئيس أوباما الإضافة له في بداية فترة رئاسته الأولى ليصل هذا المخزون إلى ما يزيد بقليل على 726 مليون برميل (تشكل الطاقة الاستيعابية القصوى لمستودعات التخزين)، ثم قامت الإدارة فجأة مع الشكوى من ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمي إلى عرض ثلاثين مليون برميل منه للشركات في شهر يونيو/حزيران 2011 ليبلغ مستوى هذا المخزون حاليا نحو 695.3 مليون برميل. وتجدر الإشارة إلى أن هذا النفط يتم تكوينه باستخدام الأموال الفيدرالية، ومن هنا تجد الإدارة نفسها حرة نسبيا في استخدام هذا المخزون بقرار من الرئيس الأميركي. وهو ما حدث في فترات زمنية مختلفة سواء في وقت إدارة الرئيس بوش الأب أو الرئيس بيل كلينتون أو الرئيس أوباما. ولم يكن هذا الاستخدام لظروف طارئة، بل كان لظروف يمر بها السوق تحتاج إلى الضغط لخفض الأسعار أو للاستغلال السياسي كما تم لعدة مرات قبيل الانتخابات الرئاسية. وما نود الإشارة إليه هنا أن هناك خطورة مع وجود هذه المستويات المرتفعة من المخزونات إلى إمكانية تدخل الدول المستهلكة لاستخدامها في التأثير على الأسعار، وهو ما كانت الإدارة الأميركية قد ألمحت إليه مرة أخرى في العام الماضي، وتزيد فرص هذا الاستخدام بالطبع في حالة عدم حدوث أية أحداث في الدول المنتجة والمصدرة تعكر من صفو الإمدادات العالمية.

أوضاع البلدان العربية المستوردة للنفط

يشير تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" إلى تدهور البيئة الخارجية التي تواجهها البلدان العربية غير المصدرة للنفط مع استمرار ارتفاع أسعار الغذاء والوقود في الأسواق العالمية، وتدهور النشاط الاقتصادي لدى الشركاء التجاريين لاسيما في أوروبا حيث تزيد إلى حد كبير درجة الترابط الاقتصادي بين أوروبا ودول منطقة جنوب المتوسط لاسيما بلدان المغرب العربي حيث يؤدي انخفاض بمقدار 1% في معدل النمو الاقتصادي إلى انخفاض بمقدار  0.6% في كل من الجزائر وتونس ونحو 0.4% في المغرب، وأقل من ذلك نسبيا في مصر والأردن.

كما أن هذه البلدان تتأثر بطبيعة الحال كما يشير لذلك تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" بصدمات الناتج في دول مجلس التعاون الخليجي، فارتفاع إجمالي الناتج المحلي بمقدار 1% في دول المجلس يؤدي إلى زيادة كبيرة في الناتج في بلدان الشرق الأوسط وشمال المستوردة للنفط وبلدان المشرق (مصر والأردن وسوريا) تبلغ 0.55% و 0.4% على الترتيب خلال سنة واحدة، كما يكون للصدمة تأثير متوسط على بلدان المغرب العربي (ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا) تبلغ 0.2% في المتوسط ومن هنا أهمية القسم الأول الذي عرضنا فيه للتطورات المتوقعة في دول مجلس التعاون الخليجي والبلدان المصدرة للنفط.

ولا جدال أن الموقف الاقتصادي أكثر دقة وحرجا في كل من تونس ومصر أول بلدين جرى الانتفاض على أنظمة الحكم فيهما في أوائل عام 2011. ويشترك البلدان في عدد من التحديات الاقتصادية حيث تلعب السياحة دورا متميزا فيهما، ومع تدهور حركة السياحة تقلصت إيرادات العملة الصعبة في البلدين، حيث انخفضت الإيرادات السياحية في مصر على سبيل المثال بمقدار 30% في عام 2012 مقارنة بالوضع الذي كان قائما في عام 2010. ومع استمرار عدم الاستقرار السياسي والانفلات الأمني فمن المعتقد استمرار مثل هذا الوضع علاوة على ضعف تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في كلا البلدين بعد الثورة فيهما. علاوة بالطبع على الانخفاض الشديد في النشاط الاستثماري الخاص نظرا للحالة السياسية والأمنية القائمة.

وإلى جانب ذلك فإن استمرار تزايد العجز في الموازنة العامة في هذه البلدان وبتأثير زيادة الإنفاق الجاري فيها لا يترك فرصة كبيرة لأي محاولة لدفع النشاط الاقتصادي عن طريق زيادة الاستثمار العام.

وبالرغم من مراهنة البعض على إمكانية أن تشهد هذه البلدان بعض التعافي في عام 2013 في ظل توافر ظروف إيجابية نسبيا في كل من جيبوتي والمغرب وموريتانيا، وإمكانية أن تسجل مصر وتونس معدلات نمو مرتفعة نسبيا في عام 2013 مقارنة بعام 2012 مع تحقق بعض الاستقرار السياسي حيث يمكن أن ترتفع معدلات النمو لما بين 3%-4% مقارنة بمستوى من المتوقع أن يكون قد سجل أقل من 3% في العام الماضي، إلا أنها تظل معدلات تقل عن معدلات ما قبل التحول السياسي، خاصة في الفترة السابقة على تفجر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في خريف عام 2008.

وتظل مشكلات العجز في الحساب الجاري والتآكل السريع في احتياطي النقد الأجنبي لدى هذه البلدان ضاغطة على كل من سعر الصرف وعلى قدرة الحكومات على المناورة بسياستها النقدية. فقد انخفض هذا الاحتياطي في مصر في نهاية عام 2012 إلى نحو 15 مليار دولار بعد أن كان يبلغ نحو 35 مليار دولار في نهاية عام 2010، وهو ما يجعل هذا الاحتياطي لا يكفي سوى أقل من ثلاثة أشهر من الواردات –وهو الحد الأدنى الحرج- بعد أن كان يفي بأكثر من سبعة أشهر من تلك الواردات في عام 2010. أما في تونس فقد انخفض الاحتياطي إلى 8 مليار دولار بدلا من 10 مليار دولار ليفي بنحو ثلاثة أشهر من الواردات بعد أن كان يغطي مدة تزيد على أربعة أشهر، وفي المغرب انخفض الاحتياطي إلى 18 مليار دولار بعد أن كان يبلغ 24 مليار دولار ليغطي حاليا نحو أربعة أشهر من الواردات. أما في الأردن فقد انخفض إلى 7 مليار دولار بعد أن كان يبلغ 12 مليار دولار في عام 2010 ليغطي الآن نحو أربعة أشهر من الواردات بعد أن كان يغطي في السابق نحو سبعة أشهر. وتكاد لبنان تكون الاستثناء الوحيد في قائمة هذه البلدان حيث ارتفعت فيها الاحتياطيات في عام 2012 مقارنة بعام 2010.

وتزداد الفرص أمام زيادة معدلات التضخم في العام الجديد في كل من تونس ومصر والمغرب مع سعي مصر وتونس إلى عقد اتفاقية قرض مع صندوق النقد الدولي، وحيث تعتزم حكومات هذه البلدان الثلاثة كما يقول تقرير "آفاق الاقتصاد العالمي" زيادة نسبة انتقال أثر زيادات الأسعار إلى المستهلكين وتخفيض الدعم على السلع الأولية والطاقة.

وتظل هذه البلدان تعاني من مشكلات ضخمة، كان بعضها من حيث الأساس ضمن الأسباب التي أدت إلى الثورة على أنظمة الحكم فيها. فدون شك يعد معدل البطالة الذي يزيد على 13% في مصر من بين أكثر المشكلات تفجرا خاصة أن هذه البطالة تتركز بين فئة الشباب الذي يقل عمره عن 30 سنة، كما أن هذه البطالة تتركز بشكل أخص بين الشباب المتعلم (سواء الحاصل على تعليم جامعي أو تعليم متوسط) أكثر من كونها بطالة لغير المتعلمين.

ويزيد من وقع هذه المشكلات بطبيعة الحال إطلاق وعود يصعب تنفيذها من قبل القيادات السياسية في هذه البلدان وبخاصة في مصر قبيل الانتخابات، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الاحتقان السياسي الذي يعد العامل الأول في إضعاف قدرة الحكومة على التعاطي بشكل إيجابي مع هذه المشكلات في ظل حالة من التوافق والاستقرار السياسي النسبي (7).

ولا جدال في أن الأوضاع الاقتصادية تبقى في كل من مصر وتونس (إلى جانب بالطبع كل من ليبيا واليمن وسوريا) رهنا بمستقبل الوضع السياسي، إذ يعد استعادة بعض الاستقرار السياسي النسبي والقضاء على الانفلات الأمني الشرط الضروري من أجل استعادة حركة السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر، بل وأيضا الثقة من قبل المستثمرين المحليين للخروج سريعا من دائرة التدهور الاقتصادي المستمرة منذ نحو عامين.
__________________________________________
مجدي صبحي - خبير اقتصادي ونائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية.

المصادر
(1)  World Economic Outlook, October 2012يمكن الرجوع إلى نسخة إلكترونية كاملة من التقرير:  على الرابط التالي: http://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2012/02/index.htm
(2) يمكن الرجوع إلى هذه المراجعة على الرابط التالي: http://www.imf.org/external/pubs/ft/weo/2013/update/01/index.htm
(3) تم الاستناد إلى عرض قدمته المنظمة لمحتويات التقرير الأساسية على الرابط التالي:
http://www.oecd.newsroom/globaleconomyfacinghesitantandunevenrecoverysaysoecd.htm
(4) تم الرجوع إلى نسخة إلكترونية على الرابط التالي:
http://www.opec.org/opec_web/static_files_project/media/downloads/publications/MOMR_January_2013_.pdf
(5) راجع حول أهمية المخزون في معالجة سابقة لنفس الموضوع قام بها الكاتب في: مجدي صبحي، ما هو اتجاه الأوبك في اجتماعها القادم؟! أهمية الاتجاهات الطويلة المدى في اتخاذ القرارات، مجلة عالم الاستثمار، دبي، دولة الإمارات العربية المتحدة، مايو/أيار 2009.
(6) انظر:
http://www.eia.gov/oil_gas/petroleum/data_publications/weekly_petroleum_status_report/wpsr.html
(7) انظر في عرض لهذه الوعود واستحالة الوفاء بها في مصر مقالين للكاتب: مجدي صبحي، الاقتصاد في برامج مرشحي الرئاسة: وعود ضخمة وآليات تنفيذ غير واضحة، جريدة الأهرام 20 مايو/أيار 2012.
وانظر أيضا: مجدي صبحي، التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البرنامج الرئاسي هل هي برنامج عملي قابل للتنفيذ؟، جريدة الأهرام، 22 يوليو/تموز 2012.

نبذة عن الكاتب